عربي21:
2025-02-02@23:56:12 GMT

أبو العبد طلب الشهادة فنالها.. قاموس المقاومة (38)

تاريخ النشر: 7th, August 2024 GMT

سكن أبو العبد، إسماعيل هنية"، حروف الجذر اللغوي "شهد" فصار من مبانيه ومعانيه ومغازيه؛ يسكنه بأقواله ومواقفه وأفعاله. ومن جميل ارتباطاتنا باللغة هوية واختصاصا وتميزا؛ أن نتخذ منها في جذورها واشتقاقاتها مدخلا مهما في تحريك المعاني والقيم الساكنة فيها والفاعلية الحركية الكامنة في عمقها، ووجدت أن الفعل "شهد" في امتداداته لا يقل أهمية عن جذور لغوية أخرى أدركت أهميتها في بحوث سابقة مثل "قوم" و"صلح".



وقد جاء في مقاييس اللغة: "الشين والهاء والدال أصلٌ يدلُ علىٰ حُضُورٍ وَعِلْمٍ وإِعْلَامٍ، ويُقَالُ: شَهِدَ يَشْهَدُ شَهَادَة. كما يُقالُ: شَهِدَ فُلانٌ عند القاضي، إذا بيَّن وأعلَمَ لمَنْ الحق وعلىٰ مَنْ هو". وفي لسان العرب: "الشَّهادَة خَبرٌ قاطعٌ تقولُ. منه: شَهِدَ الرَّجُلُ علىٰ كذا، وربما قالوا شَهْدَ الرَّجلُ -بسكون الهاء- فالشهادةُ: الإخبارُ بما شاهَدَهُ. فالشَاهِدُ: العالمُ الذي يُبَيِّنُ ما يَعْلَمهُ ويُظْهِرهُ؛ وا‍لمُشاهَدَةُ المُعَايَنَةُ، وشَهِدَهُ شُهُودا: أَي حَضَرَهُ، فَهُوَ شَاهِدٌ، وقَوْمٌ شُهُودٌ: أَي حُضورٌ".

والشهادة هي قمة الحضور؛ فلغويّا، يذكر مفهوم الحضارة للدلالة أولا على الحضور أو الشهادة التي هي نقيض المغيب، فمثلا حضر في القرآن الكريم تعني شهد: "إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ" (البقرة: 180)، "وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَىٰ" (النساء: 8). وللشهادة أربعة معانٍ متكاملة رصدها الدكتور "نصر عارف" تمثل جزءا من البنيان الحضاري والعمراني في هذا السياق، نستدعيها على النحو الآتي:

الأول الشهادة بمعنى التوحيد والإقرار بالعبودية لله -عز وجل- وهي محور العقيدة الإسلامية وعليها يتحدد التزام الإنسان بمنهج الخالق -عز وجل- أو الخروج عنه. وقد كان الشهيد "أبو العبد" نموذجا في هذه العقيدة والرؤية والتصور الإسلامي، وكان بحق بهذا الإيمان الدافق التزاما يمشي على الأرض، وهو دائم لذكر الله والتذكير به، والتزام منهجه باعتبار أن ذلك هي القاعدة التي ينطلق منها كل تغيير وإصلاح.

الثاني الشهادة بمعنى قول الحق وسلوك طريق العدل، وتعد مدخلا من مداخل العلم ووسيلة من وسائل تحصيل المعرفة. ولا شك أن الشهيد "أبو العبد" التزم بالتربية في مدرسة الحركة، وعلى يد شيخها المؤسس الشيخ أحمد ياسين الذي صنع رجالا كان من بينهم الشهيد إسماعيل هنية، فكان بذلك لا يحيد عن حق، ويلتزم بعلم الإيمان وإيمان العلم، ويتدفق حيوية ومنهجا ونموذجا داخل هذه الحركة ليشع بذلك دعوة وجهادا بكل ما يملك.

الثالث الشهادة بمعنى التضحية والفداء في سبيل الله -سبحانه وتعالى- حفاظا على العقيدة. أما عن التضحية والفداء من أجل عقيدة آمن بها، ومنهجا التزمه، فإن الشهيد "أبو العبد" لم يكن إلا أبا الشهداء وجد الشهداء، ولم يكن ذلك إطلاقا معنويا، ولكنه قد ذكر أن في أسرته أكثر من 60 شهيدا، من بينهم أولاده وأحفاده والكثيرون من رحمه وقرابته، ثم توج ذلك حينما طلب الشهادة، فأصل بذلك نموذجا للشهود والحضور والتضحية والفداء من أجل قضية أمة وهي القضية الفلسطينية، ومن أجل النصر والأسرى، ومن أجل بيت المقدس والأقصى.

