وهل تكون الحداثة ماضوية؟ نعم الحداثيون في تونس ماضويون ويعبرون عن حداثتهم بطرق أسوأ من أسوأ السلفيات الدينية. إنهم بارعون جدا في نعت خصومهم الإسلاميين بالماضوية والظلامية، لكنهم يتغافلون عن ماضويتهم بل ينكرونها كما ينكر مجرم جريمته العارية باحثا عن نجاة مستحيلة. لقد صنعوا لهم إلها ونحتوا لهم أيقونات وألّفوا سردية يرونها متماسكة، ومنها يعيشون ومنها يدمرون بلدا حاد عن طريق الحداثة، وعوض الذهاب إلى المستقبل بمشروع تحديث ديمقراطي نراهم ينتكسون إلى بورقيبة محاولين إحياء مشروعه القائم أصلا على قتل الحريات.
بورقيبة إله حداثي
البناء الحداثي المزيف في تونس ككل عقيدة مغلقة أو تفكير طائفي يقوم على وجود إله، وقد ارتد الحداثيون إلى بورقيبة صانعين منه إلها لا ينزل منازل النقد والمراجعة. وقد زادت قيمة هذا الإله بعد أن ظهر الإسلاميون في تونس، وكلما شعر الحداثيون بوجود إسلاميين فوق الأرض وخارج السجون ارتفعت قيمة الرب الحداثوي. لقد كان صف الحداثة يعارض بورقيبة وكان اليسار وهو كتلة كبيرة من تيار الحداثة يحتقر بورقيبة ويصفه بالقزم وبالعميل والرجعي، لكن الخطاب تغير فتغيرت مكانة بورقيبة وصار مرجعا من الماضي لتيار يزعم النظر إلى المستقبل.
كان الإسلاميون يسحبون خطاب الإسلام والهوية من تحت قدميه فحدث التحول الحداثي. فوُضع في مقام إله معصوم، وصارت أفكاره قرآنا حداثيا، بما حصر النقاش في مربع الهوية أو الأصالة والتحديث، ووُضعت مسائل الحرية والديمقراطية والنمو الاقتصادي المتوازن فوق الرف السياسي
لم يحسم بورقيبة المسألة الدينية واحتفظ بفصل في دستور 59 (الإسلام دينها والعربية لغتها)، وحاول تغيير قوانين الميراث الإسلامية وفشل أو خاف من فقهاء رجعيين ومن شعب متخلف (ولا يقال محافظ). وكان ذلك كافيا لوصفه بالرجعي، ولم تشفع له دعوته إلى عدم إقامة فريضة صيام رمضان ذات لحظة حماس حداثوي.
في سنواته العشرين الأخيرة في حكمه كان يعجز وينهار صحيا وفكريا، وكان الإسلاميون يسحبون خطاب الإسلام والهوية من تحت قدميه فحدث التحول الحداثي. فوُضع في مقام إله معصوم، وصارت أفكاره قرآنا حداثيا، بما حصر النقاش في مربع الهوية أو الأصالة والتحديث، ووُضعت مسائل الحرية والديمقراطية والنمو الاقتصادي المتوازن فوق الرف السياسي.
فترة حكم بن علي (1987-2010) أُخرج بورقيبة من التاريخ والجغرافيا ولم يدافع عنه الحداثيون ولا استعادوا أفكاره ومشروعه التحديثي، واكتفوا من كل المشروع بتصفية الإسلاميين وتدميرهم وباتوا راضين من الحداثة بقتل خصومهم.
بعد الثورة أُعيد اكتشاف تمثال الإله فنصب في مكانه القديم، وصارت أفكاره قرآنا ووُضعت في مواجهة مشروع الإسلاميين وعاد النقاش إلى نقطة ظهور الإسلاميين، لكن هذه المرة ببورقيبة لا ضده، وصار نقد بورقيبة من المحرمات السياسية والفكرية. يقوم بذلك اليسار بكل شقوقه وبقية تيار الحداثة الذي لا يمكن تصنيفه سياسيا سوى أنه بورقيبي ضد الظلامية، وصُنعت الأيقونات التي يعتبر نقدها أو مراجعتها حراما.
نظام الأيقونات البورقيبية
بورقيبة حرر المرأة التونسية أو المرأة التونسية البورقيبية؛ هذه إيقونة أولى ولها مقام (سورة الفاتحة) وكانت في منطلقها رسالة بورقيبية موجهة للرجعيات العربية التي تحرم تعليم المرأة وذهابها إلى العمل، لكن لما اكتشف البورقيبيون ولاحقا الحداثيون الذين يؤلهونه أن المرأة العربية تعلمت واشتغلت وشاركت في الحكم دون أن تسمع عن بورقيبة (بما في ذلك في بلدان الخليج أو الرجعيات العربية الظلامية)؛ تحول حديث حرية المرأة إلى المنشور 108 الذي يمنع المرأة من لبس الحجاب خارج بيتها. مقادير التمكين للمرأة وإشراكها في الشأن العام صار في منزلة متأخرة وراء عمل الدولة على منع نساء الإسلاميين من التحجب، وكان هذا عمل من أعمال العبادة عند تيار الحداثة.
