سلسلة الضربات والاغتيالات التي نفّذتها "إسرائيل"، من ميناء الحديدة باليمن مرورا بالضاحية الجنوبية لبيروت انتهاء بالعاصمة الإيرانية طهران، وبقدر ما تؤكّد عن حجم التفوق العسكري والاستخباراتي الإسرائيلي، وما يرتبط به من عناصر دعم لوجستي وأدوات تنفيذية قادرة، فإنّها تشير إلى محدودية الخيارات الإسرائيلية في المواجهة الجارية.

قد تبدو هذه الملاحظة متناقضة، ولكن يُدفع التناقض إذا عُلِم أنّ هذه المحدودية بنيوية، أي ناشئة عن ماهية الشخصية الإسرائيلية من حيث شرط وجودها واستمرارها في فلسطين والمنطقة، مما يجعل المواجهة ابتداء من "طوفان الأقصى" مرورا بجبهات الإسناد المتعددة في الإقليم، والحرب الطويلة الحاملة لذلك كله، كاشفة عن هذا التوتر البنيوي في الشخصية الإسرائيلية. (فالمحدودية هنا يُقصد منها أنّه ليس أمام "إسرائيل" إلا الذهاب نحو هذا التصعيد بتنفيذ مثل هذه الضربات بالغة الدلالة).

شرط الوجود الإسرائيلي منوط بالتفوق، وهو تفوق عسكري أمني بالدرجة الأولى. صحيح أنّ ثمة شروط أخرى ضرورية للاستمرارية الإسرائيلية، كشروط تنظيم التناقضات الداخلية لمجتمع مهاجرين يفتقد الروابط الكافية للانسجام المطلوب في بيئة معادية، لكن ما نحن بصدده الآن، هو ذلك الشرط المتعلّق بموقع "إسرائيل" في إقليم طرأت عليه بنحو غير طبيعيّ، هذا الشرط تُعبِّر عنه هي بصيغ متنوعة بحسب المقام، مثل "الردع" و"التوازن"، فالردع يعني أن تبقى مهيوبة بحيث لا يمكن لأحد أن يتجرّأ عليها، والتوازن بحيث تبقى ضامنة للتفوق النوعي في سلاحها حتى بالنسبة لحلفائها في الإقليم (وحلفاؤها في الإقليم اليوم عرب!).

ما نحن بصدده الآن، هو ذلك الشرط المتعلّق بموقع "إسرائيل" في إقليم طرأت عليه بنحو غير طبيعيّ، هذا الشرط تُعبِّر عنه هي بصيغ متنوعة بحسب المقام، مثل "الردع" و"التوازن"، فالردع يعني أن تبقى مهيوبة بحيث لا يمكن لأحد أن يتجرّأ عليها، والتوازن بحيث تبقى ضامنة للتفوق النوعي في سلاحها حتى بالنسبة لحلفائها في الإقليم
التفوق والردع، لا ينحصر في حرص "إسرائيل" على تكريس نظرة إقليمية ودولية لها، وهي نظرة مؤسسة على انتصاراتها في حربي 1948 و1967، وقدرتها على تعديل الكفة في 1973، وعلى جرأتها كما في اجتياح لبنان والوصول إلى بيروت في 1982، وعلى فرض "سلام" على العرب بناء على انتصاراتها هي لا بناء على انتصاراتهم هم، ومؤسسة كذلك على دعاية ضخمة، لها مرتكزات واقعية، مثل "الجيش الذي لا يقهر" و"الاستخبارات الأقوى في العالم"، فالدعاية للموساد الإسرائيلي تقارب حدود الأسطورة والخرافة، ولكنّ الحرص على تأكيد التفوق والردع، هو حرص إسرائيلي ذاتي بالنسبة لـ"إسرائيل" نفسها، أمام نفسها، مجتمعا ودولة وأجهزة ومؤسسات.

