لجريدة عمان:
2024-09-09@20:44:44 GMT

الإنسان المُخرِّف

تاريخ النشر: 6th, August 2024 GMT

أصْلُ الحكاية عقلٌ أسطوريّ لم تُوجِد له المعارف والعلوم أجوبةً، فاجترحها وابتدعها وقصّها، ولم يمنع الدين بقوّته وشدّةِ أثره هذا العقل من إنتاج متخيَّل قصصيّ يُسايره ويُجانبه ويصدر عنه ويملأ فراغاته، بل تحوّل هو ذاته إلى منتجٍ لعقلٍ قصصيّ، تخصّص في سرديّاتٍ تلتزم الهيكل الدينيّ وتُحدثُ عوالم متخيّلة تروي الوجودَ وما وراء الوجود، تحكي لحظة انبثاق الكون وتشكّله بيقينيّة سرديّة عارفة بأدقّ التفاصيل، وتحكي انغلاق الوجود الإنساني وانتهاءه، وفناءه، ولذلك فإنّ أصْلا من أصولِ أوليّة القصص في التراث العربيّ هو "المقام الدينيّ" الذي ساهم في تكوين مدوّنة قصصيّة تخييليّة يجتمع فيها الواقعيّ والخُرافي والأسطوري، يجتمع فيها الشاهد والغائب، برزَخٌ هو القصص الدينيّ في إحداثٍ علائق وصلات بين عالم الغيب وعالم الشهادة، بين وجودٍ عينيّ حاصلٍ ووجودٍ مخفيٍّ ممكنٍ، السردُ هو عالمُ الممكن، كون التخيّل، السرد ليس إرجاعا ولا استرجاعا للحظة في الزمن انقضت، وليس بحثا عن مطابقةٍ مع حوادث وشخصيّات لها بالضرورة ظلالٌ في عالم المادّة والحركة، وإنّما هو كلامٌ يذروه الخيال ويبثّه في الأرجاء، مراعاةً لمقاماتٍ لا أوليّةَ في اعتبارها للصدق والكذب ولا للمطابقة والمفارقة وإنّما المُعتبَر الأوّل إرضاء المقصوص عليه، ومراعاة قدرته التقبليّة ومتطلّباته من القصص.

ولذلك، كان انصرافنا في هذه السلسلة من المقالات إلى ضبْط أوّل القصص، نظرا في الأصول الأولى التي مثّلت مناجم سرديّة لا تكفّ عن العطاء ولا تجفّ، وضُروعا معطاءة تدرُّ قصصا لا يجفّ ولا يتيبّس، وإنّما هو قابلٌ للمداورة والمطاوعة وإعادة التشكيل والتشكّل، حسب العصر وحسب الآفاق التقبليّة، وحسب الجهات المنتجة له، ولقد بُثَّ هذا القصص -كما رأينا- في كُتب التاريخ وفي كتب الأخبار وفي كتب الأنساب خاصّة، فأسّس دوائر للسرد أريد أن أُخَصّص لها هذا المقال حتّى ينتبه الدارسون إلى هذا الثراء السرديّ الكامن في تراثنا التاريخي والعلمي والأدبي، فنُصوص القصص عابرةٌ للأشكال والأجناس، ثاوية في كتب الطبّ والهندسة، في كتب الدين والفلسفة، وفي غيرها من التخصّصات التي تُسخّر القصص جوهرا أو عَرَضا.