المدرسة البورقيبية هي الأيقونة الثانية ذات الأهمية في البناء الأيديولوجي، ونُسب لبورقيبة قانون إجبارية التعليم وتم إغفال جهد التعليم قبله (وخاصة دور التعليم الزيتوني) بما في ذلك أوامر صادرة عن بايات تونس بإجبارية التعليم تحت الاحتلال الفرنسي. لقد سخر الحداثيون من إصدار ورقة عملة (بعد الثورة) تحمل صورة أول طبيبة تونسية تعلمت قبل أن يتكلم بورقيبة عن تعليم المرأة، وللصدفة هذه الطبيبة منحدرة من أسرة زيتونية محافظة (أي رجعية ظلامية).
استعارة أيديولوجية تحاول فرض مشروع بورقيبة بعد موته السياسي خاصة، وبعد عجز اليسار خاصة عن تلفيق مشروع حداثي لا يواجه عقيدة الشعب وهويته بشكل مباشر؛ وإنما باستعادة صورة بورقيبة وإخفاء صيغة التحديث المعادية لهوية الناس تحت جبّته
بورقيبة علّم التونسيين وهذه مسلّمة (لا مغالطة) تحرم مراجعتها أو التشكيك فيها، وكل إشارة إلى جهد الأهالي في بناء المدارس والعناية بالأفواج الأولى من المعلمين (وأغلبهم تلاميذ الزيتونة المغلقة بأمر بورقيبي) تعتبر استنقاصا من منجز الزعيم الإله. (أرقام الأميين من مواليد الستينات والسبعينات إلى منتصف الثمانيات تدل على أن إجبارية التعليم كانت لغوا في وسائل الدعاية البورقيبية).
غني عن القول أن النظر في مقررات هذه المدرسة منذ الابتدائي حتى العالي كتبه فرنسيون أو أمروا بكتابته، وللنظر فقط في مقررات التاريخ فتونس في هذه المقررات ولدت في قرطاج وقفزت إلى بورقيبة ولم تعش حقبة إسلامية هي الأطول في تاريخها الموثق. والسؤال الذي لم يطرحه الحداثيون بكل فروعهم: لماذا خرّجت المدرسة التونسية (البورقيبية) الإسلاميين؟
لسنا أطفال بورقيبة
بعد أن وضع بورقيبة يد دولته على تراث الأوقاف (الأحباس) وقطع مصادر تمويل المجتمع الأهلي، أنشأ قرية أطفال بورقيبة، وهي مؤسسة ترعى الأطفال مجهولي الآباء وصارت تسمية أطفال بورقيبة تعني طفلا بلا أهل، وتحول النعت تدريجيا إلى سُبة تطلق على كل فاقد للأصل أو للكرامة.
في معركة الحداثويين مع الإسلاميين استعار أحد أعمدة اليسار الحداثي النعت ليقول إن كل التونسيين أطفال بورقيبة، كناية على أنهم أبناء مشروعه التحديثي وكانت استعارة أيديولوجية تحاول فرض مشروع بورقيبة بعد موته السياسي خاصة، وبعد عجز اليسار خاصة عن تلفيق مشروع حداثي لا يواجه عقيدة الشعب وهويته بشكل مباشر؛ وإنما باستعادة صورة بورقيبة وإخفاء صيغة التحديث المعادية لهوية الناس تحت جبّته.
النهاية الماثلة الآن هي أكبر دليل على أن بورقيبة لم يكن حداثيا ولا تقدميا، وإنما كان دكتاتورا صغيرا استعمل أجهزة الحكم لفرض شخصه على تاريخ بلد وعلى مصيره، وتلك هي الدكتاتورية القمعية التي تجسد فعلا وقولا الرجعية الماضوية في الحكم وفي الإدارة هي التي جاءت بقيس سعيد
بعد أن انتهت دولة بورقيبة تحت جبّة قيس سعيد نقول إننا لسنا أطفال بورقيبة ولن نكون في اليسار الذي يستعيدها كتغطية لفشله الفكري والسياسي. إن النهاية الماثلة الآن هي أكبر دليل على أن بورقيبة لم يكن حداثيا ولا تقدميا، وإنما كان دكتاتورا صغيرا استعمل أجهزة الحكم لفرض شخصه على تاريخ بلد وعلى مصيره، وتلك هي الدكتاتورية القمعية التي تجسد فعلا وقولا الرجعية الماضوية في الحكم وفي الإدارة هي التي جاءت بقيس سعيد.
