لجريدة عمان:
2024-11-06@01:56:27 GMT

بين ضفتين.. الشره المعرفي

تاريخ النشر: 6th, August 2024 GMT

بين ضفتين.. الشره المعرفي

ربما أحيل ذلك إلى التقدم في العمر. منذ فترة تستبد بي رغبة قراءة الكتب القديمة. ليس معنى ذلك أني "طلقت" الحداثة، ولكن أكتشف فعلا، كم فاتني من أشياء "قديمة"، تبدو لي الآن، أكثر حداثة من كتابات معاصرين كُثر. من هذه الاكتشافات الأخيرة، اسم جيوفاني بيكو ديلا ميراندولا (1463 – 1494)، الذي يبدو وفي الوقت عينه، شخصية أسطورية، ومفكرا مجهولا إلى حدّ كبير.

يجسد الجانب الأول منه، الشره المعرفي. من دون شك، يستحق هذا الصيت وهذه السمعة؛ إذ لا بدّ أن نشعر بالانبهار بسعة المعرفة التي كان يتمتع بها هذا الأرستقراطي الذي عاش في أواخر القرن الخامس عشر، والذي ولد بالقرب من فيرارا، وتوفي وهو في الواحدة والثلاثين من عمره. عُرف عنه أنه كان قارئا لا يكلّ، ومهتما بكل أنواع المعارف. بالطبع كان يقرأ اللاتينية واليونانية القديمة، ولكن أيضا الكلدانية والعربية والعبرية. كان يعرف أفلاطون وأرسطو والفلاسفة السكولائيين واللاهوت والقانون الكنسي والمذاهب الغنوصية وما إلى ذلك، بعمق تُشكل الأطروحات التي نشرها وهو في الخامسة والعشرين من عمره، خلاصة هذه الثقافة الموسوعية، ومع ذلك حاول "دودة الكتب" هذه، كما أطلق عليه، خطف زوجة أحد أنسباء لورنزو دي ميديشي، وهو عمل "فذ" سبّب له الإقامة في السجن لمدة قصيرة، مثلما سبب له بعض الجراح نتيجة المشاجرة مع هذا النسيب.

لم تثبط هذه الأحداث عزيمة ديلا ميراندولا على الإطلاق، بل نجده يعرض بأن يدفع تكاليف رحلة أولئك العلماء الأوروبيين إلى روما، الذين يوافقون بالطبع على مناقشة طروحاته التسعمائة. بيد أنه تمّ منع إقامة المؤتمر وتمّت إدانة الطروحات وأتلفت من قبل اللجنة البابوية التي اعتبرتها "هرطقة ومن المرجح أن تثير وقاحة اليهود وتفضل الفنون المعادية للعقيدة الكاثوليكية والجنس البشري"؛ إذ إنه اعتبر أن "الإنسان حيوان: هذه الفرضية تنطبق على جميع الأفراد الفاسدين من النوع البشري"، وإزاء هذا الأمر، وإزاء شبه الحملة التي أثيرت ضده من جراء مزاعم اللجنة البابوية، اضطر إلى مغادرة إيطاليا واللجوء إلى فرنسا، لكن أُلقي القبض عليه في مدينة ليون ووضع بالسجن لعدة أسابيع في زنزانة فانسان. بعد خروجه من السجن عاد إلى مدينة فلورنسا الإيطالية؛ حيث كتب هناك بعضا من مؤلفاته الرئيسية، قبل أن يموت في ظروف غامضة، في اليوم الذي دخلت فيه جحافل قوات شارل الثامن إلى إيطاليا. في ذلك النهار ألقى خطبته الجنائزية.