دائرة البدايات: مال الإنسان منذ قديم الزمن إلى تأثيث قصّة بداية الكون، التي احتوت ثوابت تخصّ الخلْق، الذي اتّصل بتهيئة الفضاء للإنسان الذي إليه تهيّأ الكون بجباله وسهوله وبحاره، برياحه وعواصفه ومطره وشمسه، وبعناصره المُشكّلة للحياة هواءً وماءً ونارا وترابا، هذا الإنسان الذي انصرف إليه القصّاصون لعرضِ قصّة خلْقه، التي ضبطت الأديان السماويّة الإطار العامّ لهذه القصّة، خلْقا لآدم من أدم الأرض وخلقا لأنثاه منه. قصّة الخلْق حاويةُ نوًى، صنعت يقينا عند بعض الشعوب، فالقصّة الدينيّة لا نعني بها القصّة الإلهيّة أو النبويّة، بل هي القصّة الذي قدّمها التصوّر الذهني التخييلي الديني العالم والشعبي، وهو ضابطٌ للمادّة التي منها خُلِق آدم، ولكيفيّة صناعته، ولأمزجته، ولأيّام إعداده وليومِ إطلاقه، ولميْله ولجبلّته، تفاصيل عديدة، امتصّها كتاب "الأنساب" الذي ذكرناه سلفا، وأعاد تأليفها وعرْضها. فمنظوره لخلْق آدم يحمل تصوّرا تفصيليّا تخييليّا، لا صلة له بالتاريخ ولا بواقعه، غير أنّ ذكاء العوتبي السرديّ أنّه حافظ على الهيكلة القرآنيّة العامّة لم يمسّها بقصص ولا بتخييل، وكان التوسّع والإفاضة عنده في ما لم يُذكر ولم يُفصَّل في النصّ الأصليّ، ولذلك فإنّ عينَ الراوي الراقبة، الساردة، هي عينٌ عارفةٌ، عالمةٌ، لا تغيب على قصّتها شاردةٌ ولا واردة، فآدمٌ مصنوعٌ من "الأرض من زواياها الأربع من أسودها وأحمرها وطيبها وحزنها وسهلها"، جلبها ملك الموت، بعد أن عجز عن ذلك جبرائيل وميكائيل، إذ استغاثت الأرض وأبت أن يكون منها مخلوقٌ حادث مصيره النّار، وكأنّها أدركت وأيقنت وعلمت بما لم يكن في الحسبان، ووعت أنّ الإنسان سيخرج عن سبيل الحقّ، وأنّ آدم سيُخالف أمر ربّه، وسيُعاقَب بالتكليف. يُصنَعُ الإنسان ويُترك أربعين سنةً طينا، صلصالا، هيكلا، لا روح فيها، يُلقى على طريق الملائكة، يمرّون به ويعجبون من هذا الخلْق المختلف. تتأسّس الحكاية، حكايةُ الخلْق على أصْلٍ، وهو أنّ الله عزّ وجلّ خلق آدم من طين، وهيّأه لحمْل الأمانة، وعلى الرّواة، أن يكملوا تأثيث حكاية الخلق، بقصص فيه من مبادئ التقدير الدينيّ، ومراعاة الثوابت التي استقرّت في الوعي البشريّ، من هذه الثوابت، الملائكة طيّبون، الشيطان شرّير، آدم سلبيّ، خطّاء، طالبٌ للغفران، المرأة سليلة الشيطان، الأبناء فتنة الدنيا. هذه الثوابت القصصيّة، رافقت حكاية الخلْق، وصاحبت ما تأثّث منها من أفعالٍ، جعلت الملائكة يتعجّبون من خلق الله، والشيطان يسخر من هذا الخلق، فقد "كانت صورة آدم حين صوّره الله جَعَل طُوله خَمسمائة عام -وفي نسخة خمسمائة ذراع- وقيل إن إبليس مضى عليه فضرب ظَهْرَه وبَطْنَه، فسمع رنينًا فقال: إنَّ هذا خَلْقٌ ضَعِيف يأكل ويشرب، وإنّ له شأنا من الشأن. وقيل إنَّه مرَّ به يومًا فنسخه برجله وبزق عليه، فوقعت البزاقة في بطنه، فقيل إنَّ الله أمر أن تقلع بزاقة إبليس من بطن آدم فقُوَّرَت وإن موضعها السُّرة من بطن آدم"، ومن أقوالٍ، خاصّة تلك الدائرة بين الشيطان والملائكة، محاولةً دائمة من الشيطان لحملهم على العصيان، وثباتا دائما من الملائكة على الطاعة والإذعان. تلك ثوابت لم تمنع المخيّلة الدينيّة من التوسّع في القصص وسْما لآدم وللملائكة وللشيطان، ولعناصر السرد التي أقامت قصّة الخلْق وما رافقها من عصيان، وتحويل لقصّة السّماء إلى قصّة الأرض. تفاصيل جمّة يقصّها -خيالا وابتكارا- المؤرّخون والأخباريّون والقُصّاص، والمفسّرون وأصحاب الحديث، عن الخلْق، عن اليوم الذي خُلق فيه آدم، وعن سريان الرّوح فيه، وعن حوّاء التي منه قُدّت، وأوْجد المخيال القصصيّ في علّة خلْقها سببا لقدرتها على أخْذ الرّجل والتأثير فيه، وهي -في بعض الروايات حمالة الشيطان-، فقد أعْلمنا صاحبنا العوتبي، وهو يفصِّل قصّة الخلْق أنّ "الله تعالى ألْقى على وَجْهِ آدم النُّعاسَ فخلقَ من ضلعه الأيسر حَوَّاءْ، فأنْتَبَه آدمُ من رَقْدَتِه وإذا حَواء جالسة عند جنبه فقال آدم: عَظْمٌ من عظمي ولَحْمٌ مِنْ لَحْمي، قال: فمِن أجل ذلك يترك الرجل أباه وأمَّه ويتبع امرأته". ويُتلى هذا التكوين والبعث، فعل الإغواء المعقّد الذي يدخل فيه الشيطانُ عاملا مساعدا على تحقيق العصيان، وتدخل فيه الحيّة عاملا ممسوخا، متحوّلا من الحُسن إلى البذاءة، مُعاقَبا على المساعدة في تحقيق العصيان، فهي التي أدخلت الشيطان في جوفها أو بين فكّيها إلى الجنّة ليُغوي حوّاء لتغوي آدم، وتتراكم العناصر المكوّنة لأصولٍ في السرد تفتّحت من بعد ذلك، وسادت أزمنة، مكوّنة تصوّرنا الحقّ أو المخيّل، وقصّتنا التي نحملها عن البدايات، التي ساهمت الأديان على اختلاف منابتها في تقديم قصّة ما عن هذه البدايات، ولذلك، فإنّا نحتاج اليوم إلى استعادة قصصنا، وبيان أثرها في موروثنا، وفي تكوين الثيمات الكبرى للوجود الإنسانيّ، أليست القصّة ليومنا هذا قائمة على الصراع بين الخير والشرّ، بين النافع والضرّ، بين طريق الله وطريق الشيطان، بين الحقّ والباطل، بين الأنا والآخر؟ وهل عاش الإنسانُ حينا من الدهر دون حكايةٍ، دون قصّة، دون خرافةٍ يخرّفها؟ هل يحقّ لي الآن أن أسم الإنسان بأنّه إنسانٌ مُخرِّفٌ Homo Fabulants؟

