الابتكارات الاجتماعية ودروس الجائحة
تاريخ النشر: 6th, August 2024 GMT
عندما عصفت جائحة كورونا وتغيرت أنماط الحياة والعمل، بدأت في المقابل تزدهر الابتكارات الاجتماعية، ومعها تسارعت ريادة الأعمال القائمة على الابتكارات الموجهة لتحديات التعايش مع الوباء، وذلك على نهج المثل العربي القائل: " مصائب قوم عند قوم فوائد"، ففي ذلك الوقت العصيب كان الاحتياج الحقيقي يكمن في خلق حلول مبتكرة يمكنها تحقيق نتائج استثنائية في مواصلة تفاصيل الحياة اليومية، وتحسين حياة الملايين الذين تضرروا اقتصادياً من الإغلاقات وتدابير التباعد الاجتماعي.
ومثلما استطاعت دوائر الأعمال والمؤسسات من الاستجابة والتكيف بانتهاج مسارات التعليم والعمل عن بعد، كذلك ظهرت ابتكارات اجتماعية رائدة للتخفيف من وطأة الجائحة، ولكن ومع عودة الحياة لطبيعتها هدأت وتيرة الابتكارات الاجتماعية، وهذا يفرض العديد من التساؤلات، فهل انحسر الاهتمام عن هذا النوع من الابتكارات بغياب المحفز الرئيسي لها، أو أن البشرية لم تتعلم دروس الجائحة بالشكل الذي يؤهلها لتكون قادرة على الصمود أمام حالات مشابهة في المستقبل؟
في البدء لا بد من التوقف عند أهمية الابتكارات الاجتماعية، فهي وإن كانت لا تختلف جوهرياً عن الابتكارات التقليدية، إلا أنها تتميز بتركيزها الكبير على خلق القيمة الاجتماعية مع أو بدون القيمة المالية لعوائد الابتكار، ويتطلب الأمر نهجًا متعدد الأوجه لإيجاد ودعم فرص الابتكار الاجتماعي، نظراً لكونها عبارة عن رحلة تشاركية لاكتشاف الإمكانات الاجتماعية غير المسبوقة في معالجة المشكلات أو الخروج بأفكار مختلفة وإيجابية، وهي رحلة خارج مختبرات البحث والتطوير وتجاربها العلمية الدقيقة، فالابتكار الاجتماعي لا يبحث عن التغيير لأجل التغيير، ولكن صنع التغيير كما يراه المبتكرون الاجتماعيون هي عملية مدفوعة بميزتين وهما: القدرة على الفهم العميق لحيثيات الوضع الراهن بتحدياته وفرصه الكامنة، والقدرة على خلق وضع راهن جديد عبر سلسلة قيمة التأثير، وبذلك فإن الابتكارات الاجتماعية هي أقرب للعمليات الاستراتيجية منها للاستكشافات المعرفية والتقنية.
وهذا يقودنا للنقطة المحورية هنا وهي أن معظم أنشطة الابتكار الاجتماعي، وكذلك ريادة الأعمال الاجتماعية التي تم إطلاقها خلال جائحة كورونا قد جاءت كتوجيهات طارئة من أعلى الهرم المؤسسي للأسفل، وهو المسار التقليدي لصناعة القرار الذي كان يستهدف إعادة توجيه الموارد لتلبية الاحتياجات الاجتماعية الناشئة عن تفشي الفيروس المستجد في ذلك الوقت، حيث انتهجت المؤسسات والشركات الكبرى أُطر عمل متعددة من أجل توفير حلول إبداعية لتحديات الوباء، وكان ذلك من خلال العمليات الأساسية بجانب المسؤولية المجتمعية، ولكن في الواقع لم تكن هذه الأُطر واضحة المعالم، ولم ترق إلى مستوى الاستراتيجيات المُمنهجة، ومعظم المحاولات التي ظهرت لم تنجح، فقد أدى تفشي كوفيد-19 إلى إحداث ضغط هائل وغير متوقع على جميع الجهات الفاعلة في منظومات الابتكار، ونتج عن ذلك استجابات مختلفة وسريعة دون وجود أي معيار مرجعي لتحديد أولويات التركيز، وفي ذات الوقت ظهرت العديد من الابتكارات المجتمعية خارج المحيط الرسمي لإنتاج المعرفة وتطوير الأفكار الابتكارية، والتي كانت في مجملها مبادرات فردية أو جماعية؛ وهي تمثل المسار المقابل للنهج التقليدي، فقد انبثقت هذه المبادرات من قاعدة الهرم للأعلى، وبذلك فإن النقطة العمياء الكبرى التي يجب تفاديها تكمن في البحث عن الإجابة على هذا التساؤل: ما هي الاستراتيجيات التي يجب أن تقود مبادرات دعم الابتكار وريادة الأعمال الاجتماعية في وقت الأزمات؟ وكيف يمكن رسم استراتيجيات اغتنام الفرص الذهبية التي تنشأ في الحالات الاعتيادية؟
