لجريدة عمان:
2025-03-17@13:26:22 GMT

الابتكارات الاجتماعية ودروس الجائحة

تاريخ النشر: 6th, August 2024 GMT

عندما عصفت جائحة كورونا وتغيرت أنماط الحياة والعمل، بدأت في المقابل تزدهر الابتكارات الاجتماعية، ومعها تسارعت ريادة الأعمال القائمة على الابتكارات الموجهة لتحديات التعايش مع الوباء، وذلك على نهج المثل العربي القائل: " مصائب قوم عند قوم فوائد"، ففي ذلك الوقت العصيب كان الاحتياج الحقيقي يكمن في خلق حلول مبتكرة يمكنها تحقيق نتائج استثنائية في مواصلة تفاصيل الحياة اليومية، وتحسين حياة الملايين الذين تضرروا اقتصادياً من الإغلاقات وتدابير التباعد الاجتماعي.

ومثلما استطاعت دوائر الأعمال والمؤسسات من الاستجابة والتكيف بانتهاج مسارات التعليم والعمل عن بعد، كذلك ظهرت ابتكارات اجتماعية رائدة للتخفيف من وطأة الجائحة، ولكن ومع عودة الحياة لطبيعتها هدأت وتيرة الابتكارات الاجتماعية، وهذا يفرض العديد من التساؤلات، فهل انحسر الاهتمام عن هذا النوع من الابتكارات بغياب المحفز الرئيسي لها، أو أن البشرية لم تتعلم دروس الجائحة بالشكل الذي يؤهلها لتكون قادرة على الصمود أمام حالات مشابهة في المستقبل؟

في البدء لا بد من التوقف عند أهمية الابتكارات الاجتماعية، فهي وإن كانت لا تختلف جوهرياً عن الابتكارات التقليدية، إلا أنها تتميز بتركيزها الكبير على خلق القيمة الاجتماعية مع أو بدون القيمة المالية لعوائد الابتكار، ويتطلب الأمر نهجًا متعدد الأوجه لإيجاد ودعم فرص الابتكار الاجتماعي، نظراً لكونها عبارة عن رحلة تشاركية لاكتشاف الإمكانات الاجتماعية غير المسبوقة في معالجة المشكلات أو الخروج بأفكار مختلفة وإيجابية، وهي رحلة خارج مختبرات البحث والتطوير وتجاربها العلمية الدقيقة، فالابتكار الاجتماعي لا يبحث عن التغيير لأجل التغيير، ولكن صنع التغيير كما يراه المبتكرون الاجتماعيون هي عملية مدفوعة بميزتين وهما: القدرة على الفهم العميق لحيثيات الوضع الراهن بتحدياته وفرصه الكامنة، والقدرة على خلق وضع راهن جديد عبر سلسلة قيمة التأثير، وبذلك فإن الابتكارات الاجتماعية هي أقرب للعمليات الاستراتيجية منها للاستكشافات المعرفية والتقنية.

وهذا يقودنا للنقطة المحورية هنا وهي أن معظم أنشطة الابتكار الاجتماعي، وكذلك ريادة الأعمال الاجتماعية التي تم إطلاقها خلال جائحة كورونا قد جاءت كتوجيهات طارئة من أعلى الهرم المؤسسي للأسفل، وهو المسار التقليدي لصناعة القرار الذي كان يستهدف إعادة توجيه الموارد لتلبية الاحتياجات الاجتماعية الناشئة عن تفشي الفيروس المستجد في ذلك الوقت، حيث انتهجت المؤسسات والشركات الكبرى أُطر عمل متعددة من أجل توفير حلول إبداعية لتحديات الوباء، وكان ذلك من خلال العمليات الأساسية بجانب المسؤولية المجتمعية، ولكن في الواقع لم تكن هذه الأُطر واضحة المعالم، ولم ترق إلى مستوى الاستراتيجيات المُمنهجة، ومعظم المحاولات التي ظهرت لم تنجح، فقد أدى تفشي كوفيد-19 إلى إحداث ضغط هائل وغير متوقع على جميع الجهات الفاعلة في منظومات الابتكار، ونتج عن ذلك استجابات مختلفة وسريعة دون وجود أي معيار مرجعي لتحديد أولويات التركيز، وفي ذات الوقت ظهرت العديد من الابتكارات المجتمعية خارج المحيط الرسمي لإنتاج المعرفة وتطوير الأفكار الابتكارية، والتي كانت في مجملها مبادرات فردية أو جماعية؛ وهي تمثل المسار المقابل للنهج التقليدي، فقد انبثقت هذه المبادرات من قاعدة الهرم للأعلى، وبذلك فإن النقطة العمياء الكبرى التي يجب تفاديها تكمن في البحث عن الإجابة على هذا التساؤل: ما هي الاستراتيجيات التي يجب أن تقود مبادرات دعم الابتكار وريادة الأعمال الاجتماعية في وقت الأزمات؟ وكيف يمكن رسم استراتيجيات اغتنام الفرص الذهبية التي تنشأ في الحالات الاعتيادية؟

