لجريدة عمان:
2025-04-29@14:47:34 GMT

بين ضفتين.. الشره المعرفي

تاريخ النشر: 6th, August 2024 GMT

بين ضفتين.. الشره المعرفي

ربما أحيل ذلك إلى التقدم في العمر. منذ فترة تستبد بي رغبة قراءة الكتب القديمة. ليس معنى ذلك أني "طلقت" الحداثة، ولكن أكتشف فعلا، كم فاتني من أشياء "قديمة"، تبدو لي الآن، أكثر حداثة من كتابات معاصرين كُثر. من هذه الاكتشافات الأخيرة، اسم جيوفاني بيكو ديلا ميراندولا (1463 – 1494)، الذي يبدو وفي الوقت عينه، شخصية أسطورية، ومفكرا مجهولا إلى حدّ كبير.

يجسد الجانب الأول منه، الشره المعرفي. من دون شك، يستحق هذا الصيت وهذه السمعة؛ إذ لا بدّ أن نشعر بالانبهار بسعة المعرفة التي كان يتمتع بها هذا الأرستقراطي الذي عاش في أواخر القرن الخامس عشر، والذي ولد بالقرب من فيرارا، وتوفي وهو في الواحدة والثلاثين من عمره. عُرف عنه أنه كان قارئا لا يكلّ، ومهتما بكل أنواع المعارف. بالطبع كان يقرأ اللاتينية واليونانية القديمة، ولكن أيضا الكلدانية والعربية والعبرية. كان يعرف أفلاطون وأرسطو والفلاسفة السكولائيين واللاهوت والقانون الكنسي والمذاهب الغنوصية وما إلى ذلك، بعمق تُشكل الأطروحات التي نشرها وهو في الخامسة والعشرين من عمره، خلاصة هذه الثقافة الموسوعية، ومع ذلك حاول "دودة الكتب" هذه، كما أطلق عليه، خطف زوجة أحد أنسباء لورنزو دي ميديشي، وهو عمل "فذ" سبّب له الإقامة في السجن لمدة قصيرة، مثلما سبب له بعض الجراح نتيجة المشاجرة مع هذا النسيب.

لم تثبط هذه الأحداث عزيمة ديلا ميراندولا على الإطلاق، بل نجده يعرض بأن يدفع تكاليف رحلة أولئك العلماء الأوروبيين إلى روما، الذين يوافقون بالطبع على مناقشة طروحاته التسعمائة. بيد أنه تمّ منع إقامة المؤتمر وتمّت إدانة الطروحات وأتلفت من قبل اللجنة البابوية التي اعتبرتها "هرطقة ومن المرجح أن تثير وقاحة اليهود وتفضل الفنون المعادية للعقيدة الكاثوليكية والجنس البشري"؛ إذ إنه اعتبر أن "الإنسان حيوان: هذه الفرضية تنطبق على جميع الأفراد الفاسدين من النوع البشري"، وإزاء هذا الأمر، وإزاء شبه الحملة التي أثيرت ضده من جراء مزاعم اللجنة البابوية، اضطر إلى مغادرة إيطاليا واللجوء إلى فرنسا، لكن أُلقي القبض عليه في مدينة ليون ووضع بالسجن لعدة أسابيع في زنزانة فانسان. بعد خروجه من السجن عاد إلى مدينة فلورنسا الإيطالية؛ حيث كتب هناك بعضا من مؤلفاته الرئيسية، قبل أن يموت في ظروف غامضة، في اليوم الذي دخلت فيه جحافل قوات شارل الثامن إلى إيطاليا. في ذلك النهار ألقى خطبته الجنائزية.

***

يُشكّل كتاب "الاستنتاجات التسعمائة" -وهو لم يترجم كاملا من اللاتينية إلا في العام 1993، صدر عن منشورات "ليه بل ليتر- واحدًا من أكثر النصوص الأساسية والأكثر إثارة للجدل والأسطورية في النزعة الإنسانية. وُسِمَ هذا الكتاب بالهرطقة من قبل البعض وأصبح "كتابًا مقدسا" بالنسبة إلى آخرين، وانتُزع من أيدي ناشره الأول وأُحرق علنًا لمدة أربعة عشر يومًا متتالية، وقد أُعيد طبعه سرًا، لكنه لم يُترجم مطلقًا لأكثر من خمسة قرون. كتاب غامض ومُتقن؛ حيث لا يمكن لأحد أن يدعي التقدم من دون أن يرتكب ذاك الخطأ: "الخوف الخرافي الذي يمنعه من لمسه". هو بمثابة تلخيص لجميع أنواع المعارف وجميع المذاهب.

