شهادات وذكريات.. يرويها مصطفى بكري: (قطار الدرجة الثالثة)
تاريخ النشر: 6th, August 2024 GMT
- القاهرة حلم كل صعيدي والعتبة الخضراء قبلته
- فى منظمة الشباب تعلمنا دروس الوطنية ومعنى الانتماء
- بعد ما يقارب الشهر عدت إلى بلدتي.. وكانت المفاجأة
هذه ليست قصة حياة، بل شهادة حية على مرحلة تاريخية مهمة، عشت فصولها، انتصاراتها وانكساراتها، حلوها ومرها، اقتربت من صناع هذه الأحداث أحيانًا، وكنت ضحية لعنفوانهم فى أحيان أخرى، معارك عديدة دخلتها، بعضها أودى بي إلى السجون، لم أنكسر، ولم أتراجع عن ثوابتي، وقناعاتى.
أروى هذه الشهادات، بصدق وموضوعية، بعض شهودها أحياء، والبعض رحل إلى الدار الآخرة، لكن التاريخ ووقائعه لا تنسى، ولا يمكن القفز عليها، وتزوير أحداثها.
الخطوة الأولى.. داخل القطارمنذ الصباح الباكر، قلبي يخفق، في الليلة السابقة عيناي لم تريا للنوم طعمًا، أحلامي تحلق عابرة كل الحصون والمنحنيات تصحو أمي في وقت متأخر من الليل تسألني لا أجيب، كأنني في عالم آخر، لا أريد أن أنام أعد الدقائق والساعات أنتظر شروق الشمس أغمض عيناي، لكنني سرعان ما أصحو، أستعجل أذان الفجر، وأشتم رائحة الصباح تمضي ساعات طويلة، ها هي الآن تقترب من السابعة مساءً.
أقفز بسرعة إلى داخل القطار، انظر من شباك مزدحم، ثلاثون فردًا بالتمام والكمال، جاءوا لوداعي وكأنهم أمام لحظة الوداع الأخير، أشعر وكأن أمي ترفع يدها وسط الحشود تنساب الدموع على وجهها الأسمر الجميل، يدق قلبي بعنف، أشعر بغربة فظيعة وكأنني ذاهب بلا عودة!!
وفي تمام السابعة مساء انطلق القطار من قنا إلى دشنا إلى نجح حمادى، إلى أبو تشت. الآن عبرنا الحدود قال محدثي: داخلين على سوهاج يابوي كل واحد يخلي باله على روحه!
نظرت إليه بدهشة شديدة وقلت: ليه حيحصل إيه؟ نظر إلى وقال مستنكرًا: اسكت وبطل لماضة أمسكت بلساني ودققت النظر أبحث عن بعض الرفاق الذين تاهوا في زحمة البشر.
قبل أن تحط قدماي محطة القطار كنت قد قضيت أكثر من ساعتين مع أحد أبناء بلدتي من الذين يترددون دومًا على القاهرة.. أجلسني أمامه فيما يشبه جلسة النصح والإرشاد، كان حاسمًا سألني في البداية واخد معاك شنطة ولا قفة؟ قلت له واخد شنطة جلد تشيل قفتين، قال ببرود أعصاب. خلي بالك من شنطتك، أقعد عليها في القطر ومتخليش حد يقرب منها.
سألني: واخد فيها حاجة طرية؟ قلت: زي إيه: قال: بطة ولا فروج، قلت: لأ أنا بس واخد هدومي ومصحفي ومعاي فروجة مسلوقة، قال: معاك فلوس كتيرة، قلت له: يعني، قال مرة ثانية: خلي أمك تخيط جيبك عشان محدش يسرقك!!
كنت أستمع إلى نصائحه بإصغاء شديد: «اوعى تقل عقلك وتشتري حاجة وأنت في القطر، بكرة تشوف في مصر أكل أشكال وألوان، سال لعابي كثيرًا وأنا أستمع إليه، أدرك الرجل ما يخالج نفسي، قال بصوت متهدج: خلي بالك من بنات مصر، حاكم دول حلوين قوي، شعرهم أصفر، ولابسين بنطلونات، الواحدة تديك عين تجيبك الأرض وتدوس عليك كمان، نظرت إلى أسفل وتصببت عرقًا، وقال متهكمًا: هو في راجل صعيدي يتكسف!!
ابتسمت وأنا أتذكر نصائحه، كان القطار قد اقترب من محطة أسيوط، الناس تتكالب من كل اتجاه، النوم يتسلل إلى عيني، من بين الجموع كان يقفز كالفراشة، صوت يزلزل المكان «عيش وبيض وجبنة».
تذكرت الوجبة التي كنت أضعها في مكان متقدم من الحقيبة، أخرجتها بهدوء، ضربت يدي أبحث عن رغيف العيش البلدي الذي يشبه كرش من كان يجلس أمامي، دفعت بهما أمام الجميع، وطلبت من الحاضرين أن يشاركوني «باسم الله»، ثوان معدودة الفرخة طارت، اختفت بداخل الكروش التي تزاحمت عليها، لم يصلني منها سوى قطعة صغيرة، حمدت الله، نظر إلي من يزاحمني في المكان والطعام، وقال بلغة هي أقرب إلى الأمر: «معاك حاجة حلوة، شوية بلح أو برتكان»؟!
كان يمصمص الشفاه بصوت مسموع، شعرت بتقزز شديد، قلت له: واضح إنك صايم من سنتين، أدرك ما أقصده، غمرني بعينيه، وكانت نظراته حادة، ظن أنه يخيفني، لكنه فوجئ بي وأنا أقول له: يا راجل لطشت ربع الفرخة.. وأكلت نص الرغيف لوحدك، وزانقني بكرشك الكبير وتقولي عاوز تحلي، انت فاكرها عمارة من غير بواب، نظر إلى الرجل وقد وضح عليه الارتباك، بينما راح من حولي يطلقون قهقهات لا تخلو من سخرية!!
كان عليّ بعد ذلك أن أظل يقظا، قاومت النوم بكل ما أملك، إنها المرة الأولى التي أسهر فيها إلى وقت متأخر من الليل، فنحن ننام في الريف مبكرًا، ونصحو مبكرًا، لكنني اعتبرت نفسي في حالة صراع مسلح وحرب قد تتخذ وجوها متعددة مع صاحب الكرش الذي بدأ يضيق على الخناق، ويمدد رجليه بطريقة أثارت غضبي، وأيضًا مع الآخرين الذين لا أعلم نواياهم!!
