ما من حرب واحدة في التاريخ ، بحجم حرب السودان الراهنة
تاريخ النشر: 6th, August 2024 GMT
في مسرح الحرب السياسي الدبلوماسي
ما من حرب واحدة في التاريخ ، بحجم حرب السودان الراهنة ، الا و جري على مسرحين..
مسرح قتالي عسكري مؤقت ، طال امده او قصر .
و مسرح سياسي – اقتصادي- قيمي.. أطول عمرا ، و أكثر عمقا و أبقى أثرا في حياة الشعوب.. هذا هو الذي من أجل غاياته الاستراتيجية تجيش الجيوش و تشن الحروب.
فلا ينبغي إن يغرب للحظة عن ذاكرة شعب السودان و قيادته ، إن معركة أشد وطأ ، على الصعيد السياسي – الدبلوماسي يلزمنا خوضها تماما كما نخوضها على المسرح العملياتي الميداني .
فمثلما حشد العدو قبل 15 ابريل 2023 ، اقصي ما استطاع من لوازم الحرب ضد شعب السودان وجيشه : بالجند و المرتزقة .. و بالتدريب و التمويل والسلاح.. و بالاسناد الدبلوماسي الدولي و الاقليمي ، وبشراء ذمة كل من توفرت عنده القابلية لبيع ذمته ، فأنه يحشد اليوم كذلك ، و بذات الأدوات و المنهج ، مواقف دول و قادة و منظمات على الصعد الاقليمية و الدولية ، من أجل حرمان السودان من بلوغ نصر كاسح ، به تتحرر ارادته الوطنية الخالصة و يتحقق استقلاله و سيادته على ارضه.
يحشد العدو اليوم سائر مستلزمات المواءمة الظرفية التي بها يتحقق له ما لم يتمكن من انتزاعه – لبلوغ اهدافه الاستراتيجية – بقوة السلاح .
أن الهدف الاستراتيجي الأعلى للحلف الرباعي الذي شن الحرب على السودان قد افصحت عنه يوميات الصراع نفسه بكل وضوح ، قولا و فعلا , وهو انهاء دولة السودان و ازالتها من خريطة العالم ، بعد القضاء على جيشها، و ايلولة ميراثها – بمقادير متفاوتة – لكتل التحالف الأربع .
التحالف الذي انخرط في الحرب على السودان يتألف من كتل أربع ، متساندة و متناسقة ، بأعلى درجات الأعتماد المتبادل ، لكل منها دوره المرسوم حسب المتاح الظرفي في فضاء حركته ، لكن الهدف الاستراتيجي النهائي واحد..هو تفكيك السودان بدءا بتفكيك جيشه.
الكتلة الأولى :
تحالف دولي تقوده بريطانيا و امريكا و فرنسا و اسرائيل و الأمارات المتحدة. و كأنما أوكل شركاء هذه الكتلة للأمارات – او كان ذلك طوعا من ذاتها – أن تتولى مهام السيطرة و التوجيه و القيادة ، بما في ذلك الكلفة المالية و اللوجستية و سائر مطلوبات التنسيق و القيادة .
ففي عواصم هذه الكتلة تم تصميم مشروع تفكيك السودان ، لسنين خلت ، منذ ان كان ذلك نظرية “خام ” تعتمل مدارستها خلف ابواب مغلقة في اجهزة مخابراتها ، و في مراكز فكرها الاستراتيجي ، انتظارا لانضاج الظروف التي تجعل انفاذ المشروع ممكنا. و قد تواترت ثم تكاملت هذه الظروف بصناعتها للحراك الذي انهى حكم الأنقاذ.. وبزوال الأنقاذ أزيلت العقبة الأكبر أمام مشروع تفكيك السودان . وقد راى الناس كيف تصدر سفراء هذه الكتلة (بتنمر طاغ) ذلك الحراك . تلك ممارسة استباحت تماما سيادة السودان ، في سلوك لم تسجل مدونات التاريخ الدبلوماسي العالمي له نظيرا . فالعلاقات الدولية المعاصرة لم تعرف وظيفة حظيت ممارستها بتنظيم قانوني شديد الدقة و التفصيل كما شهدت وظيفة التمثيل الدبلوماسي . فمنذ مؤتمر فينا 1815حين نشأت فكرة التمثيل الدبلوماسي المقيم ، مرورا بكل تعرجات العلاقات بين الدول- عبر القرون – حتى ميثاق الأمم المتحدة ، و انتهاء باتفاقية فينا 1961 التي تفصل بدقة ما يجب التزامه في ممارسة التمثيل الدبلوماسي . ثم اتفاقية فينا 1963 التي تنظم بذات النهج العلاقات القنصلية . هذه هي أدوات القانون الدولي الحاكمة للتمثيل الدبلوماسي . غير أن سفراء هذه الكتلة استمرأوا استباحة البلاد و انتهاك سيادتها . فلقد كان منسوبو الكتلة الثالثة في هذا الحلف (كما نبين ادناه ) موظفون تحت ادارة هذه الكتلة الأولى . فهي التي دفعت، و ما انفكت تدفع ، رواتبهم و تكاليف حركاتهم ، و هي التي كانت تصنع سياسة البلاد الداخلية و الخارجية في سنوات حمدوك و قحت ، و هي التي ترفع اليها تقارير أدائهم . بل ذهبت هذه الكتلة في يناير 2020 الى مخاطبة الأمين العام للأمم المتحدة سرا ،(باسم حمدوك) لأنشاء بعثة سياسية تتولى بالكامل ادارة السودان في جميع شعاب الادرة . و بذلك سعت بتخف ماكر لتصفية استقلال البلاد و وضعها فعليا تحت الأنتداب الدولي .
