جابر حسين العماني
jaber.alomani14@gmail.com
لم أتوقع يومًا أني سألتقي بجمع من شبابنا الأكارم وهم يستجدون لقمة العيش من هنا وهناك، وذلك بسبب تسريحهم من أعمالهم القائمين عليها وتخفيض رواتبهم الشهرية، ووضعهم في مأزق أسري.
ألا ينبغي أن يكون المُواطن عزيزًا مُكرمًا في وطنه بين أهله وذويه؟ لماذا وصل به الحال إلى ما نراه اليوم من تقصير واضح وصريح في توفير حقوقه الأسرية والاجتماعية؟ لماذا يتم تسريحه من عمله وحرمانه من وظيفته؟ لماذا أصبح الأمان الوظيفي الذي ينبغي أن يكون معه فانقلب ضده.
بالأمس التقيت أحد أبناء عمان المخلصين، والذي عرفه الجميع بإخلاصه ووفائه لعمله، كان يشتكي من تسريحه من جهة عمله، شاكيًا ظروفه الصعبة والمرة التي يمُر بها مع عائلته بعد هذا التسريح، وتخفيض راتبه الذي يستلمه من الأمان الوظيفي، وهذا حال الكثيرين ممن يمرون بنفس المشكلة.
اليوم نحن أمام مسؤولية مجتمعية عظيمة يجب مُراعاتها والوقوف عندها بحزم وجد واجتهاد بلا كلل أو ملل، وهو خلق الكثير من الوظائف التي تتناسب مع الكفاءات الشبابية التي تحفظ كرامة المواطن في وطنه، وتجعله مواطناً صالحاً بعيداً عن استجداء الآخرين، أو الوقوع في فخ البطالة التي مع كل الأسف باتت في ازدياد ملحوظ في بلداننا العربية والإسلامية.
يجب على حكوماتنا العربية والإسلامية مضاعفة العمل للوصول إلى الحلول المطلوبة التي ترفع من كرامة أبنائها وذلك من خلال تنظيم الموارد المالية والتجارية والحقوقية والإنسانية بين أبناء الوطن الواحد، وهو ما طبقه خليفة المسلمين العادل علي بن أبي طالب أثناء خلافته وحكمه الذي استمر إلى أربع سنوات وتسعة أشهر وثلاثة أيام، كما ورد في جملة من المصادر، لذا علينا أن نستلهم من فكره الناضج، وهو القائل: (اِعْدِلْ تَحْكُمْ)، وقال: (اَلعَدْلُ أفْضَلُ السِّياسَتَيْنِ)، وله أقوال أخرى تبين أنَّ العدل بين الناس هو المحور الأساسي الذي تدور حوله السياسات الحكيمة والتي التزم بها الإمام علي بن أبي طالب، والتي كانت هي من أهم حركاته الإصلاحية والاجتماعية العامة التي طبقها في خلافته الراشدة والتي ذكرتها الكثير من الدراسات العلمية ومنها كتاب "الإمام علي.. صوت العدالة الإنسانية" للكاتب الشهير جورج جرداق والذي تناول فيه العدالة الإنسانية من فكر خليفة المسلمين العادل الإمام علي بن أبي طالب.