في البدء لا بد أن نشير إلى أن التغلب على النقاط العمياء يتطلب تحليلًا استقرائيًا واستكشافيًا لأحداث الجائحة، وذلك من حيث التعرف إلى القرارات الحاسمة التي اتخذتها بعض منظومات الابتكار العالمية، وعلى سبيل المثال فقد عرَّفت الصين آنذاك مجالين رئيسيين للابتكار وهما: إنتاج الأقنعة الطبية، وتوفير الحلول لتسريع اختبارات الأحماض النووية، وهو قرار يتبع النهج التقليدي من أعلى الهرم إلى الأسفل، وتبنت شركات الابتكار الصينية هذا التركيز الاستراتيجي، في حين جاءت الأنشطة الاجتماعية التي تم إطلاقها بالتزامن مع جهود التطوير التكنولوجي لنقاط التركيز من أجل رفع التوعية المجتمعية بشأن الالتزام بالاحتياطات المطلوبة، والمبادرة بإجراء الفحوصات الدورية، وظهرت العديد من الابتكارات المجتمعية التي تسعى لتسهيل فترات الإغلاق، واستثمار مورد الوقت بشكل يعود بالنفع على الأفراد والمجتمع، وهذه التفاعلات الاجتماعية الجديدة هي التي أكسبت الجهود المؤسسية المرونة في تنفيذ الإجراءات الاحترازية، وساهمت بشكل كبير في انتشار أنماط الاستجابة الابتكارية، وأتاحت فرصة التطوير المحتمل لاستغلالها تجارياً في مرحلة ما بعد الوباء، فخلال الأوقات الحرجة التي تحركها الأزمات الاجتماعية أو الاقتصادية أو الصحية، يمكن أن تنشأ الابتكارات الاجتماعية المدفوعة بمزيج من الاحتياجات الطارئة، أو المخاوف المستقبلية، ولكن يجب أن ينظر إلى هذه الابتكارات بشكل جِدِّي وباهتمام كبير، لأن ظهور هذا التحدي في الأوقات الاستثنائية يعكس وجود الحاجة للتغيير من قبل حلول الأزمة، ولذلك فإن ابتكارات الجائحة يمكنها أن تطرح نماذج جديدة، وحلولاً أفضل ملاءمة في ظل الظروف الاعتيادية.
إن تعزيز مسارات الابتكار الاجتماعي هو في صميم الدروس المستفادة من جائحة كورونا، وهو جزءٌ لا يتجزأ من صناعة المستقبل، إذ يستوجب أولاً تعريف أشكال الابتكار الاجتماعي الأكثر أهمية في عالم ما بعد الوباء، ثم توظيف مسارات متوازية في إحداث الآثار المجتمعية المنشودة، وذات النطاق الواسع، وفتح آفاق جديدة لعبور الفجوة بين الابتكارات الناشئة في الظروف الاستثنائية، وتلك التي ترتبط بالتحديات التقليدية، واعتماد المرونة والرشاقة الاستراتيجية كمبدأ أساسي لإعادة التفكير في الدور الحاسم للابتكار المجتمعي في مواجهة التحديات غير المسبوقة، وذلك عبر وضع استراتيجيات طويلة الأمد، بحيث تستهدف توجيه اغتنام الفرص باستمرار، وفي ذات الوقت تعمل على معالجة التغييرات غير المتوقعة وتنفيذ استجابات سريعة ومبتكرة، و في سياقات اجتماعية واقتصادية معاً، وتأصيل أنماط التعلم من التجارب السابقة للوصول لعمق العلاقة التكاملية بين المعرفة والابتكار ورأس المال الفكري وريادة الأعمال الاجتماعية.
د. جميلة الهنائية باحثة في سياسات العلوم والتكنولوجيا والابتكار.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الابتکار الاجتماعی
إقرأ أيضاً:
الإمارات تقود الابتكارات المتطورة بمجال المركبات ذاتية القيادة
حققت الإمارات تقدماً في التنقل الذاتي والابتكارات المتطورة في مجال المركبات ذاتية القيادة، بفضل البرامج التجريبية الناجحة التي طبقتها والتزامها الراسخ بالابتكار في هذا القطاع.