كذلك تشكل الاستنتاجات عقدة وجود ديلا ميراندولا المبهر المأساوية، إذ نصبه الخيال الشعبي وإعجاب معاصريه به بكونه الشخصية الأكثر شهرة وتألقًا في النزعة الإنسانية الصاعدة؛ لأنها الاستنتاجات، وهي نوع من تجسيد المعرفة المطلقة والعلم الشامل من خلال النطق بالمسائل المنطقية أو الأخلاقية أو الميتافيزيقية، كما هي وضع قواعد للتفسير اللغوي والسحري والدفين والباطني، لذلك أحدث هذا العمل ثورة حقيقية في تاريخ الفلسفة.

***

يُؤكّد كل من جيزيبي تونيون الذي كتب مقدمة -دراسة لــ أعماله الفلسفية (منشورات "بوف") وإيف هيرسان الذي ترجم وقدم كتاب "عن كرامة الإنسان" (منشورات "دو ليكلا")، أن هذه المعرفة المذهلة التي كان يمتلكها، ترتكز على مشروع فلسفي أصيل. وإذا كان بيكو، في كتاباته يتردد على جميع المدارس الفلسفية فإن ذلك، كما يشير هيرسان، هو من أجل التغلب على تناقضات الأنساق المختلفة من دون استبعاد أي واحد منها، كي يستطيع أن يستخرج منها حقيقة كونية. مما دفعه إلى الدفاع عن الفكر السكولائي الذي تعرّض لسوء المعاملة على حدّ ما، بعد اكتشاف الفلاسفة الإغريق والعرب، والتحقق من جهة الكابالا (الباطن) الذي تفوح منه رائحة التشرد. يلاحظ تونيون أن ديلا ميراندولا يجسّد روح عصر النهضة من خلال شغفه للمعرفة، ولكن وقبل أي شيء آخر من خلال المكانة التي يمنحها للإنسان في الكون يعتمد البشر على الله، ولكن لديهم دور محدد كوسطاء، وهو ما يميزهم عن الأنواع الحيوانية الأخرى. يطور ديلا ميراندولا هذا المفهوم في أطروحته "عن كرامة الإنسان" وهي معالجة مهمة ورائعة ذات وضوح وإيجاز ودقة، وهي صفات ليست دائما من صفات المؤلف.

لقد تمتّع آدم وامتلك خاصية ما سوف يصبح عليه. إن جوهر كرامة الإنسان هو ممارسة حريته، وهذا ما يمنحه الحق في التشكيك في طبيعة الله والكون كما في طبيعته هو نفسه. وبكونه متحصنا بهذا الاقتناع، فسوف يكتب ديلا ميراندولا كتابا عظيما آخر "الوجود والواحد"، وهو عمل نموذجي لعصر النهضة، حيث تتعايش المعتقدات القديمة بأفكار جديدة.

ما الذي يميز الإنسان عن الحيوانات؟ بالنسبة إلى بيكو، الإنسان ليس كائنًا طبيعيًا، لديه خصوصية تميزه عن الحيوانات: الحرية ولكن أيضًا الكمال. من هنا يبدأ تأمله، الذي جاء بمثابة انعكاس عميق لعصره، فالإنسان بالنسبة إليه مصطنع، وليس لديه المواهب الطبيعية أو مكانته الخاصة التي تنسب إلى الحيوانات. بالتأكيد، شكلت أفكار بيكو هذه أساس حقوق الإنسان، وقد سبق كثيرًا العقد الطبيعي للحيوانات.

وقد شكل التأكيد على حق التحرر السبب الرئيس لمشاكله. ومع ذلك، لم يكن إيمانه واجهة يختفي خلفها. لقد رغب دوما في الجمع ما بين الدين والفلسفة. في سنواته الأخيرة، يبدو أنه كرّس نفسه بشكل خاص لهذه الفكرة الأخيرة، وفي رسائله إلى ابن أخيه، قبل أشهر قليلة من وفاته، نجد فيها بعض اللهجات الباسكالية (نسبة إلى باسكال، الفيلسوف الفرنسي) التي تأتي على قدر كبير من المرارة: "حكمة العالم جهالة أمام الله"، أو أيضا: "لا تأخذ في الاعتبار أحكام البشر".

ثمة جملة توقفت عندها مطولا، قد تبدو عادية عند البعض، لكنها فعلا استغرقتني، يقول: "للإنسان الحرية في التراجع نحو الكائنات الأدنى وبأن يصبح بهيمة، أو أن يرتقي من خلال الوصول إلى أشياء إلهية أعلى". لقد كان جيوفاني بيكو ديلا ميراندولا يعرف بالتأكيد عمّا كان يتكلم.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: من خلال

إقرأ أيضاً:

الذي يأتي ولا يأتي من الحـافلات

الذي يأتي ولا يأتي من الحـافلات
(من أرشيف باب "ومع ذلك" بجريدة الخرطوم 1988)
(طرأ لي إعادة نشر هذه الكلمة القديمة وأنا أرى مصارع السيارات المهجورة ملء البصر في الخرطوم في أعقاب غزوة الجنجويد)