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: ة الخل ق فی کتب القص ة

إقرأ أيضاً:

انتخابات تونس.. الفخّ الذي وقع فيه قيس سعيد

تكاد تكون أجواء الانتخابات الرئاسية التونسية المزمع إجراؤها في السادس من أكتوبر/تشرين الأول القادم فريدة من نوعها، وربما لا مثيل لها في عالمَي الديمقراطية والاستبداد، ما جعل فهم مجرياتها واستشراف تطوراتها أمرًا مستعصيًا ليس على المتابعين فقط، بل حتى على الأطراف المعنية بها مباشرة، مثل المترشحين، وغير مباشرة، مثل الإعلام ومنظمات المجتمع المدني، وخاصة الناشطة في مجال مراقبة الانتخابات.

جاءت بدايات المسار الانتخابي متعثرة ومشوبة بالعديد من الخروقات القانونية والإجرائية، اعتبرها العديد من فقهاء القانون الدستوري والإداري – أبرزهم القاضي الإداري المتقاعد الأستاذ أحمد صواب – اجتهادات غير صائبة من هيئة الانتخابات "المعيّنة"، تجعل الإطار القانوني المنظم لهذه الانتخابات قابلًا للطعن، وتجعل كل المسار الانتخابي قابلًا للإلغاء.

كشفت وقائع المسار الانتخابي لاحقًا أن هذه الخروقات والأخطاء قصديّة، وأنها جزء من هندسة شاملة للمسار الانتخابي وضعتها جهة معينة متحكّمة لا تقبل مراجعتها أو العدول عنها لا جزئيًا ولا كليًا مهما تعالت الأصوات المطالبة بتصحيحها وإعادة الأمور إلى نصابها، بما يوفر الحد الأدنى من ضمانات النزاهة والشفافية والديمقراطية وتكافؤ الفرص.

