صلاح شعيب

يظن كثير من قادة ومؤيدي المؤتمر الوطني المحلول وحلفائه – بجانب بعض تيارات الإسلاميين – أن ما ترتب على ثورة ديسمبر قد قُبر، وبالتالي جبت الحرب ما قبلها. هذا تصور متوهم، ولا يقوم على ساق من البصارة السياسية. فثورة ديسمبر الذي أنهت ممارسات الاستبداد وضعت سقفاً لمستقبل الحكم في البلاد: ديمقراطية كاملة الدسم تستعيد سلطة الحكم الرشيد.

ولكن الحرب كانت الترياق المضاد.

في الواقع، ليس من المهم أن يكون الجانب المدني المنفذ لهذه التطلعات المستقبلية متمثلاً بالضرورة في قوى تقدم التي ورثت تحالف الحرية والتغيير، أو الجذريين، أو أية جهة تكنوقراطية، أو نشطاء مستقلين، إنما المهم هو أن تؤول مسؤولية الانتقال إلى قطاع مدني ليس إسلاميو المؤتمر الوطني أعضاء فيه بالضرورة. ذلك لأن ثورة ديسمبر التي شارك فيها كلُ قطاعات الشعب السوداني ما عدا رعاة المشروع الحضاري، وانتهازية، ومنتفعيه، ما هي إلا التسوية التاريخية لبناء الدولة المدنية، وستظل حية خاتمة لآمال ديمقراطية بدأت منذ الاستقلال.

ولذلك لا يمكن أن يرضى الشعب السوداني أن تؤول السلطة السياسية في حال نجاح محادثات سويسرا، والتوصل بعدها إلى العملية السياسية، لسلطة لا تؤمن بتحقيق شعارات ثورة ديسمبر. هذه الشعارات نشدت أولاً استرداد الحكم المدني فحسب، وثانياً التخلص من إرث المشروع الحضاري برمته، وثالثاً محاكمة مجرميه المليئة أياديهم بالدماء وجيوبهم بالمال الحرام، ورابعاً إعادة تأهيل الخدمة المدنية والقوات النظامية، وخامساً ترسيخ حكم الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة، وسادساً التوافق على عقد مؤتمر دستوري يعالج مسألة كيفية الإشراك العادل للسودانيين جميعاً في السلطة، وسابعاً مخاطبة التظلمات التاريخية لمناطق النزاع، وثامناً حل معضلة علاقة الدين بالدولة، وتاسعاً تمكين فيات المرأة والشباب، وعاشراً إقامة علاقات دبلوماسية مع العالم وفقاً لما تقتضيه مصلحة البلاد.

على الأقل هذه كانت بعضاً من أحلام النشطاء السودانيين المستنيرين الثوريين الذين لا يمكن احتيالهم وبجانبهم كل سائر أبناء وبنات الشعب الذي يؤمنون بالديمقراطية، لا استئناف الاستبداد بقناني جديدة. ولا شك في أن التضحيات العظيمة التي بذلتها قطاعات نضالية سودانية في المئة عام الماضية لتحقيق المشروع النهضوي السوداني ستتجدد عند كل منعطف ديكتاتوري. ولذلك يكون من الجهل لو أننا تصورنا أن هذه التطلعات الديمقراطية يمكن الالتفاف حولها بعد أي عملية سياسية توقف الحرب سلمياً، أو في حال انتصار أحد طرفي الصراع.