***

يُشكّل كتاب "الاستنتاجات التسعمائة" -وهو لم يترجم كاملا من اللاتينية إلا في العام 1993، صدر عن منشورات "ليه بل ليتر- واحدًا من أكثر النصوص الأساسية والأكثر إثارة للجدل والأسطورية في النزعة الإنسانية. وُسِمَ هذا الكتاب بالهرطقة من قبل البعض وأصبح "كتابًا مقدسا" بالنسبة إلى آخرين، وانتُزع من أيدي ناشره الأول وأُحرق علنًا لمدة أربعة عشر يومًا متتالية، وقد أُعيد طبعه سرًا، لكنه لم يُترجم مطلقًا لأكثر من خمسة قرون. كتاب غامض ومُتقن؛ حيث لا يمكن لأحد أن يدعي التقدم من دون أن يرتكب ذاك الخطأ: "الخوف الخرافي الذي يمنعه من لمسه". هو بمثابة تلخيص لجميع أنواع المعارف وجميع المذاهب.

كذلك تشكل الاستنتاجات عقدة وجود ديلا ميراندولا المبهر المأساوية، إذ نصبه الخيال الشعبي وإعجاب معاصريه به بكونه الشخصية الأكثر شهرة وتألقًا في النزعة الإنسانية الصاعدة؛ لأنها الاستنتاجات، وهي نوع من تجسيد المعرفة المطلقة والعلم الشامل من خلال النطق بالمسائل المنطقية أو الأخلاقية أو الميتافيزيقية، كما هي وضع قواعد للتفسير اللغوي والسحري والدفين والباطني، لذلك أحدث هذا العمل ثورة حقيقية في تاريخ الفلسفة.

***

يُؤكّد كل من جيزيبي تونيون الذي كتب مقدمة -دراسة لــ أعماله الفلسفية (منشورات "بوف") وإيف هيرسان الذي ترجم وقدم كتاب "عن كرامة الإنسان" (منشورات "دو ليكلا")، أن هذه المعرفة المذهلة التي كان يمتلكها، ترتكز على مشروع فلسفي أصيل. وإذا كان بيكو، في كتاباته يتردد على جميع المدارس الفلسفية فإن ذلك، كما يشير هيرسان، هو من أجل التغلب على تناقضات الأنساق المختلفة من دون استبعاد أي واحد منها، كي يستطيع أن يستخرج منها حقيقة كونية. مما دفعه إلى الدفاع عن الفكر السكولائي الذي تعرّض لسوء المعاملة على حدّ ما، بعد اكتشاف الفلاسفة الإغريق والعرب، والتحقق من جهة الكابالا (الباطن) الذي تفوح منه رائحة التشرد. يلاحظ تونيون أن ديلا ميراندولا يجسّد روح عصر النهضة من خلال شغفه للمعرفة، ولكن وقبل أي شيء آخر من خلال المكانة التي يمنحها للإنسان في الكون يعتمد البشر على الله، ولكن لديهم دور محدد كوسطاء، وهو ما يميزهم عن الأنواع الحيوانية الأخرى. يطور ديلا ميراندولا هذا المفهوم في أطروحته "عن كرامة الإنسان" وهي معالجة مهمة ورائعة ذات وضوح وإيجاز ودقة، وهي صفات ليست دائما من صفات المؤلف.

لقد تمتّع آدم وامتلك خاصية ما سوف يصبح عليه. إن جوهر كرامة الإنسان هو ممارسة حريته، وهذا ما يمنحه الحق في التشكيك في طبيعة الله والكون كما في طبيعته هو نفسه. وبكونه متحصنا بهذا الاقتناع، فسوف يكتب ديلا ميراندولا كتابا عظيما آخر "الوجود والواحد"، وهو عمل نموذجي لعصر النهضة، حيث تتعايش المعتقدات القديمة بأفكار جديدة.

ما الذي يميز الإنسان عن الحيوانات؟ بالنسبة إلى بيكو، الإنسان ليس كائنًا طبيعيًا، لديه خصوصية تميزه عن الحيوانات: الحرية ولكن أيضًا الكمال. من هنا يبدأ تأمله، الذي جاء بمثابة انعكاس عميق لعصره، فالإنسان بالنسبة إليه مصطنع، وليس لديه المواهب الطبيعية أو مكانته الخاصة التي تنسب إلى الحيوانات. بالتأكيد، شكلت أفكار بيكو هذه أساس حقوق الإنسان، وقد سبق كثيرًا العقد الطبيعي للحيوانات.

