ألغام ما بعد الألغام
تاريخ النشر: 6th, August 2024 GMT
ألغام ما بعد الألغام
وجدي كامل
التحذير الذي أطلقته محلية مدينة الخرطوم بحري لسكان ريفها من الألغام المزروعة بمناطقهم أثناء الحرب بكشف الأمطار الغزيرة الحالية عنها تحذير يستوجب الإنتباه ليس فقط على السكان المستهدفين منه بقدر ما يصبح تحذيراً يقبل، ويحتمل النشر على النطاق الأوسع، والتوليد لتحذيرات أخرى مماثلة وممتدة عن مخاطر أشمل ستنهض أمام المواطنين المقيمين بالمناطق المتأثرة بالحرب، كما بانتظار النازحين بداخل السودان وخارجه حال عودتهم إلى ديارهم ومساكنهم.
فإذا ما تمكن موسم الخريف الحالي من الكشف عن تلك الألغام القابلة للانفجار في مناطق ريفي بحري فإن المخلفات العسكرية الحربية، وارتباطاتها بالخراب البيئي من إفساد للنسق والنظام البيئي فستعد أشد خطورة لما ستنتجه من نتائج كارثية على معاش، وتعايش، وصحة الإنسان.
وتعد الآثار المترتبة على التسليح، والعنف، والدمار الذين لازموا الحرب، بما في ذلك المخلفات البشرية، والحيوانية ونفوق الطيور وهجرتها له ما له من متاعب أوضح ما يتصدرها من الصور هو واقع ما بعد الحرب بأكمله.
أما السلاح الذي بات في أيادٍ كثيرة لا تحصى ولا تعد فمن البائن أنه سيمثل مصدراً متقدماً لمخاوف ومخاطر لاحقة. فالسلاح الذي عم القرى والحضر وتم تمليكه للمواطنين ممن يصنفون كمستنفرين أو كتائب مقاتلة يشكل عبئاً إضافياً للسلام الاجتماعي ويرجح حدوث الانتهاكات الجسيمة بواسطته حتى في أفضل نجاح مساعي التجميع له، مما يؤشر لاتساع رقعة الحرب بأشكال صريحة مباشرة، وأشكال خفية رمزية ترقى من الناحية الأولى إلى مستوى ممارسة التصفيات الجسدية والقتل خارج القانون، إلى إشاعة الحروب الثقافية المدمرة المسلحة بالكراهية والعنصرية والتمييز.
فالحرب التي أفصحت عن عدم المسؤولية الوطنية للمؤسسة السياسية وللجهات والأفراد ممن تورطوا في معاركها ستواجه أعتى عقباتها بانتشار ظواهر خرق القانون والتفلتات الأمنية التي لن يستمر في ارتكابها الخارجون عن القانون ممن تم إطلاق سراحهم أثناء، وعشية اندلاعها، بل من المتأثرين بعدم عدالتها ونتائج ذلك عليهم على المستويين الشخصي والعام بما لحق بهم من أذى وضرر.
فكل ما يرشح من معلومات وتتبدى من ظواهر تشير إلى أن السودانيين المتأثرين بالحرب لن يعودوا طيبين، مسامحين، مسالمين كما كانوا من قبل رغم التسليم بالقضاء والقدر حسب المعتقدات، أو المستودع في الأخلاق من مخزون ثقافي.
ففكرة الانتقام هنا واردة كسيناريو من السيناريوهات كرد فعل للضحايا الذين سيكتشفون بعد قليل أن الذين جردوهم وسرقوهم مملوكاتهم سينفردون بلعب أدوار البطولة المطلقة في اقتصاد ما بعد الحرب الذي ينتظر إلا يقل قذارة في أساليبه وعملياته مما سبقه من اقتصاد أثناء الحرب.
فالمتغيرات النفسية ستولد المزيد من السلوكيات العدائية والعدوانية الناشزة وغير المتقيدة بالقانون وروحه باحترام أسس التعايش المتعارف عليها كما كان بينهم في السابق على التقدير الأقل.
حقائق مؤلمة جمة وكثيفة ستواجه فكرة العيش والتعايش من جديد بسبب الانتهاكات، وتجفيف مصادر الدورة المالية الاقتصادية بنظامها المتعارف عليه والقائم على مبدأ الإسهام والمشاركة الإنتاجية كل حسب نطاق عمله وإنتاجه عندما يعود النازحون إلى بيوتهم ومدنهم وقراهم فيكتشفون تبخر أولويات وسائل الحياة، بالإضافة لما أصاب بيوتهم ومساكنهم من تجفيف ونهب لكل شيء، وشوارع خلت من مظاهر المدنية والسلام والطمأنينة، والسلامة.
