ربما أحيل ذلك إلى التقدم في العمر. منذ فترة تستبد بي رغبة قراءة الكتب القديمة. ليس معنى ذلك أني "طلقت" الحداثة، ولكن أكتشف فعلا، كم فاتني من أشياء "قديمة"، تبدو لي الآن، أكثر حداثة من كتابات معاصرين كُثر. من هذه الاكتشافات الأخيرة، اسم جيوفاني بيكو ديلا ميراندولا (1463 – 1494)، الذي يبدو وفي الوقت عينه، شخصية أسطورية، ومفكرا مجهولا إلى حدّ كبير.
لم تثبط هذه الأحداث عزيمة ديلا ميراندولا على الإطلاق، بل نجده يعرض بأن يدفع تكاليف رحلة أولئك العلماء الأوروبيين إلى روما، الذين يوافقون بالطبع على مناقشة طروحاته التسعمائة. بيد أنه تمّ منع إقامة المؤتمر وتمّت إدانة الطروحات وأتلفت من قبل اللجنة البابوية التي اعتبرتها "هرطقة ومن المرجح أن تثير وقاحة اليهود وتفضل الفنون المعادية للعقيدة الكاثوليكية والجنس البشري"؛ إذ إنه اعتبر أن "الإنسان حيوان: هذه الفرضية تنطبق على جميع الأفراد الفاسدين من النوع البشري"، وإزاء هذا الأمر، وإزاء شبه الحملة التي أثيرت ضده من جراء مزاعم اللجنة البابوية، اضطر إلى مغادرة إيطاليا واللجوء إلى فرنسا، لكن أُلقي القبض عليه في مدينة ليون ووضع بالسجن لعدة أسابيع في زنزانة فانسان. بعد خروجه من السجن عاد إلى مدينة فلورنسا الإيطالية؛ حيث كتب هناك بعضا من مؤلفاته الرئيسية، قبل أن يموت في ظروف غامضة، في اليوم الذي دخلت فيه جحافل قوات شارل الثامن إلى إيطاليا. في ذلك النهار ألقى خطبته الجنائزية.
***
يُشكّل كتاب "الاستنتاجات التسعمائة" -وهو لم يترجم كاملا من اللاتينية إلا في العام 1993، صدر عن منشورات "ليه بل ليتر- واحدًا من أكثر النصوص الأساسية والأكثر إثارة للجدل والأسطورية في النزعة الإنسانية. وُسِمَ هذا الكتاب بالهرطقة من قبل البعض وأصبح "كتابًا مقدسا" بالنسبة إلى آخرين، وانتُزع من أيدي ناشره الأول وأُحرق علنًا لمدة أربعة عشر يومًا متتالية، وقد أُعيد طبعه سرًا، لكنه لم يُترجم مطلقًا لأكثر من خمسة قرون. كتاب غامض ومُتقن؛ حيث لا يمكن لأحد أن يدعي التقدم من دون أن يرتكب ذاك الخطأ: "الخوف الخرافي الذي يمنعه من لمسه". هو بمثابة تلخيص لجميع أنواع المعارف وجميع المذاهب.
كذلك تشكل الاستنتاجات عقدة وجود ديلا ميراندولا المبهر المأساوية، إذ نصبه الخيال الشعبي وإعجاب معاصريه به بكونه الشخصية الأكثر شهرة وتألقًا في النزعة الإنسانية الصاعدة؛ لأنها الاستنتاجات، وهي نوع من تجسيد المعرفة المطلقة والعلم الشامل من خلال النطق بالمسائل المنطقية أو الأخلاقية أو الميتافيزيقية، كما هي وضع قواعد للتفسير اللغوي والسحري والدفين والباطني، لذلك أحدث هذا العمل ثورة حقيقية في تاريخ الفلسفة.
