قراءة في رسائل البابا فرنسيس للكنيسة والكاثوليك من لشبونة- البرتغال
تاريخ النشر: 9th, August 2023 GMT
في أكبر تجمع ديني كاثوليكي منذ انتهاء جائحة الكورونا اجتمع مليون وخمسمائة ألف حاج غالبيتهم من الشباب جاءوا معبرين عن رجائهم في الكنيسة التي يمكنها أن تستوعب واقعهم المليء بالشكوك والمتناقضات وغياب اليقين في المستقبل وجهادهم أمام آلهة هذا الزمان من السعي وراء الاكتفاء الذاتي الانغلاق على الاحتياجات الذاتية بالبحث عن متع الرفاهية الرقمية وإقصاء الآخرين وضعف الالتفات لمن لا صوت لهم.
بات البابا فرنسيس صاحب الـ 86 عاماً بقيادته للأيام العالمية بلشبونة في أغسطس من العام 2023 هو أكبر حبر أعظم للكنيسة الكاثوليكية يقود هذه الفعاليات منذ أن أطلقها البابا القديس يوحنا بولس الثاني في منتصف الثمانينيات من القرن العشرين، لا بل مضى متحدياً ذاته، وربما متحدياً عوامل المرض والسن والزمن والرافضين لنمط قيادته للكنيسة، بدعوة الشباب ليوبيل خاص بهم بروما في العام 2025، أي بعمر ال88 اذا ما بلغه البابا فرنسيس، والذي دعى الشباب لهذا الحدث الكنسي الاستثنائي في ختام قداس اليوم العالمي للشّبيبة قائلا بصيغة صاحب الدعوة: " أنتظركم في سنة 2025 لنحتفل معًا بيوبيل الشّباب."
دلالات اختيار مدينة سول لاستضافة الأيام العالمية القادمة للشباب
في إشارة واضحة الى استمراره في قيادة الكنيسة بالمخالفة لقراءات وتحليلات ونبؤات الكثيرين، يمضي البابا فرنسيس في دعوته لكنيسة اكثر وحدة وانفتاحاً على أطرافها البعيدة بإعلانه اختيار العاصمة الكورية الجنوبية سول لاستضافة الأيام العالمية القادمة للشباب في العام 2027 تعبيراً عن كنيسة اكثر شمولاً من اقصى الغرب الى اقصى الشرق بحسب تعبير البابا الذي إذا ما أتم حبيرته حتى هذا الحدث فسيصير عمره حينها التسعين عاماً، وإذا لم يتمها فربما ستكون الكنيسة يومها مع حبرها الأعظم الأول من قارة آسيا وفي هذا مقال آخر من القراءات التفصيلية عن توجهات الكرادلة ومزاجهم يوم اختيار البابا اللاحق لفرنسيس.
بالحديث عن شمولية الكنيسة الجامعة التي كانت محور كلمات البابا فرنسيس خلال الأيام الخمسة لزيارته بلشبونة بداية من كلمته بعد صلاة الغروب مع الأساقفة والكهنة والشّمامسة والمكرّسين والمكرّسات والإكليركيّين والعاملين الرّعويّين في ”دير هيرونموس“ بلشبونة يوم الاربعاء 2 أغسطس، مروراً بكلمته للترحيب بالشباب في حديقة في ”حديقة إدواردو السّابع“ عصر يوم الخميس 3 اغسطس، وصولاً الى بكلمته في نهاية صلاة المسبحة الورديّة مع الشّباب المرضى في كابيلا –كنيسة- الظّهورات بمزار سيّدة فاطيما نهار يوم السبت 5 أغسطس، نجد أن البابا يركز على فكرتان أساسيتان متصلتان برؤيته الإصلاحية للكنيسة الكاثوليكية بأعتبارها اماً للجميع وكنيسة بدون جمارك او ابواب.
الكنيسة للجميع
الفكرة الأولى للكنيسة التي يطرحها البابا فرنسيس بتأكيد وإلحاح، لا بل دعى الشباب والحاضرين ليرددوها خلفه في مراسم الترحيب بالشباب بحديقة إدواردو السابع كما يفعل معلموا التربية الدينية في كثير من الاحيان من اجل ان يقوموا بتثبيت تعليمهم في عقول وقلوب تلاميذهم حيث دعا الجميع ليرددوا خلفه: ”الجميع، الجميع، الجميع“ . طرح البابا وصفاً ابوياً للكنيسة باعتبارها "أماً" للجميع حيث الجميع خطأة وبحاجة الى مكان بداخل الكنيسة، أمضى البابا مؤكداً: "لا أحد عديم الفائدة، ولا أحد تافه، بل يوجد مكان للجميع. هكذا كما نحن، كلّنا."
