لجريدة عمان:
2024-09-30@18:58:14 GMT

من الذين ستغفلهم ثورة الطب القادمة؟

تاريخ النشر: 9th, August 2023 GMT

في السادس عشر من أغسطس سنة 2011 استيقظ أبي فلم يقو على النهوض من فراشه. حتى ذلك الحين، كان رجلا شغوفا بالخروج، يذهب لصيد السلمون من نهر ديلاور ويدرِّب كلاب صيد ألمانية مدببة الشعر على تعقب طيور الدراج. وبعد أن نقلته سيارة الإسعاف إلى غرفة الطوارئ، وبقائه ساعات في التحاليل، جاء التشخيص صادما لأسرتنا: المرحلة الرابعة من سرطان الرئة ذي الخلايا غير الصغيرة.

كشفت الأشعة عن أورام في جميع جسمه ـ في المخ والضلوع والحوض والعمود الفقري. وقد نمت أورام فقراته في هدوء إلى أن قطعت الإشارات العصبية عن ساقيه.

يموت بسرطان الرئة من البشر في الولايات المتحدة كل عام أكثر ممن يموتون بسرطان البروستاتا والقولون والصدر مجتمعين. غير أن الأمل داعب أسرتنا حينما كشف فحص الأنسجة أن خلايا أبي المسرطنة فيها علامة جزيئية على سطحها تجعلها مرشحة مثالية لإرلوتينيب، وهو دواء يمكن أن يعطل نموها. وبعد أسابيع قليلة من تلقيه الجرعة الأولى، اتصلت أمي ودموع الفرحة واضحة في صوتها لتخبرني أن الأورام تتقلص.

إرلوتينيب مثال مدرسي لما يطلق عليه الأطباء «الطب الشخصي» ويسمونه أحيانا «الطب الدقيق». فعلى النقيض من الرعاية الصحية التقليدية التي توصف لجميع الحالات، يستعمل الطب الشخصي المعلومات الجزيئية الجينية الخاصة بالمرضى لتوفير العلاج (المناسب) للمريض (المناسب) في الوقت (المناسب). ويستشرف علماء بارزون في الوراثة الطبية، وعلماء مهمون في الحكومة الفيدرالية، ومسؤولون تنفيذيون في المستشفيات، بل ومسؤولون منتخبون، لعلاجات السرطان أن تكون أول الغيث في ثورة جينومية تبشر بعصر جديد للعلاجات الإعجازية والرصاصات السحرية الكيميائية الحيوية، تغير جذريا من طريقة علاج المرضى الميئوس منهم.

في الوقت الذي ارتفعت فيه تكلفة الرعاية الصحية ارتفاعا صاروخيا، يتصور بعض أنصار الطب الشخصي بديلا ميسور التكلفة للعلاجات التقليدية، بديلا يصمم التدخلات منذ بداية العلاج بدلا من توجيه المرضى إلى أوديسة التجربة والخطأ. وهذا النهج، كما يقولون، قد يقلل الإهدار ويزيد من جودة الرعاية. فضلا عن ذلك، يزعمون أن أبحاث الطب الشخصي التي تعطي الأولوية لمشاركة المجتمعات المهمشة ستضمن امتداد هذه الفتوح لتشمل الجميع، محاربةً التفاوتات الصحية العرقية والاجتماعية والديموغرافية.

من الصعب ألا يشعر المرء بالإثارة تجاه مستقبل تهدينا هذه الثورة الطبية إليه. لكن نظرة فاحصة على سرطان الرئة، وعلى تجربة أبي على وجه التحديد، ترسم صورة أشد قتامة مما يريدكم أبطال الطب الشخصي أن تتصوروه.