الذي حصل في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، هو عملية كشف عميقة للدعاية الإسرائيلية، وضربة حقيقية لشرط الاستمرارية الإسرائيلي، فكتائب القسام، وهي تنظيم عسكري يعمل في بيئة مستحيلة (صغيرة، ومكشوفة، ومحاصرة)، تمكّنت من اختراق التحصينات الإسرائيلية وغزو عدد كبير من الكيبوتسات والمواقع العسكرية الإسرائيلية في وقت قياسي وأسر عدد كبير من الإسرائيليين، وهو ما يعني بالدعاية العملية الواقعية أنّ الجيش الإسرائيلي يمكن قهره، واستخباراته يمكن خداعها. الخطير هنا بالنسبة لـ"إسرائيل" ليس فقط في سقوط هيبتها في عيون الآخرين، بل في افتقاد مجتمعها ثقته بجيشه وأمنه ومؤسساته، فالردّ بحرب الإبادة كان محلّ إجماع إسرائيلي، لأنّ ابتلاع ضربة كهذه بردّ محدود مهما قويّا وعنيفا، يعني تكريس الدعاية التي صاغتها القسام بالنار.

هذا الردّ الإسرائيلي هدف إلى تحقيق أمرين معنويين بالفعل العسكري؛ الأوّل ما تسميه "كيّ الوعي"، أي أن يُكوَى الوعي الفلسطيني بالعنف الإسرائيلي المدمّر بوصفه نتيجة للفعل المقاوم، أي غرس الندم المزمن في نفوس الفلسطينيين، وقد فاق الأمر في حرب الإبادة الجماعية على غزة أيّ سياسية إسرائيلية سابقة تستند إلى هذا المفهوم، لا "كيّ الوعي" في الضفة الغربية في الانتفاضة الثانية، ولا "عقيدة الضاحية" في حرب تموز مع حزب الله في 2006، لأنّ هدف "إسرائيل" من هذه الحرب المدمّرة، مسح خيبتها في ذلك اليوم وإلى الأبد، ومسح صورة الإنجاز العسكري لحماس في "طوفان الأقصى"، أرادت أن تطمر ذلك اليوم تحت الدمار الكامل لقطاع غزّة، وتحت أشلاء عشرات الآلاف من أهلها، وهي بذلك تريد مسحه من ذاكرة العالم كلّه، لا من ذاكرة أهل المنطقة فقط، وشفاء غليل الإسرائيليين، الذين تقول لهم دولتهم: "كان إخفاقنا مؤقّتا ومحدودا وعابرا، فانظروا ماذا فعلنا بمن تجرأ علينا".

الأمر المعنوي الثاني، هو تحقيق انتصار عسكري واضح على حركة حماس، بمعنى فرض الاستسلام عليها، أو سحق تنظيمها، وقد كانت "إسرائيل" تعتقد لتفوّقها العسكري الكاسح، غير القابل للمقارنة مع تنظيم مثل حماس، أنّ انتصارها غير الملتبس، الواضح والكامل، لن يستغرق أكثر من ثلاثة شهور، لا سيما مع انتهاج أسلوب الكثافة والزخم والترويع والصدمة والتدمير الكامل والممنهج. هذا الانتصار لم يكن ضروريّا لبنيامين نتنياهو فحسب، بل للمجتمع والدولة، والأجهزة والمؤسسات، على رأسها الجيش والأمن، فالسعي للنصر "الكامل" لم يكن خاصّا بنتنياهو، بل هو مسعى الجيش والأمن، في قفز عن عقيدته السابقة تجاه التنظيمات والشعب الذي يعاني احتلاله والتي يسميها بـ"النصر الكافي"، ليعود تاليا للنظر في المفهوم الجديد عن "النصر الكامل" فقط بعد طول أمد الحرب بما يخالف توقّعاته.

"النصر الكامل" على حماس، كان ضروريّا لـ"إسرائيل" لتجاوز أزمة السابع من أكتوبر، التي هي أزمة وجودية بالمعنى الضمنيّ والاستراتيجيّ، لا بالمعنى الفوري والراهن، مما يعني أنّها ليست من مبالغات نتنياهو. هذا النصر الكامل يهدف إلى استعادة ثقة المجتمع الإسرائيلي بدولته ومؤسساته، واستعادة تلك المؤسسات الثقة بنفسها، وينضمّ إلى ما سبق من ضرورة المحو التامّ لعملية "طوفان الأقصى" من ذاكرة الفلسطينيين والعرب والعالم.