دقائق قليلة وغاب الرجل عن الوعي، فقد راح يغط في نوم عميق، ويطلق شخيرًا زلزل أركان العربة، أيقظ النائمين، وأحدث هلعًا للأطفال والنساء.. أثار حفيظتي حاولت أن أسد أذناي، لكن طلقاته كانت أقوى من الرصاص؟!
ياه لا يزال قلبي منقبضًا، أتلهف على رؤية القاهرة، شعوري بالغربة يتزايد كلما باعدني القطار عن أهلي وقريتي، قلت في نفسي: أعرف أمي جيدًا، أبدًا لن تسلم رأسها للنعاس، إنها تخاف على أكثر من نفسها، دموعها لن تجف إلا بعودتي.. أتخيل وجهها الطيب، ووجه أبي القادم من جوف التاريخ.. يحكى لي عن عائلتنا التي نزحت من أسوان إلى هذه القرية منذ عقود طويلة من الزمن.. مصير الحي يتلاقى، جدك الكبير أبو صيام حط به الرحال هنا في هذه البقعة، كنا من أوائل العائلات التي استوطنت في هذا المكان.
الابتسامة تزحف إلى وجهي وأنا أتذكر صراع الديكة بين أمي وأبي حول العائلات والنسب.. كانا يبحران إلى عالم القرى المجاورة، إلى يوم الزواج الأول: قال أبي، أنا أتجوزت أمك وكان عندها 15 سنة، لا تسألني كيف ولماذا.. كان الجهاز بسيطًا، وكان المهر جنيهات معدودة، لكن الراجل يتمسك من كلمته، هكذا قال وراح يغوص في ذكرياته القديمة!!
تذكرت شقيقي محمود - رحمة الله عليه- وهو يقول لي: يهون عليك ياخويا تسيبني وتروح مصر، والنبي أوعى تتأخر!!
كان محمود الأقرب إلى قلبي وعقلي، وكان أخي أحمد لا يزال صغيرًا بعد.. لكن أمي لا تزال تقذف بالذكور والإناث حتى بلغ عددهم فيما بعد ثمانية، وعندما كنت أزمجر وأحتج وأقول كفى، كان أبي يقول لي: «وأنت زعلان ليه يا ولدي اللي ميعرفش يتعرك يعقط بالطوب» وترجمتها «من لن يستطع المشاركة في المعركة دفاعًا عن الأسرة فسوف يقذف بالأحجار».
بين الحين والآخر كنت أتحسس جيبي، اطمئن إلى أدراجي سريعًا، أشعر بلذة الانتصار، لكنني أتخوف من لصوص المدينة، هؤلاء الذين يقفزون إلى الأتوبيسات ويشقون الجيوب ويسرقون كل ما بداخلها، وإذا ما اعترضت سبيلهم فتحوا كرشك بمطواة قرن الغزال.. قلت أبدًا لن يسرقونني ويا قاتل يا مقتول، وقبضت على جيبي بقوة!!
كان كل صعيدي على يقين أنه مستهدف في ماله وكرامته ومصالحه وممتلكاته، كانت الثقافة السائدة أننا مستكردون، وأن الحرامية يلعبون بالبيضة والحجر، وإيديهم خفيفة، ولديهم سحرًا غريبًا، وقادرون على سرقة الكحل من العين، بأساليب لا أحد يستطيع كشفها!!
قلت لنفسي: خياري الوحيد هو في الاعتزال، البشر والمكان، كنت أقول: أبدًا لن أصدق أحدًا منهم، من يدري حيلهم وأساليبهم، سأحافظ على جيبي ولو كان الثمن هو الحياة، كنت مستنفرًا طيلة الوقت، قلت إن من سيقترب مني سأنط في كرشه، ولن أدعه يضحك علي، وإلا أصبحت مسخرة في البلد!!
بعد قليل تململ أبو كرش، رفسني برجله رفسة لن أنساها، كنت قد خلعت حذائي، وفجأة دفعت برجلي في مواجهة جسده الممتد إلى جواري، صحا وقفز من على كرسيه وكأنه ثور هائج أمسك برقبتي، وقبل أن يدفع بي، أمسك أحد الجالسين بيده وقال له يا راجل عيب عليك أنت حتعمل عقلك بعقله ده عيل ميجيش في وركك حاجة، سيبه يا شيخ!!
راح الثور الهائج يتمتم بكلمات غير مفهومة، كنت مستفزًا ومستنفرًا، حمدت الله أنني لم أحضر معي مطوة، أو حتى منجل، وإلا كان كرشه يتبعثر أمامي، قلت له وكلي ثقة: عيب عليك.. لم نفسك.. نظر إلى الجالسين والواقفون نظرة تعجب، قال أحدهم: اقعد يا واد أحسن يهرسك، بينما راح آخر يقول بسخرية: «باين عليك موش حتجيبها لبر» قال الكمساري بعد قليل: يالله كل واحد يلم حاجته داخلين محطة رمسيس وورونا عرض كتافكم.. تحسست حقيبتي وجيبي وانتظرت، فلن أطلق قدماي للريح إلا بعد أن تهدأ الأحوال، راح الناس يتزاحمون للخروج، بينما بقيت منتظرًا لبعض الوقت.
الكاتب والبرلمانى مصطفى بكرى في محطة مصرفي محطة رمسيس كان الوقت مبكرًا، السماء صافية، وجوه متعددة تحتل الرصيف، أناس من كل حدب وصوب، الحشود تتدفق من داخل القطار إلى خارجه، سيدة صعيدية وجدت نفسها محشورة بين المتسابقين للخروج، وقفت أتأمل مشهد السيدة، تكلم هذا وتسب ذاك وتصارع من أجل الخروج سالمة ودون أن يلمسها أحد.
رحت أبحث عن الزملاء الذين تاهوا داخل القطار، لقد تواعدنا باللقاء على رصيف المحطة، ها هو صديقي محمد علي عبد اللطيف يرفع يده وكأنه انتصر في موقعة عين جالوت، التقينا سويًا، ووقفنا ننتظر الآخرين.
الآن تجمع الوفد، أعرف أن الأتوبيس ينتظرنا داخل الميدان، إذن هذه هي محطة رمسيس التي يتوه فيها الصعايدة، لا تعرف أين سيقف القطار وفي أي رصيف، قد تجد نفسك محرم على القللي، وحتمًا ستكون أمك داعيالك إذا مضيت باتجاه هذا التمثال الشامخ الذي يقف في ميدان المحطة، إنه تمثال رمسيس الثاني الذي جاءوا به من قلب الصعيد، ليقف هنا شامخًا والمياه تتدفق من جسده إلى نافورة واسعة تسر الناظرين، قلت لزملائي: عاوزين نغسل وشنا، عيب ده إحنا في مصر.