لا بل اكثر من ذلك فقد مضى البابا خلال زيارته موصفاً حال الجميع المدعوين للكنيسة مؤكداً على عدم أفضلية من هم بداخلها عمن بخارجها، فلا تصنيفات أو فئويات يمكن أن تعيق احداً عن الحضور حيث امهم – الكنيسة – تحتضن الجميع الخطأة والذين لا يتمتعون بأية امتيازات إذا ما كانوا خداماً او مترددين عليها او اذا ما كانوا غائبين أو ناسين لحضورهم بها. ومن ثم طرح البابا يوم السبت 5 أغسطس من مزار العذراء مريم بفاطيما، طرح مستشهداً بأمومة العذراء مريم الحانية على الجميع وباعتبارها أماً للكنيسة مؤكداً على أن الجميع يمكنهم الدخول للكنيسة حيث :" الكنيسة هي بيت الأُم، والأمّ قلبها مفتوح دائمًا لكلّ أبنائها، كلّهم، كلّهم، كلّهم، ودون استبعاد أحد." بحسب وصف البابا يومها.
كنيسة بدون جمارك
بحسب البابا فرنسيس، فلا يمكن أن تكون الكنيسة اماً ومكاناً مفتوحاً للجميع بدون إلغاء أية حواجز أو بحسب تعبير البابا "جمارك" تعيق الجميع عن أن يكونوا حاضرين. يبدو أن الكثيرين ممن بداخل الكنيسة امتلكوا بها "حيازات ملكية" جعلت الآخرين ممن بخارجها يظنون ان لا مكان لهم، غير أن البابا فرنسيس أكد ان لا مزايا او املاك او حيازات لاحد بداخل الكنيسة ومن ثم لا يمكن لأية جماعة أو افراداً أن يضعواً معاييراً أو متطلبات للحضور بالكنيسة، فوحدة المسيح بحسب البابا فرنسيس قادراً منح تأشيرة الدخول للكنيسة تلك التي عبر عنها المسيح ذاته في مثل وليمة الملك الذي استشهد به البابا فرنسيس في حديثه عن الكنيسة للجميع، حيث أرسل الملك رسله ليدعو الجميع لوليمة عرسه: "اذهبوا وأحضروا الجميع، الشّباب وكبار السّن، والأصحّاء والمرضى، والصّالحين والخطأة: الجميع، الجميع، الجميع“.
ومن ثم فقد استهل البابا فرنسيس مقابلاته بلشبونة بمقابلة رجال الدين من أساقفة ومطارنة وكهنة ورهبان وراهبات ومكرسين ممن يظن الكثيرين عنهم او ممن يظنون هم عن أنفسهم بأنهم رجال جوازات الكنيسة، أكد البابا في كلمته معهم بعد صلاة الغروب بدير "هيرونموس“ بلشبونة مساء يوم الأربعاء 2 أغسطس بأنه لا يجب وضع اية جمارك بالكنيسة قائلاً: "يجب ألّا تكون الكنيسة جمارك لتختار من يدخل ومن لا يدخل. الجميع مدعوّ إلى الدخول، كلّ واحدٍ مع حياته التي يحملها على كَتِفَيه، ومع خطاياه، وكما هو، أمام الله، وكما هو أمام الحياة... الجميع، الجميع."