يمكن الجزم بأن لا شيء يتعلق بهذه الانتخابات قد جاء سليمًا، بما يعني أن المنظومة المشرفة على الانتخابات من هيئة عليا وإدارات متداخلة – مثل وزارتَي العدل والداخلية – قد فشلت فشلًا ذريعًا وفجًا في أداء واجباتها المنصوص عليها بالدستور والقانون، فشلًا نقل الانتخابات من عرس انتخابي زمن عشرية الانتقال الديمقراطي (2011-2021) إلى مجزرة انتخابية، ونقل هيئة الانتخابات من الاستقلالية والحيادية والنزاهة إلى كونها معيّنة وخادمة لأجندة الحاكم.

وبالنتيجة، يكون انقلاب قيس سعيد (25 يوليو/تموز 2021)، قد أعطى التونسيين من الانتخابات الأسوأ والأكثر رداءة في تاريخ تونس.

فهل يمكن اعتبار هذه النسخة نشازًا عن المسار السياسي الذي بدأه قيس سعيد الرئيس المنتهية ولايته في 25 يوليو/تموز 2021، أم أن ما يجري ليس سوى نفسٍ آخر مما حصل في 25 يوليو/تموز؟ وهل ما حصل ويحصل من حراك المنتظمَين: السياسي والمدني في تونس في علاقة بهذه الانتخابات، أمر عرضيّ سيزول بمرور الانتخابات أم تعبير عن تطور مهم ونوعي في المشهد السياسي التونسي؟

فرض المشروع السياسي الشخصي

لم يدّخر قيس سعيد أي جهد ولم يفوّت أي فرصة منذ توليه رئاسة الدولة في أكتوبر/تشرين الأول 2019 لإبداء نقده ورفضه النظامين: السياسي والمؤسساتي اللذين جاء بهما دستور الثورة في 2014. حاول في البداية اختراق المشهد السياسي الرسمي (الحكومي) من خلال المغالاة في استعمال الصلاحيات التي يخوّلها له الدستور، كرفض منح نواب مجلس الشعب الجواز الدبلوماسي، ورفض تدخل الأمن الرئاسي في ضبط الأمن في فضاء المجلس، وامتعاضه من أنشطة رئيس مجلس نواب الشعب الأستاذ راشد الغنوشي، وخاصة مقابلاته مع الدبلوماسيين الأجانب المقيمين بتونس وتنقلاته الخارجية سواء بصفته رئيسًا للبرلمان (الدبلوماسية البرلمانية)، أو بصفته رئيسًا لحزب حركة النهضة (الدبلوماسية الشعبية).

ظهرت ذروة مغالاة سعيد في استعمال صلاحياته الدستورية "المحدودة" في اختيار رئيس الحكومة إلياس الفخفاخ بعد أن حجب البرلمان الثقة عن حكومة الحبيب الجملي المكلف من حركة النهضة الفائزة في تشريعيات 2019. ولم يكتفِ باختيار رجل من خارج الأحزاب السياسية البرلمانية، بل تعدّى ذلك إلى تجاوز صلاحياته بالتدخل في تشكيل الحكومة، وتحديد سياساتها وعلاقاتها لتصبح حكومة الرئيس وليست حكومة الأغلبية البرلمانية.

مثّل ذلك منعرجًا في الأزمة السياسية والنافذة التي ولج من خلالها قيس سعيد إلى المشهد السياسي كفاعل مؤثّر في تجاوز صارخ للدستور. وتعمّق اختراقه للمشهد السياسي مع حكومة هشام المشيشي الذي اختاره أيضًا من خارج الفضاء الحزبي والسياسي، ومن خارج المشاورات مع الأحزاب، وخاصة منها البرلمانية، ثم ضاعف من تدخلاته في تشكيل الحكومة، وفي ضبط سياساتها وعلاقته وخاصة بالبرلمان.

كان هذا الاختراق مدخلًا لإعادة تشكيل المشهد السياسي لا في اتجاه معافاته، وإنما من أجل تعفينه إلى درجة تجعل منه مرفوضًا في المزاج العام للتونسيين. وكان من نتائج هذا الاختراق الذي يواصل التوسع إحداث بدعة سياسية ربما غير مسبوقة في العالم، تمثلت في وجود تحالفين متنافرين في منظومة الحكم، تحالف برلماني يمثل الأغلبية، هو (النهضة وحلفاؤها)، وتحالف حكومي أقلّي (رئيس الحكومة الفخفاخ مع حركة الشعب والتيار الديمقراطي)، على حساب حركة النهضة ذات التمثيل البرلماني الأوسع.