وأشار التقرير الصادر عن "آرثر دي ليتل"، شركة الإستشارات الإدارية العالمية، إلى أن دولة الإمارات تعمل على بناء منظومة فعالة للتنقل تتسم بالتوازن بين الكفاءة التشغيلية وأهداف الاستدامة.
وأكد التقرير أن الإمارات تبوأت مكانة رائدة في هذا المجال، حيث حولت مدنها إلى مراكز للتميز في مستقبل قطاع النقل، ورسخت معياراً يحتذى به في تبني الأنظمة ذاتية القيادة عن طريق دمج البنية التحتية المتقدمة مع الشراكات الاستراتيجية.
ولفت التقرير إلى بروز التنقل الذاتي بشكل سريع كقوة تحولية على مستوى أنظمة التنقل العالمية خلال العقد المنصرم، إلا أن التوسع في استخدام هذه التقنيات لتلبية احتياجات الواقع لا يزال يواجه تحديات كبيرة نظراً لتعقيدات البنية التحتية والعقبات التنظيمية والتكاليف التي أدت إلى إبطاء وتيرة التقدم على المستوى العالمي.
وقال سمير عمران، الشريك في قسم ممارسات قطاع السفر والتنقل والضيافة لدى شركة "آرثر دي لتل" الشرق الأوسط، إن الإنجازات التي حققتها دولة الإمارات تجسد في مجال التنقل الذاتي رؤيتها الطموح التي تجمع بين الابتكار والتنفيذ الناجح، وتبين بوضوح كيف أن الأُطر التنظيمية الاستشرافية والاستثمارات في البنية التحتية تعد عنصراً حيوياً في بناء منظومة تنقل مستقبلية متكاملة سواء من خلال أُطرها التنظيمية المتقدمة أو استعدادها لتبني التقنيات الحديثة، مؤكداً أن تقدم الإمارات يعد نموذجاً يحتذى به في كيفية تحويل التنقل الذاتي إلى واقع ملموس.
من جانبه، أوضح توني هان الرئيس التنفيذي لشركة "وي رايد"، أن العوامل الأساسية لنجاح تطبيق المركبات ذاتية القيادة تتمثل في توفر الربط اللوجستي، والتقنية المتطورة، والتمويل الكافي، والقدرة على التسويق، والأُطر التنظيمية المناسبة.
وقال عمران إن مدينتي دبي وأبوظبي تحولتا إلى ساحتين رئيسيتين لاختبار تكنولوجيا المركبات ذاتية القيادة ،ففي دبي، قادت هيئة الطرق والمواصلات، بالتعاون مع شركة "كروز"، سلسلة من التجارب الناجحة لمركبات الأجرة ذاتية القيادة، وهو ما يثبت إمكانية دمج هذه التقنيات في البيئات الحضرية المعقدة، فيما أكدت أبوظبي على الابتكار في مجال النقل العام مع حافلات "وي رايد" ذاتية القيادة، التي أدت دوراً محورياً في مواجهة تحديات الربط اللوجستي، وتخفيف حدة الازدحام المروري.
وأكد حسن خيرت مدير مشروعات لدى "آرثر دي لتل" الشرق الأوسط، أن مبادرات الإمارات في هذا القطاع لا تقتصر على كونها إنجازات محلية فحسب، وإنما تساهم إسهاماً فعالاً في تطوير حلول التنقل الذكي على مستوى العالم، منوهاً بأن تركيز الإمارات على اختبار التقنيات الحديثة وإقامة شراكات مع رواد الابتكار العالميين يعزِز من مكانتها الريادية في رسم ملامح مستقبل قطاع النقل.
ويبشر التنقل الذاتي في منطقة الشرق الأوسط بتحقيق مكاسب اقتصادية وبيئية كبيرة، حيث من شأن التقنيات المستخدمة في هذا المجال المساهمة في الحد من الازدحام المروري، وما يترتب عليه من تأخير بنسبة 60%، كما يتماشى تبني الأنظمة ذاتية القيادة مع أهداف التنمية المستدامة لدولة الإمارات المتمثلة في خفض الانبعاثات الكربونية وتعزيز الكفاءة الحضرية.
وتؤدي الأُطر التنظيمية التجريبية التي تتبناها الإمارات دوراً محورياً في تحقيق هذه التطورات، إذ توفر بيئة تعاون مثمرة تجمع بين المبتكرين من القطاع الخاص مع الجهات الحكومية لتجربة هذه التقنيات الجديدة.