أرادت "إسرائيل" إذن أن تقلب الموقف الاستراتيجي، فحالة الهشاشة الاستراتيجية هذه غير محتملة، مع مراوحة الحرب مكانها في غزّة، وهو أمر من حيث المبدأ يحظى بإجماع إسرائيلي، أي ضرورة معالجة التحدّيات الإقليمية بما يستعيد الردع الإسرائيلي، ويحوّل الموقف من عجز إسرائيلي إزاء هذه التحديات (وأبرزها الوضع في شماليّ فلسطين المحتلة الناجم عن جبهة إسناد المقاومة اللبنانية)، إلى مبادأة أقرب إلى المناورة على حافة الهاوية، في رهان إسرائيلي على محدودية ردّ أطراف جبهة المقاومة
كان من ارتدادات "طوفان الأقصى" تشكّل جبهات إسناد متعددة، في لبنان واليمن والعراق، لُتقصف "إسرائيل" لأوّل مرة من خارج "حدودها"، منذ عقود، أو منذ حرب تموز 2006، ولتكون طرفا مفعولا به، بدلا من أن يكون فاعلا، ومع طول الحرب بغزة، باتت جبهات الإسناد هذه مشكلة بالنسبة لشرط الردع والتفوّق الإسرائيلي، فقد كان الرهان الإسرائيلي على سرعة إنجاز المهمة في غزة بما يفرض انكسارا تلقائيّا على تلك الجبهات، وهو ما لم يحصل، لتصير لتلك الجبهات أولوية مستفادة من طول الحرب في غزة، بقطع النظر عن النقاش حول مستوى الإسناد وقدرته من حيث هذا المستوى في التأثير على مجريات الحرب في غزة.


في الأثناء تعرضت "إسرائيل" لضربة إيرانية في نيسان/ أبريل الماضي، ردّا على قصف "إسرائيل" للقنصلية الإيرانية بدمشق، ولم يكن لـ"إسرائيل" ابتلاع الضربة، ليس فقط بسبب مركزية عقيدة الثأر والانتقام في وعيها، ولكن أيضا لأنّها تعتقد أنّ اجتراء أيّ دولة إقليمية عليها، مهما كان مستوى تلك الجرأة، يعني بداية تآكل الردع، ليعني ذلك ضمور شروط الاستمرارية الإسرائيلية، فردّت بقصف قاعدة إيرانية من داخل إيران في إطار التهدئة الأمريكية للّعبة، دون اعتراف صريح من "إسرائيل" بمسؤوليتها عن الضربة لكونها ذات طابع استخباراتي انطلقت من داخل إيران، في رسالة واضحة عن تفوق "إسرائيل" في حرب الظلال وقدرتها على استهداف إيران من داخلها، بيد أنّ تلك الضربة لم تكن كافية في سياسة تأكيد التفوق والردع واليد الطويلة والجرأة، وهو ما يجعل فرضية الاغتيال للرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي احتمالا قائما، فكان أخيرا اغتيال رئيس حركة حماس إسماعيل هنية في قلب العاصمة طهران أثناء مراسم تنصيب الرئيس الإيراني الجديد، في رسالة مشبعة بالرمزيات والدلالات.

أرادت "إسرائيل" إذن أن تقلب الموقف الاستراتيجي، فحالة الهشاشة الاستراتيجية هذه غير محتملة، مع مراوحة الحرب مكانها في غزّة، وهو أمر من حيث المبدأ يحظى بإجماع إسرائيلي، أي ضرورة معالجة التحدّيات الإقليمية بما يستعيد الردع الإسرائيلي، ويحوّل الموقف من عجز إسرائيلي إزاء هذه التحديات (وأبرزها الوضع في شماليّ فلسطين المحتلة الناجم عن جبهة إسناد المقاومة اللبنانية)، إلى مبادأة أقرب إلى المناورة على حافة الهاوية، في رهان إسرائيلي على محدودية ردّ أطراف جبهة المقاومة على الضربات الإسرائيلية المتتالية في اليمن وبيروت وطهران، أو على أنّ أيّ حرب ناجمة عن الردود المتبادلة ستجرّ الولايات المتحدة إلى جانب "إسرائيل" كما هو مؤكّد.

