ليس من مطـابَـقَـةٍ بين الشّـرق، من حيث هـو شرق، والشّـرقِ الذي يتحـدّث عنـه الغربيّـون، والمستـشرقـون منهم بخاصّـة. شرقُ الشّرقـيّـين يختـلف، قطـعاً، عن شـرق الغربـيّين لاختلاف علاقـات هؤلاء وأولئـك به ولاختلاف ما يعنيـه بالنّسبـة إلى كـلٍّ من الطّـرفيـن. هذا عينُـه ما يجـوز أن يقال عن الفارق بين الغرب في عيـون أهله الغربيّـين، من جانب، وفي عيون الشّرقـيّـين، من جانبٍ ثـانٍ، وعن اتّـصالِ ذلك الفارق بعلاقات كـلٍّ من الفريقيـن بـه.
حين نقـول عن نظرة الغربيّـين إلى الشّـرق إنّها نظـرةٌ برّانيّـة، فنحـن لا نُسْـقط بهذا القـول، بتـاتاً، إمكانَ بناءِ علاقـةِ تَعاطُـفٍ وتَـفَـهُّـم لهذا الشّـرق من طرف غربيّـين كـثر: دارسيـنَ وغيـرَ دارسيـن. هذه ليس فقط إمكانيّـةٌ واردة، بل هـي حقيـقةٌ تـواتَـرتْ عليها الشّـواهـدُ منذ زمـن. ونحـن نستطيـع أن نَـلْحَـظها في أَبْـسَـط أشكالِ الاتّـصالِ السّطحيّ والعارض بالشّـرق، من نـوع ذلك الاتّـصال الذي تـتيحُـه السّياحةُ الغربيّـة إلى بلدان الشّـرق وما تُـولِّـدهُ في أذهـان السّائحيـن ومخايـيلهم من مفاجـآتٍ سارّة. صحيح أنّ الغرائـبيَّ والعجائـبيّ هـو ما يشُـدّ السّائح الغربـيّ إلى عـوالم الشّـرق ويرفع في نفسه درجـةَ الفضول والرّغبـة في الاكتـشاف، ومع ذلك فإنّ تلك الغرابة - ومَـبْعَـثُها اكـتشـافُ الاختـلاف بين عالميْـن وثـقافـتـيْـن - هي، بالذّات، ما يرسم في وعيـه والوجـدانِ صورةً جميلةً عن ذلك الشّـرق، ويبعث في النّـفس ذكرى دافئـةً عنه كلّما استعادتْـهُ الذّاكـرة؛ وهي ما يدفـع زائـرَه أحيـاناً إلى العـودة إليه، ثانيـةً، قصد مزيـدٍ من اكتـشـاف المخبوء ممّا لم تَـصل إليه حـواسُّـه وعِـلْـمُه في الاتّصال الأوّل. ولقد يحدث ذلك لسائحيـن غربيّـيـن يجهلـون - كـلاًّ أو جـزءاً - الكثيـرَ الكـثير عن حضارات ذلك الشّـرق وتاريخِـه وثـقافـتِـه وقيـمه، بل قد يجهـلون لغاته ممّا يُعسِّـر على أكثرهم سُـبُـل التّواصـل مع أهله، فكيف بمن هُم على قـدْرٍ من المعرفـةِ كبيـرٍ به يسمح لهم لا فـقط بمعرفتـه عيـاناً، بل بمعرفة مخزونـه الحضاريّ والثّـقافيّ والدّيـنيّ أيـضاً.
هذه هي حال قسمٍ كبيرٍ من المستـشرقين بَـذَلَ الوُسْـع الغـزير كي يقـترب أكـثر من الموضوع المدروس ليُـحسن فهـمَـه، وليُحرِّر نفسَـه من عبء الانحجاز داخل نطاق معرفةٍ متوارَثـة في الغرب عن الشّـرق تُـضْـمِر الكـثير من مشاعر الضّـغينـة أو الانـتـقام أو الخـوف. وهـذه المعرفة السّـلبيّـة عن الشّـرق - وهي تقـدِّم نفسَـها في شكل طبـقاتٍ متراكمـة من الصُّـور النّمطيّـة - تجد من يغـذّيها بالكثير من التّعـزيز والتّسويق في زمنٍ، حـديثٍ، تفـنَّـن في تصنيع الصُّـوَر والأحكام وفي تعليبها وتسويقها على أوسع نطاق. ولستُ أقصد بالجَـهْـد المبذول للاقـتـراب من الموضوع أن يُحْسن المستـشرقُ العِلْـمَ بالشّـرق (وفي حالتنا بالعالم العربيّ والإسلاميّ: حضـارةً وثـقافـةً) ولغاتِـه؛ إذْ ما أكثـر المستشرقين - من أمثال برنارد لويس - الذين أفلحوا في ذلك إلى حـدٍّ بعيد، لكنّهم ظلّوا يحملون مشاعر الاحتـقار والكراهيّـة لمجتمعات الإسلام والعروبة! الاقـترابُ الذي أعنيه بقولي هـو الاقـتراب العاطفيّ والأخلاقيّ من الآخَـر المختـلِـف؛ الاقـتراب الذي لا يُـفْـقِد المستـشرِق الدّارس حيادَه العلميّ وأخلاقَـه الموضوعيّـة العلميّة، بل الذي يُـشْـرِع الأبواب أمام نظـرةٍ تفـهُّـميّـة تحترم ذلك الآخَـر في اختلاف نموذجـه من غير مقابلـتِـه بشعور الاستعلاء، أو مقاربة نموذجه الثّـقافيّ والحضاريّ بمعيارٍ ذاتيّ ينْـسُب إلى نفسه المركزيّـة والمعياريّـة.