في البدء لا بد أن نشير إلى أن التغلب على النقاط العمياء يتطلب تحليلًا استقرائيًا واستكشافيًا لأحداث الجائحة، وذلك من حيث التعرف إلى القرارات الحاسمة التي اتخذتها بعض منظومات الابتكار العالمية، وعلى سبيل المثال فقد عرَّفت الصين آنذاك مجالين رئيسيين للابتكار وهما: إنتاج الأقنعة الطبية، وتوفير الحلول لتسريع اختبارات الأحماض النووية، وهو قرار يتبع النهج التقليدي من أعلى الهرم إلى الأسفل، وتبنت شركات الابتكار الصينية هذا التركيز الاستراتيجي، في حين جاءت الأنشطة الاجتماعية التي تم إطلاقها بالتزامن مع جهود التطوير التكنولوجي لنقاط التركيز من أجل رفع التوعية المجتمعية بشأن الالتزام بالاحتياطات المطلوبة، والمبادرة بإجراء الفحوصات الدورية، وظهرت العديد من الابتكارات المجتمعية التي تسعى لتسهيل فترات الإغلاق، واستثمار مورد الوقت بشكل يعود بالنفع على الأفراد والمجتمع، وهذه التفاعلات الاجتماعية الجديدة هي التي أكسبت الجهود المؤسسية المرونة في تنفيذ الإجراءات الاحترازية، وساهمت بشكل كبير في انتشار أنماط الاستجابة الابتكارية، وأتاحت فرصة التطوير المحتمل لاستغلالها تجارياً في مرحلة ما بعد الوباء، فخلال الأوقات الحرجة التي تحركها الأزمات الاجتماعية أو الاقتصادية أو الصحية، يمكن أن تنشأ الابتكارات الاجتماعية المدفوعة بمزيج من الاحتياجات الطارئة، أو المخاوف المستقبلية، ولكن يجب أن ينظر إلى هذه الابتكارات بشكل جِدِّي وباهتمام كبير، لأن ظهور هذا التحدي في الأوقات الاستثنائية يعكس وجود الحاجة للتغيير من قبل حلول الأزمة، ولذلك فإن ابتكارات الجائحة يمكنها أن تطرح نماذج جديدة، وحلولاً أفضل ملاءمة في ظل الظروف الاعتيادية.

إن تعزيز مسارات الابتكار الاجتماعي هو في صميم الدروس المستفادة من جائحة كورونا، وهو جزءٌ لا يتجزأ من صناعة المستقبل، إذ يستوجب أولاً تعريف أشكال الابتكار الاجتماعي الأكثر أهمية في عالم ما بعد الوباء، ثم توظيف مسارات متوازية في إحداث الآثار المجتمعية المنشودة، وذات النطاق الواسع، وفتح آفاق جديدة لعبور الفجوة بين الابتكارات الناشئة في الظروف الاستثنائية، وتلك التي ترتبط بالتحديات التقليدية، واعتماد المرونة والرشاقة الاستراتيجية كمبدأ أساسي لإعادة التفكير في الدور الحاسم للابتكار المجتمعي في مواجهة التحديات غير المسبوقة، وذلك عبر وضع استراتيجيات طويلة الأمد، بحيث تستهدف توجيه اغتنام الفرص باستمرار، وفي ذات الوقت تعمل على معالجة التغييرات غير المتوقعة وتنفيذ استجابات سريعة ومبتكرة، و في سياقات اجتماعية واقتصادية معاً، وتأصيل أنماط التعلم من التجارب السابقة للوصول لعمق العلاقة التكاملية بين المعرفة والابتكار ورأس المال الفكري وريادة الأعمال الاجتماعية.