الدكتاتورية الأولى للزعيم الصغير أنتجت بن علي ونظامه فحكم ربع قرن بالحديد والنار، فلما أن تجرّأ عليه الناس وقد وهن نظامه الفاسد تبين أن الشعب الذي تربى في مدرسة بورقيبة (وبرامجها الفرنسية) لم يستوعب حياة الحرية ولم يفلح في الارتقاء إلى حياة سياسية ديمقراطية، فاستعاد نموذجا مماثلا لبورقيبة وسجد له مضحيا بحريته، واستعاد نفس المعركة المتخلفة التي بدأها الزعيم أي معركة استئصال كل فكرة مختلفة عن مشروعه.
ويكفي أن نقول إن تبني اليسار التونسي المتخلف لبورقيبة هو الدليل على فشله كرئيس وكزعيم ومؤسس لدولة ليس في جوهرها إلا جهاز قمع بلسان حداثوي طويل يتقن صناعة القهر.. اليسار التونسي وفلول الحداثة الباقية هم أطفال بورقيبة الحقيقيون، أطفال بلا أصل وبلا مستقبل.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه الحداثة تونس بورقيبة اليسار التعليم تونس اليسار بورقيبة التعليم الحداثة مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات سياسة مقالات اقتصاد اقتصاد اقتصاد سياسة رياضة سياسة مقالات سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة فی تونس على أن
إقرأ أيضاً:
ليبيا تشارك بـ«المنتدى الأوّل لِلطفولة المبكّرة» في تونس
شاركتْ وزارة التٌربية والتّعليم بحكومة الوحدة الوطنية، في فعاليات الاِجتماع الأوّل للجنة الاِستشارية الدّائمة للألكسو، والمنتدى الأوّل لِلطفولة المبكّرة، الذي عُقد بمقر المنظّمة العربية للتّربية والثقافة والعلوم الألكسو بمدينة تونس يومَي 20-21 نوفمبر 2024م تحت شِعار “جَودة مرحَلة الطّفولة المُبكّرة وتحويل التّعليم مَا قبل المدرسِي”.
ومثّل الوزارة في المُنتدى الأوّل لِلطفولة المُبكّرة “إدارة رياض الأطفال، واللجنة الوطنية الليبية للتّربية والثقافة والعلوم، الذي شارك فيه خبراء، ومختصين، ومسؤولين في مجال الطّفولة المُبكّرة من عِدّة دول ليبيا، وتونس، والمغرب، وسلطنة عُمان، وقطر والأردن، بالإضافة إلى ممثلين من عِدّة منظّمات إقليمية ودولية، ومؤسّسات للمجتمع المدني والقطاع الخاص”.
ويهدف المُنتدى إلى “التّأكيد على أهمية التّشاور حَول سُبل تنمية الطفولة المبكّرة في سِياق مُتابعة قمّة تحويل التّعليم 2022م، ومُتابعة نتائج المؤتمر الدّولي حول التّعليم، والرّعاية في الطّفولة المبكّرة 2023م، إضافةً إلى تقاسم التّجارب، والممارسات النّاجحة في تجويد مرحلة الطّفولة المبكّرة بالدّول العربيّة”.
وقدّم رئيس قسم المُتابعة وشؤون المُعلّمين بإدارة رياض الأطفال بوزارة التّربية والتّعليم “إسماعيل التومي”، كلمة أوجَز فيها “واقع مرحلة الطّفولة المُبكّرة (الحَضانة وريَاض الأطفال)، وأهمية وآليات التّطوير والتّدريب للعامِلين في هذه المرحلة، وعرضاً لِمشاريع وإنجازات التّجربة الليبية في تنمية الطّفولة المبكّرة، مع اِستعراض لأهم الصُّعوبات والتّحدّيات، وسُبل تجاوزها، والعمل على تذليلها، مؤكّداً على أهمية الاِستثمار في الطّفولة المُبكّرة كركِيزة أساسية لِبناء مجتمعات قوية ومتماسكة”.
الوزارة تُشارك في الاِجتماع الأوّل للجنة الاِستشارية الدّائمة والمنتدى الأوّل لِلطفولة المبكّرة الإقليمية شاركتْ وزارة…
تم النشر بواسطة وِزَارَةُ التَّرْبِيَةِ والتَّعْلِيم – ليبيا في الأحد، ٢٤ نوفمبر ٢٠٢٤ آخر تحديث: 24 نوفمبر 2024 - 12:37