ما أرادته "إسرائيل" قلب الموقف الاستراتيجي لصالحها، مستفيدة من الحذر المفرط لخصومها، وهو ما يلقي تحدّيا ثقيلا على هؤلاء الخصوم، لمحاولة الاستثمار الذكي والواعي في المحاولة الإسرائيلية، والتخفّف من القلق المفرط من فخّ نتنياهو الهادف إلى استدعاء الولايات المتحدة إلى حربه، فهذه الأخيرة حاضرة في حربه في حدود ما تحتاجه الحرب
ومن غير المستبعد أنّ كلّ هذه الضربات تأتي في إطار قناعة أمريكية بإمكان استعادة الردع الإسرائيلي مع ضبط ردود أفعال المتضررين منه، بل قد تكون أوساط في الولايات المتحدة معنية بالحرب بخلاف ما يعتقد كثيرون، أمّا الخلافات الإسرائيلية فليست على هذا المبدأ ولكن على الإدارة والتوقيت، فهذه الضربات إن لم تكن معجّلة فهي مرجأة إلى وقت آخر، وعليه فينبغي توقع عمليات اغتيال جديدة لقيادات حركات حماس خارج فلسطين.

وإذن، ما أرادته "إسرائيل" قلب الموقف الاستراتيجي لصالحها، مستفيدة من الحذر المفرط لخصومها، وهو ما يلقي تحدّيا ثقيلا على هؤلاء الخصوم، لمحاولة الاستثمار الذكي والواعي في المحاولة الإسرائيلية، والتخفّف من القلق المفرط من فخّ نتنياهو الهادف إلى استدعاء الولايات المتحدة إلى حربه، فهذه الأخيرة حاضرة في حربه في حدود ما تحتاجه الحرب، ليس فقط بالتسليح والتمويل والغطاء السياسي، ولكن بالمشاركة الفعلية، بما في ذلك عمليات الاغتيال والضربات النوعية، فإذا كانت عملية السابع من أكتوبر قد وضعت "إسرائيل" في ظرف غير مسبوق من الهشاشة الاستراتيجية، فالخسارة تكون في تضييع هذا التحوّل، الذي كان ثمنه التضحيات الهائلة التي دفعها أهل غزّة.

وإذا كانت هناك فرصة الآن للصراع على التوازن الاستراتيجي بهذا الاعتبار وبما يتطلب جرأة أكبر، فهناك فرصة للدفع نحو وقف الحرب في غزة، أو تطوير جبهات الإسناد بما يجعلها أكثر تأثيرا على عقدة الأمر كلّه وهي الحرب في غزة، كذلك هناك فرصة للبحث عن الثغرات الخطيرة التي تسلل منها الإسرائيلي لتنفيذ عملياته خاصة في إيران، فالإسرائيلي يقول بعملية اغتيال هنية، إنه قادر على الوصول إلى أيّ مسؤول إيراني، مما يعني، والحالة هذه، تهديدا حقيقيّا للنظام الإيراني.

x.com/sariorabi

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه إسرائيل الإيرانية الردع حماس إسماعيل هنية إيران إسرائيل حماس إسماعيل هنية الردع مقالات مقالات مقالات رياضة سياسة مقالات سياسة صحافة رياضة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الموقف الاستراتیجی الولایات المتحدة طوفان الأقصى الحرب فی غزة فی الإقلیم فی حرب من حیث وهو ما

إقرأ أيضاً:

عودة التهديدات الإسرائيلية للبنان.. هل ترتفع أسهم الحرب من جديد؟!