تلك كانت حالة ” الرق المنحوس ” التي وفرتها غيبوبة الدهر الكبرى في أخر 2018 و ما بعده . فقد تهيأت سوانح تولدت منها اغراءت المتربص الأجنبي بأستعمار السودان…
” االرق المنحوس ” (بهذه المناسبة ) مصطلح نحته العلامة عبدالرحمن الكواكبي عندما كان يخط كتابه الموسوم ” طبائع الاستبداد و مصارع الأستعباد ” ، ويعني به هيمنة و استغلال القوى الأجنبية المترصدة لحالة الضعف المتردي في دولة ما قضت أقدار الله أن تنزلق في مهاوي التيه العدمي . فلقد تلقفت هذه الكتلة – المترصدة أصلا بالسودان – حالة الغيبوبة حينذاك ، وتولت بذاتها التحكم في وجهة البلاد .
و الكتلة الثانية:
تحالف اقليمي من تشاد ، و بعض اعيان دول الساحل الأفريقي ، وأفريقيا الوسطى ، وكينيا ، ويوغندا ، و اثيوبيا، و ليبيا حفتر، و جنوب السودان..ثم عناصر قيادية في المنظمات الاقليمية ( الاتحاد الأفريقي و الايقاد) . وقد ضخ بين عناصر هذه الكتلة مال سياسي كثيف اتخذ صورا متعددة ، حتى ازكمت أخبار الرشاوي أنوف الأفارقة على نحو لم يسجل التاريخ له نظائرا . المراد من هذه الكتلة توفير إسناد اقليمي قاري تطوره حليفتها الكتلة الأولى – حين نجاحها في الاستيلاء على البلاد و تدمير جيشها – الى إسناد دولي يدعم ويعترف بنتائج امانيهم في مشروع تفكيك السودان.
الكتلة الثالثة :
صنعت الكتلتان – الدولية و القارية – تحالفا سودانيا وظيفيا داخليا تخيروا لعناصره كيانات و احزاب وافراد تتولى ظاهريا قيادة البلاد على اثار أمانيهم في تحطيم الجيش السوداني و قتل قيادته ، كما كانت تمضي مخططاتهم في منتصف ابريل 2023 . كانت امانيهم الجانحة أن يكون الأمر خاطفا في بضع ساعات أو بضع أيام . و كان ذلك التاريخ هو الذي يشهد ميلاد دولة جديدة ، بقيامها يزيلون فعليا من خريطة العالم بلدا أسمه السودان كما يعرف نفسه ، و كما يعرفه العالم . وقد أعدوا الساحتين الاقليمية و الدولية لاستقبال هذا السقط الحرام و الأعتراف به.
المنهج المصمم لبلوغ ذلك الهدف الاستراتيجي ، هو ذات المنهج الذي جربته – قبل ثمانبة عقود – اطراف الكتلة الأولى نفسها في فلسطين , حين مكنت بريطانيا و حليفاتها العصابات الصهيونية من ارض فلسطين . ضع مليشيا الدعم السريع اليوم مكان عصابات الصهاينة ، الهاغاناه و والارجون في اربعينات القرن الماضي ، و ضع حميدتي و اخيه في مكان شامير و مناحم بيجن ، و سيمثل بين ناظريك تطابق السلوك و الاداء الميداني لدي العصابات الصهيونية في فلسطين و عصابات المليشيا الجنجويدية في السودان , و سيستبين لك في كلا الحالين تطابق المنهج بالتمام و دون أدنى شطح او تزيد . فإن ما اعدوه للسودان هو اعادة انتاج المنهج الصهيوني – ( الاستعماري – الاستيطاني – الاستئصالي- الأحلالي ) المجرب القديم.
الكتلة الرابعة :
الدعم السريع . وهو الموكل إليه – و بأسناد الكتل الثلاث المتحالفة – تنفيذ الهدف الاستراتيجي على الأرض : تفكيك الجيش السوداني بعد قتل قيادته ، و تلك هي المقدمة اللازمة لتفكيك البلاد كلها . فقد اوعزوا لقيادة الدعم السريع ، تحت أحساسها الطاغي بالقوة العسكرية و المالية ، معززين ذلك بوعود مغلظة ، إن يحظى استلاؤهم على البلاد بدعم يشمل العالم كله ، بما في ذلك اعتراف امريكا، و أوربا، و اسرائيل ، و دول عربية على رأسها الأمارات ، فضلا عما بات مضمونا لهم دعم و إسناد الاتحاد الأفريقي و الايقاد و توابع الكتلة الأولى في افريقيا . وبسطوا بين يدي حميدتي وشركائه و أسرته ، وهم الملاك الحصريون للدعم السريع ، رغائب لم تخطر على قلب أحد منهم . رغائب جامحة بقيام مملكة ثرية و قوية على انقاض دولة كان اسمها السودان !! أما حميدتي نفسه ، فأغدقوا له وعدا غرسوه في مدارك سمعه و بصره . وعدا بشجرة الخلد و ملك لا يبلى !!