أسرع الجميع إلى دورة المياه التي تقع في مدخل المحطة، وقفنا بالدور، طلب منا العامل قرش صاغ بالتمام والكمال، دفعته مرغمًا، فقد كنت محشورًا، لم أكد أغلق علي الباب حتى انهمرت الطرقات، على الباب: يالا يا بلدينا.. اخلص!!
الطرق يتزايد، “اديته الطرشة”، ولم أخرج إلا بعد أن انتهيت، نظر إلي نظرة حادة، وكأنه أراد أن يقول: مشفتش حمام قبل كده!!
بعدما غسلت وجهي مضيت إلى الزملاء الذين كانوا ينتظرون، هبطنا سلالم المحطة، تأملت الوجوه النضرة الداخلة والطالعة، نظرت باحتقار إلى شباب يطلقون شعورهم ويرتدون بنطلونات الشارلستون والحذاء أبو كعب، قلت في نفسي: إذن دول العيال الخنافس!!
تمثال رمسيس الثانيفي ركن جانبي من الميدان، كانت هناك عربة لبيع ساندوتشات الفول والطعمية، قرون الفلفل الأخضر تتصدر الواجهة، كدت أتوجه إلى هناك لولا أن أحدهم دفع بي إلى الأمام قائلًا: يا الله يابو بكري خلينا نروح حلوان.. تأملت مشهد تمثال رمسيس الثاني، وقفت أمامه، وبللت يداي من المياه التي تتدفق من أسفله، نثرات الماء تذكرني بالترعة والسحارة في بلدتي عندما كنا صغارًا، كنت أصطحب التلاميذ وأمضي بهم إلى هناك، وأقلع يا جدع وارمي نفسك في الترعة، ليس مهما أن تكون على معرفة بالعوم، المهم أن تطبش حتى تنجو من الغرق، كنت مغامرًا، أنطلق دون حساب وأمضي دون تردد، كانت لدي قناعة بأنني لن أغرق، لأنني أكلت ذر البصلة، لقد قالوا لنا أن من يأكل «ذر البصلة» لا يمكن أن يغرق، وبعد أن أكلتها ألقيت نفسي في ترعة السحارة الغريقة العميقة وأنا بعد طفل صغير لم يتجاوز عمري العشر سنوات. عندما كان يسألني الزملاء: كيف حدث ذلك، كنت أتحدث بفخر عن «ذر البصلة» الذي يعطيك القوة للعوم والتجديف ومقاومة الغرق.
كانت لدي ثقة غريبة في ذلك، وهو ما دفعني إلى أن ألقى بنفسي في «ساقية عمار» من مسافة أربعة أمتار لأغوص فيها، بينما رفاق الصبا يشاهدون ما يجري غير مصدقين، بل إن أحدهم ذهب مسرعًا إلى منزل أسرتي ليخطر والدتي أن ابنها غرق في الساقية.
وعندما جاءت على عجل وجدتني كالجن الأزرق أعوم على ظهري وأقدف بساقي، بينما هي غير مصدقه لما ترى حتى أن أحدهم ذهب وجاء إلي بحبل طويل لكي أمسك به.
ضحكت وقلت: أنا حطلع على حبل القواديس يا بلدينا.. ذكريات لا تنسى انتهت على صوت أحد الأصدقاء وهو ينادي: يالله يابو بكري.
مضيت سريعًا، ركبنا سويًا في الأتوبيس الذي كان ينتظرنا على قارعة الطريق، سوف يتجه بنا إلى حلوان، مشغول أنا بمتابعة الحياة في شوارع القاهرة، أتفحص الوجوه أتذكر الحكايات التي رويت لي، وأطابقها على أرض الواقع.
وصلنا إلى حلوان بعد مضي أكثر من ساعة ونصف الساعة، كنت أتمنى مزيدًا من الوقت حتى أتمتع بجمال القاهرة وأهلها.
معهد الدراسات الاشتراكيةالآن وصلنا إلى هناك، لقد تم استقبالنا على باب معهد الدراسات الاشتراكية، حشود من كل حدب وصوب، جاءت من كل المحافظات، ثم تسجيل أسماءنا وتسكيننا داخل الخيام سريعًا، ارتدينا البدل الكاكي، وتم تقسيمنا إلى مجموعات، بدأنا في دراسة برنامج مكثف واستمعنا إلى محاضرات لأساتذة كبار، تعرفت على الأستاذ محمد رجب أمين التنظيم بالمنظمة، والمحاضر ماهر سمك، وسيد الطحان وغيرهم كثيرون، كانت أسماء د.مفيد شهاب، ود.حسين كامل بهاء الدين، ود.عبد الحميد حسن، ود.علي الدين هلال تتردد كثيرًا في هذا الوقت.
قضيت 21 يومًا من أكثر الأيام أهمية في حياتي، تعلمت فيها الكثير، وبعد انتهاء المدة المحددة، مضيت إلى منزل عمي الذي ترك البلدة وهاجر إلى الجيزة منذ سنوات طوال، حيث أقام في بولاق الدكرور إلى جانب العديد من أبناء البلدة الذين عاشوا سنوات طوال في هذه المنطقة التي تكتظ بأبناء الصعيد.
قمت بزيارة سيدنا الحسين والسيدة زينب، تجولت في المناطق المحيطة بهما وقرأت الفاتحة ودعوت لأمي وأبي وأخوتي وكل أقاربي، تذكرت جدي كثيرًا، وذكريات الحديث معه عن القاهرة والجيزة والأماكن التي يتجه إليها أبناء الصعيد بمجرد أن تطأ أقدامهم أرض المحروسة.
كان جدي لوالدتي «سيد محمد بن عمار العقيلي» -رحمة الله عليه- يحدثني عن مصر - هكذا كانوا يسمون «القاهرة»- يتغزل فيها وفي جمال، وكانت حكاياته مثيرة عن حديقة الحيوان والعتبة الخضرا وإرث الصعيد فيها، وعن بنات مصر اللاتي يخطفن الرجال ويعاكسون في الشوارع، عن المأكولات والمطاعم وفنادق كلوت بك المجاورة لمحطة رمسيس.