بعدما انخفضت أسهم الحرب إلى أدنى مستوياتها في أعقاب ردّ "حزب الله" على جريمة اغتيال قائده العسكري فؤاد شكر، الذي وُصِف بـ"المدروس" لمنع الانزلاق إلى الحرب، ما عزّزه حينها القرار الإسرائيلي بـ"عدم الردّ"، معطوفًا على استراتيجية "تبريد الجبهة" التي عادت إلى وتيرتها السابقة، ما قبل ضربة الضاحية الجنوبية لبيروت، عادت "لهجة" التهديدات لتطغى في الأيام القليلة الماضية، فاتحة باب التكهّنات على مصراعيه من جديد.
 
فخلال الاجتماع الأسبوعي لحكومته، قال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إنّه أصدر تعليمات للجيش وقوات الأمن بـ"الاستعداد لتغيير الوضع في الشمال"، مشدّدًا على أنّه "لا يوجد احتمال لاستمرارنا بهذا الوضع، ونحن ملزمون بإعادة جميع سكان الشمال إلى منازلهم بأمان". وجاء كلام نتنياهو بعد ساعات من إعلان رئيس أركان الجيش الإسرائيلي، هيرتسي هليفي، أنّ الجيش الإسرائيلي "يستعدّ لخطوات هجومية" داخل الأراضي اللبنانية.
 
ولم تقتصر التهديدات على نتنياهو وهليفي فقط، إذ دخل وزير المالية بتسلئيل سموتريتش مجدداً على الخط، عبر دعوة الحكومة والجيش إلى "المبادرة بشن حرب في لبنان لإعادة السكان"، ومثله فعل عضو الكنيست الإسرائيلي نيسيم فاتوري، الذي تحدّث عن وجود "نيّة" بالحرب في الشمال بعد إطلاق سراح الأسرى في قطاع غزة، وذلك بمعزل عن موقف الأميركيين ورأيهم، فكيف تُفهَم هذه التهديدات المتجدّدة ضدّ لبنان، وما السرّ الكامن خلفها؟
 
"ضغوط" داخل إسرائيل؟
 
أشبه بـ"البروباغندا"، تبدو تهديدات المسؤولين السياسيين في إسرائيل، بالحرب ضدّ لبنان، من أجل ما يسمّونه بتغيير الوضع في الشمال، في إشارة إلى النزوح القسري لمستوطني الشمال من منازلهم منذ فتح "حزب الله" جبهة جنوب لبنان في الثامن من تشرين الأول الماضي، "بروباغندا" تجد ما يعزّزها في بعض التقارير الصحفية، التي تنقل عن مسؤولين أمنيين قولهم إنّ هذه الحرب لم تعد خيارًا، وإنّ لحظتها الحاسمة تقترب أكثر فأكثر يومًا بعد يوم.
 
ثمّة من يعزو هذه التهديدات إلى الضغوط الداخلية في إسرائيل، نتيجة "المأزق" الذي وُضِعت به الحكومة، العاجزة منذ أكثر من عشرة أشهر عن إغلاق الجبهة التي فتحها "حزب الله"، بعدما جعل الإسرائيليين للمرّة الأولى في معرض "ردّ الفعل"، وليس "الفعل"، وغير القادرة على فرض عودة المستوطنين إلى منازلهم، سواء بالدبلوماسية، وهو الذي يُعتبَر الخيار المفضّل للإسرائيليين، أو بالعمل العسكري، الذي يبقى محصورًا في خانة التهديدات.
 
ولعلّ هذه الضغوط ازدادت نسبيًا بعد ردّ "حزب الله" الأخير، الذي اكتفت إسرائيل في أعقابه بالتقليل من شأنه ومن أهميته، من دون أن تتوعّد بالردّ عليه حتى كما دأبت على أن تفعل، بل تنتقل من بعده إلى جبهات أخرى في الضفة الغربية وغيرها، وكأنّ "الأمر انتهى" بالنسبة إليها، كما انتهى بالنسبة لـ"حزب الله"، الذي طمأن جمهوره ودعاه للعودة إلى الضاحية، مع تأكيده أنّ "الجبهة" ستبقى مفتوحة طالما أنّ العدوان الإسرائيلي على غزة مستمرّ.
 
