تحلّل الدولتية وتعميق المليشياوية: الخطر الوجودي على إسرائيل
تاريخ النشر: 5th, August 2024 GMT
تشهد إسرائيل في السنوات الأخيرة ظاهرة متنامية من الاقتحامات والهجمات التي تقوم بها مجموعات مليشياوية داخل الجيش وخارجه. تشكل هذه الاقتحامات تعبيرًا عن ظاهرة أعمق في المشهد الإسرائيلي يمكن تسميتها بصعود النزعة المليشياوية ثقافة وسلوكًا داخل الجيش وخارجه. ويتم تغذيتها خارج الجيش كما في داخله.
المقصود بالنزعة المليشياوية هو كسر التراتبية التنظيمية في الجيش، وتغيير مصادر الشرعية والسلطة لسلوك الجنود، مما يتواصل مع النزعة خارج الجيش التي تتمثّل في كسر قواعد اللعبة السياسية والعرفية وغياب المحاسبة للسلوكيات المليشياوية الجماعية التي تحظى بدعم من السلطة السياسية الرسمية وسلطات غير رسمية.
تأسّست دولة إسرائيل على نزع الحالة والثقافة المليشياوية عن مجتمع المستوطنين اليهود في فلسطين، وخصوصًا النزعة والتنظيم المليشياوي العسكري المرتبط مع تيارات سياسية وأيديولوجية في صفوف المجتمع الاستيطاني.
اضطر مؤسسو الدولة إلى نزع الصفة المليشياوية عن المستوطنين اليهود من خلال تبنّي منظومة "الدولتية" (المملختيوت بالعبرية) وتفكيك المليشيات العسكرية لصالح بناء جيش واحد يجمع أفراد المليشيات الصهيونية العسكرية في إطار جيش حديث له تراتبية ومصدر سلطة وشرعية واحدة.
فرض بن غوريون ذلك بالقوة، كما حدث عند قصف سفينة "الطلينا" في يونيو/حزيران 1948، التي كانت تحمل شحنة أسلحة لمنظمة الإيتسل العسكرية، مما أدى إلى مقتل 19 شخصًا، بينهم 3 من قوات الجيش و16 من قوات الإيتسل.
في ضوء ذلك، يمكن تفسير الأحداث التي أدت إلى اقتحام سجن "سدي تيمان" وقاعدة المحكمة العسكرية، باعتبارها نتيجة تراكمات أسهمت في تحلل مفهوم "الدولتية" من جهة، وتغلغل النزعة المليشياوية في صفوف الجيش من جهة أخرى. حيث برزت العلاقة العكسية الواضحة بين هذين الاتجاهين.
ظهرت معالم المليشياوية في تغلغل المشروع الاستيطاني وثقافته من الضفة الغربية إلى إسرائيل. وقام بتغذيتها سياسيون وناشطون ورجال دين يسكنون في المستوطنات وخارجها. وتدل هذه الظاهرة على سطوة المشروع الاستيطاني في الضفة، على ثقافة المجتمع والدولة في السنوات الأخيرة.
ويكفي التذكير بأهم مؤشراتها التي ظهرت في تنظيم مليشيات يهودية خلال أحداث "هبة الكرامة" 2021 لملاحقة الفلسطينيين في المدن الساحلية المختلطة، وتحديدًا في اللد وعكا. تجندت هذه المليشيات وأرهبت الفلسطينيين دون أن تتخذ سلطات فرض القانون، وتحديدًا الشرطة، أي إجراءات ضدها.
تمادى النشاط المليشياوي في الضفة الغربية بدعم سياسي حكومي وصمت من الجيش، بل فلنقل تحت حمايته، في ممارسة عمليات إرهابية ضد الفلسطينيين، مثل حرق بيوتهم والاعتداء عليهم وعلى ممتلكاتهم وأراضيهم، وصولًا إلى قتل بعضهم. وبلغ الأمر ذروته في الهجوم الجماعي المنظم على بلدة حوارة بدعم سياسي وعسكري واضح للجميع.
استمرَّت الظاهرة المليشياوية خلال الحرب على غزة بتنظيم مجموعات قامت بحرق شاحنات الإغاثة الإنسانية في طريقها من الضفة الغربية إلى قطاع غزة، وإغلاق معبر أبو سالم؛ لمنع دخول الشاحنات دون اتخاذ أي خطوات للحساب والعقاب ضدّها.