هناك بعض الأمراض التي تكون الجينات فيها منقذة حقيقية للأرواح، وبصفة خاصة للمرضى ذوي الأمراض النادرة من قبيل ضمور العضلات الشوكي وأنواع معينة من السرطان مثل ابيضاض الدم النقوي المزمن، فهؤلاء قد توصف لهم علاجات طبية مخصصة لم تكن موجودة قبل عقدين من الزمان. أما أغلب المرضى المصابين بأغلب الأمراض، فلم تتحقق لهم هذه الوعود الجليلة. والأخطر هو أن هذا الضجيج قد صرف الانتباه عن الأساليب البديلة للرعاية الصحية الأكثر ملاءمة لتحسين الصحة لنا جميعا.

مع تراكم فواتير فحوص الأنسجة والعمليات الجراحية والإشعاع، بدأنا نطلق على أبي «رجل المليون دولار». كانت الإثارة الحقيقية تتمثل في الإرلوتينيب الذي يتجاوز سعر حبوبه الصغيرة الكافية للشهر الواحد خمسة آلاف دولار. وقد ظهر عدد من الأدوية الأخرى لسرطان الرئة في السنوات التالية لذلك ـ من قبيل أوسيمرتينيب، وكريزوتينيب، وسوتوراسيب، على سبيل المثال لا الحصر ـ في نطاق أسعار يتراوح بين عشرة آلاف وعشرين ألف دولار شهريا. وهذه، في واقع الأمر، هي قائمة الأسعار المحتملة بعض الشيء، فقائمة الأسعار التي تبلغ خمسين ألف دولار شهريا ليست نادرة في حالة الأدوية المخصصة.

ثمة تفسير بيولوجي مباشر لذلك. وهو أن الطب الشخصي يعمل من خلال تقسيم مجموعات المرضى إلى مجموعات فرعية بناء على سماتهم الجزيئية الجينية. فبالنسبة لسرطان الرئة، هناك عدد من الفروق البيولوجية، وتؤدي هذه الفروق إلى تضاؤل مجموعات المستخدمين المحتملين لأي دواء معين، مما يدفع شركات الأدوية إلى زيادة الأسعار بشكل كبير.

ومن ثم فهناك توتر متأصل في قلب الطب الشخصي. إذ أنه يهدف إلى تصميم رعاية صحية خاصة وخفض التكاليف، ولكنه كلما ازداد نجاحا في التخصيص، ارتفعت الأسعار. ونتيجة لذلك، يمكن أن يواجه المرضى الآن خيارا مؤلما: إما التخلي عن العلاج أو معاناة الخراب المالي.

حالف الحظ عائلتنا. فقد كان والداي مستقرين ماليا، وكان لديهما تأمين صحي جيد يغطي الأدوية باهظة الثمن. وكانا يعيشان على بعد ساعة بالسيارة من شبكة مستشفيات كبرى. وكان ثمة شيء آخر يعمل لصالح أبي: وذلك هو لون بشرته. فالمرضى البيض المصابون بسرطان الرئة يحظون باحتمال أكبر من المرضى سود البشرة لتلقي اختبار تشخيصي يشير إلى ما إذا كان عقار مثل إرلوتينيب مناسبا أم لا، كما أن المرضى من الأحياء الأغنى أرجح وصولا إلى ذلك من مرضى الأحياء الفقيرة.

تمكن أبي أخيرا من مغادرة المستشفى والرجوع إلى البيت، حيث استمر في تلقي الرعاية، والخضوع للعلاج البدني والاستعداد للصيد على أمل أن يأتي اليوم الذي يخوض فيه مرة أخرى مياه الربيع الباردة في نهر ديلاوير. غير أن جولة تحاليل في الصيف التالي كشفت أن الأورام تنمو من جديد. لم يسترد ثانية القدرة على الوقوف، ناهيكم بالصيد. وفي الثالث والعشرين من سبتمبر 2012، بعد أقل من عام على استيقاظه مشلولا، مات أبي.

