التشكيل الفني في مجموعة «نهر وشرفة» لعلي المخمري

صدر مؤخراً عن دار الوطن للصحافة والطباعة والنشر بالمملكة المغربية المجموعة الشعرية «نهر وشرفة» للشاعر العُماني علي المخمري، ويأتي هذا الإصدار بعد إصدارات عديدة رسمت شكل الكتابة الشعرية للمخمري والممتدة لسنوات تعود إلى تسعينيات القرن الماضي، استطاع من خلالها الاشتغال على لغة نثرية تميّزه في الكتابة الشعرية عن سواه من شعراء تلك الفترة.

جاء هذا الإصدار بعد إصداراته: (الخطوة الأولى لاجتياز قماطي 1998)، و(غيابات الجب 2000)، و(تعريفات رجل لا يفرّق بين السكين والوردة 2002)، و(نُفاث 2013)، و(ترميم الأعمال الشعرية: كشجرة مقطوعة ترقب الغيم 2015)، وفيها يظهر الاشتغال الجاد في تجربة علي المخمري الشعرية وتوظيفه المفردات توظيفاً يتماشى مع اللغة النثرية التي يشتغل عليها.

لقد جاءت مجموعاته السابقة محلّقة في سماء الشعر العُماني مستمدّة لغتها الشعرية من مفردات التراث حيناً ومن الرؤية الفلسفية العميقة للحياة؛ لذا كانت نظرة الشاعر فيها إنسانية جمعت بين الدلالات المعبّرة وبين التصوير الصادق في التعبير الإنساني.

يطالعنا المخمري في مجموعته (نهر وشرفة) باشتغال فني مستمد من الحياة جاءت على هيئة نصوص شعرية قصيرة وجداً، ولعل هذا الاتجاه -قِصر النصوص- لمسناه منذ مجموعاته الأخيرة التي وازن فيها بين طول النصوص وقصرها معتمداً على تكثيف المعنى، وهو اتجاه سائد عند أبرز شعراء قصيدة النثر اليوم.

إنّ نصوص المجموعة تأخذ في أغلبها طابع الشكل القصير جداً، معتمدة على تكثيف المعاني، وإعطاء اللغة مساحة من الجمال الشعري، ولعلني أشير هنا بما يتعلق بقصر النصوص الشعرية ما يرتبط في ذهن كثيرين من كُتّاب قصيدة النثر وهو تمثّل القصر حتى في العناوين، التي نجدها تأخذ دلالة الكلمة الواحدة كما في نصوص: (حلم، ومباراة، وإحباط، ومداهمة، ومسوّدة، وأحلام، وانفجار) وغيرها. يقول المخمري في نص (جدران) على سبيل المثال:

دائماً ما تكون

كلماتنا

إطاراً أعمى

في طريق صورة.

هنا يمتلئ النص بدلالات التركيب المزدوج والمتضاد فالكلمات في مقابل الصورة، والصورة في مقابل الإطار، والإطار يحمل دلالات العمى ومعه تبرز ثورة الكلمات في مواجهة الفن والصورة، هذا التركيب المشترك لا يمكن تتبع دلالاته إلا بفكّ الخطوط الشائكة للاستعمال اللفظي. كذلك نجده في نص (إحباط) يلجأ إلى الأساليب التي من خلالها يلتزم التعبير بالضدية والمواجهة. يقول:

كلما رسمت عصفوراً

ليطير،

رسموا مزيداً من الأقفاص.

في نص قصير جداً كهذا النص يمكنك أن تلمح الثورة والرفض في استعمال المفردات؛ فلفظة "رسمتُ" الدالة على المفرد يقابلها لفظة "رسموا" الدال على الجماعة، فالتعبير هنا قائم على المواجهة حتى على مستوى الألفاظ، ومع أنّ دلالة الرسم تحمل تعبيراً فنياً وجمالياً في مضمونها فإن لفظة الأقفاص بعدها حدّدت المسار الذي تسير إليه الدلالات، وهنا تعود الضدية والمواجهة على صعيد الألفاظ لتُحدث صراعاً بين الطيران والأقفاص، بين الحرية والقيد. إنه موضوع إنساني بحت ينطلق منه الشاعر تعبيراً عن أفكاره المتولدة من الحياة وفلسفتها.

في عملية البناء الفني للمجموعة يظهر لنا أمران اثنان: أولهما الاشتغال على اقتناص فكرة جديدة للنص كما في نص (عين) الذي صنع من فعل القراصنة بتغطية إحدى عينيهم نصاً مليئاً بصراعات الحياة ولذتها ورومانسية الكلمة في خطابها الأنثوي، نلمح ذلك التوظيف ونحن نقرأ:

"قالت بعينيك أرى الحياة

من يومها وأنا أبحث عن عيني قرصان زنختين، لاكمتا عواصف وأمواج. عين لي وأخرى لها. تدوران مع الظلمة والنور وأساطيل بائدة في قاع كلمات زرقاء. أشرح لها أشياء لا تبدو على حقيقتها، لتغطّ في أرياف فاتنة...

هناك حيث الحكايات تمائم أحلام متناسلة والكلام حصاد يومي، يحتفل ويطير...

رقعة أنقّلها من عين لأخرى؛ لتمر مشاهد الحياة المؤلمة على عين مفقودة".