أما جسور التواصل فمن الطبيعي أن تتأثر بتحطم الطرق و(الجسور)، وما سيتبع ذلك من صعوبات وعقبات تحول دون التواصل الفيزيائي بتكاليف اعتيادية ونمطية سابقة.
فالمواصلات والتواصل الفيزيائي سيكونان من ضحايا الواقع القادم بالعاصمة المثلثة بسبب السرقات التي طالت كل شيء بما فيها، وسائل المواصلات وما يتركه ذلك من تجميد لمهن وأنشطة اقتصادية ذات ارتباط بالتنقل والحركة.
وغالباً ما ستصبح الخرطوم في وسطها مكاناً طارداً للتجمعات والوزارات والمصالح الحكومية الخدمية التي ستتحول إلى أماكن موحشة تفتقد للعاملين والمهن ذات الارتباط بالتجمعات بسبب التخريب الذي طال المباني والمؤسسات ونظم الإنتاج. سيختل نتيجة ذلك ميكانيزم العمل الذي تم سلب أدواته ونظمه.
وإذا كان من المؤكد أن تتوفر أسواق للخضار والفاكهة واللحوم (رغم فشل الموسم الزراعي وشبح المجاعة المخيم أو القائم حالياً) إلا أنه سيتعثر توفير الأسواق الأخرى– أسواق العمل ذات الارتباط بالمعاش القديم للناس وما تأتي به من عوائد مالية بعد أن تم تجفيف (شفشفة) الوسائل والأدوات المشغلة لها.
إنه، وبتكبير صورة الكارثة المحدقة لما بعد كارثة الحرب واقع أشد بؤساً وصعوبة لتفكيك معضلاته مما يتصور وينظر له، وبحيث ستنتظر الناس ألغام رمزية تفوق في خطورتها ومخاطرها ما يتم التحذير منه حالياً من محلية الخرطوم بحري عن الألغام المدفونة تحت الأرض.
على الحرب أن تتوقف اليوم قبل الغد للحد من خسارات أشد قادمة في حالة استمرارها.
الوسومالألغام الحرب الحروب الثقافية الخرطوم بحري السلم الاجتماعي السودان القتل خارج نطاق القانون المسؤولية الوطنية وجدي كاملالمصدر: صحيفة التغيير السودانية
كلمات دلالية: الألغام الحرب الحروب الثقافية الخرطوم بحري السلم الاجتماعي السودان المسؤولية الوطنية ما بعد
إقرأ أيضاً:
شبان سودانيون: نقاتل إلى جانب الجيش الذي عارضناه بالأمس
قالت صحيفة لوموند الفرنسية إن نشطاء مؤيدين للديمقراطية ممن كانوا معارضين لنظام الرئيس المخلوع عمر البشير ثم للجنرالات الذين جاؤوا بعده، انضموا إلى صفوف الجيش لمواجهة مليشيا الدعم السريع.
وانطلقت الصحيفة -في تقرير بقلم إليوت براشيه- من قصة كمال الدين النور الذي كان يجلس على سطح أحد المباني، وهو يتأمل أعمدة الدخان الأسود المتصاعدة فوق الضواحي الشمالية للخرطوم، في المنطقة التي تسم الخرطوم بحري، وهي المنطقة التي ولد فيها، حيث يحتدم القتال بين الجيش وقوات الدعم السريع.
فقبل 3 سنوات -توضح لوموند- أشعل هذا الشاب مع جماعته المعروفة باسم “غاضبون” التي كانت تشارك بقوة في المظاهرات، النار في الإطارات احتجاجا على ما يعتبرونه “انقلابا” قاده الجنرالان عبد الفتاح البرهان ومحمد حمدان دقلو (حميدتي) في 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021، للإطاحة بالحكومة المدنية.
وبعد مرور 3 سنوات، أصبح “غاضبون” يرتدون الزي العسكري ويتجولون في الخطوط الأمامية للعاصمة السودانية، وهم يحملون بنادق آلية على أكتافهم، ويقاتلون إلى جانب الجيش السوداني.
يقول كمال الدين النور الذي انضم إلى معسكرات التدريب “اليوم نحن أمام حرب وجودية، فقوات الدعم السريع تهدد وحدة السودان، والحرب تهدد بتفكيك مجتمعنا وكل ما نعتز به، لذلك حملنا السلاح. في المظاهرات وفي ساحة المعركة نقدم دماءنا من أجل الوطن. نحن ندافع عن شعبنا، وبهذه الطريقة تكون الحرب استمرارا للثورة”.