الرابع الشهادة كوظيفة لهذه الأمة، "وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّة وَسَطا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدا" (البقرة: 143)، وينصرف معناها إلى الشهادة في الدنيا والآخرة، حيث تكون أمة قوية تقوم على العدل وتعمل به وتدعو إلى عبادة الله وحده.

وقد مثّل الشهيد "أبو العبد" وصحبه نموذجا مهما شكلوا فيها بحق خيرية الأمة خروجا على حال وهنها وهوانها، ملتزما بالجهاد والمقاومة بكل غال ورخيص، ليقدم نفسه في النهاية شهيدا وشهادة؛ شهيدا حيا يرزق عند ربه، وشهادة حملها على كل هؤلاء من ينتمي إلى هذه الأمة ليقدم النموذج الناهض والمقاوم، فأين الأمة من هذه النماذج الفذة التي تشكل حركة التاريخ ولا تقبع في زوايا الغفلة والنسيان؟ وكان بذلك يحمل في الأمة ذكرا ومكانة وحضورا وشهودا، ليؤكد أن هذه الأمة لو أرادت نهوضا لقامت بكل ما يعني بالفاعلية الواجبة لإحداث كل تغيير يصب في حركة النهوض.

وارتباط الشهادة بصناعة النهوض والحضور الفعال والشهود في الحال وفي المآل؛ أكد عليه أستاذنا القدير الدكتور "عبد المجيد النجار" في موسوعته حول الشهود الحضاري: لما كان إنجاز الحضارة مقيدا بمنهج العبادة وفقا للرؤية الإسلامية في بعده الكلي المقاصدي، فهذا معناه أنها قائمة على أسس يحددها الدين الحق، ومتجهة وجهة العبودية لله خضوعا لما يأمر به وينهى عنه سبحانه. وهذا القصد يعطي مفهوم الحضارة خصوصية تميزه عن غيره، لا يقف عند حدود البناء المادي ومظاهره، بل يتجاوزه إلى بناء إنسان الرسالة الحضارية الذي كلفه الله للقيام بمهمة الاستخلاف في الأرض، مستحضرا تلكم العلاقة الجدلية بين الغيب والإنسان والحياة والكون، لتهدف صلاحا وإصلاحا ودعوة وشهودا واستسلاما لله تعالى بمقتضى ما كلِّف به الإنسان المسلم، والأصل الجامع لقواعد هذا الفقه مضمّنة في قوله تعالى: "وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّة وَسَطا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدا" (البقرة: 143).

وإذا تجاوزنا المعنى الغيبي للشهادة المتمثل في شهادة الأمّة الإسلامية في اليوم الآخر على الأمم أنهم قد بلّغوا رسالات أنبيائهم إلى معنى الشهادة على الناس في الدنيا وعدنا إلى دلالاتها اللغوية، وسياقها في الآية وارتباطها مع الوسطية، تبيّن لنا أنها تمثّل منهجا متكاملا في التعامل الحضاري للمسلمين مع الآخرين من الناس. فالشهادة في ظاهرها: هي الإخبار عن أمر وقع العلم به لإقامة حقّ يتوقف عليه ذلك الإخبار، وهو ما يقوم على أربعة عناصر أساسية: العلم الذي هو أساس الشهادة، والبيان والإظهار لذلك العلم، ثم تبليغ ذلك العلم بحيث يصير واصلا إلى الآخرين على الوجه المقنع المفيد، ثم العدل في كل ذلك حتى تكون الشهادة مفضية إلى نفع المشهود عليهم.

لقد جاء القرآن الكريم يؤسّس الحضارة على هذا المبدأ العظيم، مبدأ الشهادة على الناس، شهادة ترتكز على تصوّر لحقيقة الإنسان المشهود عليه، ثم شهادة علم يكون هو المنطلق فيها، فمن لا علم له لا يكون شاهدا، وشهادة بلاغ للبشرية كافّة لكلّ ما فيه خير لها في غير جحود ولا كتمان، وشهادة حكم عادل بين الناس يردّ الحقوق إلى أصحابها وينصر المظلومين والمضطهدين.