لم تكن كل خطابات ومواقف وقرارات قيس سعيد طيلة السنوات الخمسة لحكمه إلا تعبيرًا عن عقيدته السياسية التي بقيت صارمة وثابتة رغم الفشل البيّن والذريع في إدارة الحكم وحصيلته الصفرية من الإنجازات

كان من الطبيعي أن يؤدي هذا الانفصام بين الائتلافين إلى تعطّل المرفق الحكومي، ودخول البلاد في أزمة سياسية خانقة أدت إلى استقالة الحكومة.. فأعاد قيس سعيد نفس النهج مع حكومة هشام المشيشي الذي اختار – على خلاف الفخفاخ – الخروجَ على إرادة قيس سعيد، وبناء الثقة مع الأغلبية البرلمانية والاستناد إليها في تمرير قوانينه.

لم يقبل قيس سعيد اختيار المشيشي نهج الوصل بين الحكومة والأغلبية البرلمانية، فتوسّع بذلك الفتق بين الأضلع الثلاثة لمنظومة الحكم: (رئاسة الجمهورية، الحكومة والبرلمان)، وتعمقت الأزمة وتوالدت حلقاتها وبقي سعيد يتصيّد الفرص لتسديد الضربة القاضية لمنظومة الحكم، ولم يكن ليجد أفضل من أزمة "كوفيد-19″، وتخبط الحكومة في إدارتها، ووصول التعفُّن في البرلمان إلى ذروته.

كشف السلوك السياسي لقيس سعيد ومنطوق خطابه السياسي المشحون ضد المنظومة السياسية بكل أطرافها الحزبية والمدنية، حقيقةَ عقيدته السياسية التي ظهرت جلية مساء 25 يوليو/تموز 2021 بإعلان الإجراءات الاستثنائية، وغلق البرلمان بدبابة وإقالة الحكومة.

كان انقلابًا واضحًا على الشرعية، وعلى المسار الديمقراطي، تأكد لاحقًا بإجراءات 22 سبتمبر/أيلول 2021 التي أعلن فيها نفسه رسميًا الحاكم بأمره الجامع لكل السلطات دون رقابة أو مساءلة والمحتكر لمعاني الوطنية والسيادة والقائد لحركة تحرّر وطني لتونس والمعبّر عن رؤية جديدة للعالم وللإنسانية.

لم تكن كل خطابات ومواقف وقرارات قيس سعيد طيلة السنوات الخمسة لحكمه إلا تعبيرًا عن عقيدته السياسية التي بقيت صارمة وثابتة رغم الفشل البيّن والذريع في إدارة الحكم وحصيلته الصفرية من الإنجازات والوعود التي بقيت حبرًا على ورق.

ورغم فراغ الحزام السياسي من حوله وتراجع الحزام الشعبي الداعم له إلى مستويات دنيا، لم يبدِ أي انزعاج لا من ذلك ولا من تصاعد وتوسع المعارضة ضده، ولا من تقارير المنظمات الدولية ومواقف بعض الحكومات الناقدة لسيرته في الحكم وانزلاقه نحو الاستبداد السياسي والانهيار الاقتصادي والاحتقان الاجتماعي والانقسام المجتمعي، ولا من سيل المقالات الإعلامية الناقدة الصادرة عن كبرى المجلات والدوريات العالمية.

ويؤكد عدم انزعاجه من كل ما تقدم طبيعة عقيدته السياسية ورؤيته لنفسه على أنه "جاء من كوكب آخر" وأنه "غريب في قومه مثل صالح في ثمود" وأنه "مبعوث العناية الإلهية"؛ لتحرير تونس، وأنه بناءً على كل ذلك "لن يسلم تونس إلا لوطنيّ"، وأنه لا يؤمن بالانتخابات أصلًا، حيث سبق أن أعلن قبل انتخابه في 2019 نيّته إلغاء الانتخابات التشريعية، وأنه لن يصوت لنفسه لأن الانتخابات، من وجهة نظره، مخترقةٌ بالمال الفاسد ومدخلٌ لمرور الفاسدين والخونة إلى الحكم.

