ومع تعاقب الغزاة عليها كان كل غازي يسرق ما أمكنه من أثارها قبل ان يرحل مدحورا، إلى أن ياخذ مكانه غازي أخر ليضيف الى ماسبقوه المزيد من النهب والتخريب لأثار اليمن التي باتت اليوم ضمن بنك أهداف العدوان السعودي الإماراتي على اليمن والمحتل لأجزاء من جنوبه، ويبدو ان دافع غزاة اليوم يختلف عن دافع أسلافهم بالأمس الذين كان هدفهم السطو على كنوز اليمن وتاريخها بعكس غزاة اليوم الذين تكشفت دوافعهم بأنها بهدف الحقد على تاريخ اليمن بدليل أن صواريخهم سبقت أياديهم بالوصول الى عدد من المواقع الأثرية اليمنية .

. تفاصيل في سياق التقرير التالي:

تقرير : مارش الحسام
يعد اليمن مهد الحضارات لتعاقبها عليه منذ فجر التاريخ، وقد تركت كل حضارة شواهدها الاثرية والتي لا تقتصر فقط على المعمار والتحف والتماثيل والصخور وانما لتشمل الكم الهائل من المخطوطات والوثائق المكتوبة والتى تفوق في تعدادها على ماخلفته عدد من الحضارات الاخرى في مختلف البلدان.
ويقول باحث الآثار اليمني عبدالله محسن، في منشور له على منصة أكس: " اليمن القديم خلف لنا من الوثائق المكتوبة عدداً أكبر مما خلَّفه عديد من الحضارات الأخرى الأكثر شهرة بين الناس، ولو حاولنا القيام بجردة كاملة لتبين لنا أنَّ اليمن أحد أغنى مناطق العالم بالنسبة لعلم النقوش".

مكتبة من مخطوطات اليمن
ومن المؤسف القول أن السواد الأعظم من تلك المخطوطات والمنقوشات الكتابية انتهى بها المطاف في متاحف ومكتبات دول غربية، بل ان بعض الدول حضيت من المخطوطات اليمنية مايوازي مكتبة متكاملة ولاسيما دولة الاحتلال الإسرائيلي والتي حضيت بنصيب الأسد منها مع هجرة اليهود اليمنيين الى فلسطين المحتلة.
ويشير الباحث عبدالله محسن، أن احدى العائلات اليهودية اليمنية قامت بتهريب 60 ألف مخطوطة يمنية إلى القدس، وهي أكبر مجموعة من المخطوطات اليمنية في العالم، من قبل عائلة يهودا ليفي ناحوم (1915-1998) وهو يهودي يمني هاجر إلى فلسطين عام 1929.

مخطوطات ذهبت مع بساط الريح
فيما يوكد باحثون في الهيئة العامة للآثار لصحيفة اليمن، ان أكبر عملية تهريب للمخطوطات اليمنية إلى فلسطين المحتلة كانت خلال الفترة يونيو 1949 إلى سبتمبر 1956 ومايعرف بعملية بساط الربح التي نفذتها الوكالة اليهودية لترحيل نحو 49 ألف يهودي من يهود اليمن إلى إسرائيل عبر ميناء عدن.
وهولاء لم يذهبو خاليي الوفاض، وبحسب وصف أحد المهتمين بالآثار: "اذا كانوا قد اخذو معاهم شتلات القات إلى فلسطين المحتلة، فهل يمكن ان يتخلوا عن مخطوطاتهم وكتبهم القديمة والتى تعد جزء من ديانتهم".
مضيفا: "بعض العائلات اليهودية كانت تحتفظ بنسخ نادرة من التوارت والتى توارثتها العائلات لما يقارب نحو 600 سنة، بل ان عدد من البيوت اليهودية كانت تحوي مكتبة مصغرة تظم مخطوطات بعضها تحوي نصوص من الكتاب المقدس، وكتب تراثية قديمة كانو يحرصون على تدريس ابنائهم إياها، وهو دليل لاجدل عليه ان بيوت العائلات اليهودية كانت زاخرة بالكتب والمخطوطات القديمة والتي بالتاكيد حرصو على نقلها معهم إلى فلسطين المحتلة اما باعتبارها ارث يهودي أو ممتلكات خاصة، لفت انها ارث يمني لايحق لاي شخص التصرف به حتى لو كان يهوديا، ارث اليمن القديم وتاريخها وحق عام تمتلكه الدولة ومن حقها استعادته".

