مهمة في الظلام الدامس.. كيف أجلى الجيش السوداني راهبات الخرطوم؟
تاريخ النشر: 7th, August 2024 GMT
الخرطوم- أعلن الجيش السوداني أمس الثلاثاء أن مجموعة مشتركة من الجيش وجهاز المخابرات تمكنت من إجلاء 5 راهبات وقسيس ونحو 20 من رعايا دولة جنوب السودان عقب تعرضهم لحصار قاس جنوب غرب الخرطوم استمر لأكثر من 15 شهرا تخللتها محاولات تصفية من قبل ما سماها الجيش بمليشيا الدعم السريع.
وبحسب بيان للجيش السوداني، فإن المجموعة التي تم إجلاؤها تنتمي إلى جمعية الساليزيان الكاثولكية الإيطالية، وظلت عالقة بمنطقة الشجرة جنوب غرب الخرطوم، ويعد منزلهم جزءا من مشروع خدمي تعليمي، وهو عبارة عن مجمع يضم حضانة ومدرسة ابتدائية، ويعرف المجمع بدار مريم .
لكن من هؤلاء؟ ولماذا تعرضوا لكل صنوف المعاناة؟ وكيف خرجوا في عملية في جوف الليل؟. هذا ما عكفت عليه الجزيرة نت خلال هذا التقرير الاستقصائي.
من هؤلاء ومن أين جاؤوا؟هنا جنوب غربي الخرطوم مبنى كنسي متواضع وأنيق، في الوقت ذاته تعمل فيه 5 راهبات من جنسيات مختلفة ويشرف عليه جاكوب تليكادان القسيس الهندي الذي قضى نحو 40 عاما في السودان قادما من بوابة جنوب السودان.
هنا أيضا تريزا روشوكوسكا (69 عاما) راهبة من بولندا تتحدث نحو 4 لغات، لكنها نذرت نفسها للعمل التطوعي، وراهبتان من منطقة خير الله بالهند وهن آخر من التحق بدار مريم في عام 2022، رابعتهن من الهند والخامسة من دولة آسيوية اعتذرت عن الكلام واكتفت بالصمت. أخواتها يقلن إنها تعرضت لصدمة نفسية قاسية ففضلت أن تختلي بنفسها.
إلى جانب هؤلاء كان الشاب شان ميوم وهو في الثلاثين من عمره من دولة جنوب السودان، يقوم بالأعمال الإدارية والترجمة إن اقتضى الحال.
قبيل الحرب كانت دار مريم تشرف على رعاية نحو 70 طفلا معظمهم من دولة جنوب السودان، وبعضهم من فاقدي السند، لكن خدمات الدار توسعت عقب نشوب الحرب في أبريل/نيسان 2023 حيث باتت قبلة لبعض المدنيين الذين تقطعت بهم السبل عقب ارتفاع أصوات الرصاص.
هنا كانوا يقتسمون مع أهل الدار المتوفر من طعام وماء ونافذة اتصال عبر جهاز ستارلنك المرتبط بالقمر الصناعي في وقت انقطعت فيه كل شبكات الاتصالات في السودان.
الراهبة تريزا البولندية مع رفيقاتها (الجزيرة) يوم تحت القصفتتذكر الراهبة البولندية تريزا التي تزحف نحو سنواتها السبعين وتتحرك مستندة إلى عصا للجزيرة نت "في الثالث من نوفمبر/تشرين الثاني من العام الماضي كنا قد ألفنا أصوات الرصاص واتجاهاته.. الوقت ليلا لم يكن مسموحا لنا باستخدام الضوء الذي ينتجه جهاز طاقة شمسية مرفق بالمبنى نتحرك على ضوء هاتف صغير وكل ذلك مخافة أن نتعرض للقصف خاصة أن دارنا تجاور منطقة سلاح الذخيرة التابعة للجيش السوداني.. ارتفع صوت الرصاص وكنت وقتها في داخل دورة المياه خرجت مسرعة اكتشفت أن القصف هذه المرة شمل دارنا الصغيرة بحثت عن أسرتي فوجدت الطفل الصغير دانيال ينزف كان قد أصيب بشظية".
