المرأة والميثولوجيا في الثقافة الشفوية
تاريخ النشر: 5th, August 2024 GMT
تتميز الثقافة التي تفسح المجال للمنتمين إليها بالحضور في مكوناتها بالغنى والعمق؛ لأن احتفاظ أي ثقافة بعناصرها الجوهرية يُعبّر عن قيمة وجودية يمنحها فرصة التكيف مع التطور الناجم عن المتغيرات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، بالإضافة إلى إنتاج أشكال إبداعية خاصة بالثقافة ذاتها.
تُعد المرأة في المجتمعات التقليدية مدرسة وناقلة للثقافة وخاصة الميثولوجيا؛ لأن المرأة (الأم) تغرس الأسس التربوية الأولى في ذهن الطفل عبر مراحل حياته الأولى عن طريق الحكاية والأسطورة والأمثال، وبواسطة الميثولوجيا نقلت الأم معارفها إلى الأبناء جيلا بعد آخر، ونتيجة للدور المعرفي للمرأة واعترافا بها ولها بأدوارها الاجتماعية والثقافية فقد رفعت المجتمعات من شأن المرأة ورفعتها إلى مرتبة التبجيل والاحترام.
إن الميثولوجيا التي شكّلت جزءا من ثقافتنا وتربيتنا هي ميثولوجيا قدمت إلينا عبر ألسنة المرأة الحكاءة وبواسطة لغة شفوية غير مكتوبة، هي اللغة الشحرية؛ إحدى اللغات السامية الجنوبية العربية الحديثة، ونكتشف مع مرور الأيام قيمة الثقافة الشفهية وعمقها المعرفي في تشكيل الوعي ونظرة الإنسان إلى وجوده ومسؤولياته تجاه ذاته والآخرين.
وفي هذه المساحة نعرض بعض الأمثلة المتعلقة بحضور المرأة في المعتقدات والأمثال. ومن المعتقدات الرائجة التي تكشف عن علاقة الإنسان بمحيطه أنه يستطيع عقد اتفاقات المصالحة مع الكائنات المؤذية، فمثلا يقال"إن الأم إذا أرادت أن تقي أطفالها من لدغات العقارب عليها صب قطرات من حليبها على أنثى العقرب التي تحمل صغارها على ظهرها"، يكشف هذا المعتقد أيضا رمزية حليب الأم في إحداث روابط أمان مع الكائنات الضارة.
وفي المعتقدات أيضا أنه إذا أرادت الأم أن يكتسب ابنها صفات الرجال المشهورين فيتوجب عليها رمي سرة رضيعها خلف رجل مشهور مرددة عبارة "كن مثل فلان"، والسرة -حسب المعتقد- مسؤولة عن تعلّق الإنسان بالمجال الذي يحبه، فيقال "فلان سقطت سُرّته هناك" بمعنى وجوده الدائم وحضوره في النشاط الذي يمارسه.
أدركت المرأة مبكرا آثار الطاقة السلبية على الإنسان وخاصة الرضع، إذ تتفادى المرأة المُرضعة انتقال الأمراض والأوبئة إلى طفلها من أمهات الأطفال المرضى، عن طريق أخذ مادة منها مثلا، كخيط من رداء أم الطفل المريض عند زيارتها، ويسمى "شُكم" (شين شدقية)، الذي يُعتقد بمنعه انتقال الطاقة السلبية بين الأطفال.
وكذلك حين تسمع المرأة الأخبار السيئة فإنها تلتفت يمنة ويسرة وتتفل مرددة عبارة "تفو إد نعدي بإد سيري" أي بعيدا عني وخلفي، أو تتفل على الأرض وتمسح بإصبعها على رقبتها وعلى كعبها قائلة "إد قرموع بد كرموع" أي إلى القفاء وإلى الكعب.