القاهرة الجميلةمضيت أتجول في القاهرة وكأني أريد التعرف على شوارعها وأهلها، بعد أن أنهيت زيارتي للسيدة والحسين، توجهت على الفور إلى العتبة الخضرا، كان أغلب البائعين يرتدون الجلباب الصعيدي، وكانت لهجتهم هي لهجة أبناء الصعيد، شعرت بحالة غريبة من الارتياح، بدأت اشتري بعض الحاجيات الرخيصة كهدايا لأمي وأبي وأخوتي وخالاتي وعماتي وجدي وجدتي، ذلك أنه لم يكن طبيعيًا أن أعود إلى بلدتي بعد زيارتي لأم الدنيا وإيدي فاضية!!
استقليت أتوبيس (17) العتبة - بولاق الدكرور، عدت إلى منزل عمي في عصر ذلك اليوم، كنت تواقًا إلى العودة سريعًا إلى بلدتي، وحشتني الطبيعة والبشر، ولكن كيف أعود دون زيارة حديقة الحيوان، في اليوم التالي مضيت إلى هناك، عالم غريب اختلط فيه البشر بالحيوانات، كنت أتنقل من مكان إلى مكان، أتأمل هذه المخلوقات الغريبة، كان يرافقني سعيد ابن عمي في هذه الزيارة، وكأنه كان مرشدًا بالنسبة لي، فقد سبق له أن زار الحديقة كثيرًا، وتعرف على كل جزء فيها، قضينا عدة ساعات في أرجاء الحديقة، تم سرقتي من أولاد الحرام لكنني استعدت جنيهاتي بفضل رجال الأمن، وفي نحو الرابعة من بعد عصر هذا اليوم، عدنا إلى المنزل وبدأت استعدادي للسفر والعودة إلى بلدتي إلى الصعيد.
العودة إلى قناساعات طوال قضيتها في قطار العودة، اشتقت إلى أسرتي وبلدتي كثيرًا، تحسست الهدايا (القيمة) التي جئت بها من العتبة الخضرا، وتخوفت من أن يخطفها أحد من أولاد الحرام الذين يتواجدون في مثل هذه القطارات، كان القطار مزدحمًا كالعادة، وصوت البائع (بيض وعيش وجبنة) لا يتوقف، الضربات واللكمات التي تلقيتها بسبب التزاحم عكرت مزاجي في هذا المساء، تخوفت أن يغالبني النوم فلا أتمكن من النزول في محطة قنا، عندما وصل القطار إلى محطة نجع حمادى، هممت بالوقوف حتى لا أقع فريسة للنعاس، بعد أن نال مني التعب كثيرًا بحثت عن المياه لغسل وجهي، لكن الحنفيات كانت خاوية، بعد محطة نجع حمادى، جاءت محطة دشنا، أنظر من الشباك، أتابع أسماء القرى والنجوع بعد قليل، جاءت بلدتي الحبيبة، قلبي يكاد يقفز من جسدي شوقًا.. دخلنا إلى محطة قنا كان شقيقي محمود في انتظاري، أمسكت بحقيبتي الصغيرة وأطلقت ساقاي للريح، مضيت أنا وشقيقي إلى بلدتنا، كانت أمي تجلس أمام البيت في انتظار عودتي، وما أن رأيتها حتى أسرعت الخطى، واحتضنتها حضنًا طويلًا، شعرت بدموعها تبلل وجنتيى، فبكيت من حرقة الاشتياق.
قالت لي: كل ده في مصر يا محمد (محمد هذا هو اسمي)، هان عليك تسيبنا يا ولدي، ده أنا كنت حموت عليك، اوعى تاني تروح مصر.
أدخلتني إلى المنزل، كان أبي قد صحا لتوه من النوم، احتفى بي كثيرًا، نظر إلى أمي وقال لها: متخافيش عليه، ولدك راجل.
فتحت حقيبتي على الفور وبدأت في توزيع الهدايا البسيطة التي جئت بها، ورحت أحكي لهم مشاهداتي وانطباعاتي عن هذه الزيارة.
في المساء اجتمع حولي بعض رفاق الصبا، وبدأت أعيد الحكاية وأرويها من جديد وكأنني (عبد رحيم) بتاع الرحمانية قبلي، فعلت مثل ما فعل (دياب) في فيلم الأرض بعد الإفراج عنه، مضيت مسرعًا إلى كل مكان، إلى الترعة إلى الجميزة إلى الغابة إلى ساقية عمار إلى كولة قديس في الجبل، كأنني أحتضن الأماكن وأخاطبها، أبحث في وجوه الناس عن أشياء افتقدتها هناك.
وبعد صلاة العشاء كنت أخلو إلى نفسي، وأتأمل الحياة من حولي، وأتذكر كلمات سمعتها في الدورة التثقيفية، وأتساءل ما العمل؟!
القفز إلى المجهولجاء يوم الجمعة، كنت قد أعددت كل شيء، كتبت عدة أوراق بخط اليد، وقمت بتعليقها في الشوارع في وقت مبكر من هذا الصباح، كان مضمونها (أطلب منكم يا أهل بلدتي الانضمام إلى جمعية الوعي الاشتراكي)!!
ذهبت إلى الصلاة، وما أن انتهى الخطيب الحاج محمد عبد القادر من خطبته، حتى صعدت إلى المنبر مخاطبًا المواطنين البسطاء من أهل بلدتي قائلًا: هل يرضيكم أن يمتلك سيد مرعي 300 بقرة، وهو واحد من كبار المسئولين في الدولة، وأنتم لا تملكون شيئًا، نظرت إلى الحاضرين وسط دهشتهم وقلت: لابد من تحرك، لقد أسست لكم جمعية «الوعي الاشتراكي» أطلب منكم الانضمام إليها حتى نستطيع تغيير حال البلد.
أبدى كثير من المصلين استغرابهم ودهشتهم، كانوا غير مصدقين لهذا الكلام الذي سمعوه منذ قليل، التفوا حولي يسألون لماذا وكيف وليه؟ عندما تركت المسجد وذهبت إلى المنزل، استعدادًا لتلقي أسماء المنضمين، وبعد صلاة المغرب فوجئت بمخبر أمن الدولة (الصول سيد) وهو من أبناء قرية دندرة المجاورة، يأتي إلى منزل خالي سعد، ويطلب منه إحضاري إليه في وجود بعض قيادات وحدة الاتحاد الاشتراكي في المنطقة، وعندما حضرت راح يوجه لي أسئلته، من قال لك هذا الكلام، ولماذا قلته في المسجد، وإيه حكاية جمعية الوعي الاشتراكي، وهل لإمام الجامع الحاج محمد عبد القادر صلة بهذا الحديث؟!