مع ذلك، وأيّـاً يكن مبْـلغُ التّـعاطفِ الذي يبلُغه شعورُ المستشـرق تجـاه موضوعه المدروس (الشّـرق)، يظلّ غريـباً عن موضوعه وبرّانيّـاً و، بالتّالي، يظلّ مثـلما هـو فـعلاً: غـربيّـاً مشدوداً إلى قيمه الثّـقافيّـة والحضاريّـة والدّينيّـة حـدّاً مّـا من الانـشداد متفاوتَ القـوّة. لذلك نعثـر على التّـفهُّـم عند كثيريـن، ولكنّـه ممزوجٌ بقـدرٍ مّـا من التّمـسُّـك بمبدأ السّـلطة المعرفيّـة على الموضوع المبحـوث، الأمر الذي نفهـم معه لماذا يأخذ الشّـرقُ - شرقُـنا الذي نعرفـه ونعيش فيه ونتـشبّـع بقيـمه الثّـقافيّـة - معنًـى مختـلفاً ويلـبَـس صُـوَراً لا تُطابـق ما لدينا. وهذه الفجـوة بين شرق الغـربِ (أو الشّـرق كما يتـمثّـله الغـرب) وشـرقِ الشّـرق أو شـرقِ الشّـرقـيّين ليست فجـوة بين دارسيـه الغـربيّين والمسكونين به من أهلـه، فحسب، وإنّما هي فجـوةٌ بين أولئك المستشرقيـن وأكـثـرِ نقّـاد الشّـرق من الشّـرقـيّين؛ وهُـمْ، في المعظمِ الغالب منهم، ممّن تَـشَبّـع بقيم الثّـقافة الغربيّـة ومناهجها وأقام بعضَ المسافة العلميّـة مع أهـوائه الذّاتـيّـة ونظرتـه المركزيّـة الذّاتيّـة - الشّرقيّـة - إلى حضارته وثـقافته فـقاربَـها بقـدرٍ من الحياد الفكـريّ الذي تفـترضـه المعرفة. لذلك هي تُـفصـح عن تلك الفجـوة الهائلة بين نظرتين مختلفتين يلقيـهما كـلٌّ من الغـربيّ والشّـرقيّ على شرقٍ يصير فيهما شرقـيْـن، لأنّـه شرقٌ مُـتَـمَـثَّـلٌ أو مصنـوع.
من النّافـل القـولُ إنّ درجة التّـباعُـد بين الدّارس الغـربيّ وموضـوعه المدروس (= الشّرق) تكون أعلى وأظْـهـرَ في الحالة التي ينسُـج فيها ذلك الدّارسُ صلةَ تَـعاطُـفٍ مّـا مع موضوعه؛ لأنّ الصّلة هذه هي التي تجعله أَقْــدَر على معرفة الأوضاع والحالات التي حصل فيها ما حصل في الماضي أو قِـيـلَ فيها ما قيـل وكُـتِـبَ فيها ما كُـتِـب من قِـبَـل هذا وذاك، وتُـقـرِّبُ إدراكَـه من الظّـروف الخاصّـة تلك فتسمـح لأحكامه بأن تـنتـظم على قاعـدة الموضوعيّـة والنّزاهـة أكثر. وما أغنانا عن القول إنّ أعلى درجـات البـرّانيّـة والتّـباعُـد هي تلك التي تـتولّـد من ميولٍ لدى الدّارس إلى تصفيـة حسابٍ إيـديولوجيّ مع الموضوع المدروس! وتلك سـيرةُ الكـثيـريـن مع الشّـرق.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الث ـقافی انی ـة
إقرأ أيضاً:
وسائل التواصل الاجتماعي وبناء الوعي المأزوم والمشوه!