كشفت أحداث السابع من أكتوبر/تشرين الأول عن ضعف الدولة وتحللها من خلال ضعف مفهوم "الدولتية". كان لليمين على مدار العقدين الماضيين الدور الأساسي في إضعاف مؤسسات الدولة؛ بهدف إخضاعها لتكون مركبًا من مشروعه الاستيطاني في الضفة الغربية من جهة، وتابعة لهذا المشروع من جهة أخرى، وللهيمنة عليها من خلال إضعاف مؤسساتها وتفكيك نخبها القديمة، أو ما يمكن تسميته "الدولة العميقة".
دمج هذا الأسلوب بين الخطاب اليميني الشعبوي وإحداث ردة عن التحولات الليبرالية التي مرّت بها الدولة ومؤسساتها في عقد التسعينيات نحو إعادة تعريف الدولة كدولة يهودية منسجمة مع التعريف الصهيوني الديني، وهو ما ظهر في تشريع قانون أساس دولة إسرائيل كدولة الشعب اليهودي عام 2018، المعروف بقانون القومية.
ظهر ضعف الدولتية في ذلك التواطؤ مع الحالة المليشياوية الاجتماعية اليمينية، خاصة عندما يتعلق الأمر باستهداف الفلسطينيين. وفي آخر تجلياته، برز في التسامح السياسي مع اقتحام مجموعات منظمة لسجن "سدي تيمان" وقاعدة "عوفر". إذ حظي هؤلاء المقتحمون بدعم سياسي ونجوا من الحساب، وفي حالات أخرى يحظون كذلك بالحراسة والدعم، كما حدث مع المليشيات المنظمة التي اعتدت على الفلسطينيين داخل الخط الأخضر، وفي الضفة الغربية.
ظهر كذلك تواطؤ الجيش مع ظهور النزعة المليشياوية فيه وحظوة جزء منها بدعمه، على غرار تأسيس وحدات عسكرية منسجمة أيديولوجيًا مثل وحدة "نيتسح يهودا"، وفي إدخال حاخامات "الصهيونية الدينية" للجيش، وكل منظومة المدارس الدينية العسكرية التي تخرج جنودًا متدينين قوميين للجيش يعتبرون أن الحاخام هو السلطة العليا، ويتعاملون مع الجيش على أنه جهاز لخدمة المشروع الاستيطاني. ويمكن تعداد المئات من الحالات التي تثبت الحالة المليشياوية في الجيش على مستوى الأفراد والوحدات أو المجموعات، وليس هنا مقام الاستفاضة فيها.
ويمكن تفسير ما حدث في "سدي تيمان" على أنه تمرّد لجنود في الجيش ضد أوامر عسكرية، وطلبهم الحماية من "شعب إسرائيل"، وسرعان ما تجمع لنصرتهم حشود مدعومة من وزراء وسياسيين حاولوا إخراج أولئك الجنود بالقوة من قاعدة عوفر العسكرية، فيما وقفت الدولة عاجزة عن صدهم ومحاسبتهم.
يهدف اليمين من مشروعه في إضعاف الدولة ومؤسساتها وفي تعميق النزعة المليشياوية في الجيش إلى منع تفكيك المشروع الاستيطاني في الضفة الغربية أو حتى جزء منه، كما حدث في الانسحاب من غزة عام 2005، وهو الحدث الذي شكل صدمة كبيرة لليمين آنذاك، قرر بعدها تنفيذ مشروعه في الهيمنة على الدولة.
تمّت هذه العملية بشكل متراكم، ووصلت ذروتها في مشروع التغييرات الدستورية عام 2023، التي تواكبت مع نزع صفة "القدسية" عن الجيش والتهجّم عليه كلما تعارضت ممارساته مع مصالح المشروع الاستعماري حتى ولو شكليًا، وهناك كذلك "أدلجة" مستمرة لجهاز الشرطة بما يخدم أجندات اليمين المتطرف.
