استوقفني في كتاب "كنوز مقابر مصر.. عجائب الأمور في شواهد القبور" للدكتور مصطفى محمد الصادق، ذلك الجهد البحثي الهائل الذي قام به ليوثق معلوماتٍ تخص أهم مقابر النبلاء المصريين، وهي معلومات مستقاة من مراجع مهمة ليست متاحة للجميع، وكذلك امتاز الكتاب بالحكايات التي أضفت عليه بُعداً إنسانياً، خاصة وأنه يدور بالكامل عن الموت، بما يعني أنه يحتاج إلى نسمة هواء يتنشقها القارئ وهو يقضي كل ذلك الوقت متنقلاً بين الشواهد، مفكراً في الكيفية التي قضها بها النبلاء نحبهم!

بعد عودة المؤلف من بعثة دراسية في باريس عاصمة فرنسا سنة 1992، دفعه شغفه بالتراث والتاريخ إلى جولات كثيرة بين جنبات التاريخ، كما يحكي في مقدمة الكتاب، خصوصًا التاريخ الإسلامي وتاريخ مصر الحديث.

ثم قادته بعدها قدماه إلى زيارة مدافن عظماء مصر وأبطالها من القادة السياسيين والمحاربين، وإلى زيارة مدافن كثير من أمراء أسرة محمد علي باشا الكبير وحكامها وسلالتها، ليكتشف كنوزًا مخفية لم يرَها ولم يوثقها الكثير من قبل.

يقول الصادق إن شاهد القبر يمثل البطاقة الشخصية للمُتوفَّي، ومن خلالها نتعرف على كثير من الحياة السابقة لهذا المُتوفَّي. من الشاهد نتعرف على اسمه، وتاريخي ميلاده ووفاته، ووظيفته، وأين وُلِد وأين كان يقيم ومتى وأين تُوفِّي، كما يمكن أن نتعرف في بعض الأوقات على سبب الوفاة والوصية التي تركها بعد وفاته، وفي حالة فقد هذا الشاهد أو هدمه تُمحى آخر ذكرى لهذا المُتوفَّى، ومن ثم يُمحى جزء قد يكون مهمًّا من تاريخ البلد.

يضم هذا الكتاب عشرات من شواهد الأمراء والأغنياء ورجال الطبقة العليا ومن بينهم اثنان من أهم الشعراء المصريين، هما محمود سامي البارودي وأحمد شوقي بك.

يمنحنا الصادق لمحة عن نسب محمود سامي البارودي. فهو ابن حسن بك حسني بن عبد الله بك الجركسي، ينتهي نسبه إلى المقام السيفي نوروز الأتابكي الملكي الأشرفي، أحد رجال الملك الأشرف قايتباي المحمودي المُتوفَّى سنة 894 هـ، وكان محمود سامي باشا شديد العناية والحرص على معرفة نسبه، ويُقال إنه أنفق نحو ثلاثة آلاف جنيه في تحقيق نسبه، والبارودي نسبة إلى بلدة إيتاي البارود بالبحيرة، وكان أحد أجداده الأمير مراد البارودي بن يوسف جاويش ملتزمًا لها فنُسِب إليها.

وُلِد سنة 1255 هـ الموافقة سنة 1840 في سراي والده بباب الخلق بشارع غيط العدة بالقاهرة، ونشأ بها، وتُوفِّي والده وكان عمره سبع سنوات فكفله قريب له، وتلقى مبادئ العلوم على يد أساتذة في منزله، ثم التحق بالمدرسة الحربية وتخرج فيها برتبة «باشجاويش» في عهد محمد سعيد باشا، ثم سافر إلى الأستانة وتقلد بها إحدى الوظائف لمعرفته باللغة التركية، وهناك درس الفارسية وآدابها.