نسخة عمرها 6000 سنة
تعد عملية بساط الريح الأشهر وليست الوحيدة لترحيل اليهود اليمنين الى فلسطين المحتلة والذين استمر تدفقهم إليها بمعية مخطوطاتهم تباعا حتى رحيل أخر عائلة يهودية من اليمن.
وعلى سبيل المثال وليس الحصر، ففي ٢١ مارس ٢٠١٦ وصل الى مطار بن غوريون الدولي وصل ١٩ يهوديًا يمنياً وبحوزتهم نسخة نادرة من التوارات توارثها حاخامات اليهود اليمنيين لنحو 600 سنة.
وهذه المخطوطة تعد أقدم وأكبر نسخة من التوراة مكتوبة على جلد حيوان، والتي تضمن محتواها بشارة برسول الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم، حيث وصفت صحيفة "هآرتس" العملية بـ"السرية والمعقدة".

قديمة ومستمرة
يؤكد وكيل الهيئة العامة للآثار إبراهيم الهادي، لصحيفة اليمن، أن عملية تهريب الآثار اليمنية قديمة قدم الاهتمام الغربي بباب المندب.
ولفت إلى أن اليمن بموقعها الاستراتيجي وتاريخها الحضاري الحافل برصيد وافر من الكنوز الأثرية قد جعل منها مطمعا للغزاة والطامعين بموقعها وكنوزها وكانو يطلقون عليها اسم العربية السعيدة.
وأضاف: "عملية نهب الآثار اليمنية من قبل الغزاة والباحثين والمستشرقين قديمة جدا ولكن ماهو مدون في التاريخ يذكر أن أول بعثة أجنبية الي اليمن كانت في العام 1762 عبر الدنماركي كارستين نيبور، ويذكر التاريخ ان اليمن دخلت في لعبة المنافسة بين القوى الاستعمارية الكبرى، للسيطرة باب المندب، ووصلتها عدد من الحملات الاستعمارية والبعثات الاستكشافية، ومنها على سبيل المثال بعثة البحوث الاثرية الفرنسية، والباحث الاثري النمساوي جلازير الذي زار اليمن اربع مرات، وعملية الانتهاب مازلت مستمر حتى الان وخلال العدوان الذي دمر كثير من الآثار وأوجد مضله لتهريبها عبر المنافذ التي يسيطر عليها".

تهريب وتزوير ومسرحية
بالتزامن مع استمرار تدمير وتهريب وتزوير الآثار اليمنية وبالاخص في المناطق المحتلة واختفاء لقطع وتحف من متاحفها هناك وظهورها في مزادات وصحاري بلدان أخرى، اعتدنا من أسبوع لأخر سماع خبر يفيد ببيع قطع أثرية يمنية في مزادات لندن وباريس وكوبنهاجن وتل أبيب وواشطن.. الخ، كما اعتدنا من وقت لأخر سماع فصول جديدة من مسرحية هزلية عنوانها اكتشاف قطع وتحف أثرية في صحاري الإمارات في محاولة بائسة منها لطمس الهوية اليمنية وتأصيل أبوتها.

80% لصحراء الإمارات
تشير تقديرات خبراء في الهيئة العامة للآثار، أن وتيرة تهريب الآثار اليمنية ارتفعت بشكل كبير خلال العدوان وسيطرته على المنافذ واجزاء من البلاد.
وأوضحوا أن نحو 80% من الآثار اليمنية المهربة تأخذ طريقها صوب الإمارات بغية انتاج فصول جديدة من مسرحيتها الهزلية.
وأن ما يتم عرضه في المزادات العالمية لا يتجاوز 20% من التي يجري تهريبها عبر سماسرة وعصابات متخصصة في سرقة وتهريب الآثار إلى خارج اليمن تحت مضلة العدوان.
وهذه التقديرات والتقارير يؤكدها تقرير أخر للباحث اليمني المختص في تتبع ورصد الآثار المهربة الباحث عبدالله محسن، الذي يقول "إن التقديرات الأولية لعمليات بيع القطع الأثرية اليمنية، المُهرّبة والمسروقة منذ بداية الحرب وحتى العام، تتجاوز 10 الآف قطعة".
وفي منشور آخر له يؤكد أن القطع الأثرية اليمنية التي عرضت في صالات ومزادت دولية منذ بداية العدوان وحتى العام 2022 بلغت 2,610 قطعة، منها 2,167 قطعة في الولايات المتحدة لوحدها، تجاوزت قيمتها (12) مليون دولار.
ومابين الرقم الذي حدده الباحث في تقديراته الأولية (لعدد الآثار التى جرى تهريبها) وبين الرقم الذي رصده لعدد القطع التي عرضت للبيع في مزادات خارجية، تثور ألف علامة استفهام حول مصير بقية القطع الأثرية؟