الأمر الثاني من خلال إيجاد أكثر من صورة تتفاعل في النص، وهي ما يمكن التعبير بأنها فوضى تتفاعل مع الكلمات مولّدة جمالية في التشكيل، نجد ذلك في غير موضع كما في نصوص: (صلاحية، وعودة، وسأم). نجد تفاعل الصور في نص (صلاحية) الذي شكّل فوضى تمتزج من خلالها الدلالات والصور كما في القطار الضال في الصحراء، وهو تعبير يدل على التيه الطويل والغربة والمشقة، كذلك في السيارة المتدهورة من طريق جبلي، والسكين، وكرسي العجوز كلها عملت على تشكيل معاني القدم، وانتهاء الصلاحية على حد تعبيره، وكلها اقترنت بالخردة وهي تتقابل مع عدم المعرفة ببيع البضائع الجديدة، إنه تعبير فوضوي لكنه جعل الدلالات تتصارع في إبراز قيمتها الفنية، يقول:

بما أنني لا أتقن بيع بضائع جديدة

حاولت أن أصير تاجر خردة

لكنها كانت تسجل كل حوادثها في

ذاكرتي:

قطار ضال في الصحراء

سيارة متدهورة من على طريق جبلي

سكين ملطخة بدماء قديمة

باب كعورة منفرجة

وكرسي عجوز

بذراع وحيدة

ينكزني

كلما حاولت النسيان.

ولا ينسى المخمري في استخدامه للغة النثرية أن يمزج بين السرد والشعر؛ إذ يقوم نص (وظيفة) على إظهار هذا التمازج، وهو نص يختلف قليلا في تشكيله عن أغلب نصوص المجموعة، فيقوم على ثلاثة مقاطع، يتحرك فيها المقطع الأول تحركاً سردياً بطيئاً يبدأ من النهوض من النوم والدخول إلى الحمام يتداخل معه التعبير الشعري والوصف واجترار الصورة الخارجية إلى داخل النص.

ثم يعبّر بالحركة السردية من خلال اللحظة الحالية لشرب القهوة والتي تتداخل مع الزمن المستقبلي يعمل من خلالها الشاعر إلى استخدام الأفعال الدالة على المستقبل للتعبير عن وظيفته التي تنتظره: (سيجف فيها حلقي، وتطن أذني، ستطحنني فيها رحى مكاتب، سأغيب في سحنات).

كذلك فإن النص يُظهر لنا مدى استغراقه في التفاصيل اليومية ولغة الكلام اليومي والحوارات الداخلية مع الذات، كل ذلك يشكّل معه النص الشعري امتزاجاً دلالياً على المستوى الزمني سواء في نظرة إلى المستقبل أو الحدث في الحاضر أو بالعودة إلى الوراء كما عبّر عنها.

يحيل هذا النص وغيره القارئ على تنوع أساليب البناء الشعري في المجموعة كونها نصوصاً قائمة على حشد مجموعة من المفردات المتنوعة في التعبير، ولعلني أختم المقالة بنص (وظيفة) في عملية بنائه الفني والتعبيري والسردي كأنموذج على تنوع نصوص المجموعة:

1

أصحو من نوم ثقيل

وكأن رأسي بُيّتَ في خميرة

وجميع أطرافي دقت بمهراس شيطان

أرفع جمجمتي

تخونني مع المخدة

أتأوه في ململتي

أنفث الهواء

وكأني أنفخ على جمر جسدي

لأشعل رماد طاقة منطفئة

إلى الحمام

فتحت الرشاش عن آخره

رأسي إلى الخلف

تاركاً الماء يتدفق

على وجهي وصدري

منعش هذا الإحساس

يشبه شعور عجوز همنجواي

عندما اصطاد سمكته الضخمة

أو نشوة أولمبي قفز قفزته القياسية ولم يعد...

ارتعشت أوصالي

وانسابت آلات موسيقية

برائحة صندل في أعماقي

تجمهرت خيوط شمس

في كل زواياي

مع نسيم لا يفرط في قشعريرته المتهورة أبدا

2

في فضاء قهوتي

أدحرج الصباح الثقيل

كي لا يطفئ شذرة انتعاشي

مع ساعات عمل ديناصورية

سيجف فيها حلقي

وتطن أذني من صفع أوامر وطلبات

ساعات قادمات...

ستطحنني فيها رحى مكاتب / أوراق / أعمال خارجية...

سأغيب في سحنات / أفكار / أفعال...

تصيبني بجنون

أهز ركبتيّ

كمن يرج حليبا ليخثر

وفي داخلي نداء مالح

يحاول فضفضة حشود

تجتاح مخيلتي السابحة

إلى شيء ذي مذاق

متناسيا حالتي الوظيفية القادمة

نافضاً رمادها البارد

وأجيجها الطاحوني.

3

يررررررررررررن الهاتف

صوت مديري،

الذي يشبه مخلفات طافية بعد ضربة

إعصار:

تأخرت أمامك ربع ساعة وإلا خصمت

منك أجرة اليوم

لا إراديا أتكور في سيارتي

أدير المحرك،

مهمهماً بتذمر:

من منا لعب دوره الحقيقي في الحياة.

(صدقاً لا أحد).

تأخذ مركبتي الطريق المعتاد

وأنا أفكر في فنجان قهوتي

الذي تركت بخاره حاراً، سابحاً في الهواء.

المصدر: لجريدة عمان