تكررت -بحسب تريزا- محاولة القصف مرة ثانية وأصاب الرصاص مدرسة مجاورة ولكن تريزا ترفض أن تتهم جهة محددة وتقول إنها لا تريد أن تخوض في السياسة.
لكن بيانا للجيش اتهم قوات الدعم السريع بالمسؤولية، في حين مضى مصدر آخر في سلاح الذخيرة في سرد التفاصيل كاشفا للجزيرة نت أن أحد منسوبي الدعم السريع حاول اقتحام الدار ليلا وهو في حالة سكر وتم القبض عليه بعد أن سبب حالة من الذعر وسط الراهبات.
البحث عن مخرجبعد تلك التطورات فكر الراهب جاكوب تليكادان والراهبات الخمس في الخروج، حيث لم يكن القصف وحده هو المهدد إذ انقطعت خدمات المياه والكهرباء ومن بعدها الاتصالات، وتقول تريزا الأخرى (الهندية تريزا جوزيف 73 عاما) "في هذه اللحظات انقطعنا عن العالم باتت الحياة قطعة من الجحيم".
هنا حدث نقاش بين عدد من الجهات حول مصير الراهبات اللائي كنا مصممات للاستمرار في مهمتهن حيث تقول تريزا البولندية "مفترض أن نكون مع الإنسان في لحظات المعاناة ومعنا أسر وأطفال لمن نتركهم؟".
وكان يخشى جهاز المخابرات السوداني دفع الثمن الباهظ إن حدث السيناريو السيئ للراهبات والقسيس جاكوب، فهم ضيوف على البلد وشهود عدول على تفاصيل الحرب والاعتداء على المدنيين، وكانت السلطات تمدهم بالمؤن وحفرت لهم بئرا وسمحت لهم باستخدام جهاز ستارلنك مرتبط بالقمر الصناعي.
الصليب الأحمر والباباعقب تعرض دار مريم للقصف بدأت الكنيسة الكاثوليكية تشعر بالقلق على رعاياها في بلد بعيد حيث تحيط بهم الأخطار، وبداية من ديسمبر/كانون الأول من العام الماضي تم التنسيق عبر الصليب الأحمر بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، والاتفاق على إجلاء مجموعة بيت مريم، وبالفعل خرجت المجموعة الأولى ولكن قافلتهم تعرضت لإطلاق نار تفرقت مسؤوليته بين الجيش السوداني وقوات الدعم، ولكن النتيجة كانت العودة للبيت القديم في حضن النيل الأبيض.
اقتضت العودة لدار مريم أن يوفر الجيش السوداني الحماية لهؤلاء خاصة بعد أصرت المجموعة على البقاء والصمود والاستمرار في مساعدة الناس، لكن القسيس جاكوب يقول إنه وبعد أن طال أمد الحرب وزادت معاناته الصحية وكل الراهبات المسنات تم التفكير في الخروج لتلقي قسط من الراحة والرعاية الطبية ثم العودة لميدان في مجال العمل الإنساني.
وتضيف الراهبة تريزا أن القرار كان صعبا بالنسبة لهم، لكن تم ترتيب الأوضاع على أن تقوم سيدة سودانية رفقة متطوعين بالاستمرار في المهمة خاصة أن قاطني الدار رفضوا المغادرة وقرروا البقاء.
الراهبة البولندية تريزا روشوكوسكا ورفيقاتها وعدوا أهل السودان بالعودة مجددا (الجزيرة) ليلة احتجاب القمرتحقق الإجماع على إجلاء من أراد وترك من يفضل البقاء، معادلة مقبولة لكل الأطراف. زادت الكنيسة الكاثوليكية من التواصل مع كل الفاعلين في الشأن السوداني تجنبا لأي رصاصة طائشة. تم استعراض خيارات كثيرة من فريق الجيش والمخابرات لإجلاء المجموعة التي يتجاوز عددها 30 فردا. ولم تكن ساعة الصفر معلومة لأي من أفراد المجموعة، وقالت تريزا "لم نكن نعرف التفاصيل فقط عرفنا أن المهمة تقتضي احتجاب القمر، لكننا كنا على ثقة من الرجال الذين يتدبرون الأمر"، في إشارة للمجموعة العسكرية.
