تفرض طبيعة الكتابة عن الشخصيات الكبيرة ذات الثراء المعرفي من جهة أو المرتبطة وجدانياً بكاتبها من جهة أخرى حالة خاصة تفيض بالمشاعر حيناً وتلقي بالصعوبة البالغة حيناً آخر في الايفاء التام او الايجاز غير المخل، فكأن الأمر محاولة جمع بحر لجيّ في قارورة صغيرة!

وتلك كانت حالتي وأنا أهمّ بقراءة مذكرات أستاذي وحبيبي الدكتور عماد الدين خليل رعاه الله، ومن ثم ما وجدته في نفسي من حافز لتدوين هذا المقال تعميماً للفائدة، ذلك ان الارتباط الشعوري بصاحب المذكرات قديم وشديد، فهو المعلم الأول في ميدان الكتابة والتأريخ، ناهيك عن انه الأنموذج الأسمى الذي ما زلت اقتفي أثره في هذا الميدان المعرفي الذي كان ولوجه إياه تأثراً مبكراً به ومحبة، وتعلق ممتد لعقود وسنوات!

ومع أني اصطدمت بما كنت أتوقعه من ثراء المادة والتي هي انعكاس لثراء المسيرة ذاتها، وصعوبة اختصار قرابة 1000 صفحة في بضعة أسطر، ولكن المحبة الجارفة هي التي كانت تدفعني، وثقتي بأن الحرف النابض ـ كما تعلمنا من أستاذنا ـ كفيل بأن ينساب ويحقق مبتغاه.



أولاً ـ أساسيات

فرضت المذكرات هويتها ـ والتي هي هوية صاحبها ـ من العنوان الملفت في براعة صياغته (أشهد أن لا إله إلا أنت) والذي استفاض لاحقاً في بيان تجلياته ببراعة مؤكداً على الالتزام برسالة التوحيد والعيش في ظلالها ولأجلها.

أما هيكليتها فقد جاءت متضمنة محاور ثلاث دارت حولها مدونة الدكتور، وهي:

ـ سرد زمني ذاتي.
ـ عالم الكلمة وتجلياته.
ـ يوميات ورحلات مكثفة .

ثم الختام بتعداد لمؤلفات الدكتور خليل موزعة على محاورها مما سنقف عند فائدتها لاحقاً.

والحقيقة ان تلك المحاور الأساسية منحت كل جزءٍ من حياة الدكتور عماد الدين حقه وباستفاضة كبيرة، مع وجود تداخل وتكرار يظهر انه كان لازماً لمنح كل مرحلة حقها، او بسبب الارتباط الوثيق بين الحدث والرجل والانعكاسات، مثلما ان ذلك الأمر ـ لمن يعرف الدكتور عماد الدين ـ جزء من منهجه المعروف بتوظيف العبارات والأحداث في أكثر من موضع حيناً بالتفصيل وحيناً بايجاز، وكأني هنا أجده متأثراً للغاية بالمنهج القراني في عرض القصص التأريخي المتكرر والمتنوع في الصياغات، ولا سيما وان الرجل مرتبط بذلك المنهج ارتباط وثيق.

تكشف المذكرات أن صاحبها وجد في بيئة ثرية مجتمعياً وتاريخياً ومعرفياً، فكان النشوء مفعم بالاحداث والصور والتي كانت المغذي الأساسي للذاكرة المتقدة الواسعة التي امتلكها الرجل ومنحته قاموسه العريض الذي امتاز به وخياله الواسع وأدبيته المرهفة.وعلى الرغم من غلبة السرد التفصيلي أو المكثف في المحورين الأول والثالث، فان ذلك لم يمنع لمن يدقق القراءة من اقتناص العبارة والعبرة والموقف والرؤية تجاه هذا الموضوع او ذاك، مما يقتضي من القارىء الحصيف ان يقرأ كل كلمة بتمعن ودقة، ولا بأس أن يفعل ـ كما فعلت انا ـ بتدوين كل خاطرة او فكرة يجدها مفيدة، فذلك مما يتمم النفع من تلك السياحة التاريخية والفكرية والمعرفية المتميزة.

ثانياً ـ وقفات

ربما يمكن القول إن أولى الوقفات الواجب ذكرها في هذا المجال هو تميز مذكرات د. عماد الدين خليل بالصدق البالغ وتفردها ودون مبالغة في خلوها من عمليات التجميل والتزويق المتعمد والذي قد يخفي بعض الأحداث لأغراض معينة أو يقدمها بصورة مؤدلجة ذات غايات واحكام مسبقة، بل على العكس تلمس ان الكلمات والعبارات تتدفق بسيل لا يتوقف من الابداع والصراحة المتناهية.

إن هذه النقطة بالغة الأهمية، فالقليل من يعترف بأخطائه أو يكشف خصوصياته، وذلك المنحى الذي قدمت به هذه السيرة الذاتية مفيد لأنه كشف عن جوانب كثيرة في تكوين استاذنا الكبير ربما لم يكن الكثير يتوقعها وبدت غريبة في بعض الأحيان، ومنحت القارىء التصور الكامل والذي يمكن ان يشكل أساساً للكتابة عنه لاحقاً.

وإذا كانت المذكرات الشخصية في ميدان الكتابة التأريخية يشوبها الكثير من الشك والتردد في اعتمادها وموثوقيتها لغلبة الجوانب الشخصية فيها على الموضوعية عادة، فإننا هنا نقرر وبشيء كبير من الاطمئنان بان مذكرات الدكتور عماد الدين خليل جديرة بان تكون مصدراً أصيلاً يتعمده الباحث بكل اطمئنان، وحتى الانطباعات والرؤى الخاصة المتعلقة بالأحداث التي عرضها مما لا ينفك المرء من الوقوع تحت تأثيرها وهو يكتب عن نفسه، كانت من الأهمية بمكان لتمنحنا تصوراً عن الجو الفكري والسياسي الذي كان يحيط به حينذاك.

ولو أردنا إيجاز ما سجلنا من وقفات لمضامين المذكرات يمكن ذكر الآتي:

بدءاً كانت مقدمة المذكرات جميلة ورائعة وكشفت الكثير من جوانب شخصية الدكتور عماد الدين خليل، فكأنك هنا تراه عياناً، وتجالسه وجهاً لوجه، بل وتقف عند تشريح متقن لدواخله، ما يرى وما يؤمن به وما يحب وما يكره، والخلاصة أن هذا هو عماد الدين خليل لمن اراد معرفته!

ثم كان العجب في اسلوب السرد الذي اعتمده، إذ يصحبك معه حتى يصل بك إلى ادق التفاصيل، وأصغرها وأقلها أهمية، ثم في لحظة ـ لا تشعر بها ـ يسمو بك ويرتقي نحو ميادين الفكر والدعوة والكتابة وهموم القلم الحرّ المؤمن وسط طوفان التشكيك والتجهيل والاقصاء، بل وكأنك تشعر بانفاسه معك، حيناً وهو يعاني وأخرى وهو يركض مسرعاً لانجاز ما، وثالثها وهو يفيض شعوراً بالحب او الحزن أو الغضب!

