في السنوات الأخيرة، نشأت صناعة ضخمة، حيث جعلت الصين، والولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، والاتحاد الأوروبي من سلامة الذكاء الاصطناعي أولوية قُـصوى. من الواضح أن أي تكنولوجيا ــ من السيارات والمستحضرات الدوائية إلى الأدوات الآلية وماكينات جز العشب ــ يجب أن تكون مُـصَـمَّمة بأمان قدر الإمكان (نتمنى لو كانت وسائط التواصل الاجتماعي أُخْـضِعَـت خلال أيامها الأولى لقدر أعظم من التدقيق).

لكن الاكتفاء بإثارة المخاوف المتعلقة بالسلامة لن يفي بالغرض. في حالة الذكاء الاصطناعي، تركز المناقشة بدرجة مُـفرِطة على "السلامة ضد المخاطر الكارثية التي يفرضها الذكاء الاصطناعي العام"، أي الذكاء الفائق القادر على التفوق على كل البشر في معظم المهام الإدراكية. تتعلق مسألة مطروحة للمناقشة بما يسمى "الانحياز": ما إذا كانت نماذج الذكاء الاصطناعي تُـفرِز نتائج تتوافق مع أهداف وقيم مستخدميها ومصمميها ــ وهو موضوع يقودنا إلى سيناريوهات عديدة أشبه بالخيال العلمي حيث يظهر شكل ما من أشكال الذكاء الاصطناعي الفائق ويدمر البشرية. يركز كتاب "مشكلة الانحياز" للمؤلف الأكثر مبيعا بريان كريستيان في الأغلب على الذكاء الاصطناعي العام، وقد دفعت ذات المخاوف أنثروبيك (Anthropic)، وهي إحدى الشركات الرئيسية في هذا المجال، إلى بناء نماذج تعمل بموجب "دساتير" خاصة تكرس القيم والمبادئ الأخلاقية. لكن سببين على الأقل ربما يجعلان هذه الأساليب مضللة. أولا، لا يكتفي الجدال الدائر حاليا حول السلامة بتشبيه الذكاء الاصطناعي (على نحو غير مفيد) بالبشر؛ بل إنه يقودنا أيضا إلى التركيز على الأهداف الخاطئة. وبما أن أي تكنولوجيا يمكن استخدامها للخير أو الشر، فإن ما يهم في نهاية المطاف هو من يتحكم فيها، وما هي أهدافها، وأي نوع من الضوابط التنظيمية تخضع له. لم يكن أي قدر من أبحاث السلامة ليمنع استخدام سيارة كسلاح في مسيرة العنصريين من ذوي البشرة البيضاء في شارلوتسفيل بولاية فرجينيا في عام 2017. وإذا قبلنا الفرضية التي تزعم أن أنظمة الذكاء الاصطناعي لها شخصياتها الخاصة، فقد نستنتج أن خيارنا الوحيد يتمثل في ضمان امتلاكها للقيم والدساتير الصحيحة نظريا. لكن هذه الفرضية زائفة، والحل المقترح سيكون قاصرا بدرجة كبيرة عن الوفاء بالغرض.

من المؤكد أن الحجة المضادة ستكون: "إذا تحقق الذكاء الاصطناعي العام على الإطلاق، فسيكون من المهم حقا ما إذا كان النظام "مُـنحازا" للأهداف البشرية، لأنه لن تتبقى أية حواجز حماية لاحتواء دهاء الذكاء الفائق.

لكن هذا الادعاء يقودنا إلى المشكلة الثانية التي تكتنف قسما كبيرا من المناقشات الدائرة حول سلامة الذكاء الاصطناعي. فحتى لو كنا على الطريق إلى اختراع الذكاء الاصطناعي العام (وهو أمر يبدو مُستبعَدا للغاية)، فإن الخطر الأشد إلحاحا يظل متمثلا في إساءة استخدام الذكاء الاصطناعي غير الفائق من قِبَل البشر.