لا يماثل ما وسوست به كتل هذا الحلف في روع حميدتي و عشيرته إلا ما وسوس به ابليس في اذنى آدم و حواء أذ اخرجهما من الجنة ، و دلاهما بغرور ليذوقا شجرة الرغائب الشيطانية حتى بدت لهما اليوم سوأة الكذبة الكبرى . و كأني بمن غرسوا في كيانه رغائب الملك العريض ، بنشدون اليوم مع من قال :
ما دمت يا أغبى الملوك صديقنا
فلنا بحسن غبائك استثمار !!
أردت مما سبق وضع القوى المنخرطة في حرب الشعب السوداني و جيشه في قوالب انتسابها المتساندة . وهذا – كما اقدر – شأن كل معالجة منهجية يقود تسلسلها المنطقي الى استلال الخلاصات المتأسسة على حقائق جلية تمشي على الأرض.
علينا جميعا ، قيادة و شعبا ، التأمل المتبصر ، في الاسئلة التقريرية التالية ، و التي بنيت على معطيات التوصيف المنهجي اعلاه . فأذا تحقق التجرد من كوابح و كلابيب و تغبيش الأنا ، سواء أكان ذلك الأنا حظ نفس او طائفة أو حزب أو قبيلة او أي كيان جزئي.. اذا تحقق ذلك فأن ما يتولد من خلاصات هذه الاسئلة ستبدو بدهيات منطقية.
أول هذه الأسئلة هو : من هو عدو اهل السودان الذي يقتلهم و يخرجهم من ديارهم و ينهب ما يملكون و يدمر مؤسساتهم التي أنشأوها عبر سبعين سنة بشق الأنفس. ومن يهتك اعراضهم ، و يبيع نساءهم سبايا في نخاسات أفريقيا في القرن الحادي و العشرين..
الجواب المكشوف الذي استبان لكل ذي بصر و بصيرة أن عدو السودان هو من ألف حشدا دوليا و اقليميا صنع من كياناته هذا الحلف الرباعي المشؤوم لانهاء وجود السودان ، بداء بتحطيم جيشه..
فتراكيب هذا الحلف بكتله الاربع هي التي تشن الحرب على أهل السودان بتضامن و تكامل و تناسق .
و لكل من مكونات هذا الحلف دور يناسب حاله . فمنهم من تولى التمويل و التسليح ، و منهم من تولى حشد المرتزقة و مباشرة أعمال القتل و النهب و الدمار و هتك الاعراض ، و منهم من تولى الدعم السياسي و الدبلوماسي على المستويين الاقليمي و الدولى ، و منهم من تولى الاصطفاف السياسي الداخلي و مهام الاستخبار و عمل الادلاء الذين يرشدون القتلة الى ضحاياهم و من يتولون ادارة الحرب الدعائية و النفسية.
فهل ترك هذا التشكيل العدواني لأهل السودان غشاوة تصرفهم عن رؤية مكوناته المتحالفة و المتساندة ؟ وهل من احد لا يزال جاهلا بالادوار المتناسقة التي تنفذها كل واحدة من مكوناته ، ضمن استراتيجيته الكبرى ؟ و هل من عاقل يمكن أن ينزل أيا من مكونات هذا التحالف الابليسي منزلة الوسيط النزيه المحايد ، كما تسعى اليوم امريكا و الامارات !؟ بينما تتولى بريطانيا عرقلة مظلومية السودان أمام مجلس الأمن و الهادفة الى ادانة حليفتها الأمارات بالاشتراك الجنائي في جرائم الحرب ؟
و ثاني الأسئلة هو : ما هي الغايات الاستراتيجية التي من أجلها تشكل التحالف المشؤوم ودارت من أجل تحققها عجلة هذه الحرب بكل ما اصبح شاهدا من قتل و سحل و دمار و دماء ؟
الاجابة هي : إن الغاية الأستراتيجية هي الاستيلاء الكامل على البلاد..على الأرض خالية من سكانها.. في أكبر تجربة استعمارية – استيطانية – استئصالية – احلالية في تاريخ أفريقيا . تجربة تقوم على ساقين هما: التفكيك..واعادة التركيب . او الابدال .. ثم الاحلال . تجريد السكان من ارضهم بكل أشكال القهر المادي و المعنوي..و احلال أخرين مكانهم.. حرث ديموغرافي عميق، ثم غرس بشري جديد.
التاريخ الاستعماري لمكونات الكتلة الأولى في هذا الحلف يعج بمخزون كثيف من تجارب الابدال و الأحلال، كما حدث للهنود في امريكا . و كما احدثه اطراف هذا الحلف بالذات لأهل فلسطين . و كما حدث لسكان استراليا الأصليين. و كما حدث لأهل جنوب افريقيا . و لسكان الكاريبي الأصليين…الخ. فقد ارتبط الاستعمار الاستيطاني في جميع تجاربه بمبدا الأبدال و الاحلال. و ما تخلفت ابدا اداتان يعملهما لبلوغ ذلك الهدف في كل بلد حل فيه : أداة الأزالة الكاملة لكل مظنة للمقاومةtotal elimination .l ، او أداة الابادة الجماعية genocide عندما يكون ذلك ضروريا لتحقيق الابدال الكامل.