عاد إلى مصر في أوائل حكم الخديو إسماعيل، والتحق بالجيش، وترقى إلى رتبة القائمقام، فرتبة الأميرالاي، واشترك في حرب كريت سنة 1866، وفي الحرب بين تركيا وروسيا سنة 1877، ولما عاد إلى مصر رُقِّي إلى رتبة اللواء وعُيِّن مديرًا للشرقية، ثم محافظًا للقاهرة، ثم عُيِّن وزيرًا للمعارف والأوقاف في وزارة رياض باشا الأولى، وأُعيد ناظرًا للحربية في نظارة محمد شريف باشا.

بعد ذلك، كما يقول الصادق، تولى رئاسة الوزراء ونظارة الداخلية في أيام الثورة العرابية، واشترك فيها، وعندما انتهت الثورة ودخل الإنجليز القاهرة، قُبِض عليه وحُكِم عليه بالإعدام، ثم استُبدِل بالنفي إلى جزيرة سرنديب (سيلان)، وسافر إليها في 27 ديسمبر سنة 1882، وهناك علَّم أهلها اللغة العربية، وهو شاعر كبير، وكان عصاميًّا في الشعر، ولم يتعلق شاعر من معاصريه بغباره.

أُصيب وهو في المنفى بارتشاح في القرنيتين أفقده النظر، وقرر الأطباء عودته إلى مصر، فعاد إليها في سبتمبر سنة 1900 (بعد أكثر من 17 عامًا) وعفا عنه الخديو عباس حلمي الثاني، ومنحه حقوقه المدنية، ورد إليه أملاكه الموقوفة، وحصل على متجمد ريعها من ديوان الأوقاف، وقد تُوفِّي يوم الإثنين 12 من شهر شوال سنة 1322 هـ الموافق 20 ديسمبر سنة 1904، ودُفِن في مدفنه بقرافة الإمام الشافعي بشارع ابن الفارض. كُتِب بخط الفنان يوسف أحمد على التركيبة البرونز الخارجية بخط الثلث: "أُنشئت هذه المقصورَة لفقيد الأدب في بلاد العَرب رب السَّيف والقلم".

أما أمير الشعراء أحمد بك شوقي فوُلِد في حي الحنفي بالقاهرة سنة 1285 هـ الموافقة سنة 1868، وجده لأبيه تركي، وكان يعمل أمين جمارك القاهرة، أما جده لوالدته أحمد بك النجدلي فهو أناضولي الأصل، وكان وكيل الخاصة الخديوية في عهد الخديو إسماعيل.

دخل شوقي مدرسة الشيخ صالح وهو في الرابعة من العمر، ثم انتقل إلى مدرسة المبتديان التجهيزية، ثم التحق بمدرسة الحقوق وهو في السادسة عشرة من عمره.

بعد عامين، أُنشِئ بمدرسة الحقوق قسم للترجمة، فدخله، ومنحته نظارة المعارف الشهادة النهائية في فن الترجمة، ثم عمل بالمعية السنية لمدة عام ونصف، وبعدها أرسله الخديو توفيق على نفقته الخاصة إلى مونبليه ليُتِم دراسة الحقوق جامعًا بينها وبين آداب اللغة الفرنسية. بعد قضاء عامٍ في باريس، حصل على الشهادة النهائية، وعاد إلى مصر. في عام 1886، عُيِّن في معية الأمير ولي العهد، وترقى في المناصب حتى شغل وظيفة رئيس القلم الإفرنجي في عهد الخديو عباس حلمي الثاني. انتُدِب لينوب عن الحكومة المصرية في مؤتمر المستشرقين بجنيف، حيث قام بما عُهِد إليه خير قيام، ثم تركها إلى بلجيكا لزيارة معرض أنفرس، ثم عاد إلى مصر.

قبل قيام الحرب العالمية الأولى في أوائل سنة 1914، كان يقيم في دار واسعة بالمطرية (كرمة ابن هانئ) ليكون على مقربة من قصر القبة، مكان إقامة الخديو عباس حلمي الثاني الذي كان يحب شوقي ويعطف عليه كل العطف ولا يخيب له رجاء. في هذه الدار، كان يقيم هو وزوجته وابناه علي وحسين والمربية التركية، أما ابنته أمينة فكانت متزوجة ومقيمة بمنزل ملاصق لمنزلهم.