خبرة البابا فرنسيس المرشد الروحي للمسيحيين
يمضي البابا فرنسيس بسنوات خبرته الإنسانية لأكثر من 86 عاماً وخبرته الروحية استناداً الى رياضات القديس اغناطيوس دي لويولا لأكثر من 60 عاماً الرهبانية اليسوعية من التمييز والبصيرة، وخبرته في القيادة والادارة الدينية على مدار 50 عاماً منذ تولى مسؤولية الرئيس الإقليمي للرهبانية اليسوعية بالأرجنتين بعمر 36 عاماً مروراً بقيادته للجامعة اليسوعية بسان ميجيل ببيونس ايريس ثم اسقفاً مساعداً فنائب رئيس أساقفة فرئيس أساقفة لبيونس ايريس فكاردينالاً بالكنيسة الجامعة من الأعوام 1990 حتى العام 2013 يوم انتخابه حبراً أعظم للكنيسة الكاثوليكية مع خبرة عشرة سنوات من قيادة الكنيسة الكاثوليكية، يمضي خلال جميعها البابا فرنسيس مرشداً للكنيسة والمسيحيين ببصيرة يخضع فيها الحبر الأعظم لصوت الروح القدس ولنموذج المسيح الراعي والخادم لرعيته. هذا النموذج الذي ظهر جلياً في كلمات البابا فرنسيس ورسائله للكاثوليك حول العالم التي بعث بها خلال قيادته للأيام العالمية للشباب الاخيرة بلشبونة- البرتغال والتي لم يخص بها الشباب فقط.
ثلاثة رسائل لثلاثة فئات
استهدفت رسائل البابا من لشبونة البرتغال ثلاثة فئات رجال الدين والأكاديميين والمؤمنين الكاثوليك مرتكزة حول ثلاثة موضوعات رئيسية؛ الأولى موجهة لرجال الدين الكاثوليك بشأن التقاعد عن الخدمة الكنسية بسبب دوافع اليأس والإحباط، والثانية مخاطباً بها الباحثين والأكاديميين ورجال التعليم بشأن غرور الاكتفاء الذاتي ورفاهية الألقاب الدراسية، والثالثة للمؤمنين الكاثوليك عن التباين بين المحبة النظرية والمحبة العملية ذات الايادي المتسخة والقلوب التي لا يطالها الشعور بالاشمئزاز جراء ملامسة الفقراء.
تجنب "تعب الصالحين"
بالحديث عن الكنيسة للجميع دعا البابا خدام وخادمات الكنيسة من الأساقفة والكهنة والشّمامسة والمكرّسين والمكرّسات والإكليركيّين والعاملين الرّعويّين إلى تجنب "تعب الصالحين" الناتج عن علامة الشباك الفارغة والخدمات التي لا يجدوا منها نفعاً فينتابهم اليأس والإحباط ويضعف رجائهم وربما يتضاعف نتيجة انسياق الكثيرين خلف تيارات العلمانية والإلحاد واللامبالاة تجاه الله المقترنة بالمشكلات الاجتماعية الاقتصادية بحسب وصف البابا فرنسيس. خبرة البابا فرنسيس الروحية والرعوية جعلته يخاطب رجال الدين محذراً إياهم من اليأس والإحباط الذي ربما يقودهم للتقاعد كما الموظفين الحكوميين بدلاً من تذكر تكريس حياتهم. ومن ثم يطالب البابا رجال الدين الكاثوليك بتجديد رجائهم في المسيح الذي يقود الكنيسة وسط طوفان العالم مخاطباً اياهم قائلاً: " أنت، الكاهن والمُكرَّس والمُكرَّسة والأسقف، هل تُريد فقط أن تحافظ على الماضيّ الذي عبر أم أن ترسل الشّباك باندفاع للصّيد من جديد؟“ هذا ما يطلبه منّا الرّبّ يسوع: أن نوقظ القلق للإنجيل."
المعلمين خبراء الإنسانية والشفقة
في كلمته بمحضر الشّباب الجامعيّين في ”جامعة البرتغال الكاثوليكيّة“ بلشبونة، أكد البابا فرنسيس على أن الشعور بالقلق هو علامة صحية ومطلوبة كمضاد للغرور وللاكتفاء بالذات وحب الذات. مضى البابا في كلماته كمعلم آداب وفلسفة محذراً من أن تصير الألقاب الدراسية والدرجات الأكاديمية ترخيصاً لضمان الرفاهية الشخصية بدلا من أن تصير دافعاً لبناء تقدم المجتمعات بمزيد من معايير الشمولية والعدالة. ومن ثم عبر البابا فرنسيس المعُلم المتقدم في السن عن حلمه لجيل من المعلمين لا بل الخبراء في الانسانيةوالشفقة والرجاء وفرص الحياة الجديدة على الارض المهددة بفعل الدمار البيئي.