السؤال الثالث المترتب على هذه الحقائق المجردة هو: هل لأعمال الدعم السريع في كل تجمع سكاني هاجمه صفة اقل من أزالة elimination واستباحة كل شيء ( البيت و المال و الممتاكات و العروض) . ؟ او هي أقل من صفة الابادة الجماعية genocide ؟ الأجابة مبذولة بوفرة شهدها كل العالم ما عدا كتل هذا الحلف الأربعة. اسألوا عنها المساليت في الجنينة واردماتا .. و ود النورة و الشرفة.. و الرهد .. و أم صميمة ..بل سلوا عنها كل بيت في كل قرية أو مدينة حل فيها الجنجويد بمساندة و تضامن حلفائهم من كتل الحلف الرباعي الشرير.
فهل نرى من سياق الصراع و يومياته ، اقلاعا عن أهداف الحلف الاستراتيجية التي من اجل بلوغها استفرغت كتل التحالف كل وسعها..؟
عشرات الاسئلة الموضوعية تتناسل لتأكيد حقيقة كثيرا ما يجنح بعضهم لتغافل دلالتها المركزية في الحرب الراهنة..حقيقة الفعل المتضامن و المتناسق لمكونات التحالف الذي يقود الحرب على شعب السودان و قواته المسلحة.
الكتلة الأولى في الحلف الشرير هي القاطرة التي تجر خلفها الثلاث الاخريات. و هي التي تبتدر بدائل الصراع حسب منطوق الوقائع الظرفية التي تنتجها تفاعلات الحرب اليومية . فإن بدت دلائل خسرانهم القتال راجحة ، ذهبت لتفتح مجرى اخر من مخزوناتها السياسية والدبلوماسية و غيرها.. و مثلما حشدت للحرب انصارا في افريقيا ( دول و منظمات ) تحشد لبديلها الظرفي داعمين من ذات المصادر . و إذ تفعل كل أحابيل الدبلوماسية الجبرية coercive diplomacy ، التى اعتادت أعمالها بأضطراد منذ نهاية القطبية الثنائية ، تظل أهدافها ثابتة بانتظار وقائع ظرفية مواتية لاستئناف زحفها نحو الهدف الاستراتيجي.. هدف التفكيك ثم اعادة التركيب . او بعبارة ربما أكثر وضوحا ؛ هدف الاستئصال ثم الأبدال و الاحلال ..و أعادة انتاج الاستعمار الاستيطاني القديم بخصائصه التي ذكرنا..
و من مخزونات تجارب الكتلة الأولى في ادارتها لصراعها الاستراتيجي معنا ، خلال الاربعين سنة الماضية ، استلت امريكا – بتضامن و تنسيق جهير مع رصفائها في الحلف الرباعي – استلت فكرة محادثات جنيف .
منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي، حينما انفردت الولايات المتحدة ببسط نفوذها على العالم ، أثر تفكك الاتحاد السوفيتي ، لم يتغير كثيرا منهج التعاطي الثنائي مع السودان . ظل العنوان المميز لعلاقتها معنا هو أعمال الدبلوماسية الجبرية coercive diplomacy القائمة على افتراض فعالية ركائزها الأربعة : 1/ المطالبات المضطردة المتناسلة ، او – بتعبير ادق- اصدار الاوامر..2/ وجوب الاذعان لتلك الأوامر.. 3/ التلويح بالعقوبات..4/ وعود ( لم تتحق يوما ) ان تم الأذعان للمطالبات و الاوامر . تلك هي أدوات الدبلوماسية الأمريكية الجبرية تجاه السودان على مدى أربعة عقود.
حين كان السودان يتحاشى المواجهة غير المتكافئة مع امريكا فيما مضى ، كان حريصا أن تتأسس علاقاته معها ( ومع كل العالم ) دون التفريط في سيادته و استقلاله . و إن نتعاون في المشترك الإنساني العام ، وإن نحترم الخصوصيات الثقافية و المجتمعية والدينية لكل أمة . غير أن نوازع الهيمنة – تحت احاسيس القوة – هي التي طغت على موجبات التعايش السلمي و التعاون و اعتماد علاقات صحية بين الأمم..حتى شاع قول من قال what is good for the west should be good for the rest.. أي ما يراه الغرب خيرا يجب إن يراه غيرهم خيرا.
ما تراكم من دروس علاقتنا مع امريكا في ماضينا القريب ، لا يزال طريا في ذاكرة الدبلوماسيين السودانيين .
بعيد عودة جون قرنق من امريكا بعد اتمام دراسته للدكتوراة في جامعة ايوا ، قاد عام 1983، بدعم أمريكي متعدد الجوانب تمرد الحركة الشعبية . لم تشفع للرئيس نميري انحيازه الكامل للسياسة الأمريكية انئذ ، حتى يكف حليفها قرنق عن تمرده . فأهداف الحركة الشعبية يومها هي أهداف امريكا الاستراتيجية ، فلا ينبغي تخليها عن حليف استراتيجي مؤكد من أجل صديق وظيفي مؤقت . ذهب النميري و جاء سوار الذهب ثم الصادق..و تمدد دعم امريكا و حليفاتها للحركة الشعبية في خط تصاعدي مستمر .