وقد وجدت هذه الشهادة مصداقا لها في واقع الحضارة الإسلامية حال شهودها، فقد قامت هذه الحضارة شاهدة على الناس في الأبعاد المختلفة لهذه الشهادة بما يجعلها مفخرة بين الحضارات السالفة والراهنة، وهو ما ينبغي أن يتأسّس عليه السعي إلى النهوض الحضاري لتكون الأمّة شاهدة على الناس من جديد.

في مقال رائع للأستاذ ساري عرابي بعنوان "الشهادة والعرفان"؛ يتناول قضية الكمال في الشهادة والشهيد:

"إنّ الكمال إذا أطلق إنما يُراد به الله تعالى، ولكنّه يصحّ فيما دونه إذا قُيّد، فكان كمالا بالنسبة. هذا الكمال النسبي، أي حينَ وَزْنِ البشر ببعضهم، إنّما يتحقّق في اجتماع ثلاثة معان، وهي نُدرة الوجود، وفي النفاسة وشدّة احتياج الخلق إلى مثيلهم في البشرية، وفي صعوبة المنال. هذه المعاني الثلاثة لا تجتمع على النحو الموصوف في البشر إلا في الشهيد، فهو القدر الأعلى، ممّن هم دون الأنبياء، من حظّ العبد من اسم الله العزيز.

والعارف درجات، أقصاها الذي يقدر الله حقّ قدره، والذي يعرف الحقّ، وذلك بعد الأنبياء والصدّيقين لا يتعين على الحقيقة، فيما يمكن أن يتعيّن للبشر؛ في التصور الإسلامي إلا للشهداء، لقوله تعالى: "وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ".

إذ يعاين الشهداء على الحقيقة، وهم أحياء، قبل البعث والقيامة، حقائق الوجود الكبرى؛ وقد قيل "همّة العارف حائمة حول معروفه"، وكان معروفهم القضية الجهادية وفلسطين والبحث عن الحقيقة.

هكذا ظلّ الشهداء في فلسطين، غرباء، وكانت غربتهم غربة الهمة، وهي غربة طلب الحق، وهي الانبعاث في زمن الموات، أو المثل المضروب في كل حين (النموذج)، إن في وقت الموات، أو وقت الانبعاث، فلكل وقت عارف، ولكل وقت شهيد ووقت الشهيد، وقت الواجب، ووقت انبعاث المثل المتسامي، والموعظة المتجسّدة من لحم ودم".

كان أبو العبد بحق هو الشهيد العارف، والعارف الشهيد، إنه نموذج لهذا الكمال في حقيقة الشهود والاستشهاد، أخبر فصدق، وعلم فأوعى، وحضر فكان فاعلا، ونظن أن ما ارتبط به قد شكل إعلاما وحضورا وشهودا، فكان حيا ملتزما في حياته، وكان حيا حاضرا بعد مماته.

هكذا كما بدأنا نعود الى الشهيد في الجذر اللغوي "شهد" الذي ترافق مع هذا الجذر الإنساني، ومع نموذج الشهيد "أبو العبد" ليحقق كل معاني الشهود، فكان شاهدا ومشهودا وشهودا وشهيدا.

x.com/Saif_abdelfatah

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه إسماعيل هنية الشهادة الفلسطينية فلسطين إسماعيل هنية مفاهيم الشهادة مقالات مقالات مقالات سياسة مقالات رياضة سياسة سياسة رياضة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة ة الإسلامیة على الناس أبو العبد من أجل

إقرأ أيضاً:

مدرسة النبوة وتلميذها القائد الشهيد

في ذكرى استشهاد شهيد القرآن وسيد الشهداء يتبادر إلى الاذهان حجم التضحيات الكبيرة التي قدمها الشهيد القائد حسين بدرالدين الحوثي رضوان الله عليه في ظروف صعبة وغاية في التعقيد مستندا على الثقة بالله والتوكل عليه والاستجابة له والجهوزية للتضحية في سبيله.
إن المشروع القرآني الذي قدمه شهيد القرآن لينير طريق هذه الأمة ويحدد مساراتها المستقبلية مثّل لحظة فارقة ومفصلية في تاريخ الأُمَّــة الإسلامية، وملحمة جهادية تجسدت بعظمة التضحيات الكبيرة التي قدمها عظماء الأُمَّــة في سبيل عزتها وكرامتها وفي مقدمتهم قرين القرآن الشهيد القائد حسين بدرالدين الحوثي، سلام الله عليه .
لقد مثل استشهاد القائد حسين بدرالدين الحوثي – رضوان الله عليه – وهو يدافع عن معتقدات الإسلام ومعاني القران التي حاول الأعداء طمسها من نفوس المسلمين واستبدالها بأفكار ومعتقدات تخدم مصالح اليهود وتعزز هيمنتهم على أمة الإسلام والمسلمون لحظة فارقة ومظلومية هزت عروش الطغاة وأربكت حساباتهم والتي أراد من خلالها المجرمون والعملاء، ومن ورائهم أمريكا وإسرائيل، أن يطفئوا نور الله، لكن الله أبى إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون .
إن الجهد المبارك الذي قدمه الشهيد القائد في سبيل هذه الأمة وما بذله من عطاء عظيم من أجل إحياء روح الأمة وتحريك بوصلتها نحو العدو الأوحد لها المتمثل باليهود والنصارى ومن تآمر معهم، تجسد في إدراك الشهيد لمكامن الضعف في هذه الأمه، حيث كان رضوان الله عليه يرقب تلك التحركات للأعداء بنظرة قرآنية، ويقيمها، ويعي خطورتها.
وعندما تحرك كانت نعمة عظيمة بما قدم من خلال القرآن الكريم من وعي وبصائر وحلول للأمة حتى تخرج من حالة التيه والعمى، وتعود إلى مسارها الذي أراده الله لها وأمر به نبيها، ما يجعلها محصنة من السقوط في مشاريع الأعداء، فكان للدروس والمحاضرات التي غيرت في مسار هذه الأمة الأثر الكبير في رفع وعي أبناء الأمة ، وعرفها بعدوها الحقيقي الذي حدده الله تعالى في القرآن الكريم بقوله (لتجدن اشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا).
لقد كان الشهيد القائد قرين القرآن، سليل بيت النبوة، رمزاً للجهاد والثبات على الحق والتمسك بالمبادئ القرآنية، في زمن تخاذلت فيه الأمم وتكالب فيه الأعداء واصبح الخنوع والارتهان للأعداء وسيلة للتقرب من اليهود والنصارى الذين حاولوا تشويه هذا الدين وطمس أخلاقه ومبادئه على يد المسلمين أنفسهم، حتى كان لا يوجد للإسلام سوى اسمه، ولهذا كان صوت الشهيد القائد وحوله ثلة من المؤمنين يصدح بكلمة الحق في وجه المستكبرين، داعياً الأمة إلى العودة الصادقة لله تعالى، وجعل القرآن الكريم منهج حياة للأُمَّـة الإسلامية محذرا من مخاطر التساهل مع مخططات العدو ومؤامراته الخبيثة التي استشرت في جسد الأمة حتى باتت رهينة لأطماع الأعداء ذليلة مكسورة أمام إجرام العدو وغطرسته .
إنها دروس نستلهم منها كل معاني البذل.. وتمدنا بالكثير من صور الجهاد والصبر والتضحية ذكرى استشهاد الشهيد القائد حسين بدر الدين الحوثي – عليه السلام – التي بمثابة محطة يتزود منها كل المجاهدين في مختلف الثغور وعلى كل الجبهات، هي مدرسة يتعلم منها كل أحرار العالم كيفية الاستعانة بالله على مواجهة الطغاة، وكيف تستطيع الأمة أن تحوّل ضعفها وهزيمتها أمام العدو إلى نصر وفتح عظيم بعد التوكل على الله والاقتداء بنهج النبي وآل بيته الأطهار.
محافظ محافظة عدن

مقالات مشابهة

  • الشهيد القائد ومشروع الهوية الإيمانية
  • الشهيد القائد: صوت الحق وشعلة المقاومة
  • حزب الله: قررنا أن يكون 23 شباط موعداً لتشيع الشهيد نصر الله
  • مركز الأزهر: المُعلم المُخلص يدعو ويستغفر له أهل الأرض والسماء
  • سبب في استجابة الدعاء.. أركان المناجاة بين العبد والله تعالى
  • عالم أزهري: علامات الساعة بين قبض العلم وكثرة الزلازل وتقارب الزمان
  • أشْرَاط وعلامات الساعة.. أحد علماء الأزهر يوضح
  • ألف تحية وسلام على الشهيد القائد
  • مدرسة النبوة وتلميذها القائد الشهيد
  • مكون الحراك الجنوبي ينعى قائد أركان كتائب القسام الشهيد المجاهد محمد الضيف ورفاقه