حاصرني بالأسئلة من كل اتجاه، وأنا لا أملك غير كلمة واحدة: محصلش، لم يجد إجابة شافية، قال له أعضاء الاتحاد الاشتراكي وتحديدًا الحاج حسين أحمد والحاج عبيد مبارك: اتركه لنا، ومش حيعمل حاجة تاني، حاولت الرد والحديث، إلا أن خالي زجرني وقال: اسكت أنت يا محمد واسمع الكلام!!
شرب المخبر الشاي، مرة واتنين وثلاثة، وقضى بعض الوقت، ثم سرعان ما انصرف وهو مطمئن بأنني لن أكرر ذلك مرة أخرى!!
جاء ذلك، في هذه الحلقات التي تنشرها "الجمهور" يوم الجمعة، من كل أسبوع يروى الكاتب والبرلماني مصطفى بكري، شهادته عن أزمات وأحداث كان شاهدًا عليها خلال فترات حكم السادات ومبارك والمشير طنطاوى ومرسى والسيسي.
المصدر: الأسبوع
كلمات دلالية: مصطفى بكري النائب مصطفى بكري الكاتب مصطفى بكري تاريخ مصطفى بكري داخل القطار محطة رمسیس إلى بلدتی إلى هناک إلى منزل نظر إلى کثیر ا بعد أن سریع ا فی هذه قلت له
إقرأ أيضاً:
«طابا».. شهادات جديدة عن «أيقونة سيناء» قبل التحرير وبعده
المحافظ يتحدث عن مشروعات ترسم خريطة التنمية.. وأنفاق قناة السويس مفاتيح الاستراتيجية
- مواطنون ونواب وخبراء سياحة يعرضون رؤيتهم للواقع والمأمول لتعزيز الحضور الاستراتيجي
- الطرق الحديثة شرايين تربط أرض الفيروز بالدلتا ووادي النيل وتمهد لفرص استثمارية متنوعة
بجوار قلعة صلاح الدين بمدينة «طابا»، حيث تبدو على الشاطئ الآخر من الخليج مدينتا: العقبة الأردنية، وإيلات «أم الرشراش»، التي احتلتها إسرائيل في العاشر من مارس عام 1949، قال لي الشيخ سليمان أبو حميد، من أهالي جنوب سيناء: «الاحتلال الإسرائيلي لطابا وسيناء بعد 5 يونيو 1967 لم يكن عاديًا. كان مخططًا استراتيجيًا لتغيير الطابع الاجتماعي والسكاني»، روى لـ«الأسبوع» أن «إسرائيل فرضت سيطرة محكمة على طابا باعتبارها نقطة ارتكاز استراتيجية، حتى تمنح قواتها ميزة مراقبة الملاحة في البحر الأحمر».
كنا نقف على جزيرة «فرعون» الجرانيتية على الجانب المصري من خليج العقبة، المقامة عليها قلعة صلاح الدين. أدركت لحظتها أهمية موقع طابا، التي تُطل على ثلاث دول: فلسطين، الأردن، والسعودية، ولماذا أسس صلاح الدين قلعته عام 1171م، كمركز دفاعي متقدم للتصدي للهجمات الصليبية، وحماية طريق الحج المصري عبر سيناء، وتحصينها بمنشآت عسكرية، وورش أسلحة، وتوفير الخدمات اللازمة لقواته المقاتلة.
يقول سليمان أبو حميد: «قبل عودة طابا لمصر، أقامت إسرائيل نقاط مراقبة عسكرية على المرتفعات المحيطة بالمدينة: مراكز رادار ومحطات استطلاع لتعزيز السيطرة الأمنية على الملاحة في خليج العقبة»، وعن حيلها لاحتواء القبائل البدوية، قال: «اتبع الاحتلال سياسة مدروسة لاستمالة البدو، كتقديم المساعدات المادية والتسهيلات التجارية. حاولت إسرائيل تثبيت وجودها في المدن عسكريًا عبر تشجيع السياحة الإسرائيلية حتى تصبح طابا وجهة إسرائيلية خالصة».
يكمل حصيلة المعلومات التي انتقلت من الشيوخ للشباب: «تزامن ذلك مع التلاعب بحدود وخرائط المنطقة وتغيير بعض علاماتها ومعالمها التاريخية، مع تحركات فاشلة لتجنيد عناصر بدوية، والتنكيل بمن يرفضون التعاون: هدم الخيام، منع الرعي، وتقييد حركة التنقل»، قبل أن يقول لي ساخرًا: «قبيل لجوء مصر للتحكيم الدولي، الذي انتصر لمصر في نهاية الأمر، زعمت إسرائيل أن مدينة طابا تابعة لها منذ 1906، رغم أن الاعتراف الدولي بإسرائيل ككيان حدث في عام 1948»!
الانتقال شرقًاقبل ساعات قليلة من حديثي مع سليمان أبو حميد، كنت قد انتقلت من إفريقيا غربًا إلى آسيا شرقًا في أقل من 10 دقائق، عبر أحد الأنفاق الجديدة المارة تحت قناة السويس (اثنان في بورسعيد، ونفقان في الإسماعيلية، وخامس موازٍ لنفق الشهيد أحمد حمدي)، كجزء من مكتسبات التنمية الشاملة بعد 30 يونيو 2013. تمتد الأنفاق بطول 5820 مترًا، على عمق يتراوح بين 53 و70 مترًا تحت المجرى الملاحي للقناة، يستوعب النفق الواحد 2000 سيارة في الساعة، بمعدل عبور 40 ألف سيارة يوميًا في النفق الواحد.
خلال مدة تنفيذ أنفاق قناة السويس (من عام 2016 إلى 2019)، تم الحفر والبناء والتشطيب، مع تزويدها بأنظمة التشغيل الخاصة بالكهرباء، والاتصالات، ومكافحة الحرائق، وتأمين العابرين، وذلك بأيادٍ مصرية (2500 عامل ومهندس مصري) وخبرة عالمية، لتيسير حركة النقل من وإلى سيناء على النحو الذي بدا خلال زيارتنا لطابا التي تحتفل بالذكرى الـ36 لعودتها لمصر. واللافت أن المدة التي أمضيتها في المدينة كانت حوالي 36 ساعة فقط، قبل العودة للقاهرة.