واليوم إذا أرادت الحكومات وشعوبها نقل الأوطان إلى نحو حياة أفضل وأجمل وأكمل عليها (أولا) التوكل على الله تعالى، ثم الاعتماد على طاقات الشباب واستغلالها الاستغلال الأفضل والأكمل والأمثل، فهم أساس حماية الوطن وازدهاره وتقدمه، ومن أجل أن يسير الوطن بشبابه نحو حياة ناجحة كريمة مزدهرة لا بُد من تطبيق ما قام به الخلفاء الراشدين الصالحين أثناء خلافتهم وهو كالآتي:
أولًا: عزل من ثبتت خيانته لعمله ووطنه؛ وذلك لتطهير الدولة من العناصر الفاسدة التي تعبث في شؤون الرعية، وقد قال تعالى: "قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ". ثانيًا: مراقبة ومحاسبة المسؤول المقصر، وهي مسؤولية عظيمة ملقاة على عاتق الزعماء من الحكام ومن ينوب عنهم من أصحاب المناصب العالية فما دونهم، فلابد أن يكون الجميع صارمين، دقيقين، واضحين في محاسبة المسؤولين المقصرين، ومحاسبتهم حتى ولو كانوا من الأقارب والأصدقاء، والسؤال الدائم: من أين لك هذا؟ قال تعالى: "وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ". ثالثًا: المحافظة على مقدرات الوطن وممتلكاته العامة، وهذا لا يكون إلا بالتوكل على الله تعالى أولا ثم التركيز على استغلال الشباب وتوظيفهم، والاعتماد على طاقاتهم الجسدية والفكرية، وفتح المجال أمامهم لتقديم كل ما يسهم في نجاح وازدهار الوطن، وعدم تهميشهم أو الاستخفاف بطاقاتهم، أو التقليل من شأنهم، أو حتى جعلهم يشعرون بالنقص في ذلك، كما في قوله تعالى عن طالوت الذي كان شابا فمكنه في أرضه ودولته قائلا للمعترضين على تمكينه: "إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ". رابعًا: نشر العلم والوعي الاجتماعي بين أفراد المجتمع؛ وذلك من خلال التعريف بأهمية الوطن والمواطنة، والمحافظة على الأخلاق والقيم والمبادئ الاجتماعية، ولا يتحقق ذلك في المجتمع إن لم نهتم بتعليم الأجيال العلم النافع ليكونوا شبابا عاملين مخلصين أوفياء لأوطانهم مساهمين في رقي وازدهار مجتمعاتهم، وإخراجها من ظلمات الجهل إلى نور العلم والفهم، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "سلُوا اللهَ علمًا نافعًا، وتَعَوَّذُوا باللهِ منْ علمٍ لا ينفعُ". خامسًا: التعاون بين الحاكم ورجال الأعمال فكما أن المسؤولية ملقاة على عاتق الحاكم في ذلك، فهي أيضا ملقاة على رجال الأعمال ومن يملكون رؤوس أموال، وفرص لتوظيف الشباب أن يتعاونوا مع الحاكم في تحقيق الأمن الوظيفي والمعيشي، فقد قال الله تعالى: "وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي"، وقال جل وعلا: "وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى".وأخيرًا.. إنَّ الاهتمام بسواعد أبناء الوطن، واحترامهم، والوقوف معهم، أمر لا بُد منه، لذا ينبغي على الحكومات عدم تهميش الطاقات الشبابية، أو التفريط بحقوقهم وطاقاتهم الفكرية والجسدية، والعمل الجاد على توفير حقوقهم الوطنية في أوطانهم، وإشعارهم بالعزة والكرامة حتى لا يجبر المواطن عن التخلي أو العزوف عن وطنه وأرضه.
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
تماثيل معطوبة القصيدة التي تستنطق وجعُ الوطنٍ في رحلة لعذابات الجنوب… لناظم كاطع الساعدي
بقلم : سمير السعد ..
في قصيدته “تماثيل معطوبة”، لا يكتب الشاعر العراقي ناظم كاطع الساعدي من على هامش الحياة، بل من قلبها النابض بالألم، ومن وجدانٍ تشرب من دجلة وميسان ونخيل العمارة. قصيدة تنبض بالصدق، وتحمل بين سطورها نداءً إنسانيًا خالصًا، ينهل من مرارة الحروب ومخلفاتها، ويعيد صياغة المشهد الوطني من زاوية القلب والذاكرة.
“لذلك الغبار الأصفر
لتلك الشناشيل
التي غادرتها قناديلها
وعصافيرها دون رجعة…”
بهذه الصور يفتتح الساعدي نصه، حيث يتحول الغبار إلى ذاكرة، والشناشيل المهجورة إلى رمزٍ لانطفاء الحلم، ولغياب الألفة التي كانت تملأ المدينة ذات زمن. الشعر عنده ليس لغة تجريد، بل مرآة لحياةٍ حقيقية عاشها وشارك أهلها تفاصيلها.