غالبا ما تتنبأ التقارير الإعلامية الخاصة بالطب الشخصي بمستقبل للرعاية الصحية يشهد ثورة من جراء وصول الطلقات الطبية السحرية والفتوح الطبية الحيوية. ومع ذلك، فإن إرلوتينيب لا يعالج السرطان بشكل عام، إنما يوقفه لوقت، وعندما يعود، فإنه غالبا ما يعود لينتقم. فيستطيع أطباء الأورام اليوم أن يردوا على ذلك بوصف أحد الأدوية الأحدث والأغلى. ومع ذلك، فالمرضى تكون فرص البقاء على قيد الحياة ضئيلة بشكل مرعب بالنسبة للمصابين بسرطان الرئة المتدهور مثل أبي بعد خمس سنوات من التشخيص الأولي.

قد تؤدي المعلومات الجينية الخاصة بالمرضى إلى علاجات سريرية لأمراض معينة معروف أنها تنجم عن آلية وراثية مباشرة إلى حد ما، وهذا ما يجعل حالات من قبيل الضمور العضلي النخاعي وسرطان الدم النقوي المزمن مرشحين جيدين للتدخل. لكن هذه الحالات هي الاستثناء في الطب، وليس القاعدة. ولكننا عندما ننتقل إلى الأمراض الشائعة والمعقدة مثل ارتفاع ضغط الدم أو مرض باركنسون أو مرض السكري أو الربو، حيث لا يوجد جين واحد يسبب المرض بالنسبة للغالبية العظمى من المرضى، فإن فرصة ثورة الطب الشخصي التي يمكن أن تفيد معظم المرضى تكون محدودة للغاية.

إن اتخاذ خطوات لمنع تطور المرض أكثر فعالية ونجاعة في التكلفة من محاولة القضاء على المرض بعد وصوله. وسرطان الرئة خير مثال لذلك. فبرغم عدم وجود علاج حتى الآن لسرطان الرئة، فإن معدلات الوفيات من جراء سرطان الرئة في الولايات المتحدة تنخفض بشكل مطرد بسبب أبحاث وبرامج الصحة العامة التي تهدف إلى جعل بيئاتنا أكثر ملاءمة للرئة، مع برامج مكافحة الأسبستوس، وحملات مكافحة التدخين وغيرها من الجهود للسيطرة على المواد الكيميائية الضارة.

إن الملونين والفقراء معرضون بصفة خاصة لأضرار البيئات غير الصحية، إذ ينزعون في الغالب إلى أن يكونوا الأقرب من المصانع والطرق السريعة والأبعد عن المساحات الخضراء والمنتجات الطازجة. ومن الواضح تماما أن التفاوتات الصحية المصاحبة للخطوط العرقية والاقتصادية ناتجة إلى حد كبير عن الاختلافات في بيئاتنا، لا عن الاختلافات في جيناتنا. وهذا هو السبب في الأهمية البالغة للتأثير الصحي والاقتصادي الناجم عن معالجة مياه الشرب غير الآمنة، وانعدام الأمن الغذائي، والتعرض للمعادن الثقيلة وأشياء أخرى لا حصر، إذ يستفيد منها الجميع، وليس فقط من لديهم الجينات المناسبة، أو لون البشرة المناسب، أو الحساب المصرفي المناسب.

من المستحيل أن نحدد الوقت الذي أضافه إرلوتينيب إلى حياة أبي، ولكن ثمة أسباب وجيهة للاعتقاد بأنه عاش لفترة أطول بسبب الدواء. سأعتز دائما بهذه الفترة، تماما كما أثق من أن أفراد أسر مرضى سرطان الرئة الذين يكافحون المرض اليوم يستمتعون بكل لحظة يقضونها مع أحبائهم. غير أن إرلوتينيب لم ينقذه. ومقابل سعر مرتفع للغاية، أبطأ الدواء من مرضه العضلي لفترة قصيرة، وحتى هذه الفائدة المحدودة ليست متاحة للجميع.

