لجريدة عمان:
2024-12-03@19:16:48 GMT

الإنسان المُخرِّف

تاريخ النشر: 6th, August 2024 GMT

أصْلُ الحكاية عقلٌ أسطوريّ لم تُوجِد له المعارف والعلوم أجوبةً، فاجترحها وابتدعها وقصّها، ولم يمنع الدين بقوّته وشدّةِ أثره هذا العقل من إنتاج متخيَّل قصصيّ يُسايره ويُجانبه ويصدر عنه ويملأ فراغاته، بل تحوّل هو ذاته إلى منتجٍ لعقلٍ قصصيّ، تخصّص في سرديّاتٍ تلتزم الهيكل الدينيّ وتُحدثُ عوالم متخيّلة تروي الوجودَ وما وراء الوجود، تحكي لحظة انبثاق الكون وتشكّله بيقينيّة سرديّة عارفة بأدقّ التفاصيل، وتحكي انغلاق الوجود الإنساني وانتهاءه، وفناءه، ولذلك فإنّ أصْلا من أصولِ أوليّة القصص في التراث العربيّ هو "المقام الدينيّ" الذي ساهم في تكوين مدوّنة قصصيّة تخييليّة يجتمع فيها الواقعيّ والخُرافي والأسطوري، يجتمع فيها الشاهد والغائب، برزَخٌ هو القصص الدينيّ في إحداثٍ علائق وصلات بين عالم الغيب وعالم الشهادة، بين وجودٍ عينيّ حاصلٍ ووجودٍ مخفيٍّ ممكنٍ، السردُ هو عالمُ الممكن، كون التخيّل، السرد ليس إرجاعا ولا استرجاعا للحظة في الزمن انقضت، وليس بحثا عن مطابقةٍ مع حوادث وشخصيّات لها بالضرورة ظلالٌ في عالم المادّة والحركة، وإنّما هو كلامٌ يذروه الخيال ويبثّه في الأرجاء، مراعاةً لمقاماتٍ لا أوليّةَ في اعتبارها للصدق والكذب ولا للمطابقة والمفارقة وإنّما المُعتبَر الأوّل إرضاء المقصوص عليه، ومراعاة قدرته التقبليّة ومتطلّباته من القصص.

ولذلك، كان انصرافنا في هذه السلسلة من المقالات إلى ضبْط أوّل القصص، نظرا في الأصول الأولى التي مثّلت مناجم سرديّة لا تكفّ عن العطاء ولا تجفّ، وضُروعا معطاءة تدرُّ قصصا لا يجفّ ولا يتيبّس، وإنّما هو قابلٌ للمداورة والمطاوعة وإعادة التشكيل والتشكّل، حسب العصر وحسب الآفاق التقبليّة، وحسب الجهات المنتجة له، ولقد بُثَّ هذا القصص -كما رأينا- في كُتب التاريخ وفي كتب الأخبار وفي كتب الأنساب خاصّة، فأسّس دوائر للسرد أريد أن أُخَصّص لها هذا المقال حتّى ينتبه الدارسون إلى هذا الثراء السرديّ الكامن في تراثنا التاريخي والعلمي والأدبي، فنُصوص القصص عابرةٌ للأشكال والأجناس، ثاوية في كتب الطبّ والهندسة، في كتب الدين والفلسفة، وفي غيرها من التخصّصات التي تُسخّر القصص جوهرا أو عَرَضا.