وفي 28 يوليو/تموز الماضي اكتملت كل الترتيبات نحو العاشرة ونصف مساء، تقول تريزا "تحركنا في مجموعات نحو شاطئ النيل الأبيض هذا يعني أن المسار مختلف هذه المرة.. تحقق شرط اختفاء القمر وكان النيل الأبيض هادئا كأنه أراد إكرامنا.. أخذوني على عجلة من شدة الظلام لم أكن أتبين ملامحهم.. شعرت بالرعب.. أي رصاصة في السماء كان يمكن أن تفسد كل الجهود.. طلب منا الصمت.. تحرك القارب دون استخدام المحرك حتى وصل إلى مسافة بعيدة في عمق النهر.. استغرقت الرحلة نحو ساعة، كانت بحكم الظروف المحيطة زمنا طويلا.. في أحيان كثيرة كان يتم إطفاء محرك القارب وينظر مرافقونا المدججين بالسلاح لأنحاء متفرقة".
أخيرا.. هذه أم درمانتقول تريزا "أخذنا نفسا عميقا بعد وصولنا إلى الشاطئ الغربي من نهر النيل.. كانت هنالك سيارة تقف على جانب النهر.. تم أخذنا على عجالة لسيارة أخرى أوسع كانت في انتظارنا". لم تصدق تريزا ورفيقاتها حينما أبصرن النور في مدينة أم درمان، هنا توجد حياة وأمان وأناس يتحركون، شيء لا يصدق لمن عاش الخوف لأكثر من 500 يوم.
تم نقل الناجين إلى أحد المنازل الآمنة التي تتبع لإحدى الكنائس بأم درمان، وحصلوا على رعاية طبية أولية ووفرت لهم الأدوية المناسبة، قبل أن تتاح لهم الفرصة لرواية قصتهم للإعلام.
وأمس الثلاثاء، غادرت مجموعة دار مريم في طريقها لمدينة بورتسودان، تفرق الجمع لكن مع الحلم بالعودة.
الراهبات الهنديات الأربعة سيعدن للهند وكذلك رفيقهن جاكوب، في حين تريزا البولندية والتي فقدت جواز سفرها ستدبر أمرها مع السلطات السودانية وسفارة بلدها في القاهرة، لكن جميع الراهبات والقسيس جاكوب يعدون أهل السودان بالعودة للبلد الذي ألفوه وأحبوه. لكن هل يتحقق هذا الوعد وما زالت يوميات الحرب مستمرة في السودان. حرب يقول جاكوب والذي عاصر حروبا كثيرة إنها تختلف من غيرها من شدة التدمير في المنشآت واستهداف ممتلكات المواطنين.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات الجیش السودانی جنوب السودان الدعم السریع
إقرأ أيضاً:
الأمم المتحدة تندّد بتقارير عن إعدامات ميدانية نفّذها الجيش السوداني بحقّ مدنيين شمالي الخرطوم
الخرطوم - أبدى المفوض الأعلى لحقوق الإنسان في الأمم المتّحدة فوركر تورك الجمعة 31يناير2025، "قلقه البالغ" إزاء تقارير أفادت بحصول عمليات إعدام ميدانية بحقّ مدنيين في شمال الخرطوم ارتكبها عناصر من الجيش السوداني وميليشيات متحالفة معه.
وقال تورك في بيان إنّ "القتل العمد للمدنيين أو الأشخاص الذين لم يشتركوا في أعمال عدائية، أو توقفوا عن المشاركة فيها، يُعدّ جريمة حرب".
ويشهد السودان منذ نيسان/أبريل 2023 نزاعا داميا بين الجيش بقيادة عبد الفتاح البرهان وقوّات الدعم السريع بقيادة نائبه السابق محمد حمدان دقلو الملقب "حميدتي".
ويواجه طرفا النزاع اتهامات بارتكاب جرائم حرب ولا سيما استهداف مدنيين، وشنّ قصف عشوائي على منازل وأسواق ومستشفيات، وعرقلة دخول المساعدات الإنسانية وتوزيعها.