يؤكد كل ما سبق أن الانتخابات الرئاسية ليست خيارًا لقيس سعيد، وإنما خياره الذي ينسجم مع عقيدته السياسية هو البيعة الشعبية بعيدًا عن المنافسة. على الأرجح أن قرار قيس سعيد إجراء الانتخابات الرئاسية في 2024 على أساس دستور 2014 قد أملته عليه جهة معيّنة أو فرضته ظروف وسياقات محددة، وربما الأمران معًا. وإذا رضخ قيس سعيد لإجراء الرئاسيات في 2024، فإنه اختار هندستها بالكامل هندسة تفرغها من مضمونها، وتجعل منها بيعة شعبية له بعد إقصاء كل المنافسين، وخاصةً الجديين منهم.

الانتفاضة الهادئة

على خلاف ما كان يحدّث به قيس سعيد نفسه من أنه قد نجح في إلغاء العملية السياسية، وفي غلق كل منافذها وتسييجها بمنسوب عالٍ من عدم الثقة الشعبية فيها وفي فاعليها، أبانت ديناميكية الانتخابات نسبية كل ذلك.

فقد ردّت الساحة السياسية على استباقه إفراغ الساحة باعتقال أبرز معارضيه ومنافسيه من القادة السياسيين، بأن قدم عدد كبير من السياسيين من بينهم مرشحون جدّيون ترشحهم لخوض الانتخابات، محدثين بذلك خرقًا معتبرًا في إستراتيجية قيس سعيد الانتخابية؛ خرقًا سيمثل لاحقًا مدخلًا مهمًا لإطلاق حراك سياسي ومواطني ومدني أربك سعيد ومنظومته الانتخابية، وأوقعهما في أخطاء إجرائية وخطايا قانونية كبرى قلبت تقريبًا المعادلة، وأفقدت سعيد وفريقه المبادرة، وجعلتهما في الزاوية وحيدين تقريبًا في مواجهة الجميع.

وتؤشر مجريات المسار الانتخابي بكل تعرجاته وتداعياته على إرهاصات تشكل جديد للمشهد السياسي العام بعد ثلاث سنوات من انقلاب 25 يوليو/تموز 2021. يمكن تبيّن ذلك بوضوح من خلال المؤشرات التالية:

تعميق الفرز بين حزامين: حزام لا ينفكّ يتوسع ويتعمق، قوامُه القوى الديمقراطية المعتدلة الساعية لإنهاء حكم سعيد باعتباره انقلابًا أسسّ لحكم فردي تسلّطي هو نقيض للثورة ومكتسباتها وخاصة الحريات والديمقراطية، فضلًا على أنه فاشل في كل المجالات والمسارات، مقابل حزام لا ينفكّ يتراجع ويتقلص ويفقد التأثير، قوامُه الأطراف الداعمة لقيس سعيد، إما لطبيعتها الوظيفية، وإما لأنها تبحث عن تموقع سياسي لم تنجح في كسبه بجهدها الذاتي.  تجاوز الموقف الصفري من عشرية الانتقال الديمقراطي ومن الفاعلين الرئيسيين فيها، والابتعاد عن وصفها بالعشرية السوداء، والوسطية في تقييمها بسلبياتها وإنجازاتها. تراجع خطاب الإقصاء والتخوين خاصة داخل العائلة الديمقراطية المعتدلة، مقابل التركيز على خطاب جامع يتجه أكثر نحو المستقبل حول جملة من المشتركات تبدو الحريات والديمقراطية محورها.

كانت هذه الانتخابات كفيلة بأن تمنحه شرعية دستورية جديدة ينهي بها سردية المعارضة عن الانقلاب، إلا أن ثقته في نفسه وفي مساره جعلته يفوّت هذه الفرصة ليجد نفسه مجبرًا على إجراء انتخابات في مواجهة الجميع

إذا كانت هذه "الثقافة السياسية الناشئة" تحتاج مزيدًا من الوقت حتى تنجح في كل الاختبارات التي تنتظرها لتتشكل ويصلب عودها وتقف على سوقها، ويمكن البناء عليها في توليد مشهد سياسي بديل عن مشهدَي 25 يوليو/تموز 2021 وما قبله، فإن الأداء السيئ لقيس سعيد وأذرعه في إدارة المسار الانتخابي، إضافة إلى فشله في إدارة الحكم قد ساهما في تطور الفضاء السياسي ومنحه الفرصة للتعبير عن نفسه بوضوح في خضم التدافع الذي يحفّ بالمسار الانتخابي الرئاسي.