ويبدو من المهم القول ان من يقرأ تلك الصفحات ولا سيما في محورها الأول يلمس وبجلاء تأثير الوضع السياسي العراقي المتشابك المعقد حينذاك وما زال على المجتمع ككل منذ خمسينيات القرن الماضي وإلى اليوم، وتكتشف أن القامة الفكرية الكبيرة كان متماشياً مع ما يطرح من هنا وهنا ومتفاعلاً بشكل حماسي وايجابي مع أحداث وثورات مختلفة ومشاركته الجماهير فيها، وعلى الرغم من تقلب الأفكار وغلبة التوجهات المتقاطعة على ما كان يجري وقتها ولكن المحرك الأساسي لذلك الاندفاع هو ضغط البيئة من جهة والطابع الثوري الذي كان يمتلك عماد الدين خليل الشاب وقتها من جهة ثانية، حتى تملكه حب الاعتقال في سبيل القضية التي يؤمن بها، وانتظار مشاركة رفاقه بل وحتى من المختلفين معه فكرياً لحظة اثبات صدق النوايا، ومتأثراً كذلك بالقراءات المختلفة والتي كانت متنوعة دون شك وتنتمي إلى مدارس فكرية متعددة.

وتكشف المذكرات أن صاحبها وجد في بيئة ثرية مجتمعياً وتاريخياً ومعرفياً، فكان النشوء مفعم بالاحداث والصور والتي كانت المغذي الأساسي للذاكرة المتقدة الواسعة التي امتلكها الرجل ومنحته قاموسه العريض الذي امتاز به وخياله الواسع وأدبيته المرهفة.

ولعل من الملفت ما كشف عنه من تعثرات أولية ضمن طفولة مشاكسة عجيبة قد لا تتوقعها منه، وليس المقصود هنا اغفال طبيعة المرحلة العمرية التي كان يمر بها، ولكن لا تتوقع أن يكون الرجل ـ وما تراه عليه اليوم من هدوء وسكون ـ هو ذلك الطفل نفسه!!.

كما ظهر جلياً أن قوله المشهور عنه بأنه خلق ليكون كاتباً كان دقيقاً وللغاية، فعلاقته بعالم الكتاب كانت وثيقة منذ نعومة أظفاره، وهو الخيار البديل أن يتقن الرسم بالكلمات والذي كان على ما يبدو رداً وعلاجاً على إخفاقه بأن يكون رساماً، والحال ينطبق على خطه الذي يصفه بأنه غير جميل ولكنه كان وما زال وسيبقى قوي المضمون ورصين المعنى والعبارة.

ويلمس القارىء كيف طغى على شخصيته الإحساس المرهف وبشكل فيه مبالغة ربما ومعه تشنج وقلق غريب تحول إلى وسواس قهري لاحق، وهو ما الحق به التعب المستمر جراء كل فكرة أو خطوة يريد الدخول إليها أو قضية يروم معالجتها، وهو لا يخفي وقوعه المستمر تحت وطأة الكآبة والتفكير المسبق، ناهيك عن عدم القدرة على تولي المهام الرسمية والتي كانت موضع رفض مستمر بسبب من مبدأيته الصارمة التي بقيت ملازمته حتى هذه اللحظة دون تراجع او تهاون أو تردد.

ويكاد المرء يحزن بشدة لوقوعه المرّ تحت حصار السلطة الخانق، فكم فوت عليه من فرص للمشاركة في مؤتمرات ودعوات او مساهمات كان خيرها كبير لو تحققت، واتذكر الآن كيف اني طلبت من استاذنا يوماً في عقد التسعينات من القرن الماضي بعضاً من مؤلفاته فأجاب ـ وكدت ألمس حزن عباراته حينها ـ أن بعضها لم يرها هو نفسه ولا يملك منها نسخاً، وذلك نتاج العيش تحت وطأة الاستبداد دون شك!.

ولمست أنه وعلى الرغم من نهمه للقراءة ولكن شخصيته البحثية بشكلها التي نراها اليوم لم تتشكل أو تتخذ طريقها إلا بعد انتهاء مراحل دراسته العليا، فاختياره طريق الكتابة والتأليف مع التدريس كان يمثل إجابة محددة لسؤال: وماذا بعد؟! والذي تملكه بعد حصوله على شهادة الدكتوراة، وهو سؤال منطقي سألناه كلنا، ولكن شتان بين الاجابات!!

وأظهرت المذكرات كذلك أن مسألة التخصص والبراعة في الكتابة لديه كانت نتاج موهبة وجهد فردي ونداءٌ استجاب له كما ينبغي وليس وفق تخطيط كبير ومسبق، بل من الملفت أن اختياره لقسم التاريخ لم يكن نتاج خطة أولية وإنما لأن قسم اللغة العربية الذي كان يرغب فيه حينها كان ضعيفاً! فهل يمكن القول هنا إن شخصية الأديب كانت الغالبة في نفسه على ما سواها؟ ربما، ولكن في النهاية كان الرجل قد جمع بين صفات (الأديب والمؤرخ والمفكر) وبتميز ونجاح لافت.

ولا انفكاك بين الدكتور عماد الدين خليل والطابع الإسلامي الذي ميز توجهه ومنحه هويته، فعلاقته بالحركة الإسلامية كان متداخلاً مع كل الأحداث التي مرت به، ولذا لم يكن غريباً أن ينجذب إلى حركة الإخوان المسلمين، وهو انجذاب تكرر بين الميل والانتماء التنظيمي، فضلاً عن التأثر الفكري بأدبياتها، وانسحابه منها لأكثر من مرتين لأسباب مختلفة منها ما يخص الحركة ذاتها ومنها كما لمسناه من غلبة شخصية المفكر التي لا تتقيد بالتنظيم أياً كان عليه وهو ما كان لها الأثر الأكبر، مع طبيعة مستوى التفكير في كل مرحلة تعلقت بها عملية الانتماء والانسحاب.

ومع ذلك الموقف التنظيمي المحدد، فان هذا لم يقدح لديه في اصل الفكرة أو رموزها الذين ظل مرتبطاً بهم سواءً في داخل العراق او خارجه وحتى هذه اللحظة، وخصوصاً مع اقراره بان بعض القناعات التي تكونت عنده سابقاً ظهر عدم صوابيتها وانها كانت معبرة عن تفكير مرحلي او انعكاس لطبيعة عمره آنذاك.

وارتباطاً مع هذا الموضوع من المهم القول أن المذكرات لم تكن منقطعة عما حصل بعد 2003 في العراق بل على العكس غدت أكثر توهجاً ووضوحاً وتحرراً من قيود السلطة السابقة، فقد ظهرت هويته بصورة أكثر جلاءً، ثم بين مواقفه من الأحداث ومن الشخصيات بشكل واضح، ونعى تدهور حال الوطن وغلبة مشاريع المحتل وخفوت محاولات التصحيح وقسوة سنوات العنف التي مرت على البلد الجريح وما زال، وتداعيات كل ذلك من تخلخل البنية المجتمعية ووهن الدولة وغلبة الأمية المعاصرة التي ألمت بنّا في الأزمان المتأخرة والذي دق من خلاله ناقوس الخطر لما هو آتٍ.. وقد جاء!.