لنفترض أن هناك زمنا ما (T) في المستقبل (لِنقُل عام 2040) عندما يُـخـتَـرَع الذكاء الاصطناعي العام، وأن أنظمة الذكاء الاصطناعي التي لا تملك الذكاء الاصطناعي العام حتى ذلك الحين، ستظل غير مستقلة. (إذا أصبحت ذاتية التصرف قبل الذكاء الاصطناعي العام، فليكن ذلك اليوم هو "T"). والآن لننظر إلى الوضع قبل عام واحد من الموعد "T". ببلوغ تلك النقطة، ستكون أنظمة الذكاء الاصطناعي مقتدرة بدرجة عالية (بفضل كونها على أعتاب الذكاء الفائق)، والسؤال الذي نود طرحه هو: من هو المسيطر الآن؟

ستكون الإجابة بالطبع "الوكلاء البشريون"، إما بشكل فردي أو جماعي في هيئة حكومة، أو اتحاد، أو شركة. لتبسيط المناقشة، اسمحوا لي بالإشارة إلى الوكلاء البشريين المسؤولين عن الذكاء الاصطناعي عند هذه المرحلة باسم "الشركة X". ستكون هذه الشركة (ربما تكون أيضا أكثر من شركة، وهو ما قد يكون أسوأ، كما سنرى) قادرة على استخدام قدرات الذكاء الاصطناعي لأي غرض تريده. فإذا أرادت تدمير الديمقراطية واستعباد الناس، فسوف تكون قادرة على ذلك. والتهديد الذي يعزوه كثيرون من المعلقين إلى الذكاء الاصطناعي العام سيكون وصل بالفعل قبل اختراع الذكاء الاصطناعي العام.

في الواقع، ربما يكون الوضع أسوأ من هذا الوصف، لأن الشركة X قد تجلب نتيجة مماثلة حتى لو لم تكن نيتها تدمير الديمقراطية. وإذا لم تكن أهدافها منحازة تماما للديمقراطية (وهو أمر لا مفر منه)، فقد تعاني الديمقراطية كنتيجة غير مقصودة (كما كانت الحال مع وسائط التواصل الاجتماعي). على سبيل المثال، قد تتسبب فجوات التفاوت التي تتجاوز عتبة ما في تعريض أداء الديمقراطية السليم للخطر؛ لكن هذه الحقيقة لن تمنع الشركة X من بذل كل ما في وسعها لإثراء نفسها أو حاملي أسهمها. ولن يكون لأي حواجز أمان مدمجة في نماذج الذكاء الاصطناعي لمنع استخدامها لأغراض خبيثة أي أهمية، لأن الشركة X ستظل قادرة على استخدام تكنولوجيتها كيفما تشاء.

على نحو مماثل، لو ظهرت شركتان، الشركة X والشركة Y، تتحكمان في نماذج شديدة الاقتدار من الذكاء الاصطناعي، فقد تظل إحداهما، أو كلتاهما، قادرة على ملاحقة أهداف ضارة بالتماسك الاجتماعي، والديمقراطية، والحرية الإنسانية. (والحجة التي تزعم أن الشركتين قد تقيدان بعضهما بعضا ليست مُـقنِـعة. بل إن المنافسة بينهما قد تجعلهما أشد قسوة).

وعلى هذا، فحتى لو حصلنا على ما يريده أغلب الباحثين في سلامة الذكاء الاصطناعي ــ الانحياز السليم وفرض القيود على الذكاء الاصطناعي العام ــ فلن نكون آمنين. يجب أن تكون العواقب المترتبة على هذا الاستنتاج واضحة: نحن في احتياج إلى مؤسسات أقوى كثيرا لكبح جماح شركات التكنولوجيا، وأشكال أقوى كثيرا من العمل الديمقراطي والمدني للإبقاء على الحكومات التي تتحكم في الذكاء الاصطناعي خاضعة للمُـساءلة. هذا التحدي منفصل تماما ومتميز عن معالجة التحيزات في نماذج الذكاء الاصطناعي أو توافقها مع الأهداف البشرية.

لماذا إذًا نركز بشدة على السلوك المحتمل من جانب الذكاء الاصطناعي شبيه البشر؟ بعض هذا مجرد ضجة دعائية، وهو ما يساعد صناعة التكنولوجيا على اجتذاب مزيد من المواهب والاستثمارات.

كلما أصبح الجميع يتحدثون عن الكيفية التي قد يعمل بهذا الذكاء الاصطناعي الفائق، كلما بدأ عامة الناس يتصورون أن وصول الذكاء الاصطناعي العام بات وشيكا. وسوف يندفع المستثمرون من الأفراد والمؤسسات إلى الحدث الكبير القادم، وسوف يحصل المسؤولون التنفيذيون في مجال التكنولوجيا الذين نشأوا على تصورات الخيال العلمي حول الذكاء الاصطناعي الفائق على تصريح مجاني آخر. ينبغي لنا أن نبدأ في تكريس قدر أعظم من الاهتمام للمخاطر الأكثر مباشرة وإلحاحا.

