عربي21:
2024-09-15@10:23:34 GMT

الحداثة الماضوية في تونس

تاريخ النشر: 9th, August 2023 GMT

وهل تكون الحداثة ماضوية؟ نعم الحداثيون في تونس ماضويون ويعبرون عن حداثتهم بطرق أسوأ من أسوأ السلفيات الدينية. إنهم بارعون جدا في نعت خصومهم الإسلاميين بالماضوية والظلامية، لكنهم يتغافلون عن ماضويتهم بل ينكرونها كما ينكر مجرم جريمته العارية باحثا عن نجاة مستحيلة. لقد صنعوا لهم إلها ونحتوا لهم أيقونات وألّفوا سردية يرونها متماسكة، ومنها يعيشون ومنها يدمرون بلدا حاد عن طريق الحداثة، وعوض الذهاب إلى المستقبل بمشروع تحديث ديمقراطي نراهم ينتكسون إلى بورقيبة محاولين إحياء مشروعه القائم أصلا على قتل الحريات.



بورقيبة إله حداثي

البناء الحداثي المزيف في تونس ككل عقيدة مغلقة أو تفكير طائفي يقوم على وجود إله، وقد ارتد الحداثيون إلى بورقيبة صانعين منه إلها لا ينزل منازل النقد والمراجعة. وقد زادت قيمة هذا الإله بعد أن ظهر الإسلاميون في تونس، وكلما شعر الحداثيون بوجود إسلاميين فوق الأرض وخارج السجون ارتفعت قيمة الرب الحداثوي. لقد كان صف الحداثة يعارض بورقيبة وكان اليسار وهو كتلة كبيرة من تيار الحداثة يحتقر بورقيبة ويصفه بالقزم وبالعميل والرجعي، لكن الخطاب تغير فتغيرت مكانة بورقيبة وصار مرجعا من الماضي لتيار يزعم النظر إلى المستقبل.

كان الإسلاميون يسحبون خطاب الإسلام والهوية من تحت قدميه فحدث التحول الحداثي. فوُضع في مقام إله معصوم، وصارت أفكاره قرآنا حداثيا، بما حصر النقاش في مربع الهوية أو الأصالة والتحديث، ووُضعت مسائل الحرية والديمقراطية والنمو الاقتصادي المتوازن فوق الرف السياسي
لم يحسم بورقيبة المسألة الدينية واحتفظ بفصل في دستور 59 (الإسلام دينها والعربية لغتها)، وحاول تغيير قوانين الميراث الإسلامية وفشل أو خاف من فقهاء رجعيين ومن شعب متخلف (ولا يقال محافظ). وكان ذلك كافيا لوصفه بالرجعي، ولم تشفع له دعوته إلى عدم إقامة فريضة صيام رمضان ذات لحظة حماس حداثوي.

في سنواته العشرين الأخيرة في حكمه كان يعجز وينهار صحيا وفكريا، وكان الإسلاميون يسحبون خطاب الإسلام والهوية من تحت قدميه فحدث التحول الحداثي. فوُضع في مقام إله معصوم، وصارت أفكاره قرآنا حداثيا، بما حصر النقاش في مربع الهوية أو الأصالة والتحديث، ووُضعت مسائل الحرية والديمقراطية والنمو الاقتصادي المتوازن فوق الرف السياسي.

فترة حكم بن علي (1987-2010) أُخرج بورقيبة من التاريخ والجغرافيا ولم يدافع عنه الحداثيون ولا استعادوا أفكاره ومشروعه التحديثي، واكتفوا من كل المشروع بتصفية الإسلاميين وتدميرهم وباتوا راضين من الحداثة بقتل خصومهم.

بعد الثورة أُعيد اكتشاف تمثال الإله فنصب في مكانه القديم، وصارت أفكاره قرآنا ووُضعت في مواجهة مشروع الإسلاميين وعاد النقاش إلى نقطة ظهور الإسلاميين، لكن هذه المرة ببورقيبة لا ضده، وصار نقد بورقيبة من المحرمات السياسية والفكرية. يقوم بذلك اليسار بكل شقوقه وبقية تيار الحداثة الذي لا يمكن تصنيفه سياسيا سوى أنه بورقيبي ضد الظلامية، وصُنعت الأيقونات التي يعتبر نقدها أو مراجعتها حراما.