دائرة البدايات: مال الإنسان منذ قديم الزمن إلى تأثيث قصّة بداية الكون، التي احتوت ثوابت تخصّ الخلْق، الذي اتّصل بتهيئة الفضاء للإنسان الذي إليه تهيّأ الكون بجباله وسهوله وبحاره، برياحه وعواصفه ومطره وشمسه، وبعناصره المُشكّلة للحياة هواءً وماءً ونارا وترابا، هذا الإنسان الذي انصرف إليه القصّاصون لعرضِ قصّة خلْقه، التي ضبطت الأديان السماويّة الإطار العامّ لهذه القصّة، خلْقا لآدم من أدم الأرض وخلقا لأنثاه منه. قصّة الخلْق حاويةُ نوًى، صنعت يقينا عند بعض الشعوب، فالقصّة الدينيّة لا نعني بها القصّة الإلهيّة أو النبويّة، بل هي القصّة الذي قدّمها التصوّر الذهني التخييلي الديني العالم والشعبي، وهو ضابطٌ للمادّة التي منها خُلِق آدم، ولكيفيّة صناعته، ولأمزجته، ولأيّام إعداده وليومِ إطلاقه، ولميْله ولجبلّته، تفاصيل عديدة، امتصّها كتاب "الأنساب" الذي ذكرناه سلفا، وأعاد تأليفها وعرْضها. فمنظوره لخلْق آدم يحمل تصوّرا تفصيليّا تخييليّا، لا صلة له بالتاريخ ولا بواقعه، غير أنّ ذكاء العوتبي السرديّ أنّه حافظ على الهيكلة القرآنيّة العامّة لم يمسّها بقصص ولا بتخييل، وكان التوسّع والإفاضة عنده في ما لم يُذكر ولم يُفصَّل في النصّ الأصليّ، ولذلك فإنّ عينَ الراوي الراقبة، الساردة، هي عينٌ عارفةٌ، عالمةٌ، لا تغيب على قصّتها شاردةٌ ولا واردة، فآدمٌ مصنوعٌ من "الأرض من زواياها الأربع من أسودها وأحمرها وطيبها وحزنها وسهلها"، جلبها ملك الموت، بعد أن عجز عن ذلك جبرائيل وميكائيل، إذ استغاثت الأرض وأبت أن يكون منها مخلوقٌ حادث مصيره النّار، وكأنّها أدركت وأيقنت وعلمت بما لم يكن في الحسبان، ووعت أنّ الإنسان سيخرج عن سبيل الحقّ، وأنّ آدم سيُخالف أمر ربّه، وسيُعاقَب بالتكليف. يُصنَعُ الإنسان ويُترك أربعين سنةً طينا، صلصالا، هيكلا، لا روح فيها، يُلقى على طريق الملائكة، يمرّون به ويعجبون من هذا الخلْق المختلف. تتأسّس الحكاية، حكايةُ الخلْق على أصْلٍ، وهو أنّ الله عزّ وجلّ خلق آدم من طين، وهيّأه لحمْل الأمانة، وعلى الرّواة، أن يكملوا تأثيث حكاية الخلق، بقصص فيه من مبادئ التقدير الدينيّ، ومراعاة الثوابت التي استقرّت في الوعي البشريّ، من هذه الثوابت، الملائكة طيّبون، الشيطان شرّير، آدم سلبيّ، خطّاء، طالبٌ للغفران، المرأة سليلة الشيطان، الأبناء فتنة الدنيا. هذه الثوابت القصصيّة، رافقت حكاية الخلْق، وصاحبت ما تأثّث منها من أفعالٍ، جعلت الملائكة يتعجّبون من خلق الله، والشيطان يسخر من هذا الخلق، فقد "كانت صورة آدم حين صوّره الله جَعَل طُوله خَمسمائة عام -وفي نسخة خمسمائة ذراع- وقيل إن إبليس مضى عليه فضرب ظَهْرَه وبَطْنَه، فسمع رنينًا فقال: إنَّ هذا خَلْقٌ ضَعِيف يأكل ويشرب، وإنّ له شأنا من الشأن. وقيل إنَّه مرَّ به يومًا فنسخه برجله وبزق عليه، فوقعت البزاقة في بطنه، فقيل إنَّ الله أمر أن تقلع بزاقة إبليس من بطن آدم فقُوَّرَت وإن موضعها السُّرة من بطن آدم"، ومن أقوالٍ، خاصّة تلك الدائرة بين الشيطان والملائكة، محاولةً دائمة من الشيطان لحملهم على العصيان، وثباتا دائما من الملائكة على الطاعة والإذعان. تلك ثوابت لم تمنع المخيّلة الدينيّة من التوسّع في القصص وسْما لآدم وللملائكة وللشيطان، ولعناصر السرد التي أقامت قصّة الخلْق وما رافقها من عصيان، وتحويل لقصّة السّماء إلى قصّة الأرض. تفاصيل جمّة يقصّها -خيالا وابتكارا- المؤرّخون والأخباريّون والقُصّاص، والمفسّرون وأصحاب الحديث، عن الخلْق، عن اليوم الذي خُلق فيه آدم، وعن سريان الرّوح فيه، وعن حوّاء التي منه قُدّت، وأوْجد المخيال القصصيّ في علّة خلْقها سببا لقدرتها على أخْذ الرّجل والتأثير فيه، وهي -في بعض الروايات حمالة الشيطان-، فقد أعْلمنا صاحبنا العوتبي، وهو يفصِّل قصّة الخلْق أنّ "الله تعالى ألْقى على وَجْهِ آدم النُّعاسَ فخلقَ من ضلعه الأيسر حَوَّاءْ، فأنْتَبَه آدمُ من رَقْدَتِه وإذا حَواء جالسة عند جنبه فقال آدم: عَظْمٌ من عظمي ولَحْمٌ مِنْ لَحْمي، قال: فمِن أجل ذلك يترك الرجل أباه وأمَّه ويتبع امرأته". ويُتلى هذا التكوين والبعث، فعل الإغواء المعقّد الذي يدخل فيه الشيطانُ عاملا مساعدا على تحقيق العصيان، وتدخل فيه الحيّة عاملا ممسوخا، متحوّلا من الحُسن إلى البذاءة، مُعاقَبا على المساعدة في تحقيق العصيان، فهي التي أدخلت الشيطان في جوفها أو بين فكّيها إلى الجنّة ليُغوي حوّاء لتغوي آدم، وتتراكم العناصر المكوّنة لأصولٍ في السرد تفتّحت من بعد ذلك، وسادت أزمنة، مكوّنة تصوّرنا الحقّ أو المخيّل، وقصّتنا التي نحملها عن البدايات، التي ساهمت الأديان على اختلاف منابتها في تقديم قصّة ما عن هذه البدايات، ولذلك، فإنّا نحتاج اليوم إلى استعادة قصصنا، وبيان أثرها في موروثنا، وفي تكوين الثيمات الكبرى للوجود الإنسانيّ، أليست القصّة ليومنا هذا قائمة على الصراع بين الخير والشرّ، بين النافع والضرّ، بين طريق الله وطريق الشيطان، بين الحقّ والباطل، بين الأنا والآخر؟ وهل عاش الإنسانُ حينا من الدهر دون حكايةٍ، دون قصّة، دون خرافةٍ يخرّفها؟ هل يحقّ لي الآن أن أسم الإنسان بأنّه إنسانٌ مُخرِّفٌ Homo Fabulants؟