أكد أن الكتابة الأدبية ـ ما عدا الشعر ـ صنعة لها أدواتها وقواعدها التي يجب الإلمام بها لتطوير الملكة وتقوية قلم الكاتب..

ومن الموضوعات التي لا بد من الاهتمام بها وعرضها الدكتور عماد الدين خليل بشكل بارز هو موضوع الارتقاء بالأدب الإسلامي المعاصر نحو العالمية، وكنت قد طرحت في مقال قديم وحين توفي الأديب البارع الأستاذ محمد الحسناوي رحمه الله ما لمسته من عزلة الأدب الإسلامي وعدم معرفة الآخر به وبرموزه، وهو أمر استشعره الرجل وعالجه بذكاء، فقد أكد على ضرورة اتحاد المضمون بالشكل الفني المتميز، وبين أن الكتابة الأدبية ـ ما عدا الشعر ـ صنعة لها أدواتها وقواعدها التي يجب الإلمام بها لتطوير الملكة وتقوية قلم الكاتب، وحدد سبعة عناصر لتحقيق ذلك الهدف وهي: قوة الخيال، وقوة اللغة كأداة للتعبير، والتوتر الذاتي، والخبرة الذاتية، والخبرة المعرفية، والخبرة الحرفية، والالتزام في التعامل مع الزمن قراءة وكتابة وبما لا يقل عن 4 ساعات لكل منها يومياً، ولمن يجد في ذلك مبالغة يذكرنا الرجل أنه وفي عام واحد قرأ 70 كتاباً!!!

ثالثاً ـ قصاصات

ثمة وقفات مهمة أسردها هنا في تركيز كبير ولمن شاء العودة إلى التفصيل في ثنايا المذكرات التي لا غنى عنها بشكل أكيد، وهي تثير الانتباه وتمنح مفاتيح الفهم للشخصية مدار الحديث، ومن ذلك: حبه للرياضة وانخراطه بالنشاطات والبطولات ومتابعة المباريات وبشكل متفاعل للغاية، واندماجه المجتمعي مع جميع الفئات، وحب الزحام مع الناس، وتلذذه بالاكل والذي بدا واضحاً في تدوين يوميات رحلاته، وعدم التردد في اللهو البريء والنظيف كما يسميه فهو يشاهد المسلسلات ويحضر عروض المسرحيات، ثم الحرج من المشاركة في المناسبات الرسمية ورفض الجوائز لا سيما في بعض البلدان الا ما ندر ثم الكشف عن وضع الاموال الخاصة بها في الصدقات!

ومن ذلك عرضه للمتاعب الصحية التي زاد منها كثرة الاعمال والاسفار والقلق المتزايد، فكم مرة أغمي عليه أعانه الله، وكم عانى من الازمات القلبية المتكررة، والجهد في التقاط الأنفاس، والتي تصيب القارىء بالحزن لمعاناته المستمرة دون انتهاء!

ومن ذلك ما تبوح به كلماته وتصرفاته من امتلاكه حرص الأولين وبراعتهم، وهو أمر وعلى الرغم من كونه ميزة لكنه اتعبه كثيراً في ظل محاولة التوازن بين شخصية المفكر والكاتب وبين متطلبات الحياة، ثم إظهار جمال العلاقة مع العائلة، وتصوير لحظات الفقد المؤلمة كأشد ما تكون عليه الكلمات من انكسار ولا سيما أخاه نبيل رحمه الله والذي يبدو أن جرح فقده ما زال ندياً للارتباط الوثيق بينهما.

ومن ذلك الإيجاز الماتع والمميز الذي قدمه لمؤلفاته ودواعي كتابتها ومضامينها بدقة وبما يشكل خارطة طريق للفهم والتوظيف من قبل الدارسين والباحثين والمثقفين على حد سواء.

وأيضاً لا ننسى القناعات الخاصة التي ختم بها الجزء الثالث وابتدأ بها الجزء الرابع والتي جاءت رائعة وثرية بمادتها ونقاء رؤيتها، واخيراً تدوينه المركز للرحلات التي قام بها، وفيها تكثيف بالغ للنشاطات والأحاسيس المتقاطعة والمسارعة المنهكة نحو اتقان الانجاز ومغالبة المعوقات.

رابعاً ـ ملاحظات

مع الأهمية التاريخية والمعرفية لتوثيق الكبار لسير حياتهم، ولكن بعض ما يكشف يجعل المرء يفضل لو بقيت هذه الصفحات مخزونة في ذاكرة أصحابها كي لا تلثم أو تخدش بعض الصور المتكونة عنهم وهذا رأي شخصي قد يكون مصيباً او مخطئأ.

ذلك أني وجدت العديد من الملاحظات وبعض الإشارات غريبة جداً عن شخصية الدكتور عماد الدين، ولكنها بالنهاية نتاج مهم لصراحة الكاتب التي التزم بها وأشرنا لها في بداية هذا المقال، سواءً بعض الالفاظ والتصرفات التي جاء على ذكرها، أو الجوانب التي عدها طرائف ساقها للترويح عن النفس، وغيرها مما لا أحب أن أدل عليها كي لا أعمم رأياً شخصياً على شكل قناعة عامة.

كذلك بدا أن القلق الشديد والحرص البالغ على الإتقان كان مؤثراً عليه ومحدداً للكثير من القناعات والتوجهات، في ظل الصرامة المعبرة عن الالتزام كما أورده، والذي أجد أنه كان يحتاج إلى بعض المرونة، ففي الشق الأول مثلاً كان إيراده لموضوع الإعارة متعباً للقارىء فكيف بمن خاضه؟!!، وكم كرر كلمة الجملة العصبية التي كانت تضغط عليه واقعاً وتفكيراً، ولا سيما حين يبدي موافقته الأولية على موضوع ما ثم يغرق في دوامات القلق والتفكير، وفي الشق الثاني كان رفض الجوائز وبعض المساهمات في المنظمات والمؤسسات العلمية خير مثال.

ومن الملاحظات كذلك إبداء عدم الارتياح من التعامل مع الآثار لبعدها الوثني، ولكننا تعلمنا أن التاريخ القديم إذا دون وقدم على يد المؤرخ المؤمن سيكون أعظم بوابات الالتزام برسالة التوحيد، فمن بين تلك التماثيل الصامتة يخرج الدارس وهو يردد شعار هذه المذكرات (أشهد أن لا إله إلا أنت)!

وهذه الملاحظات إنما هي كتبت بقلب محب لا أكثر، وهذه المحبة هي الدافع للإشفاق حيناً أو الحسرة حيناً آخر على فوات فرصة او تعب متزايد لم يتوقف صاحبه ولو للحظة عن العطاء!.