د. جميلة الهنائية باحثة في سياسات العلوم والتكنولوجيا والابتكار.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الابتکار الاجتماعی

إقرأ أيضاً:

«التعليم العالي» تواصل جهودها لتنفيذ مبادرة «تحالف وتنمية» لتحفيز الابتكار

تواصل وزارة التعليم العالي والبحث العلمي تنفيذ السياسة الوطنية للابتكار المستدام، التي أطلقها الدكتور أيمن عاشور وزير التعليم العالي والبحث العلمي في فبراير 2025، للمرة الأولى في تاريخ المنظومة التعليمية والبحثية، وذلك ضمن مبادرة "تحالف وتنمية" التي تحظى برعاية الرئيس عبد الفتاح السيسي رئيس الجمهورية.

وأكد الدكتور أيمن عاشور أن العمل مستمر لتنفيذ محاور هذه السياسة، التي تشمل مجموعة من السياسات الفرعية والبرامج والمبادرات، وتركز على أربعة محاور رئيسية: إتاحة المواهب، نقل التكنولوجيا، إتاحة التمويل، وتحسين بيئة العمل، إلى جانب ثلاثة محاور أساسية: بناء قدرات البحث والتطوير، إزالة الفجوة بين البحث والتطوير والابتكار، وبناء قدرات الابتكار، وذلك بهدف تحويل مصر إلى مجتمع معرفي مبتكر ومستدام، في إطار تنفيذ أهداف الإستراتيجية الوطنية للتعليم العالي والبحث العلمي.

وأشار الوزير إلى أن مبادرة "تحالف وتنمية" تستهدف تحفيز الإبداع وريادة الأعمال إقليميًا عبر شراكات بين مؤسسات التعليم العالي والبحث العلمي، ومجتمع الصناعة، ورواد الأعمال، والمستثمرين، والجهات الحكومية المعنية، بما يحقق تعظيم مخرجات البحث العلمي. ويعمل كل تحالف في قطاع محدد يتمتع بفرص نمو اقتصادي مرتفع، ضمن نطاق جغرافي معين، لتعظيم الفائدة وجعل التحالفات محركات للتنمية الاقتصادية ومراكز للأفكار الإبداعية، وحاضنات للشركات الناشئة، ومصادر رئيسية لخلق فرص العمل وتعظيم الاستفادة من الموارد المتاحة.

وأوضح الدكتور أيمن عاشور أن حزم عمل التحالف تتضمن بناء القدرات، والتوعية، والتواصل بين الأعضاء، بهدف تأسيس الشركات الناشئة، وإجراء البحوث العلمية، واستكمال عمليات التطوير، وتجهيز البنية التحتية بالمعدات التكنولوجية اللازمة لضمان كفاءة الأداء، إضافة إلى الإدارة والتنسيق بين مختلف الأطراف لتحقيق أقصى استفادة ممكنة.

وأضاف الوزير أن تكوين تحالفات التنمية يتم من خلال دعوة تنافسية، حيث يحصل كل تحالف مقبول على اعتماد لمدة ثلاث سنوات، يستفيد خلالها من التمويل والخدمات التي توفرها المبادرة، ويحصل على تمويل إجمالي يتراوح بين 90 إلى 150 مليون جنيه، بمعدل سنوي يتراوح بين 25 إلى 60 مليون جنيه، يتم صرفه في صورة منح واستثمارات، بالشراكة مع التحالف. كما سيتم تنفيذ العديد من ورش العمل حول تصميم نظام بيئي مستدام للابتكار، والاستثمار في المزايا النسبية، وخطوات تسريع ريادة الأعمال الإقليمية، مع توفير فرق استشارية لكل تحالف.

وأكد الدكتور حسام عثمان، نائب الوزير لشؤون الابتكار والبحث العلمي، أن هناك معايير أساسية يجب استيفاؤها للتقديم للتحالف، منها تحديد الغرض من التحالف من خلال تعريف قطاع أو قطاعات العمل المستهدفة، وتحديد أهداف واضحة للتنمية الاقتصادية لأعضاء التحالف وقطاع عمله ومجتمعه. وتشمل هذه الأهداف: جذب الاستثمارات في نطاق عمل التحالف، خلق فرص عمل ذات قيمة عالية، زيادة حجم الصادرات لشركات التحالف، إتاحة هياكل للتمويل والاستثمار، وتطوير مرافق لدعم تأسيس الشركات وجذب رواد الأعمال، مثل الحاضنات، ومساحات العمل المشترك، وإقامة شراكات بين الجهات البحثية ومجتمع الصناعة لإنتاج منتجات وخدمات تنافسية محليًا وإقليميًا ودوليًا.