ثم جاءت الأنقاذ من أجل أنقاذ السودان من السقوط في جحيم المشروع الاستئصالى ( شديد التماثل لدرجة التطابق مع ما يجري الان : اقرأ منافستو الحركة الشعبية عام 1983) للحركة الشعبية ، وهي تدرك يقينا حقائق دعم امريكا السياسي و اللوجستي لها .
في العام 1996 لم تعد الحركة الشعبية تسيطر على اي موقع كانت تحتله قبل هذا التاريخ . هنا تكاثفت وتائر الدبلوماسية الجبرية الأمريكية لأنقاذ جيش قرنق . لأجل ذلك صممت ما كان يعرف ” بشريان الحياة ” وهو خط الامداد بالمؤن و العتاد العسكري الذي ظل يغذي الحركة الشعبية لعشر سنوات لاحقة . انه منهج معتاد للدبلوماسية الجبرية تسعي امريكا اليوم لأعادة انتاجه في جنيف .
اكثر من عشرين عاما كانت امريكا و الترويكا داعمين يفيض وافر لحركة الجيش الشعبي بكل مطلوبات الصراع ضد السودان . و تحطمت على مدى عشرين عاما عشرات الدعوات من حكومات السودان المتعاقبة لوقف اطلاق النار و الجنوح لتسوية عادلة . تحطمت تلك الدعوات تحت ضغوط أمريكا وحلفائها على الحركة الشعبية لرفض التسوية مع حكومة السودان .
ثم ضخ النفط السوداني في اغسطس 1999 . و ما لبث أن بدت اثاره الموجبة على مجمل الحياة ، كما كان موجبا على تسليح و امداد القوات المسلحة . في هذه المرحلة فقط ظهر التحول المتسارع من جهة امريكا والغرب عموما ، لأنهاء التسوية السياسية إعجل ما يمكن . تقديرات الموقف الأمريكي كانت تقول إن الصعود الأقتصادي للسودان حينها بسبب عائدات النفط لا بد أن يفضي للصعود في وتائر التصنيع العسكري و ما يترتب عليه من اختلال في موازين القوة لصالح السودان . واصبح من كانوا – لأكثر من عشرين سنة – يحرضون حركة قرنق لتمتنع عن اجابة أي دعوة للسلام ، يسارعون مع عقارب الساعة لوقف الحرب و المضي الى تسوية سلمية . لم تكن تلك دعوات منشأها الرغائب الإنسانية الخيرة المحبة للسلام ، و انما حركها توجس مقلق لديهم من تفوق الجيش السوداني بسبب ما توفر له من عتاد وامداد . و لأجل ذلك أجرى الرئيس الأمريكي بوش الابن محادثات هاتفية بالرئيس عمر البشير ، وزار الخرطوم وزير الخارجية كولن باول ، و الامين العام للأمم المتحدة كوفي عنان ، و اعداد لا حصر من الدبلوماسيين و السياسيين و البرلمانيين – امريكيين و اوربيين – جميعهم ينسج على منوال واحد هو ؛ ابرام التسوية السياسية مع الجنوب و بنحو متسارع . وظلت الاداة الابرز في جميع ذلك الزخم هي أداة الدبلوماسية الجبرية.
وفي هذا السياق – كما كتبت وزيرة التعاون الدولي النرويجية هيلدا جونسون – عمد إثنان من أعضاء الكونغرس الأمريكي هما دونالد باين و ثوماس تانكريدو الى تحرير رسالة الى الرئيس الأمريكي بوش الابن تحوي إثني عشر إسما لسودانيين ، جلهم ضمن الفريق الحكومي المفاوض في نيفاشا ، يتهمانهم فيها بتهم زائفة بأعمال ارهابية أبان فترة سابقة من حياتهم السياسية . ويدعوانه لاصدار عقوبات بحقهم . و انتهى سيناريو تلك الضغوط بأصدار ما أسموه قانون سلام السودان . جميع ذلك الحراك المحموم كان هدفه استخلاص صيغة للتسوية تحت التهديد تتبنى ما تريد امريكا حصاده من استثمارها السياسي طويل الأجل في حرب الجنوب . ( أظن القارئ الكريم يرى التماثل المتطابق مع ما يجري هذه الايام !!)
قالت الوزيرة النرويجية هيلدا جونسون – وقد كانت دائمة الحضور في نيفاشا – انها بتنسيق مع حلفائها الامريكيين نقلت مضامين تلك الضغوط و التهديدات للفريق الحكومي المفاوض علها تحدث شرخا تتسرب منه رغائب الامريكيين في استخلاص اقصى ما يمكنهم من املاءات . كان رد الفريق المفاوض إن ابلغوا هيلدا بأن مثل تلك الضغوط و التهديدات لن تنتج حصلية موجبة في خزائن من أطلقها.