تكشف وسائل التواصل الاجتماعي، كما أراها على الأقل، عن خطاب مأزوم وسلبي بات يسود منشورات هذه التطبيقات، وهو خطاب تختلط فيه الكثير من المشاعر، مشاعر الإحباط والغضب والتشاؤم من كل شيء في هذه الحياة، تقريبا، حتى من اللحظات التي تحتاج أن نشعر معها بالفرح والفخر، وكأن هذه الوسائل وُجدت لهذا النوع من الخطابات التي يعاد فيها تدوير الإحباط على هيئة منشورات وتغريدات وعذابات تصف الواقع المعاش وكأنه سلسلة من الخيبات والانتكاسات.
وتجاوز انتشار هذا الخطاب المأزوم تغريدات تطبيقات مثل «تويتر» تغيب فيها هُوية الكثيرين بين الواقع الحقيقي والافتراضي إلى تطبيقات أخرى مثل «الواتس آب» حيث يلتقي الناس بشكل أقرب ما يكون إلى الواقع الحقيقي في مجموعات قد تبدو عامة ولكنها مغلقة يعرف فيها كل عضو الآخر كما في الواقع الحقيقي، أو في مجموعات «وظيفية» يفترض بأعضائها أن يكونوا على قدر متقارب من الوعي والقدرة على فهم الأحداث وحركة المجتمع والدولة، وعلى مستوى من الثقافة والمعرفة.
تكفي ساعة واحدة في تصفح نماذج مما تطرحه هذه المواقع لتعتقد بكثير من الاطمئنان أن الناس جميعا قد غرقوا في بحر من الإحباط واليأس وصاروا عند حافة الهاوية التي لا رجعة منها. لكن الصورة التي تُرسم هناك لا تنتمي إلى الحقيقة وإلى الواقع الذي يعيشه المجتمع الذي يمارس حياته وتقدمه ويبني قوته وصلابته، ولا تنتمي إلى واقع هؤلاء الناس بصفتهم الفردية، الذين يعيشون حياتهم بطولها وعرضها منفصلين عن واقع خطابهم الإلكتروني.. ومن ينظر من النافذة يرى الحياة مختلفة تماما عن صورتها التي ترسم في مواقع التواصل الاجتماعي.
لكن، لا بد أن نتفق بدءا أن الحياة ليست مثالية، ولم تكن كذلك في يوم من الأيام، فهناك تحديات، وتحديات كبرى في بعض الأحيان، وهناك أخطاء، ولكن، أيضا، هناك حركة للمجتمع بكل مؤسساته وحركة للدولة في عملية البناء والبحث عن مخارج مستدامة لكل التحديات التي تواجه المجتمع أو تواجه الأفراد، وهذه العملية قد ينتج عنها تحديات جديدة وهذه طبيعة الأشياء.
والمعيار الحقيقي لفهم الحقيقة يتمثل في الإجابة عن مثل هذا السؤال: هل نتقدم أو نتأخر؟ الحقيقة التي يراها المنصفون أننا، في سلطنة عمان، نتقدم وبشكل متسارع رغم كل التحديات التي لا ننكرها، والحقيقة الأخرى أن القيادة، في قمة الهرم، مدركة لهذه التحديات ولطبيعتها وتتحدث عنها ولا تنكرها بل وتدعو الجميع للدخول في نقاش مفتوح حولها سواء في وسائل الإعلام من صحف وتلفزيونات وإذاعات أو في المنتديات الحوارية المفتوحة كما كان الأمر في ملتقى «معا نتقدم»..
ومن بين أكبر وأخطر التحديات التي نواجهها في عُمان تحدي الباحثين عن عمل والمسرحين من أعمالهم والتحديات المعيشية المرتبطة بهؤلاء وهي تحديات لا تنكرها الحكومة ولا تقفز فوقها.. وطرحها في كل المنابر دليل على ذلك.
أما الحياة فهي تسير في روتينها الطبيعي: هناك من يبني وهناك من يعمل وهناك من يتعلم ومن يحقق نجاحا صغيرا أو كبيرا كل يوم، وهناك أيضا من يُحلم بغد أفضل.. وفي وسط هذا المشهد المتحرك يبرز سؤال طبيعي، بل أساسي لفهم ما يحدث ويحتاج أن نتأمله بدقة: لماذا كل هذا الشعور بالسلبية رغم أن الواقع، مع ما فيه من تحديات كما ذكرنا أعلاه، لا يسوغ هذه الحالة الجمعية في وسائل التواصل الاجتماعي؟
الفرضية التي يمكن الانطلاق منها هي أننا لا نعيش إحباطا «واقعيا» بقدر ما نعيش إحباطا مُصنّعا، تشكل عبر تراكم الصور والانطباعات والمقارنات في بيئة افتراضية تُعيد إنتاج نفسها كل لحظة. وفي بيئة تمجد «النضال اللغوي» الذي يملأ الدنيا صخبا بالكلمات والصدامات دون رؤية أو حل!