خامساً ـ  المستفاد من المذكرات

ختاماً قد يتبادر السؤال: من يمكنه الاستفادة من هذه المذكرات وكيف؟

أظن ابتداءً أن محبي الدكتور عماد الدين خليل هم أول المستفيدين، إذ سيقضون وقتاً ماتعاً مع حبيبهم وقدوتهم، فضلاً عن الفائدة المتحققة من جميع المحاور التي جاء على تدوينها وتبيانها.

ثم ودون شك سيكون طلبة العلم المستفيدين الأساسين منها، سواءً من يريد مرشداً له أو ممن يروم الكتابة عن الدكتور وفكره ونتاجاته، فهم سيمتلكون مفاتيح أساسية لكل ذلك، وخصوصاً حديثه المفصل عن كل كتبه ظروف تأليفها أو هيكلتها المعرفية وخلاصاتها، ثم ترتيب قائمة المؤلفات موضوعياً.. وهو شي مهم للغاية في ميدان البحث الأكاديمي.

وللمؤرخين لتاريخ العراق الحديث والمعاصر، ولمن يترجم لقامات الوطن ورموز الحركة الإسلامية، سيجدون في هذا الكتاب الموسوعة بغيتهم ومادة غنية ستمدهم بالكثير الكثير من المعلومات والرؤى والتصورات، ولا سيما وان هذا الميدان يخفت فيه الصوت الملتزم والذي سيبقى هو الأكثر أمانة وصدقاً مهما اختلفنا بخصوص تقييماته او أفكاره.

وللجميع... يستفاد من خلاصة تلك المسارات البديعة والتي قدمها الدكتور عماد الدين خليل في نصيحة ذهبية كررها على طلبته وقرائه ومحبيه دوماً والتي هي مدار الاستفادة والاهتمام، أن المعادلة المطلوبة للإبداع ترتكز دوماً على القراءة والقراءة والقراءة ولا غير وفي شتى جوانب المعرفة، ومن مختلف مدارس الفكر، ودون توقف أو انتهاء!.

*كاتب وأكاديمي

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير كتب عرض السيرة العراقي الكاتب العراق كاتب عرض سيرة كتب كتب كتب كتب كتب كتب أفكار أفكار أفكار سياسة سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة والتی کانت التی کانت ولا سیما الذی کان التی کان لا سیما ومن ذلک ما زال من جهة

إقرأ أيضاً:

مستجير .. فارس الثقافتين | مسيرة عطرة من الميلاد إلى الرحيل

عرفت د. أحمد مستجير سنة 1993م وتوطدت علاقتي به حتى رحيله سنة 2006م ، وزرته في بيته مرارا ، وعرفت أسرته ، وقرأت جميع كتبه ، المؤلفة ، والمترجمة ، وحاورته أكثر من مرة ، وكنت وسيطا بينه وبينه رئيس تحرير ( المصور ) مكرم محمد أحمد ، لنشره مقالات في مجلتنا الغراء ، إنه مصري موسوعي ، عاشق للغة العربية ، وشاعر نشر ديوانين ، وعالم بالإنجليزية ، وترجم عنها أربعين كتابا ، جمع في شخصيته بين الأدب والعلم ، وهما جناحا التقدم لأي أمة ، وعرفانا بمنجز الرجل تحتفي به مصر كشخصية العام لمعرض القاهرة للكتاب هذا العام ، وهو احتفاء واجب ، وهذه السطور إبحار في سيرة د. مستجير ومنجزه العلمي

ولد د. أحمد مستجير في الأول من ديسمبر سنة 1934م بقرية الصلاحات، مركز دكرنس ، بمحافظة الدقهلية ، وهي محافظة غنية في تربتها و ثروتها البشرية ، وكما قدمت لمصر تاريخيا أجود أصناف الأرز والقطن والذرة وغيرها من المحاصيل ، قدمت ثروة بشرية متقدمة في كل مجالات العلوم والمعرفة من علماء دين ، ورياضيات ، وفنانين ، وكتاب ، وأدباء ، ويكفي أن نذكر أمثلة من روادنا كأم كلثوم ، ورياض السنباطي ، والشيخ الشعراوي ، وصالح جودت ، وعلي محمود طه ، ومحمود مختار ، وحسن الإمام ، ود. عبد الرحمن بدوي ، والشيخ جاد الحق ، والقاريء عبد الوهاب الطنطاوي ، والشحات أنور ،وأنيس منصور ، وكامل الشناوي ،  وغيرهم الكثير في كل الأجيال . 

وعن هذه النشأة الريفية يقول د. مستجير : أنحاز إلى الأرض الريفية لأني ابنها ، وربما كان تفوقي في كلية الزراعة ، أو ( كلية الفلاحين ) كما يحلو للبعض أن يسميها ، سببه عشقي للزراعة والأرض ، ولون الزرع الأخضر ، وحبي للخيال الرحب ، فالريف هو عشقي الأبدي ، ومنبع كل الرومانسية المتأججة بداخلي . 

وكما انحاز الرجل للأرض الخضراء والريف ، انحاز للقلم والكتابة والإبداع ، خاصة الشعر ، منذ بواكيره الأولى ، وذكر في مقدمة كتابه ( قراءة في كتابنا الوراثي ) ، الصادر عن ( دار المعارف ) أنه وهو في الصف الرابع الابتدائي ، وعمره دون العاشرة كتب خطابا لرئيس وزراء مصر ، يقول : 

( كان مدرس الانجليزية شفيق أفندي ، وسأل مرة صديقي يوسف شطا سؤالا عجز عن الإجابة عليه ، فقال له المدرس : روح موت ، وزجره بشدة ، فغاب صديقي ثلاثة أيام ، وفي اليوم الرابع وصلنا خبر موته ، وبكيت هذا الظلم ، وحزنت عليه بشدة ، واعتبرت أن المدرس قد قتله ، وفي الفسحة كتبت خطابا لرئيس الوزراء ، كان أحمد ماهر باشا ، لا أعرف ماذا كتبت ، آه لو أعرف ، ومضيت خارج المدرسة مع زميل اسمه ضرغام ، وكان سمينا ، اشترينا مظروفا وطابع بريد ، وحينما هممت بإلقاء الخطاب في الصندوق ، إذ بيد تمسك زراعي ، كان سعد أفندي عبد الملك مدرس الحساب ، سألني : ما هذا ؟ بكيت ، فأخذ الخطاب مني واصطحبني عائدا إلى المدرسة ، وحاول في الطريق أن يخفف حزني ، ثم مضى بي إلى مكتب الناظر توفيق أفندي عفيفي ، كنت على رأس طابور يضم كل تلاميذ الفصل ، عددنا ثمانية عشر ، بكيت أمامه ، ولم أستطع أن أعتذر عما فعلت ، فما الخطأ فيما فعلت ؟ !) ..

وهنا تتبلور البدايات لشاعر وكاتب ومترجم ، أراد التعبير عن ذاته ، ودفع الظلم ، وإقامة العدل عن طريق الكتابة والقلم ، كانت إرهاصة أولى ، وتعبيرا مبكرا عن كاتب معتبر محب للحق والجمال والحياة . 