دارون عاصم أوغلو أستاذ الاقتصاد في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، وهو مؤلف مشارك لكتاب لماذا تفشل الأمم: أصول القوة والازدهار والفقر وكتاب السلطة والتقدم: صراعنا المستمر منذ ألف عام على التكنولوجيا والازدهار.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: سلامة الذکاء الاصطناعی الذکاء الاصطناعی العام قادرة على الشرکة X

إقرأ أيضاً:

تفاصيل صفقة تيسلا وشركة الذكاء الاصطناعي

الاقتصاد نيوز - متابعة

فنّد الملياردير إيلون ماسك أنباء حول الاتفاق المتوقع بين شركته لصناعة السيارات الكهربائية تيسلا (Tesla) وشركته لبرمجيات الذكاء الاصطناعي "إكس إيه آي" (xAI).

ونقلت صحيفة "وول ستريت جونال" الأميركية (Wall Street Journal) عن مسؤولين -لم تعلن هوياتهم- قولهم، إن ثمة مباحثات جارية لتحصل بموجبها شركة الذكاء الاصطناعي على ترخيص لنماذجها وحصة في إيرادات تيسلا المستقبلية، مقابل حصول الأخيرة على تقنيات الأولى.

وبحسب تقارير يومية ترصدها منصة الطاقة المتخصصة (مقرّها واشنطن)، دُشِّنت شركة "إكس إيه آي" في العام الماضي (2023) بغرض التنافس مع شركة الذكاء الاصطناعي "أوبن إيه آي" التابعة لميكروسوفت (OpenAI) المطورة لروبوت المحادثات الشهير "تشات جي بي تي".

وفي ذلك الوقت، قال ماسك، إن شركة "إكس إيه آي" ستساعد في دفع تقنيات القيادة الذاتية وبناء مركز بيانات تيسلا الجديد لتخزين معلومات السيارات وتدريب الخوارزميات على برمجيات القيادة الذاتية.

كما قال ماسك، إنه ومجلس إدارة تيسلا بحثا في يوليو/تموز (2024) استثمارًا بقيمة 5 مليارات دولار مع "إكس إيه آي"، كما استطلع الآراء بمنصة "إكس"، حيث سجّل أكثر من ثلثي المشاركين موافقتهم على الاستثمار.

ردّ إيلون ماسك

في تدوينة بمنصة إكس (X) التابعة له، اتهم رجل الأعمال الشهير إيلون ماسك تقرير صحيفة وول ستريت جونال بشأن المحادثات بين شركتيه بعدم الدقة.

وقال، إنه لا توجد حاجة لترخيص أي شيء من "إكس إيه آي"، غير أنه أقرّ بأن تيسلا "تعلمت الكثير" من المباحثات مع مهندسي "إكس إيه آي"، إذ ساعدت في تسريع برنامج القيادة الذاتية الكاملة دون تدخُّل السائق.

وأوضح أن نماذج الذكاء الاصطناعي التابعة لشركة "إكس إيه آي" ضخمة وذات صيغة مضغوطة ومعظمها مبني على التجربة البشرية، ولا يمكن، ولا يريد، تطبيقها على برمجيات تيسلا.

إيلون ماسك يتوسط فريق شركة "إكس إيه آي"- الصورة من حساب الشركة بمنصة إكس

وبناءً على تقرير وول ستريت جونال، الذي اطّلعت عليه منصة الطاقة المتخصصة، سيكون ترخيص تيسلا لنماذج إكس إيه آي للذكاء الاصطناعي بهدف المساعدة في تشغيل برمجيات القيادة الذاتية الكاملة، وستتقاسم تيسلا جزءًا من إيرادات تلك البرمجيات مع الشركة الوليدة.

وستدعم شركة الذكاء الاصطناعي تطوير سمات تشغيلية لمركبات تيسلا، ومنها المساعد الصوتي، وأيضًا الروبوت أوبتيوموس (Optimus) الذي مازال قيد التطوير.

وبحسب المصادر، سيرتكز تقاسم الإيرادات المقترح بين تيسلا و"إكس إيه آي" -جزئيًا- على حجم اعتماد الأولى على تقنيات الثانية، وبالإضافة لذلك، اقترح مديرون تنفيذيون في "إكس إيه آي" تقاسم إيرادات برمجيات القيادة الذاتية الكاملة مناصفة.

انتقادات وحوادث

يُتهم الملياردير إيلون ماسك بحشد موارد شركاته لدعم برمجيات الذكاء الاصطناعي، وهو أمر أثار مخاوف حملة أسهم تيسلا الذين رفعوا دعاوى قضائية لإيقافه.