على هذا المنوال كانت تجري – ولم تزل – مناهج الدبلوماسية الجبرية الأمريكية..و الراجح عندي اعمالها فيما دعت إليه ادارة بايدن في أخر أيامها هذه قائد الجيش الى جنيف ، مدفوعة في ذلك بما استجد من تغيرات مهمة لمراكز القوة في النظام الدولي الراهن ليست في مصلحة امريكا ، خاصة ما بدى واضحا إن قطبا دوليا عالميا موازيا يجري تشكله بتقدم نشط . هذا قطب تخلو صحائفه من أدوات التسلط الجبري التي كانت و لم تزل هي ما يصبغ علاقات السودان بأمريكا و حلفائها في الكتلة الأولى من تحالف العدوان على شعب السودان و جيشه.
و لكن دعنا نفترض إن الرئيس البرهان قرر المشاركة في هذا الأجتماع ، و هو أفضل سيناريو للامريكيين و الاماراتيين مثلما هو أفضل سيناريو للدعم السريع و حواضنه السياسية .
لكنه بالمقابل السيناريو الاسوأ للمؤسسة العسكرية السودانية بفصائلها المختلفة ، و للغالب الساحق من الشعب السوداني .
وفق هذا السيناريو المتخيل تثور عدة اسئلة :
+ هل سيحضر البرهان بصفته رئيسا لمجلس السيادة ، و بهذه الصفة فهو رأس الدولة و المسؤول الاعلى فيها بمؤسساتها المدنية و العسكرية.
+ أم بصفته قائدا للجيش السوداني فقط يواجه في الطرف المقابل قائد الدعم السريع ؟
وفق هذا الموقف المتخيل فإن الرئيس البرهان إن استجاب للدعوة – كما أرادوا – ممثلا للجيش فقط :
– فقد اسقط بطوع ارادته صفته الدستورية كرأس للدولة.
– وأسقط تبعا لذلك قراره بحل الدعم السريع .
– وأسقط قراره باعتبار الدعم السريع كيانا ارهابيا متمردا يجب قطع دايره .
– وبهذا يعيد صياغة التكييف السياسي و القانوني للدعم السريع بشكل يماثل حركة قرنق ( 2005) و جبريل و مناوي اليوم . و هكذا يكون الجيش السوداني قد اصبح فصيلا متوازيا مع غيره من الفصائل.
+ واعادة قائد الدعم السريع و أخيه الى موقعه السابق نائبا لرئيس مجلس السيادة ، و فك تجميد ارصدة الدعم السريع في البنوك . و دفع ديات حوالى 150000 قتيل منهم ، و علاج اعداد مماثلة من الجرحى . و اعادة معسكراتهم التي استولت عليها القوات المسلحة.
+ و إعلان وقف لأطلاق النار تبقى بموجبه قوات الدعم السريع في مواقعها التي احتلتها . و الزام الجيش السوداني بالكف عن مهاجمتها . و ترجمة كل ذلك في وثيقة تتبناها الأمم المتحدة و الاتحاد الأفريقي و الايقاد. و على ذلك تستقدم قوات دولية تفصل بين ” الفصيلين”! ويبقى الوضع هكذا لسنين طويلة تترسخ أثناؤها تماما اهداف الحلف الشرير في الأستيلاء على السودان ، بعد تمزيق اوصاله بين هذه الكانتونات.
+ وتذهب موجهات النقاش في مثل هذه الحالة الأفتراضية الى إن الأمر كله خلاف بين شخصين هما الفريق أول عبدالفتاح البرهان و الفريق أول محمد حمدان دقلو.
+ إن مشروع التسوية بمعالمه الأفتراضية هذه ( لكنها الأكثر قربا للحقيقة ) قد تم أعداده مسبقا – قبل الدعوة الى جنيف – على نحو قد لا يتطابق بالتمام مع جميع ما كان قبل منتصف ابريل 2023 ، لكنه محاولة جادة بأحابيل سياسية جريئة للقفز مباشرة لبلوغ الاهداف الأستراتيجية للحرب..أهداف الاحتلال الاستيطاني -الأستئصالي – الاحلالى ! ولم تكن حقيقة الدعوة الى جنيف الا اخراجا شكليا لما تم تصميمه في عواصم الكتلة الأولى التي تقود تحالف الحرب على السودان .
+ وفق منطق هذا السيناريو . لا يبدو ثمة مجال يخص قضايا قتل الناس و سلبهم و هتك أعراضهم و نهب ممتلكاتهم و دمار المؤسسات و احتلال البيوت. سيتم القفز على كل ذلك دون أن يطرف لهم جفن . معلوم أن هذه هي القضايا التي تضمنها اتفاق جدة الشهير ، و التي يثير حتى مجرد طرحها غضب جميع كتل التحالف الأربع . و لم يصمم منبر جنيف – كما يدل التوليد المنطقي – الا للتخلص مما التزموا به هناك في جدة !!
فمنهج التناول المناسب لهم إن يظل التداول ثنائيا man to man لا مكان فيه لمؤسسات دستورية تحكمها قواعد العمل الحكومي المؤسسي . لأجل ذلك فأن الدعوة لجنيف تجنبت بمكر شديد الصفة الدستورية للسيد البرهان كرئيس لمجلس السيادة و للجهاز الحكومي التنفيذي .