غيّرت وسائل التواصل الاجتماعي شكل المزاج العام، ما كان في السابق يُقال في جلسات مغلقة أو يهمس به بين الأصدقاء، أصبح اليوم منشورا يتداوله الآلاف، وكلما زادت حدة الشكوى، زادت التفاعلات وكلما كان الخطاب مناكفا نظر إليه المتابعون على أنه صوت الحق والقوة. ولا تهتم خوارزميات هذه المنصات بالحلول، بل تُضخّم المحتوى الذي يُحرّك المشاعر، ولو كانت مشاعر غضب أو سخط.
وهكذا، وجد الناس أنفسهم في دوامة من المقارنات، ليس فقط على مستوى الرأي، بل حتى على مستوى نمط الحياة.. فهناك من ينشر تفاصيل حياة مثالية مصنوعة، مليئة بالسفر والتسوق والسيارات الجديدة، دون كشف الخلفية الحقيقية لهذه الحياة أو واقعها المادي، وهناك من يرى تلك الصور ويتفاعل معها ويبدأ بالشعور بأن حياته مسحوقة لا تستحق الفخر أو الرضا، وأنه لا يعيش كما يعيش الناس.. وهنا تبدأ أزمة الشعور بالنقص والتي تخرج على هيئة خطاب يائس وناقم إلى درجة أنه لا يرى الحقيقة الساطعة.
يسمي علماء النفس هذا الأثر بـ«التعرض المفرط للمثالية الرقمية» وهو أحد أهم مسببات الشعور بالإحباط خاصة عند الشباب، لأنه يضعهم في مواجهة يومية مع «واقع غير واقعي»، واقع محسّن بالفلاتر، ومحكوم بزوايا التصوير، ولا يعكس حياة حقيقية، بل وهما اجتماعيا.. والغريب أن البعض يعرف وهم هذا الواقع ولكنه يتأثر به.. وتبدأ الطبقية النفسية في التشكّل، وتولد المشاعر المتناقضة والأمراض الاجتماعية، ويترسّخ الانطباع بأننا نعيش في قاع لا مفر منه.
هذا المحتوى الذي يعتقد البعض أنه مثالي يدفع الكثيرين إلى الشعور بالإحباط والتشاؤم وانعدام القيمة الاجتماعية وهو شعور خطير لأن باعثه مستمر في رسالته اليومية ما دام التعرض لخطابات وسائل التواصل الاجتماعي مستمرة، ولا يتوقف الأمر عند الأفراد فقط، ولكنه ينعكس على الصورة الجماعية للمجتمع؛ فتصبح اللغة السائدة هي لغة التذمّر، ويتحول الانطباع الجمعي إلى مشهد مكتئب، حتى لو لم يكن كذلك في الواقع، ثم تبدأ الشكوى في فقد وظيفتها بوصفها أداة للتعبير، وتتحول إلى هُوية شخصية، فيشتكي الناس لأنهم لا يعرفون كيف يكونون دون شكوى.. وهذا أمر خطِر جدا.
لدينا في عُمان الكثير من المشروعات العملاقة التي تكشف عن مسار متقدم في الإصلاح الاقتصادي وبناء اقتصاد جديد قائم على فكرة الاستدامة وهناك اهتمام بمشاريع الشباب وبتمكينهم وهناك اهتمام بالتعليم.. هناك حركة طبيعية لدولة حقيقية، وهناك تطور لمجتمع قوي، وكل هذا يستحق أن يبرز وأن نضعه في سياقه الحقيقي ونتحدث عنه. رغم ذلك رأيت وسمعت، شخصيا، الكثير من الناس وهم على مستوى عال من التعليم يقللون من شأن الكثير من المشاريع التي تنجزها الدولة وهي مشاريع استراتيجية وفارقة في مسيرة الدولة.
هذا الإحباط المصنّع لا يقل خطرا عن التزييف الإعلامي، لأنه يقتل في الناس الرغبة في المبادرة، ويستنزف طاقتهم النفسية، لذلك نحن في حاجة ماسة لاستعادة علاقتنا بالواقع، لا عبر وسائل التواصل الاجتماعي، بل عبر النظر إلى أنفسنا، وأسرنا، وجيراننا، وزملائنا، ومَن يعملون بصمت من حولنا.
وفي اعتقادي أن بناء الوعي هو خط الدفاع الأول الذي نحتاج له، وأن نكون منتبهين لما نستهلكه رقميا، ولما نردده من عبارات، وأن نتعلم التمييز بين من يُعبّر عن ألم حقيقي نتيجة واقعه المر، ومن يُكرر خطابا مستنسخا.. والحياة أعمق من أن تختزلها شاشة، وأجمل من أن نراها فقط بعين الإحباط.