ناظم كاطع الساعدي لم يكن شاعرًا وكاتبًا فحسب، بل كان وما يزال ابنًا بارًا لمدينته العمارة، محبًا لأزقتها، وفياً لنخلها، متماهياً مع نبض أهلها. من أسرة عراقية أصيلة تنتمي إلى قبيلة “السواعد”، إحدى أعرق عشائر الجنوب المعروفة بالكرم، والنخوة، والمواقف الأصيلة. وقد انعكست هذه القيم في شخصيته، حيث اشتهر ببساطته وتواضعه وتعاونه مع الجميع. أبوابه مشرعة، وصدره رحب، وابتسامته تسبق كلماته. كان أخًا حقيقيًا لأصدقائه، ورفيقًا لكل من عرفه، لا يحمل في قلبه سوى المحبة.
رغم انشغاله في مجالات الإدارة والعمل السياسي، لم يتخلّ عن قلمه، ولم يغادر دفاتر الشعر، بل ظل وفياً للقصيدة، لأنها بالنسبة له ليست هواية، بل مسؤولية وطنية وأخلاقية، ونافذة يُطلّ منها على وجع الناس وهمومهم:
“تلك السيدة التي أهدرت
حياتها بين قدر الباقلاء
على رصيف منحني
كأيامها التي لم تذق
غير وبال الحروب…”
في هذه اللوحة الشعرية، تتحول المرأة إلى أيقونة عراقية خالدة، شاهدة على تاريخٍ من الإنهاك والصبر. المرأة التي تمثل أمهاتنا وأخواتنا، اللائي دفعن ثمناً باهظاً لحروب لم يخترنها. مشهد تقشعر له الروح، حيث تصبح الكلمات نياشين على صدر الحزن.
الساعدي يرسم الوطن بملامح البشر، لا بالخرائط. حتى الجندي في قصيدته لا يُقدّم كرمز للحرب، بل كإنسان منهك، يبحث عن الحياة لا الموت:
“صور الجنود الفارين
من رصاصات الموت
بحثًا عن كسرة خبز…”
هنا تبلغ القصيدة ذروتها الإنسانية. إنها لا تُمجّد الموت، بل تُمجّد النجاة، وتدافع عن حق البسطاء في العيش الكريم. ومن هذا المنطلق، تأتي صرخة الشاعر في نهاية القصيدة، صرخة من يريد استبدال الرموز الحجرية بما هو أصدق وأقرب للناس:
“لذا كان لزامًا علينا
أن نستبدل تلك التماثيل
بما يليق بسيدة أرملة
في ريع طفولتها المنسية…”
الساعدي في هذه القصيدة لا يهجو، بل ينهض، ويُطالب بإعادة الاعتبار للإنسان الحقيقي. يقترح علينا نصباً جديدًا، لا من حجر، بل من حب، من وفاء، من وجعٍ صادق.
إن “تماثيل معطوبة” ليست مجرد نص، بل وثيقة شعرية وشهادة زمن، تحفر في ذاكرة الوطن، وتوقظ فينا أشياء كدنا ننساها. قصيدة تعيد تعريف البطولة، وتنتصر للضعفاء، وتقول: إن الشعر الحقيقي لا يُكتب من الرأس فقط، بل من القلب، ومن حب الناس والمدينة.
وفي زمنٍ صاخب بالكلمات الفارغة، يبقى ناظم كاطع السساعدي واحدًا من القلائل الذين يمنحون للكلمة شرفها، وللمدينة قُدسيتها، وللأصدقاء دفءَ المحبة، وللإنسانية حقّها في أن تُروى شعراً.
عن الشاعر:
ناظم كاطع الساعدي، شاعر وكاتب عراقي من محافظة ميسان، مدينة العمارة، ومن أبناء قبيلة السواعد العريقة، المعروفة بأصالتها وكرمها ونخوتها. برز اسمه في المشهد الثقافي العراقي من خلال قصائد تحمل طابعًا إنسانيًا عميقًا، وتُعبر عن واقع الجنوب بصدق وشفافية.
عرفه أصدقاؤه وأحباؤه ببشاشته، وبساطته، وتعاونه الدائم مع الجميع. تولّى مناصب إدارية وسياسية مهمة، ومع ذلك لم يبتعد يومًا عن القصيدة، فظلّ وفيًا لقلمه، ولأهله، ولمدينته التي أحبها حد التماهي. شاعرٌ ينتمي للكلمة كما ينتمي للأرض… بسيطٌ في هيئته، عظيمٌ في حرفه، ومحبٌّ صادقٌ لكل ما هو جميل.
سمير السعد