+ يحدث كل ذلك بأعمال الركائز الاربع للدبلوماسية الجبرية المذكورة إعلاه . وقد احاط بالبرهان ( حين يكون في جنيف) من يصفون أنفسهم بالوسطاء ، مع أنهم قادة الحلف الرباعي بكتله المفصلة في صدر المقال .
+ كل ما ورد في النقاط إعلاه – كما قلنا – مشاهد لسيناريو افتراضي ، لكنه مستخلص من حقيقة جوهرية تجعل رجحان حدوثه كليا أو جزئيا أمرا واردا . والحقيقة هي إن الحلف الرباعي الذي صنع الأزمة أولا منذ اواخر 2018 ، ثم رسم مسارها في محطاتها العديدة ، ثم ابتدر الحرب الراهنة ، هذا الحلف لم يبدي أبدا ثمة تغير جوهري ، لا في تركيبته المتضامنة و المتناسقة ولا في أهدافه الاستراتيجية .
إن دعوة جنيف تأتي ايضا ضمن تكتيكات املتها تقديرات المرحلة ، سواء ما تعلق بخسائر بشرية متعاظمة للدعم السريع عصية على الاستعواض ، او ما يتعلق بنزيف مالي لا يتوقف ، او كان ذا صلة بالحمولة السياسية و الجنائية لأطراف الحلف.. او كان سعيا لأكتساب اصوات المتضامنين في ضحايا الحرب في الانتخابات الأمريكية .
و على ذلك جاء رد وزارة الخارجية السودانية على دعوة الامريكيين لاجتماعات جنيف . والراجح إن تعتبرها كتل الحلف الرباعي رفضا للدعوة . في حين لا يزال الوقت مبكرا لتفسير محاولة الاغتيال التي تعرض لها الرئيس البرهان اليوم ، (وقد اودت بحياة عدد ممن كان حاضرا ) ، هل أتت ردا على موقفه حيال دعوة الأذعان الأمريكية الى جنيف ؟
كتبه / د. ابراهيم البشير عثمان
سفير سابق / أستاذ للعلوم السياسية
1 اغسطس 2024إنضم لقناة النيلين على واتساب
المصدر: موقع النيلين
كلمات دلالية: الهدف الاستراتیجی الحرکة الشعبیة الجیش السودانی تفکیک السودان شعب السودان للدعم السریع الدعم السریع على السودان هذه الکتلة الحرب على هذا الحلف الى جنیف کان ذلک هی التی فی هذا ما کان من أجل
إقرأ أيضاً:
حرب السودان والأسئلة الصعبة
د. الشفيع خضر سعيد
لم تنجح المبادرات المختلفة في إيقاف الحرب بين حكومة الإنقاذ والحركة الشعبية لتحرير السودان إلا بعد أن انتظمت المفاوضات بين الطرفين على أساس إعلان مبادئ الإيقاد الصادر في 20 مايو/أيار 1994 والذي وافق عليه الطرفان.
صحيح أن إعلان المبادئ ذاك صاغته دول الإيقاد وقدمته جاهزا إلى الطرفين ليوقعا عليها، لكن لابد من التنبيه إلى أن محتوى بنوده لم تكن من وحي بنات أفكار علماء السياسة الدوليين والإقليميين بقدر ما كان إعادة صياغة وترتيب للأطروحات المتناثرة في أدبيات الحركة السياسية السودانية، وخاصة الحركة الشعبية لتحرير السودان. واليوم، تظل قناعتي الراسخة أن القوى المدنية والسياسية السودانية هي وحدها المؤهلة لإجتراح إعلان المبادئ الذي يشكل المدخل أو التمهيد لإطلاق العملية التفاوضية، وكذلك إجتراح الرؤية التي تشكل محتوى وتفاصيل هذه العملية للسير بها في اتجاه وقف الحرب ووضع أسس عدم تجددها أو إعادة إنتاج الأزمة في البلاد. وفي هذا السياق، هنالك نقطتان متعلقتان بإعلان المبادئ، أولها ضرورة موافقة كل الأطراف عليه، بما في ذلك الأطراف المتحاربة، حتى يكون مدخلا أساسيا لعملية التفاوض، ولذلك، وهذه هي النقطة الثانية، فإن بنوده تتناول العموميات التي يسهل الإجماع حولها مثل التمسك بمبادئ ثورة ديسمبر/كانون الأول 2018، وبوحدة السودان، وبالحكم المدني الديمقراطي، وبالنظام الفدرالي الذي يراعي التعدد والتنوع، وبالجيش الواحد وبنائه كل القوات النظامية على أساس مهني وقومي، وبإصلاح الخدمة المدنية والنظام العدلي، وبالحوار السوداني سوداني… إلى غير ذلك من المبادئ التي سيتقبلها الجميع، وإن ليس مستبعدا أن بعضهم سيتقبلها تقية! ومن الواضح أن إعلان المبادئ وحده ليس كافيا لوقف الاقتتال، لكنه يشكل معيارا لدرجة التنازلات الممكنة في العملية التفاوضية، بمعنى أن التنازلات لإنجاح العملية التفاوضية لصالح الهدف الرئيسي، أي وقف الحرب والانتقال المدني الديمقراطي، يجب ألا تصل إلى درجة التصادم بين محتوى إعلان المبادئ ومحتوى ما سيتم الاتفاق حوله في طاولة التفاوض.