وقد شكل التأكيد على حق التحرر السبب الرئيس لمشاكله. ومع ذلك، لم يكن إيمانه واجهة يختفي خلفها. لقد رغب دوما في الجمع ما بين الدين والفلسفة. في سنواته الأخيرة، يبدو أنه كرّس نفسه بشكل خاص لهذه الفكرة الأخيرة، وفي رسائله إلى ابن أخيه، قبل أشهر قليلة من وفاته، نجد فيها بعض اللهجات الباسكالية (نسبة إلى باسكال، الفيلسوف الفرنسي) التي تأتي على قدر كبير من المرارة: "حكمة العالم جهالة أمام الله"، أو أيضا: "لا تأخذ في الاعتبار أحكام البشر".

ثمة جملة توقفت عندها مطولا، قد تبدو عادية عند البعض، لكنها فعلا استغرقتني، يقول: "للإنسان الحرية في التراجع نحو الكائنات الأدنى وبأن يصبح بهيمة، أو أن يرتقي من خلال الوصول إلى أشياء إلهية أعلى". لقد كان جيوفاني بيكو ديلا ميراندولا يعرف بالتأكيد عمّا كان يتكلم.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: من خلال

إقرأ أيضاً:

"الاقتصاد المزدهر" التحدي الذي ينتظر هاريس أو ترامب

في خضم معركة الانتخابات الأمريكية بين كامالا هاريس، والرئيس السابق دونالد ترامب، يعيش الاقتصاد الأمريكي انتعاشة قوية، تحتم على الفائز ضرورة الالتزام بالمحافظة على وتيرته المتنامية.

وتقول شبكة "سي إن بي سي" الأمريكية في تقرير، إن موجة الأخبار الاقتصادية الجيدة بشكل ملحوظ على مدار الأسبوع الماضي قد تفرض التزاماً شاقاً على الذي سينتخب رئيساً للولايات المتحدة في 5 نوفمبر (تشرين الثاني)، بتجنب إفساد الأمر، ومواصلة الانتعاشة.
وقبل يومين من 5 نوفمبر (تشرين الثاني)، تراجع التضخم، وتفوق خلق الوظائف على التقديرات، وازدهرت بيانات مبيعات العقارات، وارتفعت معنويات المستهلكين نحو التفاؤل، ونما الناتج المحلي الإجمالي بوتيرة سريعة، وإن كان أقل قليلاً من بعض التوقعات. 

The next U.S. president could inherit a booming economy. That's a daunting challenge. https://t.co/SNXD2Mi8KS

— CNBC (@CNBC) November 2, 2024

وارتفع مؤشر "ستاندرد آند بورز 500" بأكثر من 50% منذ تولى الرئيس جو بايدن منصبه في يناير (كانون الثاني) 2021، و24٪%حتى الآن هذا العام، وفق شركة "مورنينغ كونسلت".

ومنذ بداية السابق بين نائب الرئيس كامالا هاريس والرئيس السابق دونالد ترامب، يقدم المرشحان نفسيهما باعتبارهما أفضل من يتولى رعاية الاقتصاد الأمريكي في المستقبل. 

وفي الوقت نفسه، يعمل المرشحان على تأطير نفسيهما باعتبارهما انحرافاً عن الوضع الراهن، والاعتراف بغضب الناخبين على الاقتصاد، رغم البيانات القوية للاقتصاد الكلي.

انهيار محتمل

ووفق استطلاع رأي لمؤسسة "يوغوف" في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، قال 44% من المشاركين البالغين في الولايات المتحدة، إنهم يعتقدون أن "الانهيار الاقتصادي الكامل" محتمل إلى حد ما، إن لم يكن إلى حد كبير. وشمل الاستطلاع 1113 مو أمريكياً بالغاً من 17 إلى 19 في الشهر الماضي.
ودفع التشاؤم الاقتصادي للناخبين، ترامب وهاريس إلى طرح مقترحات سياسية تعد بمستقبل اقتصادي جديد للأمريكيين. 