في مسار آخر، ساهمت ديناميكية الانتخابات في كسر حاجز الخوف الذي حاول سعيد فرضه على الشعب عامةً وعلى النشطاء السياسيين خاصة لصرفهم نهائيًا عن الاهتمام بالشأن العام. مثّلت حملات تجميع التزكيات الشعبية للمترشحين فرصة هامة ربما انتظرتها شرائح من التونسيين لتجدد اهتمامها بالشأن العام في حركة مواطنية هادئة تختزن الكثير من الغضب على سعيد وحكمه، ويحدوها أمل في أن تكون الانتخابات الرئاسية فرصة لإحداث التغيير عبر تداول سلمي للسلطة.

لم يقتصر المشهد عند حدود هذه الحركة المواطنية "المباغتة"، بل توسّع كميًا ونوعيًا مع تجنّد قوى وازنة في المجتمع المدني للتصدّي لخروقات هيئة الانتخابات عبر مسارات متعددة من أهمها القضاء الإداري، الذي كان حاسمًا وغير متردد في قبول طعون المترشحين الذين أقصتهم هيئة الانتخابات والحكم بإعادتهم إلى السباق، الشيء الذي أربك الهيئة وأظهرها في مظهر المارقة عن القانون وأفسد على قيس سعيد إستراتيجيته الانتخابية، وسحب منه المبادرة.

من جانب آخر، مثّلت كلمة نور الدين الطبوبي الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل في افتتاح المجلس الوطني للمنظمة منعرجًا نوعيًا في موقف الاتحاد مما يجري في تونس منذ 25 يوليو/تموز 2021، انتقل فيه من المباركة والمساندة، ثم الشك والتردد، إلى نقد المسار وحصائله السلبية السياسية والاجتماعية، نقدًا لا يخلو من الوضوح والصرامة.

فخّ الانتخابات

كانت أمام قيس سعيد فرصة إجراء انتخابات رئاسية سابقة لأوانها في السنة الأولى من انقلابه ربما بدون منافسة في سياق زخم "شعبي" مؤيّد له. كانت هذه الانتخابات كفيلة بأن تمنحه شرعية دستورية جديدة ينهي بها سردية المعارضة عن الانقلاب، إلا أن ثقته في نفسه وفي مساره جعلته يفوّت هذه الفرصة ليجد نفسه بعد ثلاث سنوات من انقلابه مجبرًا على إجراء انتخابات يقف فيها وحيدًا تقريبًا في مواجهة الجميع، وهو فاقد لعذريته السياسية وقد نفدت أرصدته تقريبًا ومثقل بحصيلة صفرية من الإنجازات وبتراجع حاد في شعبيته وبتهافت صارخ لسرديته.

بهذا المعنى، تبدو الانتخابات الرئاسية الفخّ الذي وقع فيه قيس سعيد أو الذي سيق إليه والذي قد لا يخرج منه، وإذا ما خرج منه فسيكون خاسرًا-  وإن حصل على عهدة ثانية – مكسورًا ومطعونًا في شرعيته فاقدًا للأفق، ولا يملك من مقومات الاستمرار في الحكم أي شيء تقريبًا، مقابل معارضة في صعود ضمن حركية إيجابية. لهذا كله، قالها قيس سعيد: هذه الانتخابات هي حرب بقاء أو فناء.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلامية

مقالات مشابهة

  • انتخابات تونس.. الفخّ الذي وقع فيه قيس سعيد
  • وادي بيش الخلَّاب.. لوحة طبيعة تتجدد في خريف جازان
  • دعاء لفك السحر.. ردده يطفئ نار الشيطان ويطرد الجن فورا
  • من هو الطرف الذي تأمر على منتخب اليمن وأقصاه من البطولة؟
  • بالصورة.. من القصص الرائعه في حياة لاعبي كرة القدم.. رجل سوداني ينقذ موهبة لاعب سعودي ويتسبب في عودته من غينيا إلى السعودية ليتحول بعدها لواحد من أشهر المهاجمين بالمملكة
  • من الذي سمى الرسول باسم "محمد"؟
  • الجميع ينتظر.. تسريب يكشف المعالج الذي اعتمتده أبل في آيفون 16
  • «إنستغرام» يتيح إضافة التعليقات إلى القصص
  • الحكاية في التراث الشعبي العربي.. مصدر إلهام وإنعاش الذاكرة الجماعية
  • ”ما الذي سيحدث لك في القبر؟.. أدعية وسنن قد تنقذك من العذاب!”