كما يتعين على كل تحالف إعداد موازنته لمدة ثلاث سنوات، موضحًا فيها مصادر التمويل الداخلي من الشركاء والتمويل المستهدف خلال هذه الفترة، على أن تتضمن خطة الاستدامة لضمان استمرار أنشطة التحالف بعد انتهاء مدة التمويل المخصصة.

وأشار الدكتور حسام عثمان إلى أن قياس الإنجاز سيتم من خلال تحديد مجموعة من مؤشرات الأداء المستهدفة سنويًا على مدار ثلاث سنوات، والتي تعكس مدى نجاح التحالف في دعم الابتكار وتنمية أعضائه والمجتمع المحيط به. وتشمل هذه المؤشرات: نسبة نمو دخل وصادرات الشركات المشاركة، عدد فرص العمل الناتجة عن أنشطة التحالف، عدد الجهات التي تنفذ أنشطة التوعية والتواصل، حجم الأنشطة والمستفيدين منها، عدد الأيام التدريبية والمتدربين الحاصلين على شهادات احترافية، حجم التمويل والاستثمارات المتولدة عن أنشطة التحالف، عدد الشركات الناشئة وحجم إيراداتها واستثماراتها، عدد براءات الاختراع والأبحاث الناتجة عن التعاون الصناعي والأكاديمي، وعدد عقود البحث والتطوير وحجم الإيرادات الناتجة عن المنتجات والخدمات المطورة.

وصرح الدكتور عادل عبد الغفار، المستشار الإعلامي والمتحدث الرسمي للوزارة، بأنه سيتم عقد لقاءات مع أعضاء التحالفات التي اجتازت مرحلة التقييم الأولي من فريق الوزارة، حيث ستقدم كل مجموعة عرضًا حول إستراتيجية العمل الخاصة بها، يليها التعاقد مع التحالفات التي اجتازت مرحلة العرض التقديمي، بعد تنفيذ التعديلات المطلوبة على خططها.

وأضاف المتحدث الرسمي أن الوزارة خصصت مليار جنيه من الجهات المانحة لدعم مبادرة "تحالف وتنمية"، بهدف تمويل المشروعات البحثية ذات الجدوى التنموية، ودعم جهود توطين الصناعة وتعزيز الابتكار، والمساهمة في تحقيق طفرة تنموية بالأقاليم الجغرافية المختلفة. كما تهدف المبادرة إلى تعزيز التعاون العلمي والبحثي بين الجامعات المصرية ومجتمع الصناعة والأعمال والمؤسسات الإنتاجية، بما يحقق أهداف رؤية مصر 2030 والإستراتيجية الوطنية للتعليم العالي والبحث العلمي 2030، من خلال دمج مفاهيم الجيل الرابع للتعليم العالي والبحث العلمي، التي ترتكز على أربعة محاور رئيسية: التعليم، البحث العلمي، خدمة المجتمع، وريادة الأعمال، بما يسهم في تحقيق التنمية الشاملة والمستدامة.

مقالات مشابهة

  • التعليم العالي: دعم الابتكار وريادة الأعمال في الصناعات النسيجية لتعزيز التصنيع المحلي
  • “معركة بدر” نقطة تحوّل في التاريخ الإسلامي ودروس خالدة في القيادة والتخطيط
  • ليلى عز العرب: صناع الدراما بيعتبروا شهر رمضان هو الوقت الأمثل لعرض مسلسلاتهم
  • بين الابتكار والسيطرة.. هيمنة الذكاء الاصطناعي الصيني
  • 11 دولة عربية تتألق في مؤشر الابتكار العالمي لعام 2024
  • «التعليم العالي» تواصل جهودها لتنفيذ مبادرة «تحالف وتنمية» لتحفيز الابتكار
  • مجلس رمضاني يناقش «الابتكار الرقميّ برؤية مجتمعية»
  • بعد 5 سنوات من الجائحة.. ماذا نعرف عن كوفيد طويل الأمد حتى الآن؟
  • بينها الصينية.. تقديم خطب ودروس المسجد الحرام بأكثر من 11 لغة
  • أمير طعيمة: أضع ضوابط خاصة لاختيار الأعمال التي أشارك فيها .. فيديو