تعاملت الشعوب والمجتمعات مع وفيات الأطفال المتكررة على أنه سحر أو اختطاف من قبل الجن، ولتجنب ذلك تقوم الأم بثقب الأذن اليمنى للطفل الذكر، ويبدو أن محاولة الحماية بواسطة تشويه الأذن قد انتقلت إلى الحيوان، إذ يحرص بعض مربي الماشية إلى قطع أو شق أذان الماشية، وقد نهى الدين الإسلامي عن ذلك، إذ ورد في السنة أنه لا يجوز التضحية بالمقابلة (مقطوعة الأذن)، ولا المدابرة (المقطوعة مؤخرة الأذن)، ولا الشرقاء (مشقوقة الأذن طولا)، إذ يُنظر إلى ذلك بأنها طقوس تعبر عن التقرب إلى الآلهة بجزء من لحم الماشية.
يتجسد الاحتفاء بالمرأة وتقديرها في الميثولوجيا في المعتقدات التي يحملها الإنسان في ذاته، وقد ورد في المعتقد أن الرجل إذا حلم بولادة بنت له، فإن ذلك يعني أنه سيُسر في حياته. يدلل ذلك على الفأل الحسن الذي تجلبه البنت إلى حياة والدها، بل ويفتخر الذكر بالانتساب إلى اسم أمه، وبناء عليه يتم الترحيب به وانتخاءه.
إن بقاء الميثولوجيا في الذاكرة فقط يُعجّل بفنائها وموتها البطيء، ولذلك نُذكّر بين المقال والآخر على ضرورة جمع المادة الثقافية الشفوية ودراستها قبل اندثارها وتعرضها للنسيان.
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
جدلية الخطاب الأبوي بين المسؤولية والاعتذار
أحمد بن محمد العامري
الأسرة هي الخلية الأولى التي يتكون فيها الإنسان وفيها تنشأ أولى علاقاته الاجتماعية والنفسية، فالعلاقة بين الزوجين تشكل العمود الفقرى لهذه المؤسسة حيث يتشاركان مسؤولية التربية والرعاية بما يضمن لأفراد الأسرة بيئة صحية ومستقرة. ومع ذلك، يظهر في هذه العلاقة أحياناً خطاب يعكس اختلافات في التصورات بين الزوجين حول دور كل منهما في حياة الأبناء، ومن أكثر العبارات لفتاً للانتباه هو خطاب الزوجة الذي يتبدل بين "أولادك" عند الحديث عن المشكلات أو الأعباء، و"أولادي" عند الحديث عن الإنجازات أو اللحظات المشرقة أو العكس، هذا التباين الظاهري في اللغة يعبر عن أبعاد نفسية واجتماعية وثقافية عميقة تستحق التأمل.
عندما تلجأ الزوجة إلى استخدام عبارة "أولادك" أثناء مواجهة المشكلات أو تحمل أعباء المصاريف فإنها تعبر عن محاولة نفسية لتخفيف الضغط الواقع عليها، علم النفس يفسر ذلك على أنه آلية دفاعية تُعرف بالإسقاط، حيث يُلقى جزء من المسؤولية على الطرف الآخر لتخفيف الشعور بالعبء أو الفشل، هذا الخطاب قد يعكس كذلك شعوراً بعدم التوازن في تقسيم المهام داخل الأسرة، حيث تحمل الأم العبء الأكبر من العناية اليومية بالأبناء وتنتظر من الأب أن يشارك بشكل أكبر عند ظهور التحديات.
على الجانب الآخر، عندما تقول الزوجة "أولادي" في لحظات الفخر أو الاعتزاز بإنجازات الأبناء فإنها تعبر عن ارتباط عاطفي عميق معهم وشعور بأنها المساهم الأكبر في تربيتهم ونجاحهم، هذه اللغة تتماشى مع ما يُعرف في علم النفس بنظرية الإنجاز الذاتي، التي تبرز كيف يرى الفرد إنجازات الآخرين، خاصة المقربين منه، كامتداد لجهوده الشخصية وهويته، هذا الفخر ينبع أيضاً من القرب اليومي والعاطفي الذي يربط الأم بالأبناء، وهو نتاج الدور التقليدي الذي يجعلها الأقرب إلى تفاصيل حياتهم.