62 وما خفي أعظم
في منشور له على منصة أكس، ورصدته صحيفة اليمن، يفيد الباحث محسن أن نحو 62 قطعة أثرية يمنية، عُرضت وتُعرض للبيع في العديد من المزادات العالمية خلال العام 2023م.
ووفق باحث الآثار اليمني عبدالله محسن، فإن القطع الأثرية ال62 التي عُرضت خلال العام 2023م تم بيع بعضها، وبعضها ما زالت معروضةً للبيع، في مزادات عالمية عدة في “أمريكا، فرنسا، بريطانيا، اسكتلندا، اليابان، كندا، سويسرا، إسرائيل، والكويت”.

7 متاحف غربية لسرقة الحضارة اليمنية
أوضح الباحث عبد الله محسن، احتواء 7 متاحف عالمية على 1,384 قطعة أثرية يمنية مهربة ومسروقة.. مبيناً أن عدد من تماثيل الأسُود البرونزية اليمنية موزّعة في متاحف أوروبية، وفي الولايات المتحدة.
وأشار إلى أن أشهرها تلك الموجودة في المتحف الوطني للفن الآسيوي "سميثسونيان" في الولايات المتحدة الأمريكية، ومتحف فيتزويليام "كامبردج" في بريطانيا، ومتحف "إسرائيل" في القدس.
وأوضح، في منشور له على صفحته ب"فيس بوك"، أنه قبل ما يزيد عن 27 قرنا من الزمان في مدينة نشن (نشان) مملكة معين، كانت الصناعة وسبك المعادن من جوانب الصورة الذهنية عن حضارة اليمن.
وتابع: "كانت البرونزيات بأنواعها رائجة بما في ذلك تماثيل الأسُود، ومن هناك جاءت أسُود مجموعة شلومو موساييف، وهو جامع آثار وتاجر مجوهرات صهيوني".
أما أسَد متحف فيتزويليام "كامبردج"، يضيف "فهو من آثارنا في حضرموت، وله قصة شهيرة"، وقد أوردها في سياق التعليقات عن طريق حكاية جرت بين السلطان القعيطي وأحد المستشرقين الغربيين.
ويؤكد محسن أن الأسُود الأخرى تبرّعت بها لمتحف سميثسونيان المؤسسة الأمريكية لدراسة الإنسان "مجموعة ويندل وميرلين فيليبس"، وهي واحدة من أشهر بعثات الآثار في اليمن، حسب تعبيره.
وفي وقت سابق، كشف الباحث المهتم بالآثار، عن تمثالا أثريا يمنيا عرض للبيع في مزاد الفن القديم والعسكري لدار مزادات "أبولو" لندن في 13 من يوليو الجاري.
وأوضح، في منشور له على صفحته في "فيس بوك"، أن التمثال "من المرمر من القرن الثالث قبل الميلاد من آثار اليمن من قتبان يقف مرتدياً قبعة وسترة طويلة ضيقة، على قاعدة منحوتة إلى ثلاث طبقات، في الطبقتين العلويتين اسم صاحب التمثال بحروف المسند".

