د. محمد عبد الله الحسين
تترامى أمامي المدينة ممثلة في مرافقها أبنيتها وشوارعها وناسها ذوي السحنات المختلفة والسمات المتعددة وهي تسير في تؤدةٍ أحيانا، وفي هرولةٍ عجولٍ لقضاء حوائجها أو للتمتع بما وراء زجاج العرض في واجهات المحلات. إنه سمت المدينة(الكوزموبوليتانية)، أو المدينة العولمية، أو مدينة ما الحداثية.
المدينة ما بعد الحداثية كانت هي محور تفكير (مارك أوجيه) ذلك الأنثروبولوجي الفرنسي. لقد أطلق أوجيه دعواه لمنهج جديد للأنثروبولوجيا، منهج تحافظ به الأنثروبولوجيا على وجودها كعلم يهتم بالأعراق والثقافات المختلفة في ظل التحولات التي تشهدها المجتمعات بظهور أنماط جديدة من المدن والحواضر ذات الطابع الكوزموبولياني(العولمي).. -(أكاد أتخيل (مارك اوجيه) وهو يجلس على كرسيِّه في إحدى مقاهي باريس ذات الطابع العولمي/الحداثي. بينما أنا استطلع ملامح المدينة وساكنيها في فضولٍ أنثروبولوجي حائر، استرجِع في لحظاتٍ، صدى كلماته الموحية، وهو يجلس في إحدى مقصورات الركاب في ميترو باريس. أكاد أراه وهو يُجيل النظر عبر نافذة المترو، متفحصا ملامح المدينة ليكتب رائعته (إثنولوجي أو أنثروبولوجي في الميترو). ويتكرر ركوبه الميترو عدة مرات، وتتكرر جولاته ومن ملاحظاته الأركيولوجي في تفاصيل المدينة، والعلاقة بين المدينة وسكانها، وأهدى أوجيه إلينا أخيرا كتابه "إثنولوجي في الميترو" . قبل أن أسمع بكتاب مارك أوجيه "إثنولوجي في الميترو"، أو أقرأ عنه، كانت قد طرأت على ذهني ملامح مشروع مشابهٍ، ولكن بشكل مختلف وكذلك أقل في نطاقه. كنت حينها مدفوعا بشغفٍ شخصي، من خلال وجودي اليومي وسط خليط من أعراق متنوعة من شتى الجنسيات وأنا التقيهم صدفة في المصعد أو في الانتظار في ردهات المصعد، حيث تتاح لي الفرصة أحياناً لكي ألتقي بأحدهم أو ببعض منهم وأتجاذب معهم عبارات المجاملة والترحاب في فترة انتظار المصعد أو الهبوط منه أو في مكتب الترجمة الذي أعمل به... تلوح لي مدينة الدوحة مدينة ذات سمتٍ وطابعٍ كوزموبوليتاني/ كوني (أو لنقل عولمي) تذخر شوارعها وأبنيتها ومرافقها بأنشطة وحيواتٍ وجماعات من ثقافاتِ شتى وأعراق ٍمن كل أرجاء العالم. كنت أصادف هؤلاء بصفة يومية ومتكررة بحكم عملي في تلك البناية التي تحتل مكانا مميزا في أحد شوارع الدوحة الرئيسية. كنت في تلك الأوقات أقوم بمتابعة ذلك التنوع وذاك الاختلاف بنوع من الاستمتاع، وبدافع من فضول عابرٍ في بداية الأمر. تطور لاحقا فيما بعد لتصبح ملاحظات شبه منتظمة. كنت أجد في نفسي شغف لمتابعة ذلك التنوع البشري بسحناتهم ولمحاتهم وردود أفعالهم المعبِّرة عن ثقافاتهم المختلفة، وكان ينمو في داخلي فضول موازي بتأثير تخصصي في علم الاجتماع /الأنثروبولوجي. فكنت أغوص في تلك الملاح متفحصا فيها ليس فقط كإثنولوجي متخفي (يبحث في اختلاف ثقافات الأعراق)، بل كان ذلك بدافع من نزوعٍ وشغفٍ شخصي للتعرف عن قرب على هذا الكائن البشري، صنيعة الله. لقد كنت دائما ولا زلت مأخوذا بهذا الإنسان الذي وإن اختلفت منابِته وتعددت أصولُه ومشاربُه، فهو يحمل في داخله نفس الجينات، ذات الأصل الواحد. وتلك المشاعر الإنسانية ذات الطابع الاجتماعي. تلك الهوية الإنسانية التي ملؤها التعاطف الإنساني الفطري، والمُساقَة بالرغبة في تذوق طعم الحياة (في وجود الآخرين). تلك المشاعر التي تتبدَّى في الحلم البشري الطبيعي في نفس كل كائن بشري، مثل الرغبة في الاندماج في الآخرين، الإحساس بالأمن والطمأنينة، حتى في تلك الأحلام (حتى البسيط منها) وفي الإحساس بالرضا. الإنسان ذلك الكائن الاجتماعي والذي رغم زهوه العابر بانعزالية مؤقتة أحيانا (والتي تلوح أحياناً كلمحات شبه (سايكوباتية)، إلا أنه لا يعيش بمعزل عن إنسانيته المتفردة في توقها الأبدي لعلاقة وارتباط اجتماعي مع الكائنات البشرية الأخرى، والتي لا يشفيه من سقمه العارض ذاك، إلا رشفات من توادٍّ وإلفةٍ وتعاطفٍ وتجاوب متبادل مع الآخرين. وهكذا يتخلّق بالتالي إحساسا غامرا بالارتياح والأمان ضمن فضاءٍ إنساني متآلفةً وعطوفا. يتبدى لي كل ذلك وأنا أستطلع الوجود والسحنات (لأعبر نوعا ما إلى الدواخل) من خلال الإيماءات المعبِّرة والاستجابات المتجاوبة التي تتخللها ابتسامات ودودة تشي بوصول تلك الرسائل الصامتة إليهم التي قد يكون الرد عليها نصف ابتسامة أو مشروع ابتسامة في طور التشكل أو إيماءات امتنان ودودة أو كلمات اعتذار عابرة ومقتضبة. وهكذا تسخو تلك اللحظات ببعض النظرات المعبرة والتواصل البصري العابر، والذي لا يخلو من معانٍ إنسانية لا تخفى على أعين الإثنولوجي الهاوي مثلي، دعك من الإثنولوجي الحصيف. من قلب الشتات- 07 أغسطس 2024
mohabd505@gmail.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية:
فی تلک
إقرأ أيضاً:
فتح باب التوظيف في المدينة الطبية للأجهزة العسكرية والأمنية
مسقط- الرؤية
أعلنت وزارة العمل بالتنسيق مع المدينة الطبية للأجهزة العسكرية والأمنية، عن فتح باب التوظيف للمواطنين، لشغل عدد من الوظائف الطبية والإدارية في المدينة.