منحه سلطان تركيا السلطان عبد الحميد الرتبة الغريبة التي كان يحملها؛ إذ إن رتبته كانت «بك» ومع ذلك كان يُلقَّب «صاحب السعادة» بدلًا من «صاحب العزة».

بعد قيام الحرب العالمية الأولى وعزل الخديو عباس حلمي الثاني، حكمت عليه السلطة العسكرية البريطانية بمغادرة مصر (سنة 1915)؛ إذ ذهبوا إلى إسبانيا وظلوا هناك حتى عادوا بعد خمس سنوات (سنة 1920). في القاهرة، أُقيم احتفال كبير عند عودته، وتجمع في فناء محطة القطار آلاف الطلبة لتحيته، ثم حملوه على الأعناق حتى سيارته.

انتقلوا بعد ذلك إلى «كرمة ابن هانئ» الجديدة بالجيزة، وفي عام 1926 أُقيمت أول حفلة ساهرة بها بمناسبة زواج ابنه علي من بنت خالته، وقد حضر سعد باشا زغلول هذه الحفلة.

في عام 1927، عُقِد مؤتمر في مصر لتكريم شوقي اشترك فيه علماء مصر والأقطار العربية وأدباؤها مدة أسبوع برعاية الملك فؤاد ورئاسة شرف سعد باشا زغلول، وكان في هذا الأسبوع اعتراف الوفود العربية بزعامة مصر الأدبية، وظهور المرأة المصرية لأول مرة في حفلات رسمية مشاركة للرجل في النشاط الأدبي الاجتماعي، وزيادة الروابط بين البلاد العربية والشرقية.

كان شوقي، بحسب الصادق، شديد الغيرة على وطنه، عميق الإحساس بشعور الأمة المصرية والأمة العربية والعالم الإسلامي، ويرى أن المسلمين يجب أن يكونوا أمة واحدة متحدة الكلمة ليستعيدوا مجدهم وعزهم الغابر، وكان واسع الرؤية والخيال، كما كان شغوفًا بالسفر إلى الشرق والغرب، ولكن بعد سنة 1925 قصر سياحته على البلاد السورية واللبنانية.

في يوم 13 أكتوبر سنة 1932، خرج يتنزه في السيارة مع سكرتيره في مصر الجديدة، ثم في مساء ذلك اليوم زار الأستاذ محمد توفيق دياب في مكتبه بجريدة الجهاد، ومنه عاد إلى المنزل وتُوفِّي حوالي الساعة الثانية صباح 14 جمادى الآخرة سنة 1351 هـ الموافق 14 أكتوبر سنة 1932 في القاهرة، وشيعت جنازته الحكومة والأمة، ودُفِن في قرافة السيدة نفيسة بمدفن حميه حسين شاهين باشا.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: عاد إلى مصر محمود سامی

إقرأ أيضاً:

مقابر في تربة العبودية

بقلم: كمال فتاح حيدر ..