متاحفنا محصنة وتهريب محدود
وحول ما إذا كانت المتاحف والمناطق الأثرية في سيطرة حكومة صنعاء محصنة مما ابتليت به نظيراتها في المناطق المحتلة التي تتفشى فيها ظاهرة تهريب الآثار ووصلت إلى درجة اختفاء قطع أثرية من متحفي تعز وعدن وظهورهما في مزادات غربية.
أكد وكيل هيئة الآثار إبراهيم الهادي، أن المتاحف الوقعة تحت سيطرة حكومة صنعاء محصنة تماما ولم يحدث ان فرطت احداها بقطعة واحدة خلال سنوات العدوان.
وأردف قائلاً: "الحصانة التي اتحدث عنها تخص المتاحف ولا تخص المناطق الواقعة تحت سيطرتنا، فتهريب الآثار اليمنية مستمر منذ قرون ولم يتوقف ولكن في مناطقنا محدود جداً أقل من السنوات السابقة، بعكس المناطق المحتلة، ولذلك أتحدى أحد أو جهة ان تثبت تهريب قطعة واحدة من المتاحف الواقعة تحت سيطرتنا، أنا لا انفي وجود تهريب لقطع أثرية من مناطقنا، نعم مازال هناك تهريب محدود لقطع تم نقلها من مواقع أثرية تم شراءها من تجار، وتهريبها إلى المناطق المحتلة تمهيدا لتهريبها أو بالأصح نقلها إلى الخارج بحماية من العدوان، هذا يحدث من وقت لآخر وبشكل محدود، وبعكس المناطق المحتلة التي لم تسلم حتى المتاحف من النهب، أما متاحفنا فهي مصانة والمستحيل بعينه ان تهرب منها قطعة واحدة".

قاعدة لتعقب الآثار المهربة
وعند سوائله عن توجهات الهيئة في الحفاظ على الآثار وموقفها من نهب الآثار اليمنية في المحافظات المحتلة وعرضها في مزادات غربية؟ .. كان رد وكيل الهيئة العامة للآثار، كالتالي: "المعضلة الكبرى التى نواجها هي العدوان يوفر الحماية لتجار ومهربي الآثار ويوفر مضلة وحماية لتهربيها، والمنافذ ليست تحت سيطرتنا، ولكن هذا لا يعفينا من المسؤولية التي تقع على عاتقنا تجاه تاريخنا، ونحن بدورنا قمنا بانشاء موقع اليكتروني لرصد وتوثيق وتتبع الآثار اليمنية، ولدينا معرض صور يحوي كل القطع التي تم تهريبها للخارج وبيعها في مزادات أو تلك التي تدعى الإمارات أنها اكتشفتها في صحرائها.. وقمنا بعمل قاعدة بيانات لكل قطعة تم عرضها أو بيعها في مزادات خارجية، قاعدة البيانات تحوي ليس فقط صورة القطعة أو تاريخها وانما كل المعلومات التفصيلية المتعلقة بها".
وأضاف "ومع زيادة جرائم تهريب الآثار برعاية من العدوان السعودي الإماراتي، حاليا في الموقع صور لآلاف القطع التي عرضت في مزادات بالخارج، وخصوصا هولندا وبريطانيا والمانيا، وعملنا لكل صورة أو قطعة قاعدة بيانات، مدون فيها اسم القطعة وتاريخها وإلى أي عصر تعود، ومعلومات عن المزاد الذي عرضت فيه والجهة أو الموسسة التي عرضتها في المزاد والجهة المنظمة أو الراعية وكل المؤسسات التى لها علاقة ببيع وتهريب الآثار، وندون أيضاً كم بيت للمشتري، واسم المشتري، وضعنا قوائم للجهات الرسمية والانتربول ولن نسكت حتى يتم استعادتها".

 

المصدر: ٢٦ سبتمبر نت

كلمات دلالية: الهیئة العامة للآثار المناطق المحتلة فلسطین المحتلة الآثار الیمنیة القطع الأثریة عبدالله محسن تهریب الآثار إلى فلسطین فی مزادات التی عرضت عدد من

إقرأ أيضاً:

حرب البحث عن الذرائع الكاذبة.. رسالة شكر إلى اليمن العظيم

تخيل أنك تركب الحافلةَ واقفا، وأثناء سيرها ولسبب مفاجئ اضطر السائق إلى استعمال المكابح بصورة قوية، ما الذي سوف يحدث لك ولكل الواقفين أمثالك في هذه الحافلة؟
سوف تجد بأنك تندفع نحو الأمام في الوقت الذي توقفت فيه الحافلة وقد تصطدم بأي شيء أمامك وقد يتم قذفك من الزجاج، يُفَسَّر هذا الأمر في الفيزياء تحت قانون القصور الذاتي للجسم، وهو قانون يقول باختصار بأن أي جسم ساكن أو متحرك لا يمكنه تغيير حالته السكونية أو الحركية دون وجود قوة ترغمه على هذا التغيير، وهذا القانون المادي له نظيره في المجالات الإنسانية غير المادية، ففي مجال الحرب النفسية التي تلعب بقوة في المنطقة هذه الفترة ينتشر قانون القصور الذاتي للخوف على مساحات واسعة، ويقول هذا القانون هنا بأي جسم خائف أو مرعوب يبقى كذلك ما لم تطرأ قوة تعيد له الثقة بنفسه، والقصور الذاتي للخوف أيها السادة يعني أنك تبقى مرعوبا مما اقترفه عدوك من جرائم واعتداءات في الفترة الماضية بحيث تتحول هذه إلى هاجسٍ مَرَضي وانتظارٍ مقعدٍ لمصير استعبادي محتوم، ولهذا السبب تسود الأسئلة الخائفة فوق السحاب بمعية كل صباح في كامل المنطقة البائسة : هل سيعود العدوان على غزة ؟ هل نحن أمام خديعة من ألاعيب ترامب – نتنياهو؟ متى موعد الضربة القادمة ولمن؟
تحت ظلال هذا الخوف تُنسى الحقوق وتنكمش المطالبات المشروعة ويُلقى شعب غزة وهو يعاني الويلات بعد تكشف حجم الجرائم في غزة، و يعود إلينا الأسرى الأبطال وقد فقدوا معالمهم ولم يعودوا يتعرفون على أبنائهم، ويعود إلينا الأسرى الشهداء محروقين معذبين مهانين كرسائل مضافة للتخويف، وتنكمش حقوقنا المشروعة إلى مجرد عدد محدد من شاحنات المساعدات وفتح المعابر وفضلا أمريكيا بإيقاف المجازر ضد شعبنا الذي تحمل ما لا يمكن تخيله، لقد تحول القصور الذاتي للخوف إلى منتجات وسلع استهلاكية تسود المنطقة وتباع بالمفرق والجملة على الأنظمة الراكعة المرعوبة التي لم تعد تتجرأ حتى على ذكر أسم الجاني والمجرم، لقد تحول الخوف إلى أسئلة شبحية تظهر في الليل ومع كل إطلالة لترامب غير المتزن من باب طائرته، خوفٌ حول احتمالية عودة العدوان على غزة والتلويح بورقة الغارت والقصف والقتل من جديد، خوف من قطع المساعدات وعودة التجويع، خوف من موعد الضربة المستحقة للبنان وأخرى لإيران ولليمن، خوف من ابتلاع أراضي الضفة الغربية وأجزاء من سيناء وغور الأردن ولبنان وسوريا وربما أبعد من ذلك، خوف من مصيرنا كأفراد وجماعات بعد عمليات الاستسلام الكبرى التي قدمها القادة العرب في حملات الشرق والغرب .
في ضمير الأسبوع الماضي قدم الرئيس الملهم ترامب مسرحية مؤتمر السلام في المنطقة التي تم بموجبها إيقاف العمليات العسكرية الإجرامية في غزة بحدها الأكبر، وعشنا أسبوعا كاملا من الأمجاد والسعادة والاحتفالات الرئاسية الترامبية بتحرير عشرين أسيرا صهيونيا وتم نسيان شعبٍ كامل يتجرع الويلات كل لحظة، ومن هنا يأتي السؤال البسيط : ما هو نوع السلام الذي يأتي من الزمن الذي تتحكم فيه بمصير كل العالم طبقة من رجال الأعمال والأثرياء الذي لا يعرفون سياسة ولا أخلاقا ولا وازعا ولا حتى يمتلكون الحد الأقل من الذكاء الذي يمكنهم من الضحك علينا بشكل مقنع ؟