وفي منتصف يونيو/حزيران (2024)، أقام حملة أسهم في شركة تيسلا دعوى قضائية ضد رئيسها التنفيذي ماسك ومجلس الإدارة بزعم إبعاد الموارد والمواهب "الشحيحة" عن شركة السيارات الكهربائية لصالح شركة الذكاء الاصطناعي "إكس إيه آي".

ولفت بعضهم إلى أن ماسك يحاول جعل تيسلا شركة روبوتات وذكاء اصطناعي، وأن مجلس الإدارة لا يمنع ماسك من نهب الموارد من تيسلا إلى "إكس إيه آي" وجمع مليارات الدولارات من الذكاء الاصطناعي في شركة أخرى غير تيسلا.

وبزعمهم، أمرَ ماسك بتوجيه الآلاف من رقائق الذكاء الاصطناعي من إنتاج شركة "إنفيديا" الأميركية (Nvidia) من تيسلا إلى منصة إكس، وفق تقرير لشبكة "يورو نيوز" (euro news).

يتزامن ذلك مع انتقادات حادة وتحقيقات في برنامج القيادة الذاتية الكاملة، الذي لم يمنع وقوع حوادث مميتة في أثناء تشغيله.

وفي مطلع أغسطس/آب (2024)، أثبتت الشرطة أن برنامج "القيادة الذاتية الكاملة" كان مفعّلًا في أثناء وقوع حادث تصادم أسفر عن وفاة سائق دراجة نارية في الولايات المتحدة في أبريل/نيسان.

وتقول الإدارة الأميركية الوطنية للسلامة المرورية على الطرق السريعة (NHTSA)، إن ذلك هو ثاني الحوادث المميتة التي تقع في أثناء تفعيل برنامج القيادة الذاتية الكاملة.

وبدورها، تقول تيسلا، إن البرنامج لا يجعل السيارة تسير بذاتها، وإنما يساعد السائق عند التوجيه واستعمال المكابح وإبقاء السيارة داخل حارتها مع ميزات المكابح في حالة الطوارئ وإطلاق تحذيرات من الاصطدام ومراقبة النقطة العمياء.

وحمّل مراقبون تيسلا المسؤولية عن تلك الحوادث، مطالبين إياها ببذل مزيد من الجهود، لكن تيسلا تقول، إن المسؤولية على عاتق السائق الذي يجب أن ينتبه عند استعمال بعض الميزات التي يقدّمها البرنامج.

القيادة الذاتية الكاملة

رغم الحوادث والانتقادات، كشفت شركة تيسلا خططًا لإطلاق برنامج القيادة الذاتية الكاملة في أوروبا والصين خلال الربع الأول من العام المقبل (2025).

ولم تحصل الشركة الأميركية على ترخيص من الجهات التنظيمية في الصين وأوروبا لتشغيل البرنامج بعد، لكن إيلون ماسك توقّع في وقت سابق الحصول عليها بنهاية العام الجاري (2024).

وزار ماسك الصين في نهاية أبريل/نيسان (2024) لبحث إمكان نشر تطبيق القيادة الذاتية الكاملة، والحصول على موافقة رسمية لنقل بيانات جمعتها تيسلا في الصين إلى الخارج، لتدريب الخوارزميات على تقنيات القيادة الذاتية.

وبرنامج القيادة الذاتية الكاملة (FSD) هو تحديث لبرنامج مساعدة السائق "أوتو بايلوت" (Autopilot) الموجود في الصين وأوروبا.

مقالات مشابهة

  • الذكاء الاصطناعي يتنبأ بعلامات المرض
  • الذكاء الاصطناعي والكتب الدينية
  • خبير اقتصادي: الدولة تتجه إلى الاعتماد على الذكاء الاصطناعي بجميع المجالات
  • اليمن تشارك في قمة الذكاء الاصطناعي في سيئول
  • تفاصيل صفقة تيسلا وشركة الذكاء الاصطناعي
  • مايكروسوفت تدعو إلى تعليم الذكاء الاصطناعي طلب المساعدة
  • السوداني يؤكد على أهمية إنجاز المشاريع التي تعمل فيها الشركة في العراق
  • ختام الهاكاثون الخليجي لتوظيف الذكاء الاصطناعي في التعليم
  • محمد مغربي يكتب: قوانين الذكاء الاصطناعي.. ولكن!
  • 3 طلاب كويتيين يفوزون في الهاكاثون الخليجي لتوظيف الذكاء الاصطناعي في التعليم بالمنامة