حصل د. مستجير على بكالوريوس الزراعة من جامعة القاهرة سنة 1954م ، وعقب تخرجه عمل مهندسا زراعيا في أكتوبر من العام نفسه ، ولمدة خمسة وخمسين يوما في ( عزبة الفؤادية ) ، فكانت الكتب التي اصطحبها معه لمدة شهرين هي زاده المعرفي والوجداني في عمله الجديد كمغترب بعيدا عن أسرته وناسه ، ولم يكن بلغ بعد العشرين من عمره . 

ولما لم يجد في هذا العمل ما يرضي طموحه العلمي والمعرفي إضافة لملابسات أخرى عرفها من خلال وجوده في هذا المكان النائي ، أدرك أن هذا العمل الحكومي لا يمكن أن يتواءم معه إلا من يجيد لعبة ( البيضة والحجر ) ، فترك عمله ذلك ، واتجه للعمل في المركز القومي للبحوث ، وفي تلك الأثناء درس رسالة الماجستير في كل الزراعة حول ( تربية الدواجن ) ، وحصل عليها سنة 1958م ، ثم عين معيدا في كلية الزرعة التي تخرج فيها .

وآنذاك راسل عالم الوراثة البريطاني الشهير ( آلان روبرتسون ) ليساعده في مشوراه العلمي في معهد الوراثة في ( جامعة أدنبرة ) ، فابتعث إلى هناك، وحصل على دبلوم وراثة الحيوان بامتياز من تلك الجامعة سنة 1961م ، فكانت المرة الأولى التي يحصل فيها باحث مصري على هذا التقدير العلمي الكبير من هذا المعهد المميز، ثم أكمل مشوارالعلمي ، فحصل على الدكتوراة في ( وراثة العشائر ) تحت إشراف أستاذه ( آلان روبرتسون ) . 

عاد د. مستجير من بعثته ، وتدرج في السلك الجامعي من معيد لمدرس لأستاذ ، حتى أصبح عميد كلية الزراعة في جامعة القاهرة لدورتين متتاليتين وبالتزكية والإجماع ، رغم أنه كان ضد تعيين العمداء ورؤوساء الجامعات ، وكان رأيه مع الترشيح وانتخابهم ، وبعد أن بلغ سن الستين عرض عليه منصب العميد في أكثر من جامعة خاصة ، وفي الكويت فرفض ، كما اعتذر عن منصب وكيل جامعة القاهرة ، واختار أن يتفرغ لمؤلفاته ، وللبحث العلمي ، ولترجماته ، ولحياته الأدبية والثقافية . 

كان أسلوب د. مستجير في كل ما يكتبه ، حتى كتابته العلمية الجافة ، أسلوبا أدبيا راقيا ، رشيق العبارة ، سهلا ميسرا ، لا تعقيد فيه ولا زخارف ، بل يقصد هدفه مباشرة ، وكان متن مقالاته وكتبه متصلا دون فواصل ، وفي نهاية المقال أو الكتاب ، يضع المصطلحات العلمية الانجليزية وترجماتها إلى العربية مرتبة هجائيا لمن يريد أن يستزيد معرفيا . 

كان د. مستجير يؤمن بأن الخيال الخصب لا ينفصل عن التفكير العلمي ، وأن عشق الأدب والأسلوب الأدبي لا يتنافى مع الأسلوب العلمي ، بل هما يكملان بعضهما البعض ، وكان يستفزه السؤال العقيم عن علاقة الأدب بالعلم ، وكان يؤكد دائما أن غالبية الابتكارات العلمية ، والمنجزات الحضارية بدأت بخيال خصب ، ولذلك فحاجة العالم إلى الخيال المحلق لا تقل عن حاجة الأديب أوالفنان . 

بالمقابل كان يرى أن الأديب والفنان بحاجة إلى التفكير العلمي ، والرؤية العلمية كجزء من أدواته لإثراء تجربته ورؤيته ، ورأى أن تمازج الثقافتين والأسلوبين يثري التجربة الإنسانية ، وكتب عدة مقالات في مجلة ( الهلال ) حول الثقافة العلمية والأدبية ، التي كان أثارها من خمسينيات القرن العشرين الكاتب الانجليزي ( س . ب . سنو ) . 

وعندما عاد د. مستجير من بعثته العلمية إلى ( أدنبرة ) ، وعين مدرسا في كلية الزراعة بجامعة القاهرة ، كان مؤمنا بأهمية ( التخطيط العلمي ) لسنوات ، وأهمية ( المتابعة ) لتنفيذ تلك الخطط تحت إشراف ( أستاذ كرسي أو سنيور ) كما هي العادة في الدول الأوربية المتقدمة التي تنفق بسخاء على البحث العلمي ، وكان يرى أن وظيفة العالم أن يجيب على أسئلة نظرية ، وأن يحل المشاكل التطبيقية المعقدة ، ولذلك كان ضد سياسة ( الجزر المنعزلة ) ، والبحث العلمي ( بالقطعة ) ، وأجواء ( الشللية ) و( العشوائية ) المسيطرة  على حياتنا الجامعية والعامة معا . 

كان د. مستجير كما رأيته في مكتبه وهو عميد كلية الزراعة في جامعة القاهرة ، ثم في بيته لاحقا ، إنسانا جم التواضع مع علمه الغزير ، بسيطا مع عمقه في الفكر والطرح ، وكان قادرا على الحوار لساعات طويلة في الأدب والعلم وفي الترجمة وفي مناحي الحياة كافة ، وكان قادرا على الغوص في التفاصيل بكل دقة ، ومع ذلك واسع الأفق ، يقبل كل سؤال ، ويجيب عن كل استفسار ، ولا يسخر من أحد ، ولا يخوض في السياسة بما لا طائل منه ، بل كان يشغل وقته بما يفيد من تأليف وترجمة ، وتربية أجيال من الطلبة على الوعي واليقظة العلمية والنزاهة ، وأنه لا نهاية في العلم ، فكلما وصلت لقمة ستجد نفسك في ملاحقة قمة أخرى ، وكان يسعد بكل متفوق ، ويعامل الجميع برحابة صدر وكرم أخلاق ، مثله في ذلك مثل كل أصحاب الرسالات . 

مؤلفاته العلمية 

تتنوع كتابات د. مستجير ما بين كتب علمية أكاديمية ألفها لطلبته في الكلية ، وكتب علمية عامة من قبيل الثقافة العلمية ، وكتب أدبية ، ودواوين شعر ، وترجمات أدبية وعلمية ، والبداية مع كتبه الجامعية ، وأبرزها : ( مقدمة في علم تربية الحيوان ) سنة 1966م ، و( دراسة في الانتخاب الوراثي في ماشية اللبن ) سنة 1969م ، و( التحسين الوراثي لحيوانات المزرعة ) سنة 1979م . 