نشر ترمنقهام مؤلف كتاب (الإسلام في السودان) جملة من الأفكار الخاطئة عن ثقافة السودان وإسلامه. غير أنني اتفق كثيراً مع ملحوظته القائلة بأن خريجي المدارس الحديثة (الصفوة بتعبير آخر) غير راغبين في إجراء تحسين جذري في حياة مواطنيهم. فعلى أن ترمنقهام أذاع هذه الملحوظة في الأربعينات إلا أنها ما تزال صادقة إلى حد كبير.
سمّت جريدة (السيـاسة) في افتتاحية لها مشكلة المواصلات (الهاجس اليومي) الذي يجعل حياة المواطن عبئاً لا يطاق. ولعل أخطر مظاهر المشكلة ليس المعاناة اليومية التي يتكبدها المواطن في غدوه ورواحه، ولكن إحساسه بأن هذه المشكلة المعلقة لأكثر من عقد من الزمان تبدو بلا حل قريب أو بعيد.
فالمعتمدية تراوح في مكانها القديم من المشكلة بين إنزال بصات جديدة (أو الوعد بذلك) وبتصليح العطلان منها وبين حملات تأديبية على أصحاب المركبات العامة الذين يزوغون عن العمل بالخطوط مكتفين بالبنزين. كما تتمسك المعتمدية في وصاية فارغة بفئات قانونية للطلبة وغير الطلبة. وفي مطالبة أهل حي بعينه من المعتمدية الانصياع للفئة التي قررها أصحاب المركبات العامة مؤشر قوي على استفحال المشكلة وعدم واقعية (أو بالأحرى جدية) المعتمدية.
ولعل أكثر دواعي اليأس من حل أزمة المواصلات هو تطاولها على خيالنا وفكرنا. فالأزمة غير واردة في أجندة فكرنا السياسي والاجتماعي والنقابي. فلم نعد نسمع شيئاً عن الدراسة التي التزمت المعتمدية بإجرائها على ضـوء استبيانات وزعتها. وهذه الدراسة هي الدليل الوحيد على أن المشكلة شاغل فكري معتبر يتجاوز همهمات المكتوين بنار الأزمة مما تنشره الصحف.
وأهـل الفكر عن المسألة في شغل وانصـراف. فطاقم الدولة القيادي اكتفى بتوسيع بند شراء العربات الحكومية (الخاصة) ليمتطيها آناء الليل وأطراف النهار. فقد صدقت وزارة الاقتصاد مؤخرا بـ 15 مليون دولار لشراء عربات كريسيدا تدفع مقابلها الوزارة من سمسم الوطن، أو القضارف. كما اتجهت نقابات الاطباء وأساتذة الجامعات والبياطرة وغيرهم الى مساومات مع وزارة التجارة وموردي السيارات لاستيراد عربات خاصة بأعضائها. ولا غبار على هذه الإجـراءات لو لم تكن هروباُ من مواجهة هذه الأزمة المزمنة. وما يجعل ذلك الهروب سخيفاً بحق هو أن يصدر من أكثر الفئات فصاحة في السياسة وأنسبها تأهيلاً للنظر في الأزمة وتدبير الحلول.
فمعاناة الشعب ليس عبارة تقال وتبتذل بالتكرار. إنها أوجاع بلا حصر تستنفر الخيال والنظر. فعلى أيام اختناقات البنزين تفتق ذهن الجماعات الصفوية عن فكرة إدخال الحاسوب لضبط توزيعه. ولكن حين يستمر المواطنون على أرصفة الشوارع لأكثر من عقد من الزمان ينتظرون الذي لا يأتي من الحـافلات فصفوتنا السياسية والفكرية خالية الوفاض من الحيل والمناهج.
لقد صدق ترمنقهام في واحدة وهي أن الصفوة من كل شاكلة ولون غير راغبة في تحسين حياة أهلها من كل شاكلة ولون.


ibrahima@missouri.edu

   

مقالات مشابهة

  • البيت الأبيض: ترامب يركز على تراجع معدلات التضخم التي خلفتها إدارة بايدن
  • المشهد اليمني الذي يشبهُ غزة
  • ما هو صاروخ “بار” الذي استخدمه الاحتلال لأول مرة في غزة؟
  • الماضي الذي يأسرنا والبحار التي فرقتنا تجربة مُزنة المسافر السينمائية
  • انطلاق ملتقى “عين على المستقبل” لفتح آفاق جديدة في التعاون المعرفي
  • العشاء الذي أسهم في إنقاذ أوروبا
  • الذي يأتي ولا يأتي من الحـافلات
  • مصر تعرب عن تعازيها لايران في ضحايا الانفجار الذي وقع جنوب البلاد
  • ياويل عبدالرحيم دقلو الذي لن يجد جحراً يلوذ به
  • من أشعل الحرب في السودان؟ ما الذي حدث قبل 15 أبريل؟