على المستوى الاجتماعي، يعكس هذا الخطاب توزيع الأدوار داخل الأسرة كما تحدده الثقافة، كثير من المجتمعات تُعتبر الأم الحاضن العاطفي الأول للأبناء والمسؤولة عن تفاصيل حياتهم اليومية، بينما يُنظر إلى الأب كمصدر للسلطة والمسؤول عن توفير الموارد وحل الأزمات. لذلك، عندما تواجه الأم تحديات مع الأبناء، ترى في الأب شريكاً يتحمل المسؤولية عن الأزمات التي لا تستطيع السيطرة عليها بمفردها، مما يجعل عبارة "أولادك" أداة ضمنية لدعوته إلى التدخل. في المقابل، يُبرز استخدام "أولادي" في اللحظات الإيجابية شعوراً بأن الأم هي الأقدر على فهم الأبناء ورؤية جهودها في نجاحاتهم.
لكن الأثر الحقيقي لهذا الخطاب لا يتوقف عند الزوجين، بل يمتد ليطال الأبناء أنفسهم. اللغة التي يُخاطب بها الأبناء تؤثر بشكل كبير على تكوين شخصيتهم وشعورهم بالانتماء داخل الأسرة، فعندما يسمع الأبناء عبارة "أولادك" في سياقات سلبية قد يشعرون بأنهم عبء أو مصدر للمشكلات، مما يضعف ثقتهم بأنفسهم أو يعزز شعورهم بالانفصال عن أحد الوالدين. على النقيض، استخدام "أولادي" في سياقات إيجابية يعزز شعور الأبناء بالفخر والانتماء لكنه قد يُشعرهم أحياناً بأن العلاقة بينهم وبين الأب أقل قوة إذا لم يُظهر الأب نفس التقدير.
إن الخطاب الأبوي المتوازن يلعب دوراً محورياً في تعزيز استقرار الأسرة وبناء الثقة بين أفرادها، واستخدام لغة تشاركية مثل "أولادنا" يعكس إحساساً مشتركاً بالمسؤولية ويُظهر للأبناء أنهم ثمرة شراكة بين الوالدين، كما أن إظهار التقدير المتبادل بين الزوجين لجهود كل منهما في التربية يعزز روح التعاون ويُزيل أي شعور بالتنافس أو تحميل المسؤولية. من المهم أيضاً أن يتم التعامل مع المشكلات المتعلقة بالأبناء كقضايا مشتركة بعيداً عن إلقاء اللوم، ما يُظهر نموذجاً إيجابياً للأبناء حول كيفية حل المشكلات بطريقة بناءة.
الثقافة المجتمعية تلعب دوراً كبيراً في تشكيل هذا الخطاب، حيث تحدد معايير الأدوار بين الرجل والمرأة داخل الأسرة. في المجتمعات التي تتبنى نماذج تشاركية حديثة، يظهر خطاب أكثر توازناً بين الزوجين، بينما في الثقافات التقليدية قد يميل الخطاب إلى تقسيم الأدوار بشكل يبرز الفروقات بين الأب والأم، ولكن مع تطور المفاهيم الأسرية وتزايد الدعوات للمساواة في الأدوار، يمكن تعزيز خطاب أكثر تشاركية يعكس تغيرات إيجابية في بنية الأسرة.
في النهاية، حديث الزوجة مع الزوج حول الأبناء بين "أولادك" و"أولادي" ليس مجرد تفصيل يومي عابر، بل هو مرآة تعكس التفاعلات النفسية والاجتماعية داخل الأسرة، ومن خلال العمل على تطوير هذا الخطاب ليكون أكثر شمولية وتوازناً، يمكن تعزيز الروابط الأسرية وضمان بيئة إيجابية لنمو الأبناء.
الأبناء ليسوا مجرد مسؤولية فردية، بل هم ثمرة شراكة تحمل في طياتها تحديات وإنجازات مشتركة، والنجاح الحقيقي في التربية يتحقق عندما يشعر كل فرد في الأسرة، سواء كان أباً أو أماً أو ابناً، بأنه جزء من كيان واحد يُبنى على الحب والدعم والمسؤولية المشتركة.
ahmedalameri@live.com