وفي باب الثقافة العلمية وضع كتابا في سبعة أجزاء صدرت عن ( دار المعارف ) ضمن سلسلة ( اقرأ ) ، تحت عنوان واحد هو ( في بحور العلم ) ، أما العناوين الفرعية فجاءت من الجزء الثالث هكذا : ( دفاع عن العلم ) و( قراءة في كتابنا الوراثي ) ، و( علم اسمه السعادة ) ،و( علم اسمه الضحك ) ، وأثبت في الكتابين السابقين أن السعادة مصدرها المخ ،  والأخير هو ( الثورة البيولوجية ) . وقامت الهيئة المصرية العامة للكتاب بطباعة تلك المجموعة ضمن مشروعها ( مكتبة الأسرة ) ، وكانت تباع الأجزاء السبعة معا في حزمة واحدة ، بنحو جنيهين اثنين لكل كتاب . 

ومن كتبه العلمية الشهيرة : ( القرصنة الوراثية ) ، و(مظاهر الصوبة ) و ( الثقوب السوداء ) . 

نظريته في عروض الشعر 

ويرجع الفضل إلى د. مستجير في ابتكار نظرية جديدة في تحليل ودراسة بحور الشعر العربي ، ضمها في كتابين ، الأول وصدر سنة 1980م بعنوان ( الأدلة الرقمية لبحور الشعر العربي ) ، والثاني صدر سنة 1987م بعنوان ( مدخل رياضي إلى عروض الشعر العربي ) ، ومحاولته تلك تعتبر أول محاولة عربية في العصر الحديث لدراسة بحور الشعر العربي رياضيا ، ومحاولة تطويع الشعر وبحوره لبرامج الكمبيوتر ، حيث ذهب د. مستجير نفسه في وضع وتصميم برنامج كمبيوتر لتحليل قصائد الشعراء ، وبواسطته نعرف على وجه الدقة تفاعيل القصيدة وبحرها ، ومدى تطور الشاعر عبر تراكم إبداعه ومضي الزمان ، وهو ما شرحه لنا في حواره معنا بالتفصيل . 

وكان د. مستجير معجبا بالشاعر صلاح عبد الصبور ، وكان التقاه وعرض عليه شعره وشجعه وأثنى عليه ، ومن فرط حبه للشعر قرأ د. مستجير تراث الشعر العربي القديم والحديث ، كما كان قارئا للشعر الانجليزي ، وكان معجبا بأمير الشعراء أحمد شوقي ، وكان يرى في صديقه الشاعر محمد إبراهيم أبو سنة واحدا من أكبر شعراء مصر المعاصرين . 

وأصدر د. مستجير دوانين ، كان وضع أشعارهما قبل سفره في بعثته لبريطانيا ، وأودعهما عند صديق له ، ثم لما عاد بحث عنه ، وجمعهما في كتابين هما : ( عزف ناي قديم ) سنة 1980م ، و( هل ترجع أسراب البط ) ، وصدر سنة 1989م ، ونشرتهما ( مكتبة غريب ) التي نشرت له بعض كتبه الأخرى . 

مترجماته 

جمع د. مستجير في مترجماته بين الكتب العلمية ، وعلوم البيئة ، وفي الأدب والفلسفة ، والعلوم الاجتماعية ، والوراثة والجينوم البشري ، وعلوم الحيوان ، وبلغت كتبه المترجمة أربعين كتابا ، وهو رقم كبير لعالم جدوله مشغول تماما ، إذ أنه كان أستاذا وعميدا لكلية الزراعة في جامعة القاهرة ، ومحاضرا في الندوات ، ومشاركا في مؤتمرات علمية محلية ودولية ، وكاتبا للمقالات العلمية والأدبية في صحف ومجلات مصرية وعربية ، وعضوا بأكثر من مؤسسة ومحفل علمي ، كعضويته في مجمع اللغة العربية ، والمجمع العلمي المصري ، وعضويته في أكاديمية البحث العلمي ، وفي مجلس تحرير أكثر من مطبوعة علمية . 

ترجم د. مستجير في الفلسفة كتاب ( بحثا عن عالم أفضل ) لفيلسوف العلم ( كارل بوبر ) ، وهو عبارة عن حصيلة ثلاثين عاما من المقالات والمحاضرات لمؤلفه ، كما ترجم كتاب ( الفيزياء والفلسفة والمشاكل الفلسفية للعلوم الطبيعية ) ، للعالم ( هايسنبرج ) ، وكتاب ( صراع العلم والمجتمع ) ، لدار ( لنجتون ) ، وترجم كتاب ( عقل جديد لعالم جديد ) لمؤلفه ( روبرت أرنشتاين وبول إيرلش ) . 

وفي علم الوراثة ترجم كتاب ( اللولب المزدوج ) لأحد مكتشفي ( dna ) ، وهو العالم ( واطسون ) ، ثم ترجم لزميل واطسون في اكتشاف (الدنا ) العالم 0 فرانسيس كريك) كتابه ( طبيعة الحياة ) ، وصدر عن سلسلة ( عالم المعرفة ) في الكويت ، وفي مجال الفيزياء ترجم كتاب ( قصة الكم المثيرة ) للعالم ( هوفمان ) ، ثم كتاب ( البذور الكونية ) للعالم ( فرد هويل ) . 

وفي علوم البيئة ترجم الكتاب الأشهر للعالمة الأمريكية ( راشيل كارسون ) ، وهو الكتاب ذائع الصيت ( الربيع الصامت ) ، وهو أول كتاب يطلق صيحة تحذير ضد التلوث البيئي ، لا سيما التلوث الناتج عن الاستخدام الجائر للمبيدات الزراعية ، ونال الكتاب شهرة واسعة ، وترجم بعده كتاب ( البيئة وقضاياها ) لمؤلفه ( أوين دينيس ) ، وكتاب ( ثقب الأوزون ، تهديد الإنسان لطبقة الأوزون ) لمؤلفه ( جون جريين ) . 

وفي مجال الأدب ترجم كتاب الكاتب الانجليزي ( جيروم . ك. جيروم ) المعنون باسم ( أفكار تافهة لرجل كسول ) ، وهو كتاب في غاية الروعة والتشويق ، وليس تافها على الإطلاق ، بل يحمل أفكارا في غاية الأهمية في أسلوب جذاب جدا ، والحق أن د. مستجير قد ترجم الكتاب ، وكأنه صاحبه ، فلا يشعر القاريء أنه يقرأ كتابا مترجما ، وقد صدر عن ( دار الهلال ) ضمن سلسلة ( كتاب الهلال ) ، كما ترجم د. مستجير لنفس المؤلف الانجليزي رواية بديعة بعنوان ( ثلاثة رجال في قارب ) ، وصدرت عن سلسلة ( روايات الهلال ) ، وهي رواية بديعة قلدها خيري شلبي وأديب الرحلات حسين قدري في كتابين على نفس المنوال حين خرجا في رحلة بحرية على حساب شركة الملاحة الحكومية في ستينيات القرن العشرين .