وتعهد ترامب بفرض تعريفات جمركية شاملة على كل الواردات من الخارج، وبرنامج شامل لترحيل المهاجرين، وتعميق تخفيضات الضرائب على الشركات.
ويلاحظ خبراء الاقتصاد وبعض حلفاء ترامب، أن التعريفات الجمركية الشاملة التي اقترحها، والترحيل الجماعي، وتخفيضات الضرائب قد ترسل، على الأقل مؤقتاً، موجة صدمة كبرى للاقتصاد، ما قد يؤدي إلى انهيارات محتملة في السوق. 

انتقادات 

وفي الوقت نفسه، تريد هاريس رفع معدلات الضريبة على الشركات، وحظر فيدرالي "للتلاعب بالأسعار"، وتقديم إعانات وائتمانات ضريبية لتطوير الإسكان، ورعاية الأطفال.
ووضعت هاريس نفسها في مواجهة موجة كبيرة من الانتقادات أطلقها خبراء الاقتصاد وقادة شركات أمريكية كبرى بسبب مقترحها حظر التلاعب بالأسعار، وخططها لزيادة الضرائب على الشركات. 

وقال جاستن وولفيرز، أستاذ السياسة العامة والاقتصاد في جامعة ميشيغان، إن الاقتصاد المستقر سيكون فرصة للرئيس المقبل للتركيز فعلياً على السياسات التي خاض حملته الانتخابية على أساسها.
وعلى نقيض ذلك، تولى الرئيس السابق باراك أوباما، وبايدن منصبيهما في وقت "كان استقرار الاقتصاد يأتي قبل أي من أولويات الحكم الطبيعية"، كما قال وولفرز. وأضاف "ما كان عليهما فعله هو إخماد حريق الركود بدل متابعة برامجهما".
وأضاف وولفرز، أن الواقع الحالي يجعل الانتخابات الرئاسية أكثر أهمية. وتابع "إذا كنت في خضم الركود، سواء كنت ديمقراطياً أو جمهورياً، فلك مهمة واحدة، الخروج من الركود". وأكد "إذا كان ما يريده ترامب، على سبيل المثال، تخفيضات ضريبية للأثرياء وما تريده هاريس فرض ضرائب على الأثرياء لمنح تخفيضات للطبقة المتوسطة والطبقة العاملة، فقد يكون لدى كل منهما المجال لعمل ذلك".

وفي الحالتين، سيتعين على الرئيس المقبل أن يحفظ توازناً دقيقاً بتنفيذ تعهداته لإصلاح الاقتصاد دون إخلال بالمسار الحالي للنمو الاقتصادي الحقيقي.

مقالات مشابهة

  • السامرائي: وجهة نظرنا هي الذهاب مع الفريق السياسي الذي يحقق النجاح لجمهورنا
  • فراغ الكون هو الذي يعطي حياتنا المعنى
  • حقيبة قرب مدرسة أثارت بلبلة... ما الذي تبيّن بعد الكشف عليها؟
  • بصواريخ نوعيّة... ما الهدق الإسرائيليّ الذي قصفه حزب الله؟
  • طلاب برنامج علم النفس الإكلينيكي ببني سويف الأهلية يشاركون في مؤتمر الفحص المعرفي
  • ما الخطر الذي يخشاه الأردنيون؟
  • هذا هو الرجل الذي التقط أول صورة في العالم لشبح
  • العلاج السلوكي المعرفي للأرق أثناء الحمل يقلل اكتئاب ما بعد الولادة
  • ما هو الجدار الأزرق الذي قد يتسبب في فوز هاريس بالانتخابات؟
  • "الاقتصاد المزدهر" التحدي الذي ينتظر هاريس أو ترامب