***
يُؤكّد كل من جيزيبي تونيون الذي كتب مقدمة -دراسة لــ أعماله الفلسفية (منشورات "بوف") وإيف هيرسان الذي ترجم وقدم كتاب "عن كرامة الإنسان" (منشورات "دو ليكلا")، أن هذه المعرفة المذهلة التي كان يمتلكها، ترتكز على مشروع فلسفي أصيل. وإذا كان بيكو، في كتاباته يتردد على جميع المدارس الفلسفية فإن ذلك، كما يشير هيرسان، هو من أجل التغلب على تناقضات الأنساق المختلفة من دون استبعاد أي واحد منها، كي يستطيع أن يستخرج منها حقيقة كونية. مما دفعه إلى الدفاع عن الفكر السكولائي الذي تعرّض لسوء المعاملة على حدّ ما، بعد اكتشاف الفلاسفة الإغريق والعرب، والتحقق من جهة الكابالا (الباطن) الذي تفوح منه رائحة التشرد. يلاحظ تونيون أن ديلا ميراندولا يجسّد روح عصر النهضة من خلال شغفه للمعرفة، ولكن وقبل أي شيء آخر من خلال المكانة التي يمنحها للإنسان في الكون يعتمد البشر على الله، ولكن لديهم دور محدد كوسطاء، وهو ما يميزهم عن الأنواع الحيوانية الأخرى. يطور ديلا ميراندولا هذا المفهوم في أطروحته "عن كرامة الإنسان" وهي معالجة مهمة ورائعة ذات وضوح وإيجاز ودقة، وهي صفات ليست دائما من صفات المؤلف.
لقد تمتّع آدم وامتلك خاصية ما سوف يصبح عليه. إن جوهر كرامة الإنسان هو ممارسة حريته، وهذا ما يمنحه الحق في التشكيك في طبيعة الله والكون كما في طبيعته هو نفسه. وبكونه متحصنا بهذا الاقتناع، فسوف يكتب ديلا ميراندولا كتابا عظيما آخر "الوجود والواحد"، وهو عمل نموذجي لعصر النهضة، حيث تتعايش المعتقدات القديمة بأفكار جديدة.
ما الذي يميز الإنسان عن الحيوانات؟ بالنسبة إلى بيكو، الإنسان ليس كائنًا طبيعيًا، لديه خصوصية تميزه عن الحيوانات: الحرية ولكن أيضًا الكمال. من هنا يبدأ تأمله، الذي جاء بمثابة انعكاس عميق لعصره، فالإنسان بالنسبة إليه مصطنع، وليس لديه المواهب الطبيعية أو مكانته الخاصة التي تنسب إلى الحيوانات. بالتأكيد، شكلت أفكار بيكو هذه أساس حقوق الإنسان، وقد سبق كثيرًا العقد الطبيعي للحيوانات.
وقد شكل التأكيد على حق التحرر السبب الرئيس لمشاكله. ومع ذلك، لم يكن إيمانه واجهة يختفي خلفها. لقد رغب دوما في الجمع ما بين الدين والفلسفة. في سنواته الأخيرة، يبدو أنه كرّس نفسه بشكل خاص لهذه الفكرة الأخيرة، وفي رسائله إلى ابن أخيه، قبل أشهر قليلة من وفاته، نجد فيها بعض اللهجات الباسكالية (نسبة إلى باسكال، الفيلسوف الفرنسي) التي تأتي على قدر كبير من المرارة: "حكمة العالم جهالة أمام الله"، أو أيضا: "لا تأخذ في الاعتبار أحكام البشر".
ثمة جملة توقفت عندها مطولا، قد تبدو عادية عند البعض، لكنها فعلا استغرقتني، يقول: "للإنسان الحرية في التراجع نحو الكائنات الأدنى وبأن يصبح بهيمة، أو أن يرتقي من خلال الوصول إلى أشياء إلهية أعلى". لقد كان جيوفاني بيكو ديلا ميراندولا يعرف بالتأكيد عمّا كان يتكلم.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: من خلال
إقرأ أيضاً:
روبيو: ترامب الوحيد في العالم الذي يستطيع جلب بوتين إلى طاولة المفاوضات
قال وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو إن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب هو الشخص الوحيد في العالم الذي يستطيع جلب بوتين إلى طاولة المفاوضات
أضاف وزير الخارجية الأمريكي بأنهم في أمريكا جاهزون للانخراط مجددا مع الأوكرانيين إذا كانوا مستعدين للسلام، في بادرة انفراجة ممكنة إذا ما أبدت أوكرانيا عزمًا في المضي قدمًا.
أردف وزير الخارجية الأمريكي بأنه لا يمكن تحقيق السلام دون الحديث مع روسيا ومعرفة مطالبها، ذاكرًا إنه سأل نظرائه الأوروبيين عن خطتهم لإنهاء الحرب في أوكرانيا وإنه لم يخرج بشئي فلم يسمع أفكارا من أي منهم.
يأتي ذلك فيما ذكر المتحدث باسم الحكومة البريطانية، بأن رئيس الوزراء كير ستارمر وميلوني رئيسة وزراء إيطاليا اتفقا على أهمية التحالف عبر الأطلسي لمواجهة التحديات وأكدا عزم لندن وروما على الوقوف إلى جانب كييف مهما طال الوقت.