معضلات وصعوبات
 
من هنا، قد تكون التهديدات الإسرائيلية المستجدّة "محاولة احتواء" لهذه الضغوط، إن جاز التعبير، باعتبار أنّ المسؤولين الإسرائيليين، وعلى رأسهم نتنياهو، يحاولون القول إنّ "الجبهة اللبنانية" تبقى على "قائمة الأهداف" الموضوعة، وإنّ الوضع على خطّها لا يمكن أن يستمرّ كما هو في الوقت الراهن، حتى في حال انتهت الحرب الإسرائيلية على غزة، علمًا أنّ تل أبيب أوصلت رسائل من هذا النوع إلى الوسطاء في أكثر من مناسبة.
 
لكن، بعيدًا عن الكلام، يقول العارفون إنّ أحدًا لا يعتقد أنّ الانتقال من "القول" إلى "الفعل" بات فعلاً قريبًا، إذ ثمّة العديد من المعوّقات التي لا تسمح لإسرائيل بتوسيع الهجوم ضدّ لبنان، أقلّه في الوقت الحالي، وأولها إدراكها أنّ الحرب ضدّ "حزب الله" بالمعنى التقليدي تضرّ أكثر ممّا تنفع، وأنّ كلّ ما واجهته في غزة قد لا يُقارَن بما يمكن أن تواجهه فيها، وثانيها افتقادها لعنصر المفاجأة المطلوبة في المواجهة، في ضوء حرب الاستنزاف الحاصلة.
 
لكنّ العارفين لا يستبعدون احتمال أن تقدم إسرائيل على المزيد من التصعيد العسكري في المرحلة المقبلة، من باب "رفع السقف" من جهة، واستغلال الانشغال الأميركي بالانتخابات الرئاسية من جهة ثانية، علمًا أنّ ارتفاع وتيرة القصف والعمليات في اليومين الماضيين يندرج في هذه الخانة، بما في ذلك المجزرة الإسرائيلية في بلدة فرون، بعد استهداف مسيّرة إسرائيلية مركبة للدفاع المدني بصورة مباشرة، ما أسفر عن استشهاد ثلاثة أشخاص.
 
تشير كلّ التقديرات إلى أنّ الحرب، أو ربما الحروب الإسرائيلية، لن تنتهي قبل نضوج صورة السباق إلى البيت الأبيض، ومعرفة هوية الفائز بين دونالد ترامب وكامالا هاريس، ليُبنى بعد ذلك فقط على الشيء مقتضاه. إذا صحّ ذلك، فهو يعني أنّ التصعيد سيكون عنوان الشهرين المقبلين الفاصلين عن الانتخابات الأميركية، من غزة إلى الضفة وصولاً إلى لبنان، تصعيدٌ لا يستطيع أحد أن يتكهّن ما إذا كان سيبقى "مضبوطًا"..  


المصدر: لبنان 24

مقالات مشابهة

  • فيلم عن فساد نتنياهو يفجر أزمة مهرجان تورونتو.. لماذا تحاول إسرائيل منع عرضه؟
  • قائد الحرس الثوري الإيراني: إسرائيل ستتلقى ردًا حاسمًا على اغتيال إسماعيل هنية
  • عودة التهديدات الإسرائيلية للبنان.. هل ترتفع أسهم الحرب من جديد؟!
  • إسرائيل ستطالب الولايات المتحدة بالضغط على مصر.. لماذا؟
  • 4 أسباب.. لماذا فشلت المظاهرات في تغيير موقف نتنياهو من الصفقة؟
  • لماذا فشلت الاستخبارات الإسرائيلية في تدمير أنفاق الفصائل الفلسطينية؟
  • اليوم 337 من الحرب الإسرائيلية على غزة: ارتفاع حصيلة الضحايا ودعوات في إسرائيل لوقف القتال
  • وتاااني رجعوا لقصة حميدتي مات
  • أستاذ علوم سياسية: عودة المحتجزين ليست مهمة لنتنياهو لو تعارضت مع مصالحه الشخصية
  • الأسطورة.. صحفي بلغاري كانت فلسطين قضيته الشخصية (بورتريه)