نظام الأيقونات البورقيبية

بورقيبة حرر المرأة التونسية أو المرأة التونسية البورقيبية؛ هذه إيقونة أولى ولها مقام (سورة الفاتحة) وكانت في منطلقها رسالة بورقيبية موجهة للرجعيات العربية التي تحرم تعليم المرأة وذهابها إلى العمل، لكن لما اكتشف البورقيبيون ولاحقا الحداثيون الذين يؤلهونه أن المرأة العربية تعلمت واشتغلت وشاركت في الحكم دون أن تسمع عن بورقيبة (بما في ذلك في بلدان الخليج أو الرجعيات العربية الظلامية)؛ تحول حديث حرية المرأة إلى المنشور 108 الذي يمنع المرأة من لبس الحجاب خارج بيتها. مقادير التمكين للمرأة وإشراكها في الشأن العام صار في منزلة متأخرة وراء عمل الدولة على منع نساء الإسلاميين من التحجب، وكان هذا عمل من أعمال العبادة عند تيار الحداثة.

المدرسة البورقيبية هي الأيقونة الثانية ذات الأهمية في البناء الأيديولوجي، ونُسب لبورقيبة قانون إجبارية التعليم وتم إغفال جهد التعليم قبله (وخاصة دور التعليم الزيتوني) بما في ذلك أوامر صادرة عن بايات تونس بإجبارية التعليم تحت الاحتلال الفرنسي. لقد سخر الحداثيون من إصدار ورقة عملة (بعد الثورة) تحمل صورة أول طبيبة تونسية تعلمت قبل أن يتكلم بورقيبة عن تعليم المرأة، وللصدفة هذه الطبيبة منحدرة من أسرة زيتونية محافظة (أي رجعية ظلامية).

استعارة أيديولوجية تحاول فرض مشروع بورقيبة بعد موته السياسي خاصة، وبعد عجز اليسار خاصة عن تلفيق مشروع حداثي لا يواجه عقيدة الشعب وهويته بشكل مباشر؛ وإنما باستعادة صورة بورقيبة وإخفاء صيغة التحديث المعادية لهوية الناس تحت جبّته
بورقيبة علّم التونسيين وهذه مسلّمة (لا مغالطة) تحرم مراجعتها أو التشكيك فيها، وكل إشارة إلى جهد الأهالي في بناء المدارس والعناية بالأفواج الأولى من المعلمين (وأغلبهم تلاميذ الزيتونة المغلقة بأمر بورقيبي) تعتبر استنقاصا من منجز الزعيم الإله. (أرقام الأميين من مواليد الستينات والسبعينات إلى منتصف الثمانيات تدل على أن إجبارية التعليم كانت لغوا في وسائل الدعاية البورقيبية).

غني عن القول أن النظر في مقررات هذه المدرسة منذ الابتدائي حتى العالي كتبه فرنسيون أو أمروا بكتابته، وللنظر فقط في مقررات التاريخ فتونس في هذه المقررات ولدت في قرطاج وقفزت إلى بورقيبة ولم تعش حقبة إسلامية هي الأطول في تاريخها الموثق. والسؤال الذي لم يطرحه الحداثيون بكل فروعهم: لماذا خرّجت المدرسة التونسية (البورقيبية) الإسلاميين؟

لسنا أطفال بورقيبة

بعد أن وضع بورقيبة يد دولته على تراث الأوقاف (الأحباس) وقطع مصادر تمويل المجتمع الأهلي، أنشأ قرية أطفال بورقيبة، وهي مؤسسة ترعى الأطفال مجهولي الآباء وصارت تسمية أطفال بورقيبة تعني طفلا بلا أهل، وتحول النعت تدريجيا إلى سُبة تطلق على كل فاقد للأصل أو للكرامة.

في معركة الحداثويين مع الإسلاميين استعار أحد أعمدة اليسار الحداثي النعت ليقول إن كل التونسيين أطفال بورقيبة، كناية على أنهم أبناء مشروعه التحديثي وكانت استعارة أيديولوجية تحاول فرض مشروع بورقيبة بعد موته السياسي خاصة، وبعد عجز اليسار خاصة عن تلفيق مشروع حداثي لا يواجه عقيدة الشعب وهويته بشكل مباشر؛ وإنما باستعادة صورة بورقيبة وإخفاء صيغة التحديث المعادية لهوية الناس تحت جبّته.

النهاية الماثلة الآن هي أكبر دليل على أن بورقيبة لم يكن حداثيا ولا تقدميا، وإنما كان دكتاتورا صغيرا استعمل أجهزة الحكم لفرض شخصه على تاريخ بلد وعلى مصيره، وتلك هي الدكتاتورية القمعية التي تجسد فعلا وقولا الرجعية الماضوية في الحكم وفي الإدارة هي التي جاءت بقيس سعيد
بعد أن انتهت دولة بورقيبة تحت جبّة قيس سعيد نقول إننا لسنا أطفال بورقيبة ولن نكون في اليسار الذي يستعيدها كتغطية لفشله الفكري والسياسي. إن النهاية الماثلة الآن هي أكبر دليل على أن بورقيبة لم يكن حداثيا ولا تقدميا، وإنما كان دكتاتورا صغيرا استعمل أجهزة الحكم لفرض شخصه على تاريخ بلد وعلى مصيره، وتلك هي الدكتاتورية القمعية التي تجسد فعلا وقولا الرجعية الماضوية في الحكم وفي الإدارة هي التي جاءت بقيس سعيد.