وحققت كتب د. مستجير أرقام مبيعات كبيرة ، وطبعت أكثر من مرة ، ونجح في جذب القراء إلى فهم الثقافة العلمية بأسلوب بسيط وشامل ، وبترجمات شيقة ، تبدو كما لو كانت من تأليفه ، مع هوامش شارحة ، وكان مجرد وضع اسمه على كتاب كفيل برواجه ، وكان مجرد الإعلان عن وجوده في ندوة كفيل بنجاحها ، وارتياد كثير من الناس لها ، كما في معرض الكتاب ، ودار الأوبرا ، واتحاد الكتاب ، وغيرها ، ونجح في الانطلاق من الدائرة العلمية المتخصصة الضيقة إلى دوائر أوسع ، بثقافته الموسوعية ، وقدرته على التكيف والتبسيط والشرح ، خاصة أنه جمع بين ثقافتين : العربية والغربية . 

مقالاته 

كتب د. مستجير مقالات كثيرة في العلم والأدب والوراثة والجينوم والبيئة وعلم الحيوان وغيرها في مجلات شهيرة مثل ( الهلال وسطور والكتب وجهات نظر ) في مصر ، ومجلة ( العربي ) في الكويت ، فضلا عن المجلات العلمية المتخصصة . 

وأذكر أن رئيس تحرير ( المصور ) ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دار الهلال ونقيب الصحفيين مكرم محمد أحمد ، في تسعينيات القرن الماضي ، طلب مني ، وكنت محررا في ( المصور ) ، وكان يعلم بعلاقتي الوطيدة د. مستجير ، طلب مني أن أطلب منه كتابة مقالين عن التهجين الوراثي في المحاصيل الزراعية ، وكان المثل الأشهر هو إنتاج نبات يجمع بين البطاطس والطماطم في شجرة واحدة ، تنتج الطماطم من أعلى ، والبطاطس من أسفل ، ونقلت رغبة ( مكرم ) للدكتور مستجير ، فكان تعليقه الساخر هو : ( رجل غريب ، لماذا مقالين ؟ لماذا لا تكون ثلاث مقالات أو أربعة ؟..) ، وبالفعل كتب مقالا ونشره ( المصور ) آنذاك ، ولم يستكمل الكتابة في المجلة . 

ولكنه كان كاتبا دائما كل شهر في مجلة ( الهلال ) الثقافية ، وفي إحدى المرات عرض لكتاب ( ألفين وهايدي توفلر ) المعنون : ( الحرب ونقيض الحرب ) ، عن تقنيات الحرب الحديثة ،عبر ثلاث مقالات مستفيضة ، وقد أهداني الكتاب للقراءة ، وأذكر آنذاك أن صديقا لي كان يشارك في فيلم ( قشر البندق ) مع المخرج خيري بشارة ، وظهر الكتاب في الفيلم ، وهو كتاب قيم ، وأذكر أن د. مستجير قال لي على سبيل السخرية بطريقته المتسامحة مع نبرة الدهشة : ( تصور أني أشتري الكتب من الخارج بالدولار ، وأكتب عنها ويحاسبونني عن المقال في ( الهلال ) بخمسين جنيها للمقال ، في حين أني أكتب المقال الواحد بمئات الدولارات في مجلات عربية وأجنبية ؟!) . وكان أن قلت له : ( هذه هي طريقة حسابات التحرير في ( الهلال ) وحضرتك تتحصل على أعلى مكافأة في المؤسسة والمجلة ، وهي نفس المكافأة التي يحصل عليها مثلك د. مصطفى سويف ، ود. شكري عياد ، وبالفعل أخبرني د. سويف حين التقيته في عيادته في ( الزمالك ) في حوار مهم ، أنه يكتب في ( الهلال ) لتاريخها وسمعتها وحبا في دورها وليس من أجل مكافأة الخمسين جنيها الشهرية ) . وسكت د. مستجير متحسرا ولم يعقب ، وماذا يقول عن الثمن البخس الذي يحصل عليه كبار عقول مصر من مكافآت مقابل أفكارهم وثمار عقولهم ؟!.. 

نال د. مستجير جائزة الدولة التشجيعية في العلوم الزراعية سنة 1974م ، ثم وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى ، وفاز بلقب صاحب أفضل ترجمة علمية سنة 1993م عن كتابه ( الهندسة الوراثية للجميع ) ، ونال جائزة ( مبارك ) في العلوم سنة 2001م ، وحصل على جائزة الدولة التقديرية سنة 2002م ، ونال عضوية الأكاديمية الملكية في السويد . 

اعتز د. مستجير بعضويته في مجمع اللغة العربية منذ عام 1994م ، ومن عرفه عن قرب يعرف إخلاصه وحبه للغة العربية الفصحى ، واطلاعه الواسع على الشعر العربي في عصوره ، وكان بحكم سفره للدول الأوربية يطالع كل جديد في إصدارات الكتب الأجنبية ، ويتخير منها المهم ، والمتوافق مع فكره ، ويقوم بترجمة الكتاب للعربية ، وبذلك أضاف للغة العربية زخما جديدا ، خاصة أنه ترجم أربعين كتابا ، وكأنه ألفها لروعة أسلوبه ، وقدرته على تطويع اللغة العربية لترجمة أي مصطلح علمي مهما كان معقدا أو خاصا جدا ، وكان يقوم بهذا الدور بحب خالص ، ودون انتظار ثمرة أو عائد مادي ، ومع ذلك – وكما قال لي مرة – كان يغضب من معاملة المترجم في ثقافتنا العربية ، معاملة أقل من معاملة المبدع أو المؤلف ، وكان يتحسر على تلك المعاملة التي لا تليق بالمترجم الجاد لا أدبيا ولا ماديا ، ومع ذلك كان يقول إنه يكتب ويترجم لأنه يحب كل ما يقوم به ، وليس من أجل عائد مادي أو تكريم من أي نوع أو وجه . 

أبحاثه وتحذيراته 

ولعل أخطر وأهم ما توصل إليه د. مستجير في مجاله الزراعي هو بحثه الناجح عن زراعة القمح والأرز على المياة المالحة ، وفي الأراضي المالحة ، من خلال التهجين مع نبات الغاب ، وكذلك زراعته لنبات يجمع بين صفات البطاطس والطماطم ، ونجاحه في تحسين سلالات الجاموس المصري ، وتحسين سلالات الدجاج المصري . 

وأخطر أقوال د. مستجير في جلساته الخاصة ، وما عبر عنه في بعض مقالاته ، هو قوله إن (الهندسة الوراثية ) خير للفقراء ، وسكان العالم الثالث في الجنوب قبل الدول الغربية الغنية والمتقدمة ، وإنها بوسعها أن تنقذ الفقراء من أزمات مثل الجوع وندرة المحاصيل والموارد الطبيعية . 

وحارب د. مستجير ما أسماه ( بذور الشيطان ) ، وكان يقصد بها البذور التي نستوردها ولا يمكننا استنباتها مرة ثانية ، ومن ثم تعتمد دول الجنوب في غذائها على المصدر الغني المتقدم !