نحن أيها السادة تحت تأثير القصور الذاتي للخوف الذي يشل العقل عن التفكير والذي أصبح محور الأحاديث والتحليلات والتفسيرات، ومن أجل الحصول على الترياق المضاد للخوف الذي يغشى المنطقة يتوجب علينا استيعاب الحقائق الأساسية الآتية التي تمثل أعمدة الارتكاز في السياسات الأمريكية، والتي لا يمكن إغفالها أو التغاضي عنها :
لا يوجد شيء اسمه السلام في العقيدة الأمريكية لأنها عقيدة صهيونية الأصل، مفهوم السلام يعني بالضبط إذلال الطرف الآخر أو تسليمه وتبعيته المطلقة أو إبادته إذا تطلب الأمر، إن مفهوم السلام ذي الجوهر الحقيقي يتضمن ثلاثة عناصر : العقيدة المؤمنة بحقوق الآخر بالعيش – قوة كبيرة لحماية هذا الاعتقاد – طرف شريك لعملية السلام يحمل نفس الدوافع وذات القيم .
لا يوجد شيء اسمه الحلفاء أو الأصدقاء أو الشركاء في الضمير الأمريكي، هذه المصطلحات هي تغطيات فنية لمفهوم الأذيال أو العبيد الذين يتوجب عليهم فعل كل ما يلزم لإرضاء السيادة الأمريكية وإشباع حاجاتها ومتطلباتها مهمـا تطلب الأمر شكلا ونوعا وفعلا .
لا شيء يمكنه تغيير واقع السياسات الأمريكية في أية بقعة في هذا العالم زمانا ومكانا سوى لغة القوة فقط، والقوة هنا ليس شرطا أن تكون بنفس الحجم أو القدر ولكن يكفي أن تكون جرعة موجهة في الزمان والمكان الصحيح لتفعل فعلها، تماما كما حصل لهم في العراق وأفغانستان وعملية المارينز في بيروت وفي مقاديشو وغيرها .
حيال هذه الحقائق البسيطة، يجب أن نفهم أن سلوك الإدارة الأمريكية حيال غزة ليس مِنَّةً ولا فضلا ولا كرما من أخلاق ترامب، إنه سلوك مدفوع بفعل قوة موجهة من الداخل والخارج الصهيوني لإنقاذ ما تبقى من عمر لهذه العصابة قبل القضاء عليها من داخلها ومن أفرادها، إن مجموعة القوى الآتية والتي تستحق الشكر والثناء هي التي تقف وراء المؤتمر الترامبي وزيارته للكنيست ودفعه لإيقاف العدوان، نحن أمام مشهد ارتباكي للعدو وليس مشهد قوة أو ذكاء أو استباق سياسي :
صمود الشعب الفلسطيني في غزة، وأداء المقاومة وحسن إدارتها للمعارك وجلسات المفاوضات وملف حجز الأسرى طيلة سنتين، لم تستسلم هذه المقاومة أمام اعتى قوى الشر، لقد حققت معجزات مستعصية من احتمال الضربات وتكبيد العدو خسائر فادحة وإفشال أهدافه بشكل محرج .
يمن البطولة والكرامة، بقيادته وشعبه وعملياته في البحر الأحمر وخطة التصعيد التي انتهجها للوقوف مع غزة دون توقف أو ندم أو تباطؤ رغما عن الخسائر والشهداء والضربات التي لحقت به، إن شعب فلسطين وكل شعوب العرب الحرة مدينة لليمن بهذه الوقفات البطولية والعربية والتي تجسد حقيقة الترابط العربي الإسلامي في مكانها الصحيح، إن وقفة اليمن أحدثت تداعيات هائلة في خنق النشاط الصهيوني والأمريكي، لا يمكن أن ننسى دور لبنان وحزب الله ووقفاته التي قدم فيها خيرة قياداته وأبناء شعبه واحتمل العدوان الصهيوني .
الانتفاضات الشعبية الغربية ضد الصهيونية وتصاعد حملات العداء للإسرائيليين والداعمين لهم، تسجل إسبانيا وإيطاليا وكولومبيا وهولندا وإيرلندا صفحات إنسانية مشرقة في أكبر تظاهرات داعمة مؤيدة للقضية الفلسطينية وعدالتها، لقد وصلت التظاهرات الحد المقلق للأنظمة الغربية العميلة للصهيونية إلى الحد الذي تطلب قرع جرس الإنذار بضرورة إنهاء هذا العدوان على غزة .
اهتزاز الدولار وتهديد الاقتصاد الأمريكي بمخاطر واسعة أمام دعم الحروب في أوكرانيا والشرق الأوسط، تصاعد الصوت الداخلي في الولايات المتحدة من استمرار المغامرات وإشعال الحروب وخضوع البلاد لقوى خارجية .