الطيور التي تولد في الأقفاص تعتقد ان الطيران جريمة. .
أبشع ما قد يمر به الإنسان في حياته ان يكون مضطهدا في بلاده. مشكوكاً بوطنيته، مطاردا مستهدفا ملاحقا من يوم ولادته حتى مماته. لا خيار أمامه سوى الاعتراف للجلاد بجرائم لم يرتكبها، أو الموت تحت سياطه. هذا هو مصيره المحتوم ومصير كل الأبرياء الذين ساقتهم الأقدار، فوقعوا في قبضة عناصر امن الدولة منذ خمسينيات القرن الماضي وربما حتى يومنا هذا. .
شاهدنا في أفلام الرعب الهوليودية شخصيات وهمية من وحي الخيال السينمائي، نذكر منها: شخصية (الرجل المستذئب)، الذي يجسد حالة نادرة يتحول فيها الانسان إلى ذئب كاسر ليلة اكتمال القمر، اما عندنا نحن العرب فلدينا جماعات تتقمص أخلاق الضباع والتماسيح من دون ان تكون لها توقيتات قمرية محددة، فجأة يتحول المتنفذون والمتسلطون إلى ضباع لا تعرف الرحمة. .
وحتى لا نظلم الحيوانات المفترسة لابد من الاعتراف بانها لا تعذب بعضها البعض للتسلية أو من اجل انتزاع اعترافاتها. فالإنسان هو الكائن الوحيد الذي يستمتع بتعذيب أبناء جلدته، ويمتلك الخصال الدونية الخسيسة. .
لا ريب ان ضحالة الأخلاق في سياسة الأنظمة التعسفية الحاكمة تسببت في انحراف الأجهزة الأمنية القائمة على الوشاية وتقارير المخبر السري والاتهامات الباطلة، وما إلى ذلك من صلاحيات مفتوحة تسمح لها بارتكاب الجرائم. .
لقد فقد الناس ثقتهم بالاجهزة الأمنية التي تعتمد على القيل والقال في تقرير مصير المواطنين، الذين فقدوا ثقتهم بمؤسسات مسكونة بتمجيد الاغبياء والسفلة. . مؤسسات يترأسها الجاهل، ويحكمها الأحمق، ويتسلط فيها المتغطرس. ويشعر فيها المواطن باليأس والإحباط. .
لقد وصل الطغيان بجزار السجون المصرية حمزة البسيوني إلى مخاطبة المعتقلين بهذه العبارة: (لو جاء ربكم بنفسه لحبسته في سجن انفرادي). ثم وجدوا هذا المجرم ممزقا ومشوها بحادث سير بين الإسكندرية والقاهرة. كانت لديه مجموعة من الكلاب المفترسة. أشهرها لاكي، الذي كان يشبه الأسد من فرط ضخامته وقوته، وأيضا ميمي وليلى وهما كلبتان معدتان لترويع المعتقلين الجدد. كان المجرم (بسيوني) انموذجا من نماذج المجرمين المتخصصين بتعذيب المواطنين حتى يذوقوا الموت غصة بعد غصة. .
لقد شهدت أحوال المواطنين تداعيات كبيرة في بعض العواصم العربية، التي لم تعد فيها الأجهزة الأمنية بحاجة إلى جلسات التعذيب، بعدما صار القتل على الهوية وعلى الشبهة، وربما سمعتم بالمواقف الأجرامية التي سجلها وزير العدل السوري (شادي الويسي) بنفسه عندما كان يسدد بندقيته إلى رؤوس النساء، ويطلق عليهن النار في الساحات العامة وامام أنظار الجموع الغفيرة. .
في معظم البلدان العربية يغدوا الانسان مسجونا في دائرة عبثية، فهو يتكاثر لا ليحيا بل ليضاعف بؤسه، بينما الطغاة يتلذذون بثمار هذا الانحناء المتكرر امام أعينهم، وهكذا يغرق الإنسان في مستنقع القهر. انه عجز الضعيف عن تحويل معاناته إلى رفض مطلق. عجز يحول الحياة المؤلمة إلى فعل عبثي يدور حول محور الالم حيث يزدهر الطغاة كظلال دائمة لهذا الانكسار، كشجرة سامة لا تزدهر الا في تربة العبودية. .

د. كمال فتاح حيدر

مقالات مشابهة

  • فضل الصلاة على النبي فى شعبان قبل رفع الأعمال عجائب لا حصر لها
  • مصطفى شعبان يتدخل لحل أزمة مجاميع “حكيم باشا”
  • مصطفى شعبان يظهر بدور تاجر آثار بمسلسل «حكيم باشا» في رمضان 2025
  • حكيم باشا.. تفاصيل مسلسل مصطفى شعبان الجديد في رمضان
  • مشاركة واسعة للمغنين العرب في مسلسلات رمضان 2025
  • مقابر في تربة العبودية
  • يشتري منزلًا من تنظيف القبور
  • ريم البارودي تكشف عن البرومو التشويقي لـ «جوما» رمضان 2025
  • مسلسلات رمضان 2025.. watch it تطرح البرومو التشويقي لـ «ولاد الشمس» |فيديو
  • عجائب صلاة الفجر.. لن تتكاسل عنها بعد اليوم