وفي المقابل، فإن الرؤية التي تشكل محتوى وتفاصيل العملية التفاوضية للسير بها في اتجاه وقف الحرب، تتكون من الإجابات المحتملة على الأسئلة المتعلقة بكيفية وقف الحرب وتداعيات ما بعد ذلك، آخذين في الاعتبار أن هذه الأسئلة ليست مجرد تهويمات نظرية بقدر ما هي نابعة من واقع البلاد الراهن المأزوم.
وبداهة، بينما تظل أسئلة الرؤية واحدة وثابتة، فإن الإجابات عليها تختلف عند هذا الطرف أو ذاك. ولكن من البديهي أيضا أن تتوافق القوى المدنية والسياسية الرافضة للحرب على إجابات موحدة على هذه الأسئلة، وتنتج رؤيتها التي يجب أن تطرحها في أي منبر تفاوضي يسعى لوقف الحرب. ولعل من الضروري الإشارة إلى أن تسهيل توصل القوى المدنية والسياسية إلى الرؤية المنشودة، يقتضي التوافق قبلا على مجموعة من الحقائق، منها أن الحرب الراهنة خلقت واقعا جديدا يجب أن يغير في طريقة تفكير القوى المدنية في التعاطي مع تفاصيل الأحداث الراهنة وتداعياتها، وأن هذا الواقع الجديد لابد أن تكون له مستحقاته العملية التي يجب أن تبحث وتتمعن في الأسباب الجذرية للحرب، بدءا من أن الدولة السودانية فشلت منذ استقلالها في التعبير عن كافة مكوناتها الوطنية الأمر الذي أدى إلى تمكن الحلقة الشريرة والأزمة العامة في البلاد بتجلياتها العديدة والتي من بينها الانقلابات العسكرية والنزاعات واشتعال الحروب التي كانت حتى وقت قريب تستوطن الأطراف قبل أن تأخذ منحىً جديدا وصادما باندلاعها في عاصمة البلاد في 15 أبريل/نيسان الماضي، وأن من النتائج المباشرة لهذه الوضعية إضعاف الدولة السودانية وعدم قدرتها على توظيف كل مكوناتها السياسية والاجتماعية والثقافية للتوافق على مشروع وطني نهضوي ينتشل البلاد من وهدتها المتمكنة منها منذ فجر الاستقلال قبل ثمانية وستين عاما، وهو مشروع لايزال السودانيون يتمسكون به حتى في أتون هذه الحرب المجرمة، وأن هذه الحرب لا يمكن حسمها عسكريا، ولن ينتصر فيها طرف، وإن هُزم الطرف الآخر، ولكن قطعا الخاسر الوحيد فيها هو الشعب السوداني والوطن، وكل يوم جديد في الحرب يحمل معه مزيدا من الجراح والآلام لشعبنا ومزيدا من التدمير لبنية الوطن، وأن جوهر هذه الحرب يحمل عداء سافرا لثورة ديسمبر المجيدة.
ونحن نؤسس وجهة نظرنا حول ماهية الرؤية لإنهاء الحرب، على رفض أن تكون الحرب بديلا للحوار والتفاوض لحل الخلافات والأزمات السياسية والاجتماعية مهما بلغت من الحدة والتعقيد، وأن مسألة وقف الحرب يجب أن يتم التعامل معها كحزمة واحدة مكونة من ثلاث حزم فرعية تتكامل مع بعضها البعض، تشمل وقف الاقتتال، وتقديم المساعدات الإنسانية العاجلة وحماية المدنيين، وإطلاق عملية سياسية جديدة.
وإذا كان للمجتمع الدولي والإقليمي دور رئيسي في الحزمتين الأولى والثانية، فإن الحزمة الثالثة، العملية السياسية، حصريا من مهام القوى المدنية والسياسية السودانية، وأن دور المجتمع الدولي والإقليمي في الحزمتين الأولى والثانية لن يأتي أكله إلا من خلال الرؤية التي ستجترحها القوى المدنية والسياسية الرافضة للحرب.
أما جوهر هذه الرؤية فهو، من وجة نظرنا، مجموع الإجابات على ما أسميناه بالأسئلة الصعبة المتعلقة بحرب السودان، نوردها هنا باختصار على أن نتوسع حولها في مقالاتنا القادمة، وتشمل:
1 ـ ماهي الخيارات المتاحة حول مستقبل ودور قيادة القوات المسلحة في السودان بعد انتهاء الصراع؟
2 ـ ما هي الخيارات حول مستقبل قوات الدعم السريع ومستقبل الحركات والميليشيات المسلحة الأخرى على أساس مبدأ بناء الجيش المهني الواحد في البلاد؟
3 ـ كيف نطور إطارا للعدالة والعدالة الانتقالية يضمن إنصاف الضحايا وعدم الإفلات من العقاب؟
4 ـ كيف نتعامل مع البعدين الدولي والإقليمي في الحرب؟
5 ـ ما هي تفاصيل العملية السياسية من حيث أجندتها وأطرافها؟
سنتناول هذه الأسئلة وإجاباتها بالتفصيل بدءا من مقالاتنا القادمة.
نقلا عن القدس العربي