تأرجح الاقتصاد والرهان السياسي
تاريخ النشر: 7th, August 2024 GMT
فاطمة الحارثية
تمتلك بعض الدول مقومات البقاء، وتجاوز الأزمات المتعددة والمتتابعة، لكن هذا لا ينفي أثر تلك النكبات والانتكاسات على وضعها الاقتصادي، واستقراره على المدى الطويل، وأيضاً لنضع في عين الاعتبار التباين الزمني الذي تتطلبه تلك الدول للتعافي، والوقوف من جديد؛ لا ننكر أن لمواردها وطاقاتها البشرية وكفاءة أنظمتها الأساسية، دورًا فاعلًا في سرعة التعافي، ونضيف إلى ذلك العلاقات الدبلوماسية التي صنعتها وشكلتها مع دول الجوار وعملاء الأسواق العالمية، وحافظت عليها بشفافية وصدق وإخلاص، عاملًا إيجابيًا مُساعدًا.
وفي ثنايا ذلك، إن نظرنا للعوامل العامة الأخرى التي تؤثر جذريا على تعافي الأوضاع الاقتصادية، لا استطيع أن أجزم أنها تعتمد على حالة الاقتصاد العالمي فقط، وهذا يفتح لنا تساؤلات لقراءة مهارات الاستشراف وقياس المنافع وصفقات الربحية المشتركة، وبناء السيناريوهات المقنعة، والمؤثرة قبل - للوقاية وتقليل الخسائر-، وأثناء - للسيطرة وتسير الأعمال-، وبعد -لسرعة التعافي والتعويض- تلك الأوضاع والاضطرابات، وهذا يملي علينا التمعن في عمليات استقطاب المواهب والتوظيف والتدريب، والتحقق من أصالة وقيم ومواهب القائمين على تلك المنشآت والمؤسسات، وقدراتهم التي صقلتها طرق وسُبل منابر التعلم ومستوى التأقلم والاستجابة لديهم. الجميع يبحث عن البقاء لكن الصراع الفردي لا يؤدي إلّا إلى السقوط آجلا أم عاجلا، ومفهوم "الشراكة" واستراتيجيته يلعب دورا هاما في قوة الصمود من هشاشته، ويُعزز ابتكار الحلول الذكية، بغض النظر عن الوقت اللازم لقراءة عوائد تلك الحلول وظهور النتائج الملموسة، والشراكة سلوك إيجابي يقود إلى مرونة المؤسسة وتأقلمها مع المتغيرات والطفرات الاقتصادية.
أما الحلول السريعة، والخالية من المنفعة المشتركة مثل، تقليص المنافع العامة أو مضاعفة الإنتاج رغم ضعف الطلب، أو تقليص نفقات الإنتاج مما يُؤثر على الجودة، أو ما يفعله الغالب من المسؤولين عندما يلجؤون إلى تسريح العمال كحل أولي لتقليل النفقات؛ وإن دلت مثل هذه الحلول والإجراءات على شيء؛ فهو افتقار تلك المؤسسات إلى الكفاءات والمؤثرين، والقيادة الحكيمة، ولا نستطيع أن نلومهم في ذلك، فالعلاقة الطردية بين الموظفين وقوة الأداء وجودة الإنتاج، وبين نجاح المؤسسة وصمودها أمام تأرجح الأسواق أمرٌ يحتاج إلى قياس وصبر لا يمتلكهما الكثيرون، وقد نتفق أن فشل المؤسسة يعكس فشل العاملين عليها وفيها، وخاصة الشركات والمؤسسات التي تقدم الخدمات الأساسية للمجتمعات.