إن تحسين الصحة لنا جميعا، وخفض تكاليف الرعاية الصحية، وجعل العالم مكانا أكثر إنصافا، كلها أهداف نبيلة. ومع ذلك، فإن المسار الأكثر مباشرة لا يتمثل في توجيه الرعاية الصحية إلى الاختلافات الجينية بيننا. وإنما يتمثل في التركيز على البيئات التي نشترك فيها جميعا.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الرعایة الصحیة سرطان الرئة

إقرأ أيضاً:

اختتام فعاليات اليوم العلمى للعلاج الطبيعى بـ" صدر المنصورة "


اختتمت مديرية الشئون الصحية فعاليات اليوم العلمى للعلاج الطبيعي بمستشفى صدر المنصورة تحت عنوان "تأثير تشوهات القوام  والعمود الفقرى الانحناءات والجنف على وظائف الرئة". 
عقدت الفعاليات تحت رعاية الدكتور تامر مدكور وكيل وزارة الصحة وبحضور الدكتور أحمد البيلى وكيل المديرية للطب العلاجى والدكتور تامر الطنبولى وكيل المديرية للطب الوقائى علاوة على  الدكتورأكرم عبد المعنم مدير إدارة العلاج الطبيعى والدكتور سماح فتحى مدير إدارة الأمراض الصدرية والدكتور محمد السعيد مدير مستشفى صدر المنصورة بالإضافة إلى مجلس نقابة الأطباء بقيادة الدكتور على توفيق 
تضمن اليوم العلمى 3 محاضرات الأولى "حول القوام السليم وتأثير تشوهات القوام على نمو ووظائف الرئة " ألقاها الدكتور أكرم عبد المنعم، فى حين تناولت الثانية شرح مفصل لاختبار وظائف الرئة من الدكتورة إيمان السيد  ، فيما استعرض الدكتور محمد عبد الوهاب  بالمحاضرة الثالثة العلاج الطبيعى لتشوهات العمود الفقرى الجنف والانحناء.
وفى ختام الفعاليات قام الدكتور محمد السعيد مدير مستشفى الصدر  بتقديم درع شكر وتقدير  لقيادات صحة الدقهلية ومجلس نقابة الأطباء على دعمهم للمنظومة الصحية وشهادات تقدير للحضور الكريم على مشاركتهم فى اليوم العلمى
 

مدير العلاج الطبيعي بالدقهلية في جانب من الفاعليات 06c167d2-527b-46dc-bde4-3350d4720c57 c6c4af6a-e08a-45ea-a736-d0dc431acc9a 002eaab1-672c-45cb-ad74-4a726ed2e639 892206fb-5ba5-45df-a86b-e6c95beb778c 253df5e8-26e6-4a54-b020-d113536decaf 7a7b4c1b-3b66-4af3-84f6-b3a3b30fbb1f 890b83b1-766a-42d0-9d7c-5dcccd1be6fa 361334c1-3f8c-496c-9444-45bff4a3fdc3 00f84ebf-e63a-49b9-bed3-3d6f3091a8c1 2be0cc2c-21e7-4382-b9f0-4fc6dbca0328 c8c2490b-82b6-44c4-8927-77d52f666bfe 20d18567-60a8-4ff0-8365-30d290b38f9f

مقالات مشابهة

  • احذر .. آلام الكتف علامة للإصابة بنوع شرس من السرطان
  • تطورات الحالة الصحية لمحمود كهربا بعد الوعكة التي تعرض لها
  • مطلّقات على إنستغرام .. كيف تقدّم المؤثرات المغربيات نصائح زوجية رغم فشلهن الشخصي؟
  • مصدر: اغتيالات بيروت تدفع قيادات عراقية لإعادة النظر في الأمن الشخصي
  • مصدر: اغتيالات بيروت تدفع قيادات عراقية لإعادة النظر في الأمن الشخصي- عاجل
  • جامعة بطرسبورغ تطور برمجيات لتشخيص أمراض الرئة والأوعية بدقة
  • خاص| سلوى عثمان: "ضل حيطة فكرته جديدة وبحب ياسمين صبري على المستوى الشخصي"
  • العلاقة بين التدخين السلبي وسرطان الرئة
  • اختتام فعاليات اليوم العلمي للعلاج الطبيعي بـ"صدر المنصورة"
  • اختتام فعاليات اليوم العلمى للعلاج الطبيعى بـ" صدر المنصورة "