محاولة الإسلاميين للضغط على البرهان لعدم التوجه نحو جنيف مفهوم عند استيعابنا لجوهر الأسباب التي قادتهم للقذف بشرارة الحرب في وقت يستميتون بجهد خرافي لإنكار هذه الحقيقة. وحتى الآن الشواهد المادية كلها، وقرائن الأحوال، تثبت أن الوحيدين الذين لديهم مصلحة في إشعال الحرب هم الإسلاميون العسكريون والمدنيون لإحياء الاستبداد. ومع كل ذلك يكذب الذين يدافعون عنهم، ويكذبون، ويكذبون، حتى يصدقهم الناس. ولكنا نعتقد أن الوعي الجمعي السوداني المؤثر سياسياً لن تنطلي عليه هذه الأكاذيب المخلوطة بمساعٍ أخرى تقلل من أهمية ثورة ديسمبر. وتعمل أيضاً على تشويه حقائق الفترة الانتقالية، واستهداف رموز الثورة عبر خطة إعلامية محكمة تستند إلى استراتيجية شريرة لغسل دماغ الناس. وأخيراً، وليس آخراً، اختطاف الرأي العام بما تيسر للكيزان من مال منهوب لتمويل منصات إعلامية كلاسيكية، وحديثة، لتكريس الغش السياسي.

ليس المهم في مفاوضات سويسرا إنهاء الحرب فقط لإعانة الشعب السوداني بممرات إنسانية تنقذه من الكارثة الوجودية الفادحة. بل إن المؤمل أيضاً في المسهلين لهذه المفاوضات الضغط على الطرفين. صحيح أن الخطاب السياسي للدعم السريع يؤكد في بياناته الرسمية بأنه يريد استرداد الحكم المدني للشعب، في وقت لا يعترف الإسلاميون بالثورة، وحيث تراجعت تصريحات القادة العسكريين عن الإيمان بضرورة استئناف المسار الديمقراطي. ولكن هناك حاجة إلى توثيق التزامات الدعم السريع المعلنة في هذا الصدد عبر توصيات مؤتمر جنيف لو انعقد، والضغط على الجيش وتذكيره بالتزاماته المنصوص عليها في الوثيقة الدستورية، وهي في الواقع السبيل الأوحد لإعادة المهنية لهذا القطاع الذي دمرت كفاءته سنوات المشروع الحضاري.

إن مفاوضات سويسرا حتماً ستركز على أولوية الجانب الإنساني، وكيفية التوصل إلى حل لمعاناة المواطنين في البلاد والمعابر، بيد أن الوصول إلى نتائج العملية السياسية التي تفضي إلى حكومة مدنية يتطلب أهمية توافق المدنيين المشاركين في إسقاط نظام البشير من أجل إمساك القوى المدنية بزمام الأمر في مرحلة ما بعد توقف الحرب. ونرى أن هذا التوافق هو صمام الأمان، ودونه سيظل التقدميون والجذريون بلا فاعلية في المشهد السياسي. وذلك ما يعني تعريض الانتقال نحو الديمقراطية إلى الفشل مرة ثانية، وعندها يتحمل الطرفان المسؤولية بقدر متساوٍ مهما بلغت تبريرات كل طرف في أنه هو الذي كان في الموقف الصحيح.

لو نجحت محادثات جنيف في إيقاف الحرب، فإن الكرة ستعود إلى المدنيين الذين شاركوا في الثورة، فهل تراهم يتحدون مرة أخرى لوراثة الانتقال نحو الديمقراطية؟

الوسومصلاح شعيب

المصدر: صحيفة التغيير السودانية

كلمات دلالية: صلاح شعيب ثورة دیسمبر

إقرأ أيضاً:

ثورة ديسمبر هزيمة الكل أمام التاريخ

زين العابدين صالح عبد الرحمن

عندما وصلت الخرطوم في الإسبوع الأخير من شهر نوفمبر 2018م، كانت الحياة تسير بهدوء في الخرطوم إلا من أزمة يعاني منها المواطنين في الحصول على الرغيف بعد جهد و ساعات الوقوف في طوابير أمام المخابز و أيضا صفوف في محطات البترول و لكنها أنفرجت بعد أيام ، و عندما اندلعت التظاهرات في عطبرة كان الناس يتناقلون الأخبار عبر وسائل الاتصال الاجتماعي، و السبب الذي جعل التظاهرات تنتقل إلي بقية المدن و العاصمة المثلثة اقدام الشباب في عطبرة على حرق مقر حزب المؤتمر الوطني، الذي اعتبرته الأغلبية بداية مسيرة نضالية قوية لإسقاط النظام، و عندما بدأت تنتظم التظاهرات في العاصمة كان الشباب هم وحدهم الذين ينظمونها و يقودونها و يطلقون شعاراتها، رغم سياط و عصى الجنجويد التي كانت تترك أثارا على ظهورهم.. أسقط الشباب بإرادتهم حكم الإنقاذ.. و مهما إدعت قيادات الإنقاذ أنها كانت مؤامرة دولية للتقليل من الثورة، لكن الشباب هم الذين اسقطوا الإنقاذ بإصرارهم على الهدف الذي كان مرفوعا في الشعار الذي يرددونه..
كان المتوقع من آهل الإنقاذ أن يتبينوا من خلال المنهج النقدي ما هي الأسباب التي أدت إلي سقوط نظامهم، و يقدموا مراجعة تاريخية لمرجعتيهم السياسية " و ليس الإسلام" و لماذا راهنوا على الحزب الواحد كنظام حكم بدلا عن الديمقراطية التعددية، و هذه ليست بعيدة عن فكرهم الذي قبل عام 1977م من خلال " المصالحة مع مايو" على قبولهم الدخول في " الاتحاد الاشتراكي" فالقناعة بالحزب الواحد تعد جزء من مرجعيتهم الفكرية " السياسية و ليس الإسلام" الغريب أن الدكتور الترابي عرب " حركة الإسلام السياسي" وحده من القيادة هو الذي قدم نقدا لهذا المسار في الحوارات التي أجراها معه أحمد منصور في قناة " الجزيرة" و أيضا هناك قيادات إسلامية بشكل فردي قدمت نقدا للتجربة من خلال المرجعية نفسها " البروف حسن مكي و الدكتور الطيب زين العابدين و الدكتور عبد الوهاب الأفندي و الدكتور التجاني عبد القادر و الدكتور خالد التجاني و الدكتور المحبوب عبد السلام و غيرهم، لكن التنظيمات لم تقدم مراجعات بالصورة التي تعيد تقيم للتجربة السياسية و تقدم تصوراتها الجديدة..
في الجانب الأخر للمشهد السياسي بينت ثورة ديسمبر حالة الضعف التي تعيش فيها القوى السياسية الأخرى، إذا كانت في الوسط أو اليسار و اليمين، حتى أن مجموعة من مرافيد الأحزاب اليسارية قيادة داخل مكتب رئيس الوزراء لإدارة الفترة الانتقالية بعيدا عن ما يسمى بقوى الحرية و التغيير، و كانت هذه القيادة هي التي ترسم مسار الحكومة لسيطرتها الكاملة على رئيس الوزراء.. لكنها فشلت في إدارة معركتها، و فشلت حتى في تعين بعض الشخصيات التي كانت مسجلة في كشكولها لكي تصبح على رأس المفوضيات المذكورة في الوثيقة الدستورية.. أن ثورة ديسمبر بعد نجاحها قد تم إدارتها من قبل اليسار الذي كان فاقد الرؤية تماما، و كان يعاني من ضعف في القيادة حتى اليوم، و أيضا فشل اليسار " العروبي" في محاولاته في تجيير الثورة لنفسه، و فشل حتى في صياغة "وثيقة دستورية" عندما تبنى صياغتها، كان أي خطوة تقوم بها القيادات التي استلمت زمام العمل السياسي لإدارة الفترة الانتقالية تؤكد ضحالة الخبرة، و تواضع القدرات، و تبين عندما خسرت الشارع الذي كان يحفظ لها توازن القوة، الذي ظهر في مليونية ما بعد الاعتصام في يونيو 2019م ، خسران الشارع بداية لخسران القيادة في السلطة..
