لما نزل قول الله تعالى: "إِنََّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ" (آل عمران: 190-19١) قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (وَيْلٌ لِمَنْ قَرَأَهَا وَلَمْ يَتَفَكَّرْ فِيهَا) (رواه ابن حبان في صحيحه).
فالتفكير فريضة دينية حيث يقول الحق سبحانه: "فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ" (الحشر: 2)، ويقول سبحانه: "أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ" (الحج: 46)، ويقول سبحانه: "قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآَيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ" (يونس:101).
إننا في حاجة إلى خطاب عقلاني رشيد في الفكر الديني والمجال الثقافي والعلمي والتربوي لنكسر حالة الجمود الكامنة داخل نفوس كثيرين، وننطلق معا إلى فضاء أرحب وأوسع من العلم والفكر والتأمل والتدبر، والاجتهاد والنظر، دون خوف ولا وجل، وبلا أدنى توجس أو تـردد، طالما أننا نعرف غايتنا، ونحافظ على ثوابتنا الشرعية وقيمنا المجتمعية دون إفراط أو تفريط.
إن الخطاب العقلي الرشيد هو الذي يحترم عقلية المخاطب، ويتخير من الخطاب ما يرى أن المتلقي قادر على استيعابه وفهمه، وقد روي أن الإمام علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - كان يقول: "حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ، أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ؟".
ويجب أن نتخلص جميعًا وسريعًا من العصبيات الفكرية والمذهبية والطائفية والأيدلوجية، وأن نتحلى باحترام نتاج عقل الآخر والمختلف، وقد كان الشافعي - رحمه الله تعالى - يقول: رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب.
وعندما بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - سيدنا معاذ بن جبل إلى اليمن قال له: "كَيْفَ تَقْضِي إِذَا عَرَضَ لَكَ قَضَاءٌ؟"، قَالَ: أَقْضِي بِكِتَابِ اللَّهِ. قَالَ: "فَإِنْ لَمْ تَجِدْهُ في كِتَابِ اللَّهِ؟". قَالَ: أَقْضِي بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم-. قَالَ: "فَإِنْ لَمْ تَجِدْهُ في سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ". قَالَ: أَجْتَهِدُ رأيي ولاَ آلُو. قَالَ: فَضَرَبَ بِيَدِهِ في صدري وَقَالَ: "الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ لِمَا يُرْضِي رَسُولَ اللَّهِ".
والمراد بقوله: (لا آلو) أي لا أقصر في الاجتهاد والنظر في المسألة.
فلا شك أن هذا الحديث النبوي الشريف يعد عمدة في فتح باب الاجتهاد وإعمال العقل إلى يوم القيامة، لأن سيدنا معاذ لم يقل لرسول الله: إذا لم أجد حكما في المسألة في كتاب الله تعالى، ولا في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنتظر أو أتوقف حتى أرجع إليك أو سأرسل إليك رسولا، ولم يطلب النبي - صلى الله عليه وسلم - منه ذلك، بل أطلق له حرية الاجتهاد في حياته - صلى الله عليه وسلم - ولم يطلب منه حتى مراجعته وعرض ما يقضي به عليه، بل ترك له مساحة واسعة للاجتهاد والنظر، قائلا له: "الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله".
من هنا تأتى أهمية البحث العلمى والاجتهاد فيه، فربما يفتح الله على إنسان واحد أو مجموعة من الباحثين بما ينقل أمتنا من حال إلى حال، وما مخترعات الغرب منا ببعيد، التى جعلتهم فى صدارة الأمم، واللحاق بهم بل التفوق عليهم ليس مستحيلا، إذا خلصت النوايا وتوكلنا على الله حق توكله.
اللهم ابعث فينا ومنا علماء مخلصين فى شتى مجالات الحياة، يبدلون حال أمتنا إلى أحسن حال، وأسعد مآل، فأنت القادر القدير الذى لا يعجزك شيئ، وأمرك بين الكاف والنون، تقول للشيء: كن، فيكون.
المصدر: الأسبوع
كلمات دلالية: مقالات إبراهيم نصر التفكير فريضة إسلامية التفكير صلى الله علیه وسلم رسول الله
إقرأ أيضاً:
لا أحد مَوْصُوفٌ بِحُبِّ مثلُ النَّبِيِّ الكرِيم!