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: ة الخل ق فی کتب القص ة

إقرأ أيضاً:

الكشف عن اسم الشخص الذي انتحر اليوم في جبل الحسين

#سواليف

كشف #مصدر_أمني هوية الشخص الذي أقدم على #الانتحار شنقا اليوم الثلاثاء في منطقة #جبل_الحسين .

وبين المصدر بأن اسم المتوفى ” #أحمد_الضبع” ، وهو عشريني من #جنسية_مصرية .

مصدر أكد أن المتوفى ليس “يوتيوبر” كما تم تداوله .

مقالات ذات صلة لماذا انهارت قوات الأسد على هذا النحو السريع؟ 2024/12/03

مقالات مشابهة

  • الكشف عن اسم الشخص الذي انتحر اليوم في جبل الحسين
  • انتصر حزبُ الله على حزب الشيطان
  • فرصة للاقتراب من النجوم.. البحر الأحمر السينمائي يخصص منطقة للجماهير
  • نائب بعاتب زميله: مش هيك بتصير القصص
  • دعاء يحمي من التعلق بمغريات الدنيا.. ردده يوميا لصد وسوسة الشيطان
  • الذي نصح البرهان بالرد على الشيخ عبد الحي يوسف أضر به أيما ضرر
  • «الأب الشيطان».. سيدة تتهم زوجها بالتحرش بابنتهما في البدرشين
  • حيل للتخلص من خشونة الفوط خلال الغسيل
  • الكيميرا والمسحورة في ندوة تثقيفية بمكتبة الإسكندرية
  • دعاء الالتزام في الصلاة.. استعن به ضد ضعف النفس ووسوسة الشيطان