المحبة ذات الأيدي المتسخة
يبدو أن رسالة البابا فرنسيس للمؤمنين الكاثوليك لم تنفصل عن رسائله لرجال الدين والأكاديميين، حيث أن المحبة التي تعكس "تجسد المسيح" كانت هي المركز الذي ظل البابا فرنسيس يخاطب به الشباب المليون وخمسمائة ألف المجتمعين بلشبونة والمليار والثلاثمائة مليون كاثوليكي حول العالم. كانت كلمات البابا فرنسيس مع مُمثّلي بعض مراكز الإغاثة والإعانة والمحبّة في مركز سيرافينا الرّعوي بلشبونة باعتباره المرشد الروحي للمسيحيين الكاثوليك حول العالم عن المحبة ذات الأيدي المتسخة بمثابة تحدي ايماني لكل مسيحي يتحدث بلغة المحبة في أجواء الراحة بدلاً من الولوج الى واقع الحياة الذي يتطلب ملامسة الفقراء ومصافحتهم دون الشعور بالرغبة في الابتعاد عنهم سريعاً نتيجة الشعور بالاشمئزاز، يؤكد البابا فرنسيس على الفارق بين المحبة الافلاطونية المجردة والمحبة متسخة الايدي قائلاً: " الحبّ الأفلاطونيّ يكون في المدار الفلكي، وليس في الواقع. الحبّ الواقعي، الذي يوسّخ اليدين. يمكن لكلّ واحدٍ منّا أن يسأل: هل الحب الذي أشعر به نحو الجميع هنا، والذي أشعر به نحو الآخرين، هو حبّ واقعيّ أم مجرَّد؟ عندما أُصافح شخصًا مُحتاج، أو مريض، أو منبوذ، وبعد أن أصافحه، هل أمسح يدي بثيابي على الفور حتّى لا أُصاب بالعدوى؟ هل الفقر، وفقر الآخرين يُثير اشمئزازي؟"
دعوة نابعة من قلب البابا النابض بالشباب
في ختام الأيام العالمية للشباب بلشبونة البرتغال أصر البابا البالغ من العمر 86 عاماً على أن يُمّحور كلماته مع الشباب خاصة، والمسيحيين الكاثوليك عامة، بالا يفقدوا الرجاء على الرغم من مختلف مبررات اتباعه، لا بل دعاهم بحماس وقوة "شباب القلب" أن يبقوا على شعلة الحماسة وعدم الخوف من المُضي قدماً، ليس بعشوائية الاختيارات، بل برشادة الإيمان هذا الذي ينبع من العلاقة الخاصة التي يبادر فيها المسيح بالنظر الى كل احداً منهم حيث يعرف كلاً منهم على حدى، هكذا كانت كلمات البابا في عظة القداس الختامي للأيام العالمية للشباب بلشبونة: " أيّها الشّباب الأعزّاء، أودّ أن أنظر في عَينَي كلّ واحدٍ منكم وأقول لكم: لا تخافوا! لا تخافوا! أكثر من ذلك، سأقول لكم شيئًا أجمل. لستُ أنا من ينظر إليكم، بل يسوع نفسه ينظر إليكم الآن، ينظر إليكم، وهو الذي يعرفكم، ويعرف قلب كلّ واحدٍ منكم، وحياة كلّ واحدٍ منكم، وأفراحكم، وأحزانكم، ونجاحاتكم وفشلكم. إنّه يعرف قلوبكم."
المصدر: البوابة نيوز
كلمات دلالية: أقباط
إقرأ أيضاً:
ترامب الذي انتصر أم هوليوود التي هزمت؟
ما دمنا لم نفارق بعد نظام القطب الواحد المهيمن على العالم تظل النظرية القديمة التي نقول إن الشعب الأمريكي عندما يختار رئيسه فهو يختار أيضا رئيسا للعالم نظرية صحيحة. ويصبح لتوجه هذا الرئيس في فترة حكمه تأثير حاسم على نظام العلاقات الدولية وحالة الحرب والسلم في العالم كله.
ولهذا فإن فوز دونالد ترامب اليميني الإنجيلي القومي المتشدد يتجاوز مغزاه الساحة الداخلية الأمريكي وحصره في أنه يمثل هزيمة تاريخية للحزب الديمقراطي أمام الحزب الجمهوري تجعله عاجزا تقريبا لمدة ٤ أعوام قادمة عن منع ترامب من تمرير أي سياسة في كونجرس يسيطر تماما على مجلسيه.