الدكتاتورية الأولى للزعيم الصغير أنتجت بن علي ونظامه فحكم ربع قرن بالحديد والنار، فلما أن تجرّأ عليه الناس وقد وهن نظامه الفاسد تبين أن الشعب الذي تربى في مدرسة بورقيبة (وبرامجها الفرنسية) لم يستوعب حياة الحرية ولم يفلح في الارتقاء إلى حياة سياسية ديمقراطية، فاستعاد نموذجا مماثلا لبورقيبة وسجد له مضحيا بحريته، واستعاد نفس المعركة المتخلفة التي بدأها الزعيم أي معركة استئصال كل فكرة مختلفة عن مشروعه.

ويكفي أن نقول إن تبني اليسار التونسي المتخلف لبورقيبة هو الدليل على فشله كرئيس وكزعيم ومؤسس لدولة ليس في جوهرها إلا جهاز قمع بلسان حداثوي طويل يتقن صناعة القهر.. اليسار التونسي وفلول الحداثة الباقية هم أطفال بورقيبة الحقيقيون، أطفال بلا أصل وبلا مستقبل.

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه الحداثة تونس بورقيبة اليسار التعليم تونس اليسار بورقيبة التعليم الحداثة مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات سياسة مقالات اقتصاد اقتصاد اقتصاد سياسة رياضة سياسة مقالات سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة فی تونس على أن

إقرأ أيضاً:

انتشال جثث 6 مهاجرات قبالة سواحل تونس

تونس (الاتحاد) 

أخبار ذات صلة «ملتقى الشارقة للسرد» يختتم نسخته الـ 20 في تونس انطلاق «ملتقى الشارقة للسرد» في تونس

انتشل خفر السواحل التونسيون جثثاً لـ 5 مهاجرات وطفلة قبالةَ السواحل الشرقية لتونس، على ما أفاد متحدث قضائي أمس.
وقال المتحدث الرسمي باسم محاكم المنستير والمهدية، فريد بن جحا، إن عملية الانتشال جرت أمس الأول، وشملت 5 نساء وطفلة يتراوح عمرها بين عامين وثلاثة أعوام، وذلك قبالة سواحل محافظة المنستير. 
وأضاف المتحدث القضائي قائلاً: «رجح الطبيب الشرعي أن الجثث غرقت قبل نحو أسبوع، وهي على الأغلب تعود لمهاجرات من بلدان إفريقيا جنوب الصحراء».
وتم فتح بحث تحقيقي للوقوف على تفاصيل الحادث ومعرفة إن كان عملية هجرة أم اتجار بالبشر، وفق المصدر نفسه.
وقد أصبحت بعض الدول في شمال أفريقيا نقطة انطلاق رئيسية للمهاجرين الساعين لعبور البحر الأبيض المتوسط إلى إيطاليا، حيث تبعد أقرب السواحل الإيطالية نحو 150 كيلو متراً عن سواحل تونس.
وقد قضى وفُقد أكثر من 1300 مهاجر في عام 2023 في حوادث غرق قوارب قبالة الساحل التونسي، وفق إحصاءات تونسية رسمية. 
وفي الفترة بين مطلع العام الجاري وحتى منتصف مايو، غرق 103 قوارب هجرة، وذلك بحسب وزارة الداخلية التونسية. 

مقالات مشابهة

  • فيدرالية اليسار تحتج أمام المجلس البلدي على خلفية الأوضاع المتدهورة التي آلت إليها مدينة المحمدية
  • الحداثة الغربية والأيديولوجية الدينية
  • الحمل وعظام الحوض
  • أطفال غزة والعودة الى المدارس
  • بين الماركسية والكونفوشية.. أفكار شي وصراع الصين الطويل مع الحداثة
  • من الفاجر؟!
  • تونس إلى أين؟
  • انتشال جثث 6 مهاجرات قبالة سواحل تونس
  • مستقبل وطن الأقصر يشارك أطفال مستشفى الأورام بهجة المولد النبوي الشريف
  • جبر: ضرورة مواجهة التحديات التي تحول دون تمتع المرأة في العالم الإسلامي بحقوقها