عن المرويات القبلية حول الاحتلال الإسرائيلي لطابا، يقول سليمان أبو حميد: «عسكريًا، كان أقل صخبًا من باقي سيناء، لكنه كان أكثر خبثًا، عبر التغلغل الاقتصادي والسياحي. استهدفت قوات الاحتلال تثبيت وجودها عبر بناء شبكة طرق، ومرافق سياحية، ومهبط طائرات، مع تمركز وحدات عسكرية في نقاط مرتفعة، ودوريات مستمرة على طول الساحل، ورغم محاولة دمج المنطقة ضمن نفوذها، فإنها لم تقم بإنشاء مستوطنات دائمة فيها».
سألته عن وضع المدينة خلال حرب العاشر من رمضان - السادس من أكتوبر 1973 - فقال: «عرفنا أنها كانت منطقة خلفية للجيش الإسرائيلي، لم تشهد معارك مباشرة، لكنها استخدمت كموقع إمداد ودعم لوجستي. بعد الحرب وتوقيع اتفاق فض الاشتباك في السبعينيات، كانت إسرائيل تحاول خلق واقع جديد يجعل الانسحاب منها صعبًا». سألت المواطن السيناوي، علي جمعة، عن كيفية الحفاظ على الهوية في ظل المؤامرة الإسرائيلية، فقال: «نحن مصريون، والوطن غالٍ، وسنحافظ عليه حتى لو كان الطرف المعادي أمريكا».
عودة الحقيتذكر علي جمعة حكايات شيوخ القبائل: «في بداية الاحتلال بعد يونيو 1967، جمعوا كل البدو داخل مناطق معزولة بسلك شائك، أشبه بعملية فرز أمني. كل من يشتبهون في تعاونه مع الحكومة المصرية كان يُعتقل. كانت الاعتقالات تتراوح بين عامين وأكثر. كانت أغلبية أهالي سيناء تعيش في الوديان، وتتمركز قوات الاحتلال بمناطق عسكرية مغلقة. كانوا يأتون بمعونات — دقيق، زيت، سمن، وسكر — لكن أهلنا من البدو كانوا فاهمين الأهداف الحقيقية. كبارنا ومشايخنا عبروا عنا في مؤتمر الحسنة في أكتوبر 1968».
تابع: «كان هدف إسرائيل تدويل سيناء، قبل صدمة جولدا مائير وموشيه ديان، عندما أعلن ممثلو القبائل أن سيناء ليست ملك البدو، بل ملك الدولة المصرية، وإذا أرادوا التفاوض حولها، فعليهم أن يراجعوا الرئيس الراحل جمال عبد الناصر في القاهرة»، موضحًا أنه «بعد هزيمة إسرائيل في حرب أكتوبر عام 1973، تغير أسلوبها ولهجتها مع القبائل. حاولوا مد الجسور أكثر، لكن في السنوات اللاحقة — التي سبقت التفاوض — بدأ وجودهم يقل كثيرًا كنوع من الشعور المبكر بأن مصر ستحسم معركة التفاوض القانوني وتستعيد طابا».
يؤكد علي جمعة أنه «بالوثائق الرسمية، واصطفاف بدو سيناء، والجهود العسكرية والدبلوماسية فشل الاحتلال. حقُّنا عاد في 29 سبتمبر عام 1988، بصدور حكم هيئة التحكيم الدولية لصالح مصر، ورفع العلم عليها في 19 مارس 1989. لا تفريط في شبر من أرضنا إلى يوم الدين. التعاون الكبير مع الجيش والشرطة خلال الحرب على الإرهاب يعبر عن هذه الروح. نحن نزرع هذا في أولادنا وأحفادنا. نطالب بالتوسع في توفير فرص العمل في سيناء بعيدًا عن الحراسة والوظائف الحكومية، من خلال المشروعات الصناعية والزراعية والسياحية».
تعكس الثقة التي تحدث بها، علي جمعة، شعورًا عامًا في طابا، التي حرصت على تفقدها، حتى المنفذ البري بين مصر والأراضي المحتلة. خلال الجولة، تبدت اليقظة الأمنية كعنوان كبير لرؤية الدولة في التعامل مع المناطق الحدودية. لا مكان للتهاون أو الاسترخاء في بسط مظلة الأمن والاستقرار، ليس فقط في نطاق المقاصد السياحية، بل عبر التوسع في التنمية الشاملة كما في أرض الفيروز، عبر خطط البيوت والقرى والتجمعات البدوية، ومحطات التحلية، ومد خط السكة الحديد.
أجواء عامةتجربة سهام سعيد، خريجة كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، من قبيلة المزينة، كاشفة في التعامل مع أزمة الانتقال من محافظة جنوب سيناء للقاهرة. تقول لـ«الأسبوع»: «درست في سيناء حتى مرحلة الثانوية العامة قبل الالتحاق بجامعة القاهرة. في البدايات، كانت العادات والتقاليد القبلية تمثلان حاجزًا نسبيًا. كانت أسرتي لديها بعض التحفظ على الدراسة في مكان بعيد.كان لدي تصميم على النجاح بمجموع يؤهلني للكلية في القاهرة. كنت راغبة في معرفة عالم جديد، أجواؤه، وماذا يحدث فيه؟ البداية كانت بالنسبة لي كأنها العالم الآخر».
تقول سهام: «أقنعت الوالد بأهمية الدراسة في القاهرة. في النهاية وافق. لاحقًا، ومن بين 1000 متقدم لمنحة مقدمة من الجامعة البريطانية، كنتُ ضمن 50 فائزًا. حصلت على ليسانس حقوق، كما حصلت على بكالوريوس الاقتصاد والعلوم السياسية»، توضح أن «مصر تتحرك للأمام خلال السنوات الأخيرة. كانت هناك أزمات، لكنها تتحول تباعًا إلى حلول، على صعيد النقل وباقي الخدمات، وتنويع المشروعات لجذب شرائح أكبر من المحافظات، والنهضة السياحية وغيرها ستشجع الناس على القدوم لطابا وسيناء».
تمثل طابا نقطة استراتيجية في مشروع الربط بين البحر المتوسط وخليج العقبة عبر خط سكة حديد العريش - طابا، الذي يستهدف ربط ميناء العريش على البحر المتوسط بميناء طابا على خليج العقبة. سيمتد الخط عبر منطقة الصناعات الثقيلة في وسط سيناء، ما يعزز حركة التجارة والصناعة والتعدين في المنطقة. إنشاء هذا الممر اللوجيستي سيسهم في تسهيل نقل البضائع من مناطق الإنتاج إلى الموانئ البحرية، ويجعل طابا مركزًا رئيسيًا في حركة التجارة الإقليمية.