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
تيقَّنت بعد قراءتي لكتاب المفكر الكبير عباس محمود العقاد “عبقرية محمد”، أن هذا المفكر العملاق ازداد حبا لرسول الله صلى الله عليه وسلم سيدنا محمد بعد كتابته لهذا المؤلف الهام، ليس لأن قرأ بفهم فى سيرة النبي الكريم أو فكر بعمق او لأن مشاعره راقية وحسه بديع، ولكن حبه لشخصية خير خلق الله أجمعين كان حبا من مفكر دارس وباحث مدقق، وسجل ذلك فى كثير فى فصول كتابه إعجابا وتقديرا، فمثلا عندما أراد أن يتكلم عنه كرجل عظيم،لَهِج بمداد حب وبكلمات صادقة ورؤية صائبة فقال:
عاش في العصور الماضية كثير من العظماء الذين تواترت الأنباء بأوصافهم السماعية، وأوصافهم المرسومة في الصور والتماثيل، غير أننا لا نعرف أحدا من هؤلاء العظماء تمت صورته السماعية أو المنقولة كما تمت صورة محمد عليه السلام من رواية أصحابه ومعاصريه، فنحن نعرفه بالوصف خيرا من معرفتنا لبعض المخلدين بصورهم وتماثيلهم التي نقلت عنهم الحكاية والمطابقة، لأن هذه الصور والتماثيل قد تحكي للناظرين ملامح أصحابها ومعارفهم الظاهرة، وقد تحكي للمتفرسين شيئا من طبائعهم التي تنم عليها سيماهم، إلا أنها لا تحفظهم لنا كما حفظت الروايات المتواترة أوصاف النبي في كل حالة من حالاته، وكل لمحة من لمحاته: في سيماه وفي هندامه، وفي شرابه وطعامه، وصلاته وصيامه، وحله ومقامه، وسكوته وكلامه، لأن الذين وصفوه وأحبوه وأحبوا أن يقتدوا به فتحرجوا في وصفه كما يتحرج المرء في الاقتداء بصفات النجاة والأخذ بأسباب السلامة، فكانت أمانة الوصف هنا مزيجا من العطف والتدين، وضربا من اتباع السنن وقضاء الفروض...!
وللحق كل من قرأ سيرة النبي الكريم بَدْءًا من "سيرة ابن هشام" وهو وَاحِدٌ من أهم الكتب التراثية التى نقلت سيرة النبى محمد صلى الله عليه وسلم، وحتى ما كُتِبَ
من مؤلفات عن سيرة النبي الكريم حتى الآن إِلَّا ويجد نفسه يزداد حُبًّا وَتَعْظِيمًا له
وفى نفسه يزداد شرفا...
ومن الكتب التى تناولت جانب الحب لحضرة النبي الكريم وأشارت إليه هو كتاب "حاكموا الحب" للدكتور على جمعة مفتي الجمهورية الأسبق وعضو هيئة كبار العلماء وقد كتب فى مقدمته:
إن كثيرًا من دلائل الحب التي جرت في أيام النبي محمد صلى الله عليه وسلم سواء بينه وبين زوجاته أو بينه وبين أبنائه أو بينه وبين أصحابه أو بين أصحابه بعضهم مع بعض يصعب على كثير منا في هذا العصر تفسيرها أو تأويلها فضلًا عن اليقين في وقوعها، حتى أنكرها كثير من الناس ورفضوها، وذلك لأننا صرنا نعيش في عصر انتزعت منه قيم الحب الأصيلة التي كانت تحكم أحداث عصر النبوة، ولن نستطيع أبدًا أن نستوعب مثل هذه الحوادث والدلائل إلا إذا لبسنا نظارة الحب حتى نرى ونتذوق ونستمتع، حينئذ فقط يمكن فهم الأسباب والدوافع والحالة الشعورية والوجدانية التي عاشها الإنسان في هذا المكان وفي هذا الزمان، نعم كان الصحابة يعيشون حالة حب دائمة، وكان رسول الله طاقة حب ورحمة وحنان ورأفة وَرِقَّة تسري روحها في كل شيء حتى الجماد.
وأشار إلى بردة الإمام البوصيري والتى مدح فيها النبى الكريم بقوله:
فَإِنَّ فَضْلَ رَسُولِ اللهِ لَيْـسَ لَـــهُ
حَدٌّ فَيُعْرِبُ عَنْـهُ نَاطِـقٌ بِـفَـمِ
وَكَيْفَ يُدْرِكُ فِي الدُّنْيَا حَقِيقَتَهُ
قَوْمٌ نِيَامٌ تَسَلَّوْا عَنْهُ بِالْحُلُـمِ
وهذان البيتان يشتملان على حقائق عدة منها:
ـ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم شخص عظيم له حقيقة يغفل عنها كثير من المؤمنين به، فضلا عن من لم يعرفه أصلًا أو لم يؤمن به...
ـ إن هذه الحقيقة وإن كانت ظاهرة للعيان فإنه ينكرها قساة القلوب ذوو البصائر الصدئة...
ـ إن الإنسان إذا قارب الاطلاع على حقيقة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو بصورة جزئية فإنه ينبهر بنورها، ويعشق جمالها، ويهاب جلالها، ويذوب في حبها، ويعيش فيها وتعيش فيه.
وهذا ما حدث بالضبط منذ أكثر من مئة عام مع الكاتب العظيم "ليو تولستوي" أحد أعظم الأدباء العالميين، والذى اشتهر برواياته الملحمية مثل "الحرب والسلام" و"آنا كارينينا" وغيرها والتي تُعتبر من روائع الأدب العالمي، فقد أحب هذا الكاتب المبدع النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وكتب عن بساطته وقيمه الأخلاقية...و فى كتابه "حِكَم النَّبي مُحَمَّد" والذي صدر فى بداية القرن العشرين عام ١٩١٠ كتب فى مقدم كتابه :
"لا ريب أن النبي محمد كان من أعظم المصلحين الذين خدموا الهيئة الاجتماعية خدمة جليلة، ويكفيه فخرًا أنه هدى أمته إلى نور الحق وجعلها تؤمن بالله وبالرسالة السماوية"....
الأسبوع القادم بإذن الله أكمل القراءة فى الكتاب الرائع "عبقرية محمد للمفكر الكبير عباس محمود العقاد