فهم بن غوريون أنّ قوة المشروع الصهيوني تكمن في تعزيز الصفة الدولتية على الحقل السياسي الإسرائيلي وإلغاء النزعة المليشياوية عن الجيش الإسرائيلي الذي لعب دورًا اجتماعيًا في بناء "أمة إسرائيل الواحدة" من المهاجرين. ولكن ما يحدث هناك منذ عقود، وعمقته الحرب في قطاع غزة وكشفته، هو تحلل ذلك التوجه "الدولتي" لصالح تغلغل النزعة المليشياوية بين الأفراد والضباط والوحدات العسكرية، وهو ما يمثل أكبر تهديد وجوديّ قائم لدولة إسرائيل.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلاميةالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات المشروع الاستیطانی فی الضفة الغربیة فی الجیش ما حدث من جهة
إقرأ أيضاً:
إسرائيل توسع عملياتها العسكرية في لبنان مع استمرار المساعي لوقف إطلاق النار
أفادت مصادر مطلعة لقناتي العربية والحدث بأن القيادة الإسرائيلية قررت الانتقال إلى المرحلة الثانية من عمليتها البرية في جنوب لبنان، ما يتضمن توسيع نطاق الهجمات لتشمل قرى إضافية في المنطقة،
وقد جاء القرار الإسرائيلي، مع تواصل المحاولات الدبلوماسية لإرساء وقف إطلاق النار في لبنان، وأيضا في إطار زيادة الضغط السياسي وتحقيق المزيد من السيطرة العسكرية على الأرض.
تصاعد الهجمات والغارات الجويةشهد اليوم الأربعاء تصعيدًا ملحوظًا، إذ استهدفت المدفعية الإسرائيلية بلدة يحمر الشقيف في الجنوب اللبناني بقذائف فوسفورية من عيار 155 ملم، ما أدى إلى اشتعال النيران في عدد من المنازل واحتراقها بالكامل.
كما شنّت الطائرات الإسرائيلية غارات على عدة مناطق، أبرزها بلدات كفررمان، وصديقين، ويحمر الشقيف، حيث تضررت العديد من الممتلكات وسجلت إصابات بين المدنيين.
ولم تقتصر الهجمات على المناطق القريبة من الحدود، إذ خرق الطيران الحربي الإسرائيلي جدار الصوت فوق منطقة الشوف في جبل لبنان وبعض المناطق الشمالية، ليزيد من حالة التوتر ويثير القلق بين السكان.
وفيما أكدت "الوكالة الوطنية للإعلام" اللبنانية استمرار الهجمات، أشارت التقارير إلى أن طائرات مسيرة إسرائيلية استهدفت دراجات نارية وأهدافًا أخرى، ما تسبب بوقوع إصابات في كل من يحمر الشقيف والشعيتية.
توسع العمليات البريةوأفادت المصادر بأن القوات الإسرائيلية وسّعت عملياتها البرية، التي انطلقت مطلع أكتوبر/تشرين الأول الماضي، لتشمل مناطق جديدة في جنوب لبنان.
وقد بدأت هذه العملية وسط تصعيد إسرائيلي متواصل منذ 23 سبتمبر/أيلول الماضي، حيث شنت الطائرات الحربية الإسرائيلية سلسلة غارات مكثفة شملت مناطق واسعة في جنوب لبنان والبقاع وامتدت إلى العاصمة بيروت وضاحيتها الجنوبية، وصولًا إلى جبل لبنان وبعض المناطق الشمالية.
جهود دبلوماسية مستمرةيأتي هذا التصعيد العسكري على الرغم من الجهود الدبلوماسية المستمرة التي تسعى للوصول إلى هدنة دائمة، حيث تتحرك أطراف دولية وإقليمية لخفض التصعيد ووقف العنف، وسط دعوات متزايدة لوقف الهجمات وحماية المدنيين.
ومع ذلك، يواصل الجيش الإسرائيلي تحركاته التصعيدية في الجنوب اللبناني، مشددًا على تنفيذ أهدافه العسكرية قبل الدخول في أي اتفاقات تهدئة محتملة.
تداعيات التصعيد على الساحة اللبنانيةوفي ظل استمرار هذا الوضع المتأزم، تتزايد المخاوف من تدهور الأوضاع الإنسانية في جنوب لبنان بشكل خاص، إذ يعاني السكان المدنيون من التهجير المتزايد وتدمير البنية التحتية.
ويدعو المجتمع الدولي إلى ضبط النفس وتجنب استهداف المدنيين، خاصة مع ازدياد الضغط على المستشفيات وفرق الإغاثة في مواجهة الأعداد المتزايدة من المصابين والنازحين.
ختامًا، ورغم الجهود الدبلوماسية المكثفة، يبدو أن التوتر العسكري بين إسرائيل ولبنان يسير نحو المزيد من التصعيد، حيث يصر الطرفان على مواقفهما، مما يجعل آفاق الوصول إلى حل سلمي ومستدام غير واضحة حتى الآن.