أمام هذه العوامل يتبدل جلــد العدو ليأخذ تحورا جديدا في شكله وأساليبه وحربه التي لا تتوقف على شعبنا في غزة والبلاد العربية، نحن أمام قسطٍ جديد من التربص السياسي عنوانه حرب الذرائع الكاذبة والتي تأتي عادة في فقه السياسة بعد جولات طويلة من الموت والقتل ثم الادعاء بإحلال السلام ومصافحة الأيدي، حرب الذرائع هي الشوط الذي يأتي بعد مؤتمر مزعوم لإيقاف الحرب فيما تتم بلورة خطط جديدة شعارها أننا نريد السلام والأمان ولكن الطرف الآخر لم يقم بتسليم الهياكل العظمية كاملة! وشعارها أننا نقصف المدنيين لأنهم تجاوزوا الخط الأصفر، وشعارها أن المقاومة تقوم بأعمال قتل للمدنيين المصنفين كخونة وحماس لم تسلم الأنفاق وأخفت خرائط بعضها، أو أن حماس سرقت شحنات من الطحين، أو أن بعض القطط في غزة شوهدت وهي تحمل ذخائر! لذلك لا بد من تجديد العدوان بقوالبه الجديدة الأطول عذابا والأكثر إذلالا من مثل إغلاق المعابر وتخفيض نسب ونوعية المساعدات وتحويل موضوع إعمار غزة إلى لعبة السلم والحية، أو التهديد والوعيد بالتدخل الأمريكي مباشرة واستمرار التخويف بالاغتيال والقصف بين الحين والآخر. السيناريو القادم في غزة لا يختلف عن السيناريو الجاري في لبنان حيث يجري البحث في غزة عن ميشيل ونواف جديدين للتوكل بنفس المهمة، ففي الحالتين تجري عملية التشليح من السلاح بنفس الموازاة وبيد قوى محلية أو مستوردة، لكن في حالة غزة الاستعصاء أكبر والمخاوف أكثر، وكل ذلك لإبقاء الركائز السياسية الأمريكية بنفس مناعتها وقوتها .
إن شعب فلسطين لا ينكسر مهمـا تجبر العدو واستكبر، المعركة طويلة ومتعددة الجبهات، شعب غزة قدم تضحيات تفوق الاحتمال، وقدم نموذجا لا يمكن وصفه من الإخلاص والوفاء لقضيته ودينه وبلاده، وهذه الروح هي التي سوف تكسر كل المؤامرات والخطط مهما تبدلت وتنوعت .
ينسى الصهاينة والأمريكان وأعداء هذه الآمة أن السلاح هو جزء من ثقافتها وروحها، والسلاح في نهاية المطاف يمكن انتزاعه بالقوة أو الاحتيال عليه حسرةً وأســفا، لكنهم ينسون أيضا الشيء الأهم وهو أن الإنسان الحر هو السلاح الحقيقي الذي يزهر وينتج ويصعد أينما كان وبأي زمان جاء، لا يهم أن يكون فلسطينيا أو يمنيا أو لبنانيا أو عراقيا أو سوريا أو إيرانيا أو غربيا، المهم هو ماذا يحمل في عقله وروحه ووعيه وانحيازه إلى إنسانيته والفطرة التي في داخله، إن غزة بصمودها وبطولاتها وعظمة شعبها ستكتب صفحات العرب المشرقة وتغير هذا العالم من شرقه إلى غربه، والأيام سجال .
كاتب فلسطيني

مقالات مشابهة

  • حرب البحث عن الذرائع الكاذبة.. رسالة شكر إلى اليمن العظيم
  • الخارجية ترّحب بالرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية وتحذر من ضم الضفة الغربية المحتلة
  • تمثال أميرة سبأ في مزاد فيينا.. ذاكرة اليمن المنهوبة تُباع في العلن
  • بالفيديو... آثار العدوان على عربصاليم
  • عميد آثار القاهرة يكشف دور الذكاء الاصطناعي في تسجيل القطع الأثرية
  • دور الذكاء الاصطناعي في تسجيل القطع الأثرية.. عميد آثار القاهرة يجيب
  • بالصور.. آثار العدوان الإسرائيلي على البقاع
  • 43 قطعة أثرية يمنية في مزادات خارجية.. هيئة الآثار تنشر قائمة جديدة
  • هيئة الآثار تنشر قائمة جديدة بالآثار اليمنية المنهوبة
  • بينها تمثال بقيمة 6 ملايين دولار.. أمريكا تصادر 14 قطعة آثار مصرية في طريقها لهواة جمع التحف