هذا المقال يتفق بالتالي مع وجهة النظر التي تقول إن اختيار الشعب الأمريكي لدونالد ترامب رئيسا للمرة الثانية ـ رغم خطابه السياسي المتطرف ـ هو دليل على أن التيار الذي يعبر عنه هو تيار رئيسي متجذر متنامٍ في المجتمع الأمريكي وليس تيارا هامشيا.
فكرة الصدفة أو الخروج عن المألوف التي روج لها الديمقراطيون عن فوز ترامب في المرة الأولى ٢٠١٦ ثبت خطأها الفادح بعد أن حصل في ٢٠٢٤ على تفويض سلطة شبه مطلق واستثنائي في الانتخابات الأخيرة بعد فوزه بالتصويت الشعبي وتصويت المجمع الانتخابي وبفارق مخيف.
لكن الذي يطرح الأسئلة الكبرى عن أمريكا والعالم هو ليس بأي فارق من الأصوات فاز ترامب ولكن كيف فاز ترامب؟ بعبارة أوضح أن الأهم من الـ٧٥ مليون صوت الشعبية والـ٣١٢ التي حصل عليها في المجمع الانتخابي هو السياق الاجتماعي الثقافي الذي أعاد ترامب إلى البيت الأبيض في واقعة لم تتكرر كثيرا في التاريخ الأمريكي.
أهم شيء في هذا السياق هو أن ترامب لم يخض الانتخابات ضد هاريس والحزب الديمقراطي فقط بل خاضه ضد قوة أمريكا الناعمة بأكملها.. فلقد وقفت ضد ترامب أهم مؤسستين للقوة الناعمة في أمريكا بل وفي العالم كله وهما مؤسستا الإعلام ومؤسسة هوليوود لصناعة السينما. كل نجوم هوليوود الكبار، تقريبا، من الممثلين الحائزين على الأوسكار وكبار مخرجيها ومنتجيها العظام، وأساطير الغناء والحاصلين على جوائز جرامي وبروداوي وأغلبية الفائزين ببوليتزر ومعظم الأمريكيين الحائزين على نوبل كل هؤلاء كانوا ضده ومع منافسته هاريس... يمكن القول باختصار إن نحو ٩٠٪ من النخبة الأمريكية وقفت ضد ترامب واعتبرته خطرا على الديمقراطية وعنصريا وفاشيا ومستبدا سيعصف بمنجز النظام السياسي الأمريكي منذ جورج واشنطن. الأغلبية الساحقة من وسائل الإعلام الرئيسية التي شكلت عقل الأمريكيين من محطات التلفزة الكبرى إلي الصحف والمجلات والدوريات الرصينة كلها وقفت ضد ترامب وحتى وسائل التواصل الاجتماعي لم ينحز منها صراحة لترامب غير موقع إكس «تويتر سابقا». هذه القوة الناعمة ذات السحر الأسطوري عجزت عن أن تقنع الشعب الأمريكي بإسقاط ترامب. صحيح أن ترامب فاز ولكن من انهزم ليس هاريس. أتذكر إن أول تعبير قفز إلى ذهني بعد إعلان نتائج الانتخابات هو أن ترامب انتصر على هوليوود. من انهزم هم هوليوود والثقافة وصناعة الإعلام في الولايات المتحدة. لم يكن البروفيسور جوزيف ناي أحد أهم منظري القوة الناعمة في العلوم السياسية مخطئا منذ أن دق أجراس الخطر منذ ٢٠١٦ بأن نجاح ترامب في الولاية الأولى هو مؤشر خطير على تآكل حاد في القوة الناعمة الأمريكية. وعاد بعد فوزه هذا الشهر ليؤكد أنه تآكل مرشح للاستمرار بسرعة في ولايته الثانية التي تبدأ بعد سبعة أسابيع تقريبا وتستمر تقريبا حتى نهاية العقد الحالي.