وحذر د. مستجير وحارب فكرة ( السوبر مان الأبيض ) ، وحذر من عنصرية الرجل الأبيض الغربي والمستعمر ، وقال إن فكرة تفوق الرجل الأبيض الغربي على سكان الجنوب الفقراء ، فكرة عنصرية ، كما أن التمييز بين الرجل الأبيض ، والأسود أو الملون بسبب اللون فقط عنصرية غربية استعمارية أيضا ، وشبه تلك الدعوات بدعوة ( هتلر ) النازية العنصرية ، حيث كان ينادي هتلر بتفوق الجنس الألماني على أوربا والعالم كله !

وحذر د. مستجير من التطرف الديني والغلو الفكري ، والأفكار الهدامة المعادية للعلم ، وكان يرى أنه لا مستقبل لمصر ، ولا للعرب بدون البحث العلمي ، وسيادة التفكير العلمي . 

وحذر مرارا من خطورة استغلال منجزات البحث العلمي في الحروب لتدمير البشرية ، واستغلال العالم الغربي المتقدم للعالم النامي في الجنوب بعنصرية بغيضة لا تعرف الرحمة ، وكان يأخذ على بعض علماء الغرب المتقدم أنهم يتفانون في خدمة أهداف الاستعمار والاستغلال والعنصرية ، بتسخير ثمار أبحاثهم لأهداف عنصرية استعمارية ، دون وجود أي اعتبار أخلاقي أو قيمي بما في ذلك أخلاق العلم ، وكان يرى ذلك يفتح الباب لتدمير العالم باستخدام منجزات العلم !

وسعى د. مستجير لتكوين مدرسة مصرية وطنية في الوراثة الحيوانية والنباتية من زراعة القاهرة ، وأسس المعامل ، وأصبح له تلاميذ مخلصون في مجاله ، كما سعى لحفظ السلالات الحيوانية والنباتية المصرية من الإندثار ، أو السرقة ،أو من محاولة آخرين ادعاء تلك أو بعض السلالات لأنفسهم ، كما ادعت اليابان أن الملوخية نبات ياباني ، وسجلته باسمها ، رغم أنه نبات مصري !.. وادعاء دول أخرى احتكار القطن طويل التيلة باسمها مع أنه مصري أساسا ، والأخطر أننا نستورد تلك المنتجات بعد ذلك على أنها غير مصرية !..       

تنوع أصدقاء د. مستجير بحسب تنوع وثراء شخصيته ، وكما شاهدت بعيني ، كان من زواره الدائمين في مجال تخصصه الزراعي كل من د. يوسف والي وزير الزراعة الأسبق ، ود. سعد نصار الذي تولى مركز البحوث الزراعية ، ثم أصبح وزيرا للزراعة ، ومن مجال الصحافة ، كان مرسي عطالله مؤسس ( الأهرام المسائي ) ، ورئيس مجلس إدارة الأهرام لاحقا ، والمحرر الرياضي بالأساس ، صديقا له ، حيث كان من خريجي كلية الزراعة ، أما الشاعر المفضل والصديق الأقرب فكان الشاعر محمد إبراهيم أبو سنة ، وكان مستجير يراه أهم شاعر مصري معاصر ، كما كان معجبا بالشاعر صلاح عبد الصبور الذي التقاه وعرض عليه أشعاره وأثنى عليه ، وكان مأخوذا بنزار قباني بشدة ، وكان يرى أن فاروق جويدة يكرر نفسه ولم يتطور كشاعر ، كما كان معجبا بالأديب د. يوسف إدريس ونجيب محفوظ ، وكان معجبا بالرئيس عبد الناصر ، وله آراء سلبية في الرئيس السادات ، كما سمعت منه آراء سلبية في الشيخ الشعراوي وطريقته البسيطة في الدعوة !

 

أسريا ، تزوج د. مستجير من سيدة نمساوية الأصل ، كانت تعرف أصدقائه بالإسم ، وترحب بهم ، وتعد الشاي والقهوة والعصائر وتقدمها بنفسها مع بعض الحلويات ، ثم تنسحب كالنسمة في لمح البصر ، تاركة زوجها مع ضيوفه لحواراتهم العلمية والثقافية ، وأنجبت له ثلاثة أبناء هم على الترتيب : ( طارق ) ، وهو مهندس برمجيات ، و( سلمى ) حاصلة على الدكتوراة في اللغة الألمانية ، و( مروة ) ، وهي تخصصت في البيولوجيا الوراثية . 

 

عاش د. مستجير في بيته ، وكان عبارة عن فيلا مكونة من دورين ، في شارع الحسين بالدقي في الجيزة ، ويحمل البيت رقم عشرين ، وكانت تتصدره حديقة جميلة يزرعها د. مستجير بنفسه لعشقه للزراعة ، وكان يطيب له أن يذهب إلى كليته ( زراعة القاهرة ) مشيا على قدميه ، ويعود ماشيا ، حتى وهو عميد للكلية ، 

 

   الرحيل 

ظل د. مستجير يقظا ومتفاعلا في الحياة العامة ، الثقافية والجامعية ، حتى كان العدوان الإسرائيلي الوحشي على لبنان سنة 2006م ورؤيتة لمشاهد قتل النساء والأطفال ، فلم يتحمل وهو الشاعر المرهف الحس ، وفاجأته جلطة دماغية نقل على أثرها للمستشفى ، وكان يقضي إجازته السنوية مع أسرته في النمسا فتدهورت حالته الصحية ، ولقى وجه ربه عصر الأربعاء السادس عشر من أغسطس من عام 2006م ،عن 72 عاما ، وشيعت جنازته يوم الأحد 20 أغسطس من أمام كلية الزراعة في جامعة القاهرة حيث قضى جل عمره ، ورحل هو في أوج عطائه الثقافي والأدبي والعلمي ، رحمه  الله تعالى .     

مقالات مشابهة

  • هاشم شرف الدين: بين التولي لله والتولي لأمريكا.. قراءة في تشخيص قائد الثورة لأزمة الأمة
  • السوداني يبحث مع فيدان تنفيذ مذكرات التفاهم الموقعة مع أنقرة
  • في ذكرى وفاته.. ياسر رزق فارس الكلمة الذي وقف ضد التيار
  • صدور الطبعة الأولى من كتاب الطريق إلى عقل ديني مستنير: قراءة في مشروع الدكتور محمد الخشت لتجديد الخطاب الديني
  • مستجير .. فارس الثقافتين | مسيرة عطرة من الميلاد إلى الرحيل
  • فارس عراقي واعد يحل ثانياً في بطولة أبوظبي الدولية
  • أسرار تاريخية عن عرب الخمسينيات تكشفها مذكرات أيزنهاور
  • عماد الدين حسين: لقاءات القمة بين الرئيسين السيسي الصومالي تعكس تطور العلاقات
  • عماد الدين حسين: لقاءات القمة بين الرئيس السيسي ونظيره الصومالي تعكس تطور العلاقات
  • اتفاق عراقي – مصري لتفعيل مذكرات التفاهم في مجال الاتصالات