قررنا أن إنعاش العرض والطلب، يتأثر بالوضع السياسي، وتمسكنا بهذا العذر طويلا، رغم علمنا وجزمنا بأن المسيطر الحقيقي هو "الحاجة"، وحنكة العرض في خلق الطلب وربطه بالحاجة، وإدراك ذلك ليس عسيرا على الموظف المُخلص والمجتهد، لكنه أمرٌ لا يفهمه موظف البصمة ولا مسؤول الكراسي، وإنني على يقين، أنه لا توجد مؤسسة أو شركة قائمة، على أرضنا الطيبة لم تُشيد إلا على أساس النفع العام سواء المادي أو المجتمعي، وسقوطها أو خسارتها هو إخفاق في كفاءة التشغيل، وإدارة العمل والإخلاص في الجُهد. نحن نمتلك الخبرات، والقدرات، وتنميتها المستمرة لتواكب العصر ليس صعبًا ولا عائقًا، لكن يبقى الأمر محصورا، بوضع الشخص المُناسب أو صناعة الفريق المناسب للمهام المناسبة، واستثمار خبرات المؤسسات في صناعة سياسات المرونة، والمبادرات الذكية، التي تستطيع مواجهة تقلبات الاقتصاد، ويكتمل المثلث بتفاني وإخلاص ووعي الموظفين، وهذا الإجراء بات أمرًا لا مناص منه ولم يعُد ثمَّة داع لتأجيله أو حصره لدى جهات دون أخرى، لرفع مستوى ثقافة الأفراد والمؤسسات واستدامة عوائد أهدافها وطموحها التنافسي والمؤسسي، أما الإدارة التقليدية "نفذ أنا أعلم" أو سياسية "اعمل بهدوء لا تلفت الأنظار" لم تعد تُجدي ولا تُثمر؛ والاختناق تحت كثرة المظلات "الوصاية" يُؤخر عجلة النمو، ويؤرق صناعة القرار، أكثر منه حماية أو فرض السيطرة على المؤسسات والشركات، وإن لم تظهر هذه المخاطر اليوم سنرى وقعها على المدى المتوسط والطويل، مما سيُرهق تلك المظلات والشركات والمؤسسات، وقد تُهمش أمام ميادين السوق وتفوت فُرص اقتناص الصفقات والمُعاملات التجارية، والظهور.
تعزيز ثقافة الاستدامة، والتنمية المُستمرة، والوعي بالنظام المحيط بالمؤسسة والمؤثرات الداخلية والخارجية (الأوساط المسؤولة)، يصنع للمؤسسات والشركات ركائز المرونة والتأقلم، مما يُسهل عليها سرعة الاستجابة للمتغيرات، ومواجهتها كأحداث طبيعية، بل وقد تتحول إلى فرص تُعزز من العوائد والأرباح والعلاقات. ولنعي أن الأمان المؤسسي يأتي مع الأمان الوظيفي ويعتمدان على بعضهما البعض، فلا بقاء لأحدهما دون الآخر.
وإن طال...
كل ما يُحيط بنا علم، قد ننتفع به إذا أدركناه، وقد يُغرر بنا إذا أهملناه، ولن نعلم ما لم نُقدر الاختلاف والتميز الكامن فيما بيننا، أكان في الفهم أو الاستيعاب أو سرعة الاستجابة أو غيرها من الصفات والمواهب. فلنكف عن التناسخ والسعي نحو التشابه، ولنستعن ببعضنا البعض فربما خيره.
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
لبنان... نكران المأساة واللهو السياسي
التغيير الذي شهدته سنة 2024 فاق كل التوقعات، وما جرى كان يعدّ سابقاً ضرباً من الخيال السياسي يحتاج إلى عقود ليتحقق. وبمعزل عن الحسنات والسيئات الناتجة عن الزلازل الجيو-سياسية وارتداداتها في كل من غزة ولبنان وسوريا، ستحدد آثارها بوصلة السياسة في غالبية دول الإقليم.
«طوفان الأقصى» كان الشرارة التي أشعلت تفاعلات مدوية، وحركت طموحات لدى إسرائيل، أبرزها القضاء على نفوذ إيران في دول الجوار وتهديده لها، وكسر الطوق الذي فرضته على المنطقة الميليشيات والمنظمات الخارجة عن الدولة. حرب غزة قضت على «حماس» عسكرياً وسياسياً، وحرب لبنان قضت على مقدرات «حزب الله» العسكرية، وقوضته سياسياً، وتوجت بسقوط نظام الأسد في سوريا.لا شك أن ارتدادات هذه الأحداث المزلزلة سترافق سنة 2025، وستنعكس نتائجها في موازين قوى جديدة تعيد تشكيل السلطة السياسية في غزة وسوريا. ومن المرجح أنها ستكون سنة تعبيد مسارات السلام والتهدئة في المنطقة، خصوصاً إذا سوّي الوضع في غزة، وتمكنت إدارة دونالد ترامب من لجم إسرائيل وإطلاق مسار التسوية، وتمت إحاطة سوريا الجديدة عربياً ودولياً، واحتواؤها بهدف انخراطها في الاعتدال العربي، وهي مهمة صعبة إنما ممكنة.
أما لبنان، فيبقى عصياً على التغيير بسبب سطحية غالبية المسؤولين والسياسيين وقصورهم عن فهم المتغيرات التي حصلت في الداخل، ومن حولهم القريب، فتراهم يتابعونها وكأن بلادهم على كوكب آخر، وعاجزين، كما عهدهم دوماً، عن الإفادة من محطات تاريخية مفصلية.