أن الحرب الدائرة الآن هي تأكيد لفشل الأحزاب السياسية و ضعفها في إدارة الأزمة، و هذه القيادات مقتنعة بضعفها لذلك لم ترجع للشارع مرة أخرى لتعيد عملية توازن القوى في المجتمع، لكنها فضلت الإنصياع لإملاءات الخارج لكي يعيدها مرة أخرى للسلطة و فشل الخارج أيضا في إدارة الأزمة مع العسكر، الأمر الذي قادهم لفكرة " انقلاب عسكري" تقوده ميليشيا آل دقلو، فشل الانقلاب لحسن إدارة الجيش للعملية العسكرية و لوعي الشباب في جميع مناطق السودان أن الحرب الهدف منها هو تقسيم السودان و استغلال ثرواته، انخراط الشباب كمجندين مستنفرين و مقاومة شعبية هو الذي أفشل المؤامرات التي تحاك ضد الوطن، و هو الذي غير المعادلة في الساحة السياسية..
منذ عقد التسعينات في القرن الماضي و سقوط الاتحاد السوفيتي، و تحول دول الشرق إلي الليبرالية كان بداية الهبوط لليسار الماركسي في السودان، الذي أصبح الآن على هامش العملية السياسية، قيادة وقف ذهنها عند تحالف " الجذرية" التي لم يضاف إليها أي مكنون غير مكونات و واجهات الحزب الشيوعي.. الأمر الذي يؤكد أن الحزب فقد فاعليته الشعبية التي كانت تدور في فلكه، عمل على انقسام في تجمع المهنيين لعله يستطيع أن ينقذه من حالة الضمور التي يعانيها لكنه فشل في ذلك.. أما اليسار العروبي قد خسر أخر سلطة له في " سوريا" أصبح الآن يعيش على إجترار ماضي لم يسجل فيه نجاح في أية مصطلح من شعاره " وحدة حرية اشتراكية" هؤلاء سوف يتحولون من تحالف إلي أخر فاقدي الرؤية و البصيرة.. أما حركة الوسط التي يعتقد الاتحاديون يمثلونها أنها فقدت فاعليتها منذ أنتفاضة إبريل 1985م ، و أصبحت جزر معزولة عن بعضها البعض هي نفسها تحتاج إلي ثورة تهز جزعها لكي تتساقط كل فروعها التي اصيبت باليباس.. و حزب أمة لم يجد غير أن يعيد البلاد إلي عهد الخليفة التعايشي بكل سوءات نظامه.. أن ثورة ديسمبر لم تسقط نظام الإنقاذ لوحده بل بينت أن الكل يعاني من حالات موت سريري و لابد من التغيير.. أن الحرب يجب أن تفرز قيادات جديدة و واقع جديد لسودان أمن مستقر ديمقراطي يجد فيه الكل مساحات للتعبير عن ذاته، و احترام للقيم و عقائد المجتمع.. نسأل الله حسن البصير...

zainsalih@hotmail.com  

مقالات مشابهة

  • ديمقراطية ضد الديمقراطية عند مارسيل غوشيه ماذا تعني عند الشيوعي السوداني
  • كتابات تتحدى الحرب: ثورة 19 ديسمبر او اين ذهب الوطن
  • استفتاء 19 ديسمبر .. جذوة الثورة ما تزال حية
  • في ذكراها السادسة كيف تم إجهاض ثورة ديسمبر؟
  • غانا: مسار الديمقراطية وتحديات المستقبل
  • سودانيون يحيون ذكرى ثورة 19 ديسمبر بـ«احتجاجات إسفيرية» .. أنصار البشير يتحدونهم بالنزول إلى الشوارع
  • استفتاء 19 ديسمبر ..جذوة الثورة ما تزال حية 
  • رئيسة قطاع المرأة بـ “تقدم”: ديسمبر “ثورة نساء” لبناء السلام وتحقيق العدالة
  • رئيسة قطاع المرأة بـ “تقدم”: ديسمبر”ثورة النساء” لبناء السلام وتحقيق العدالة
  • ثورة ديسمبر هزيمة الكل أمام التاريخ