وتذكر لوموند أن كثيرا من أعضاء “غاضبون” اعتقلوا وتعرضوا للتعذيب في بعض الأحيان، وقتل بعضهم أثناء قمع المظاهرات، وقد اخترقت رصاصة قناص كتف كمال الدين النور نفسه، وها هو اليوم يقول “نحن نقاتل الآن إلى جانب نفس الرجال الذين قاتلونا بالأمس، قد يبدو هذا سخيفا، لكنها مسألة أولويات، الخطر الأكبر اليوم على السودان هو المليشيات شبه العسكرية”.
وتقول الصحيفة الفرنسية إنه في مواجهة الانتهاكات المتعددة التي ترتكبها قوات الدعم السريع، يعتبر المزيد من السودانيين “الجيش أهون الشرين”، يقول شاب من “غاضبون” طلب عدم الكشف عن هويته إنه “لا مجال للمقارنة بينهما”؛ فبعد أن كان سجينا لدى قوات الدعم السريع لعدة أسابيع، وكان شاهدا على عمليات النهب والاغتصاب، قرر الالتحاق بالجيش لتحرير حي أمبدة الذي يسيطر رجال حميدتي.
وعلى مسافة غير بعيدة من الخطوط الأمامية، أقام “غاضبون” قاعدتهم في منزل بحي المنارة في أم درمان، وفي الخارج لا تزال الكتابة القديمة على الجدران تشير إلى مواعيد المظاهرات ضد “الانقلاب”، وعبارات مثل “البرهان إلى السجن” و”حميدتي المجرم”، ظاهرة هنا وهناك، يقول محمد عبد الرحيم (تيوا) “مطالبنا لم تتغير، بمجرد أن تنتهي الحرب، سنعود إلى الشوارع للمطالبة بقيام حكومة مدنية، بطريقة ما معركتنا مع الجيش معركة مؤجلة”.
وقد تعرض من انضموا إلى الجيش لانتقادات من جانب جزء من الحركة الثورية، حيث يرى العديد من الناشطين وخاصة في المنفى، أن دعم الجيش رهان محفوف بالمخاطر في أحسن الأحوال، وهو خيانة في أسوأ الأحوال للمثل اللاعنفية للانتفاضة الشعبية التي أنهت 30 عاما من الحكم العسكري.
وفي الخارج، انقسمت الأحزاب السياسية التي شاركت في الحكومة الانتقالية، وانضم معظم أعضائها إلى تحالف جديد يسمى “تقدم” بقيادة رئيس الوزراء السابق عبد الله حمدوك، محاولا إيجاد حل تفاوضي للصراع، لكن هذا التحالف فقد مصداقيته في أعين السكان بعد أن وقّع العديد من مسؤوليه التنفيذيين مذكرة تفاهم مع قوات الدعم السريع في إثيوبيا في يناير/كانون الثاني، وتبادلوا المصافحة مع زعيمها الجنرال حميدتي، بحسب لوموند.
وتنقل الصحيفة الفرنسية عن الباحثة السودانية رجاء مكاوي قولها إنه وبسبب عدم وجود نهاية للصراع في الأفق، يبدو أن الطريقة الوحيدة للبقاء على قيد الحياة في الحرب هي حمل السلاح. وتضيف رجاء “عندما تنتهي الحرب، سيكون من لهم وزن هم أولئك الذين بقوا للقتال، وسوف تؤدي الحرب إلى ظهور نخبة جديدة من الرجال المسلحين، وسوف يفخرون بكونهم الوحيدين القادرين على المطالبة بالشرعية الشعبية”.
وعلى الرغم من ماضيهم العسكري، فشباب “غاضبون” وغيرهم من الثوار الذين انضموا إلى صفوف الجيش يُنظر إليهم بشكل إيجابي ، وهم يعرفون كل زاوية وركن في المدينة.
وتوضح لوموند أنه وفقا لخطاب الجنرال البرهان الأخير أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، فإن الجيش السوداني مستعد لإعادة السلطة للمدنيين بمجرد انتهاء الحرب، ولكن النصر في الوقت الحالي لا يزال بعيدا، وليس هناك ما يشير إلى أن المؤسسة العسكرية التي احتكرت السلطة دون انقطاع تقريبا منذ استقلال السودان عام 1956، تعتزم التخلي عن مقاليد الحكم بالبلاد.
المصدر : لوموند
الجزيرة نت