سيكون ميناء طابا البحري الجديد نقطة النهاية لخط السكة الحديد القادم من العريش، ما يخلق شبكة نقل متكاملة بين النقل البحري والبري. هذا التكامل سيتيح نقل البضائع والركاب بسهولة، ويعزز من كفاءة حركة التجارة، ليضع طابا في قلب شبكة النقل الإقليمي والدولي، أما خط سكة حديد الفردان - بئر العبد، فيشكل خطوة محورية في ربط سيناء بالمحافظات المصرية.
يمتد الخط من الفردان، بالقرب من الإسماعيلية، حتى بئر العبد في شمال سيناء، بطول يقارب 100 كم. بدأ التشغيل التجريبي في أكتوبر 2024، ليكون بذلك أول تشغيل لقطار في سيناء منذ 51 عامًا. يأتي هذا المشروع ضمن خطة شاملة لربط مناطق الإنتاج في سيناء بالموانئ البحرية، ما يسهم في تسهيل نقل البضائع والركاب، ويعزز النشاط الاقتصادي في المنطقة.
طابا والمالديفحسني مخلوف (مدير فندق Taba Sands) يقول: «طابا منطقة بكر، مليئة بالمقومات الطبيعية والسياحية، مناخها المشمس وندرة الأمطار، ما يجعلها وجهة مثالية للسياح. المناظر الخلابة، والشواطئ المطلة على أربع دول، والمحميات الفريدة، إلى جانب قلعة صلاح الدين الواقعة في منتصف البحر، كلها عوامل جذب قوية. تحتاج فقط إلى مزيد من الترويج والتسويق. جهود الدولة في تطوير البنية التحتية، وتحديث المطار، وتطوير الطرق والمشروعات الصناعية، ستجعل طابا مركزًا رئيسيًا للسياحة والاستثمار في المستقبل القريب».
يضيف: «الشعاب المرجانية في طابا قد تكون الأجمل عالميًا، تكثر الدلافين قرب شواطئها، إلى جانب بحيرة الفيورد الطبيعية التي تحيط بها الجبال الملونة. تتفوق طابا على المالديف بأجوائها وأسعارها مقارنة بالمالديف المرتفعة، كما تتميز طابا بكونها مدينة متكاملة تضم مزارات سياحية ومراكز تسوق، ما يجعلها وجهة تجمع بين الراحة، الاستكشاف، والترفيه. يمكن تنظيم برامج سياحية متكاملة تجمع بين الاستجمام في منتجعات طابا، وشرم الشيخ، ودهب، إلى جانب رحلات ثقافية إلى القاهرة لاستكشاف المتحف الكبير والأهرامات».
يؤكد أن «الفترة التي أعقبت سقوط الطائرة الروسية في 31 أكتوبر 2015 كانت من أكثر الفترات تقلبًا، ثم توالت الأزمات: جائحة كورونا، حرب أوكرانيا، حرب غزة، وسبقها تحديات الإرهاب، حيث كان الطريق الوحيد المؤدي إلى طابا من الاتجاه الأوسط شبه مغلق، ما أدى إلى تراجع الاستثمارات الفعلية من المستثمرين، وتحمل الدولة عبئًا كبيرًا. لكن رغم ذلك، تم إنجاز العديد من المشروعات المهمة لاحقًا، كتطوير الطرق والبنية التحتية، خاصة في ازدواج طريق النفق حتى نخل وطابا، وفقًا لأعلى المعايير، مع تجهيز مخرات للسيول».
وجهة عالميةيؤكد، خالد أحمد، المدير الإقليمي والمدير العام لفندق مارينا شرم -الحائز على جائزة أفضل مدير فندق في مصر لعام 2021- لـ«الأسبوع» أن جمال جنوب سيناء يجعلها أحد أهم الوجهات السياحية في الشرق الأوسط والعالم، في ضوء شواطئها المشمسة، وطبيعتها الخلابة على مدار العام، لا سيما طابا وشرم الشيخ ودهب ونويبع ورأس سدر، التي تتميز بتنوع أنشطتها السياحية، وبرامجها المتكاملة، والمواقع التاريخية والدينية الفريدة مثل سانت كاترين ومشروع التجلي الأعظم، لتحويلها إلى وجهة روحية وسياحية عالمية.
تطرّق، خالد أحمد، إلى أهمية الحفاظ على التراث الثقافي والديني، وتقديم خدمات سياحية مستدامة، فضلًا عن تعزيز مكانة جنوب سيناء كوجهة رئيسية للسياحة البيئية والثقافية لجذب المزيد من السياح والمستثمرين، ضمن استراتيجية مصر 2030، حيث يوفر القطاع السياحي آلاف فرص العمل المباشرة وغير المباشرة التي يستفيد منها السكان المحليون. كما أن القطاع أحد أهم المصادر للعملة الأجنبية، وسط حرص من المحافظ على معرفة آراء ومقترحات المستثمرين ووضع حلول للتحديات التي تواجههم.
في جنوب سيناء توجد مجموعة كبيرة من المنشآت الفندقية المجهزة، حيث تحتضن طابا 28 منشأة فندقية بإجمالي 6137 غرفة، وتتصدر شرم الشيخ القائمة بـ 188 منشأة فندقية، وفي رأس سدر يوجد 27 منشأة فندقية تضم إجمالًا 1716 غرفة، وسانت كاترين 12 منشأة فندقية بإجمالي 718 غرفة، أما في طور سيناء، فتوجد 9 منشآت فندقية توفر 771 غرفة، وفي نويبع يوجد 14 منشأة فندقية تضم 1619 غرفة.
احتفاء شعبيفي صباح اليوم التالي، وعلم مصر يرفرف عاليًا، قال لي البرلماني، سليمان عطيوي سليمان، النائب عن دائرة طابا ونويبع ودهب وشرم الشيخ، بفخر: «طابا، أغلى بقعة على أرض مصر. استعادة مصر لها عيد خاص جدًا. الجديد أن الذكرى الـ36 لاستعادة طابا مختلفة عن سابقاتها في ظل اتساع نطاق التنمية الشاملة، التي لا تتوقف عند كونها وجهة سياحية رئيسية في جنوب سيناء».