وهذا هو مربط الفرس في السؤال الكبير الأول هل يدعم هذا المؤشر الخطير التيار المتزايد حتى داخل بعض دوائر الفكر والأكاديميا الأمريكية نفسها الذي يرى أن الإمبراطورية ومعها الغرب كله هو في حالة أفول تدريجي؟
في أي تقدير منصف فإن هذا التآكل في قوة أمريكا الناعمة يدعم التيار الذي يؤكد أن الامبراطورية الأمريكية وربما معها الحضارة الغربية المهيمنة منذ نحو٤ قرون على البشرية هي في حالة انحدار نحو الأفول. الإمبراطورية الأمريكية تختلف عن إمبراطوريات الاستعمار القديم الأوروبية فبينما كان نفوذ الأولى (خاصة الإمبراطوريتين البريطانية والفرنسية) على العالم يبدأ بالقوة الخشنة وبالتحديد الغزو والاحتلال العسكري وبعدها يأتي وعلى المدى الطويل تأثير قوتها الناعمة ولغتها وثقافتها ونظمها الإدارية والتعليمية على شعوب المستعمرات فإن أمريكا كاستعمار إمبريالي جديد بدأ وتسلل أولا بالقوة الناعمة عبر تقدم علمي وتكنولوجي انتزع من أوروبا سبق الاختراعات الكبرى التي أفادت البشرية ومن أفلام هوليوود عرف العالم أمريكا في البداية بحريات ويلسون الأربع الديمقراطية وأفلام هوليوود وجامعات هارفارد و برينستون ومؤسسات فولبرايت وفورد التي تطبع الكتب الرخيصة وتقدم المنح وعلى عكس صورة المستعمر القبيح الأوروبي في أفريقيا وآسيا ظلت نخب وشعوب العالم الثالث حتى أوائل الخمسينات تعتقد أن أمريكا بلد تقدمي يدعم التحرر والاستقلال وتبارى بعض نخبها في تسويق الحلم الأمريكي منذ الأربعينيات مثل كتاب مصطفى أمين الشهير «أمريكا الضاحكة». وهناك اتفاق شبه عام على أن نمط الحياة الأمريكي والصورة الذهنية عن أمريكا أرض الأحلام وما تقدمه من فنون في هوليوود وبروداوي وغيرها هي شاركت في سقوط الاتحاد السوفييتي والمعسكر الشيوعي بنفس القدر الذي ساهمت به القوة العسكرية الأمريكية. إذا وضعنا الانهيار الأخلاقي والمستوى المخجل من المعايير المزدوجة في دعم حرب الإبادة الإسرائيلية الجارية للفلسطينيين واللبنانيين والاستخدام المفرط للقوة العسكرية والعقوبات الاقتصادية كأدوات قوة خشنة للإمبراطورية الأمريكية فإن واشنطن تدمر القوة الناعمة وجاذبية الحياة والنظام الأمريكيين للشعوب الأخرى وهي واحدة من أهم القواعد الأساسية التي قامت عليها إمبراطورتيها.
إضافة إلى دعم مسار الأفول للإمبراطورية وبالتالي تأكيد أن العالم آجلا أو عاجلا متجه نحو نظام متعدد الأقطاب مهما بلغت وحشية القوة العسكرية الأمريكية الساعية لمنع حدوثه.. فإن تطورا دوليا خطيرا يحمله في ثناياه فوز ترامب وتياره. خاصة عندما تلقفه الغرب ودول غنية في المنطقة. يمكن معرفة حجم خطر انتشار اليمين المتطرف ذي الجذر الديني إذا كان المجتمع الذي يصدره هو المجتمع الذي تقود دولته العالم. المسألة ليست تقديرات وتخمينات يري الجميع بأم أعينهم كيف أدي وصول ترامب في ولايته الأولى إلى صعود اليمين المتطرف في أوروبا وتمكنه في الوقت الراهن من السيطرة على حكومات العديد من الدول الأوروبية بعضها دول كبيرة مثل إيطاليا.
لهذا الصعود المحتمل لتيارات اليمين المسيحي المرتبط بالصهيونية العالمية مخاطر على السلم الدولي منها عودة سيناريوهات صراع الحضارات وتذكية نيران الحروب والصراعات الثقافية وربما العسكرية بين الحضارة الغربية وحضارات أخرى مثل الحضارة الإسلامية والصينية والروسية.. إلخ كل أطرافها تقريبا يمتلكون الأسلحة النووية!!
حسين عبد الغني كاتب وإعلامي مصري