وأدّى النزاع في السودان إلى كارثة إنسانية هائلة مع مقتل عشرات الآلاف ونزوح أكثر من 12 مليون شخص فيما الملايين على حافة المجاعة.
وبعد مراوحة استمّرت أشهرا في الخرطوم، كسر الجيش في الأسبوع الماضي حصارا كانت قوات الدعم السريع تفرضه على مقر قيادته العام في العاصمة السودانية.
في اليوم نفسه، أعلن الجيش استعادة مقر سلاح الإشارة وطرد قوات الدعم السريع من مصفاة الجيلي النفطية في شمال الخرطوم.
وجاء في بيان صادر عن مكتب حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة أورده الموقع الإلكتروني للمنظمة أن معلومات تم التحقق منها من قبل المكتب أفادت بمقتل ما لا يقلّ عن 18 شخصا، بينهم امرأة، في سبع حوادث منفصلة "نُسِبت إلى مقاتلين وميليشيا تابعة للقوات المسلحة السودانية منذ استعادة القوات المسلحة السيطرة على المنطقة في 25 كانون الثاني/يناير".
وأشار البيان إلى أنّ "العديد من ضحايا هذه الحوادث – التي وقعت في محيط مصفاة الجيلي – ينحدرون من دارفور أو كردفان في السودان".
إلى ذلك، لفت البيان إلى ورود "مزيد من الادعاءات المثيرة للقلق من الخرطوم بحري"، يواصل مكتب حقوق الإنسان التحقق منها.
وأشار البيان إلى مقطع فيديو تم تداوله الخميس يُظهر رجالا يرتدون زي القوات المسلحة السودانية وأفرادا ينتمون الى لواء البراء بن مالك في الخرطوم بحري وهم يقرأون قائمة طويلة بأسماء أشخاص يُزعم أنهم متعاونون مع قوات الدعم السريع، ويردّدون كلمة "زايل" وتعني "قتيل" بعد كل اسم.
واعتبر تورك أنّ "هذه التقارير عن عمليات إعدام بدون محاكمة، في أعقاب حوادث مماثلة وقعت في وقت سابق من هذا الشهر في ولاية الجزيرة، مقلقة للغاية"، مشدّدا على وجوب "ألا تصبح عمليات القتل هذه أمرا طبيعيا".
ودعا تورك مجدّدا "جميع أطراف النزاع إلى اتخاذ إجراءات عاجلة لحماية المدنيين والوفاء بالتزاماتها بموجب القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان"، مشددا على ضرورة إجراء "تحقيقات مستقلة في هذه الحوادث بما يتماشى مع المعايير الدولية ذات الصلة".
وأعرب مكتب حقوق الإنسان عن قلقه بشأن احتمال وقوع مزيد من الهجمات "في ظل تهديدات مروعة بالعنف ضد المدنيين".
وأشار المكتب إلى مقطع فيديو اطلعت عليه مفوضية حقوق الإنسان يُظهر أحد أفراد لواء البراء بن مالك التابع للقوات المسلحة السودانية "وهو يهدّد بذبح سكان منطقة الحاج يوسف في شرق النيل"، وهي منطقة في الخرطوم بحري.
وندّد المكتب الأممي بمواصلة قوات الدعم السريع هجماتها على المدنيين والبنية التحتية المدنية، بما في ذلك قصف مخيم أبو شوك للنازحين في الفاشر، شمالي دارفور حيث قُتل تسعة مدنيين الأربعاء.
وأشار البيان إلى أنّ هجوما وقع في 24 كانون الثاني/يناير ونُفّذ بواسطة مسيّرة ونُسب إلى قوات الدعم السريع، أسفر عن مقتل 67 شخصا على الأقل وإصابة 19 آخرين في المستشفى السعودي للولادة في الفاشر.
وقال تورك إنّ "الهجمات المتعمّدة على المدنيين والأعيان المدنية أمر فظيع، ويجب أن تنتهي على الفور، كما يجب إنهاء التحريض على العنف ضد المدنيين. تشكّل مثل هذه الهجمات انتهاكات جسيمة للقانون الدولي الإنساني قد ترقى إلى جرائم حرب".
Your browser does not support the video tag.