واحتفلت مدينة طابا رسميًا وشعبيًا بمناسبة الذكرى الـ36 لتحريرها وعودتها إلى أحضان الوطن، حيث رفع اللواء خالد مبارك، محافظ جنوب سيناء، علم مصر بساحة العلم في مدينة طابا، في مشهد يعكس عظمة الإنجاز الوطني الذي تحقق عبر مسار دبلوماسي وقانوني تاريخي. حضر المراسم اللواء محمد عناني، مدير أمن جنوب سيناء، وعدد من أعضاء مجلسي النواب والشيوخ، إلى جانب القيادات التنفيذية والشعبية، في احتفال وطني يؤكد على الثوابت الراسخة لمصر في الحفاظ على كل شبر من أراضيها.
انطلقت مراسم الاحتفال بإشعال الشعلة الوطنية، وعزف كورال الأطفال الأغاني الوطنية، في أجواء مفعمة بالفخر والانتماء. وشارك في الفعاليات أعضاء مجلسي النواب والشيوخ، إلى جانب عدد من رجال الأعمال، ومديري الأوقاف والتموين، ومشايخ وعواقل محافظة جنوب سيناء، الذين أكدوا جميعًا على أهمية هذا اليوم في التاريخ المصري. وفي إطار الاحتفال، تم افتتاح سوق اليوم الواحد بمدينة طابا، الذي ضم مجموعة متنوعة من السلع الغذائية واحتياجات شهر رمضان والخضروات والفاكهة بأسعار مخفضة.
سألت البرلماني، حميد سليمان موسى، النائب عن دائرة الطور ورأس سدر وأبو زنيمة وأبو رديس عن الجديد في التنمية، فقال: «هناك طفرة شاملة في كل المجالات سياحيًا وخدميًا. لدينا كل مقومات الحياة الأساسية. لدينا جميع أنواع السياحة، فضلًا عن الأنشطة الزراعية. أقول للمصريين في كل المحافظات: تعالوا إلى سيناء.. أهلا بكم جميعًا. لنشارك جميعًا في جهود التعمير والتنمية».
في خطوة طموحة لتحويل طابا، ومحافظة جنوب سيناء عمومًا إلى نموذج عالمي للتنمية، أكد اللواء مهندس دكتور خالد مبارك، محافظ الإقليم لـ«الأسبوع» أن خطة التنمية المستدامة بالمحافظة تعتمد على رؤية شاملة تغطي الجوانب الاقتصادية، الاجتماعية، الثقافية، البيئية، الإدارية والتشريعية، وفقًا للخطة، التي صدّق عليها الرئيس عبد الفتاح السيسي في 24 سبتمبر الماضي، بهدف تعزيز مكانة المحافظة على خريطة السياحة العالمية، مع استغلال الميزات الطبيعية والاقتصادية لكل منطقة في المحافظة.
وأشار إلى أنه في طابا - نويبع، يشمل التطوير إنشاء مناطق لوجستية تدعم حركة التجارة الدولية، اعتمادًا على الموقع الاستراتيجي على البحر الأحمر. أما في شرم الشيخ - دهب، فالتركيز على تطوير السياحة البيئية، الثقافية، الترفيهية، والرياضية. وفي أبو زنيمة - أبو رديس، هناك اهتمام بالتنمية الصناعية والتعدينية، وفي الطور - سانت كاترين، يتم توجيه الجهود لاستثمار المكانة الدينية والتراثية للمنطقة، وفي رأس سدر، فالتوجه الأساسي دعم التنمية الزراعية، خاصة الزراعات المحمية، لتحقيق اكتفاء ذاتي وتوفير فرص عمل.
أوضح المحافظ أن خطة التنمية الصناعية تستهدف جعل جنوب سيناء مركزًا للصناعات الاستراتيجية في مصر، ليس فقط عبر بناء المصانع وتوسيع خطوط الإنتاج، بل تمتد إلى ترسيخ مكانة المحافظة على الخريطة الاقتصادية، وجذب الأيدي العاملة، مما يسهم في إعادة توزيع الكثافة السكانية، وخفض معدلات البطالة، ورفع مستوى الدخل، مستفيدة من قرب المحافظة من الموانئ وأسواق الاستهلاك الرئيسية، علمًا بأن جنوب سيناء المورد الأول للثروة المعدنية في مصر.
وعن مستقبل القطاع الزراعي في محافظة جنوب سيناء التي تصل مساحتها الإجمالية إلى 30 ألف كم²، أشار المحافظ إلى أن الأراضي القابلة للزراعة تصل لـ365 ألف فدان، بالإضافة إلى مئات الآلاف من الأفدنة التي تنمو بها النباتات الطبية والعطرية والمراعي، ويعتمد الري على الآبار الجوفية ومياه الأمطار المحجوزة، مما أتاح استصلاح 36 ألف فدان، لتصبح ركيزة للتنمية الزراعية، توفر إنتاجًا متنوعًا، وتخلق تجمعات زراعية جديدة، وتساهم في توفير فرص عمل ودعم الاقتصاد المحلي.
وعن تطوير البنية التحتية، كشف المحافظ عن تنفيذ حوالي 25 مشروعًا كهربائيًا خلال السنوات الأخيرة، كما تستهدف المحافظة تنفيذ 14 مشروعًا جديدًا لتحسين البنية التحتية. وبهذه الرؤية المتكاملة، تسعى جنوب سيناء إلى تحقيق طفرة تنموية شاملة، تعزز من مكانتها كمركز عالمي للسياحة والاقتصاد، وتوفر فرصًا واعدة للنمو والاستثمار، ما يجعلها نموذجًا للتنمية المستدامة على المستوى الإقليمي والدولي.
بعد 36 عامًا على تحريرها، تواصل طابا كتابة فصل جديد في تاريخها، ليس فقط كرمز للتحرير، بل كنقطة انطلاق نحو مستقبل اقتصادي وسياحي مزدهر، فمع ما تحمله من أهمية استراتيجية وجمال طبيعي خلاب، أصبحت طابا وجهة مفضلة للاستثمار والتنمية، مستفيدة من موقعها الفريد على رأس خليج العقبة. واليوم، إذ تحاول استعادة مكانتها على الخريطة السياحية والاقتصادية، فإنها تؤكد أن روح الصمود والانتصار لا تزال حية، وأن المستقبل يحمل في طياته مزيدًا من الفرص والتقدم.
اقرأ أيضاً«سيناء بين الحرب والسلام».. ندوة تثقيفية بفنون تطبيقية حلوان بمناسبة ذكرى العاشر من رمضان
حزب مستقبل وطن يستكمل توزيع كراتين رمضان ضمن مبادرة الخير في مدينة دهب بجنوب سيناء
«أحد أبطال أكتوبر»: أبناء سيناء لهم دور كبير في تحقيق نصر العاشر من رمضان «فيديو»