مضى أكثر من شهر على اتفاق وقف العمليات القتالية بين «حزب الله» وإسرائيل، ولم يبقَ سوى أقل من شهر لتنسحب إسرائيل من الجنوب، ويخرج مقاتلو الحزب وسلاحه من جنوب نهر الليطاني ليحل الجيش اللبناني مكانهما، على أن يلي ذلك تسليم كل السلاح اللاشرعي إلى الدولة تطبيقاً للقرار 1701 بكل مندرجاته حسبما ورد في الاتفاق.
لا بد من التذكير أن الاتفاق تم بين إسرائيل و«حزب الله» بواسطة نبيه بري، ليس بصفته رئيس البرلمان، إنما «حليف الحزب الرئيس»، وتبنته الحكومة اللبنانية وبات يلزم الدولة، علماً أنه لم يمر بالأصول الدستورية، ولم يمهر من قِبَل السلطة المخولة بذلك أي رئيس الجمهورية لفراغ المنصب.
حتى اليوم، ما زالت حكومة «تصريف الأعمال» تلهو وتناور في تنفيذ الاتفاق، ومظاهر لهوها كثيرة، بدءاً من عدم إصدار تكليف واضح وصريح للجيش اللبناني بتسلم الأمن في الجنوب كقوة وحيدة مسلحة، والمباشرة في مصادرة السلاح غير الشرعي في البلاد، وتحديداً سلاح «حزب الله»، وحتى اليوم لم تتم مصادرة مخزن أسلحة واحد للحزب. بدأ الجيش اللبناني بتفكيك مراكز عسكرية فلسطينية خارج المخيمات، والخشية من أن يكتفي بذلك دون المساس بسلاح الحزب، ما يترك لبنان مجدداً تحت رحمة تجدد الحرب أو الغارات الإسرائيلية، وآخرها حصل الأسبوع الماضي في البقاع.
وتظهر عدم جدية الحكومة أيضاً بإحجامها عن الرد على كلام الأمين العام لـ«حزب الله»، نعيم قاسم، بشأن حصر تنفيذ الاتفاق بمنطقة جنوب الليطاني، وإصراره على الاحتفاظ بسلاحه في الداخل، وتمسكه بثلاثية «الشعب، الجيش، المقاومة»، مؤكداً استمرار المقاومة. وسكوتها حيال كلام القائد الآخر في الحزب، محمود قماطي، حول ضرورة وضع استراتيجية دفاعية لحماية لبنان يكون سلاح الحزب ضمنها، مُنصّباً حزبه شريكاً للدولة لا جزءاً منها. وما زالت تتجاهل أنشطة الحزب المستمرة بصفته كياناً يعمل خارج إطار القوانين اللبنانية، وخصوصاً لجهة شبكاته الاقتصادية غير الشرعية، وعدم مساءلته عن أموال التعويضات التي وزعها على المتضررين من أبناء بيئته أو وعد بتوزيعها.
سكوت الحكومة يشي باستمرار سطوة الحزب في الداخل، ويطرح أسئلة عدة حول صدقية الدولة اللبنانية بتنفيذ الاتفاق الذي يفتح الباب أمام استعادة السيادة. إدانة الغارات الإسرائيلية المستمرة دون قطع دابر مسبباتها لن تنفع من دون حصر السلاح بيد القوى الشرعية دون غيرها.
اللهو الأكبر الذي تمارسه السلطة والمعارضة معاً، يتعلق بانتخابات الرئاسة، بدءاً من الامتنان لقيام الرئيس بري بواجبه وتحديد جلسة انتخاب مفتوحة حتى انتخاب رئيس، «ووعده» بتطبيق الدستور، وصولاً إلى تنافس مسطح وهزلي وشعبوي بين الموارنة على المنصب. المعارضون لـ«حزب الله» يعيبون عليه إنكاره للواقع، وهم يحاكونه ويتعاملون مع هذه المسألة كما أن شيئاً لم يحصل في الداخل أو في الإقليم. ما يفهمونه حصراً من هذه المتغيرات التاريخية التي تجري من حولهم أن حظوظ البعض في الوصول إلى الرئاسة ارتفعت أو انخفضت بحسب التموضع السياسي، متمسكين بعنوان السيادة الفضفاض من دون التعالي فوق المصالح الطائفية والشخصية.
مخاطر وجودية محققة بحاجة إلى حالة طوارئ ذهنية تجترح حلولاً من خارج أزقة السياسات المحلية والطائفية الضيقة، وتكون بحجم الأزمة وتحديات المقبل من الأيام، وأولها مأساة مزدوجة: احتلال إسرائيلي للجنوب، وعودة الحزب إلى معزوفة المقاومة. الجميع يلهو، والمهزلة - المأساة اللبنانية مستمرة.