الشفيع خضر

عقب دعوة وزير الخارجية الأمريكي لقيادة كل من القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع لعقد محادثات في جنيف منتصف هذا الشهر، ارتفع مؤشر الأمل عاليا عند جموع الشعب السوداني مصحوبا بمؤشري القلق والخوف من الفشل. فالسودانيون جميعا، إلا سماسرة الحرب ومقدمو المصلحة الخاصة الدنيئة على مصلحة الوطن، كانوا منذ البداية يدركون أن أيا من طرفي القتال لن يستطيع حسم الحرب لصالحه، وإن انتصر في هذه المعركة أو تلك، أو توسعت مساحة الرقعة التي يسيطر عليها وواصل القتال حتى يحكم ويتحكم في أشلاء البشر تحت أنقاض حطام بلد مهزوم.

لذلك ظلوا على قناعة تامة، ومنذ بدء الحرب، بأن التفاوض هو أفضل السبل لإنهائها، والآن هم يتطلعون إلى أن تلتئم مفاوضات جنيف، بعد تعثر طال المفاوضات في جدة، لعل جنيف تنجح على الأقل في تحقيق وقف طويل، إن لم يكن دائما، لإطلاق النار يمكن من وصول المساعدة الإنسانية إلى السكان المحاصرين تحت القصف والمجاعة والسيول والأوبئة.

ورغم إشارتنا في مقالنا السابق إلى أن الدعوة الأمريكية تتميز بعدد من النقاط الإيجابية، إلا أن هنالك بعض الملاحظات التي نعتقد بضرورة الانتباه إليها. الملاحظة الأولى، بما أن منبر جدة قد بادر وبموافقة أطراف الصراع لبحث وقف القتال ونجح في انتزاع موافقة الطرفين على عدد من الهدن، وإن لم يحالفه النجاح في تحقيقها على أرض الواقع فاستمرت الخروقات وكأن الهدن كانت مجرد كلمة معلقة في الهواء، كما انتزع توقيعهما على اتفاق 11 مايو/إيار 2023، وإن ظل مجرد حبر على ورق دون تنفيذ، ففي إعتقادي لا يجب إلغاء المنبر أو تخطيه والبدء من المربع الأول، بل أعتقد بضرورة التعامل مع لقاء جنيف كامتداد له. فمنبر جدة يمكن أن يعقد في أي مدينة أخرى ولكنه يظل منبر جدة، كما أعتقد بضرورة أن تظل المملكة العربية السعودية وسيطا أو ميسرا أصيلا وليس وفق ما جاء في الدعوة التي حددت الولايات المتحدة وسيطا والسعودية وسيطا مشاركا. وفي هذا السياق، أشرنا كثيرا إلى أن تعدد المنابر لن يخدم قضية السودان، بل حتما يضر بها، وأن المدخل السليم والوحيد لنجاح مساهمات القوى الدولية والإقليمية في وقف الاقتتال في السودان، هو التفاوض في إطار المنبر الواحد، والذي يمكن أن يتحقق عبر آليات عملية ملموسة وترتيبات محددة. لكن، ومن ناحية أخرى، لابد من الإقرار بأن لقاء جنيف المقترح يأتي كتطور نوعي بقيمة مضافة، مقارنة بمنبر جدة، وذلك من خلال نقطتين، الأولى إشراك مصر والإمارات العربية ولو بصفة مراقب. ومن الضروري التنويه بأن صفة المراقب هنا من الصعب أن تنحصر في معناها الكلاسيكي المعروف، بمعنى الاكتفاء بالمراقبة فقط. فالطرفان، مصر والإمارات، يهمهما مسار التفاوض ونتائجه لعلاقتهما الوطيدة بما يجري في السودان، وذلك لأسباب جلية وواضحة فصلناها في مقالنا السابق عندما قلنا إن مصر، بالإضافة إلى وشائج الصلة والعلاقات التاريخية والتكاملية مع السودان، تنظر إلى الأمر من باب حماية أمنها القومي في ظل التوترات السياسية والعسكرية المتصاعدة على حدودها مع إسرائيل ومع ليبيا وفي البحر الأحمر، وكذلك التوترات المتعلقة بمياه النيل، إضافة إلى ما تعانيه من استنزاف في مواردها بسبب استقبالها لأعداد مهولة من طالبي الأمن والأمان القادمين من سوريا والسودان وفلسطين وليبيا واليمن ودول أخرى. وبالنظر إلى الأهمية القصوى لمسألة الأمن القومي هذه، يمكننا تفهم علاقة مصر الوطيدة مع القوات المسلحة السودانية وتمسكها بوحدتها باعتبارها المؤسسة العسكرية الشرعية في البلد. لذلك، ليس متصورا حدوث اختراق جدي في ملف حرب السودان بمعزل عن مصر. وكذلك الأمر بالنسبة لدولة الإمارات التي ظلت تربطها علاقات وطيدة مع قيادات طرفي الحرب قبل أن تتحدث التقارير عن دعمها العسكري المباشر لقوات الدعم السريع. ويعزز من دلالات حديثنا هذا أن وجود مصر والإمارات في محادثات العاصمة البحرينية المنامة كان مفصليا في ولادة ذلك الاتفاق الذي قتل في مهده. أما النقطة الثانية، فتتعلق بما جاء في إعلان الدعوة وعلى لسان وزير الخارجية الأمريكي، من أن المحادثات ستبحث كيفية وضع آلية مراقبة وتحقّق قوية من أجل ضمان تنفيذ أي اتفاق، وهذا ما ظل غائبا في جولات المحادثات السابقة في جدة. ولقد كتبنا من قبل حول ضرورة استخدام الإطار القانوني الدولي (مسؤولية الحماية) لتفعيل آليات حماية السكان المدنيين وحماية الممرات لضمان وصول المساعدات الإنسانية للمجموعات المدنية، وكذلك اتخاذ كل الإجراءات الوقائية لمنع حدوث إبادة جماعية وأي انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، بما في ذلك العنف الجنسي ضد النساء.
الملاحظة الثانية، تتعلق بطلب قائد القوات المسلحة السودانية إجراء لقاءات تشاورية مع الولايات المتحدة قبل لقاء جنيف المقترح، وذلك لبحث ماهية الصيغة التي سيتم بها اللقاء وأجندته، ومسألة الدول المراقبة، وعلاقة اللقاء بمنبر جدة وما وقع فيه من اتفاق. ورغم أن الجانب الأمريكي أشار إلى أنه ظل في تشاور مع الطرفين، وأن تحديد موعد ومكان اللقاء لم يكن مفاجئا لأي منهما، إلا أن محاولات المبعوث الأمريكي زيارة بورتسودان تؤكد أن ذلك التشاور المشار إليه لم يكن كافيا، والذي ربما كان عبر الاتصالات الهاتفية، وأن الأمر يتطلب لقاء مباشرا بين الجانبين. وفي هذا الصدد، إذا كان الجانب الأمريكي يعتقد بوجاهة موقفه في أن يجتمع مع الجانب السوداني في مطار بورتسودان ولا يدخل المدينة وذلك لدواع أمنية، فإني أرى أن رفض الجانب السوداني لهذا الموقف له ما يبرره لعدة اعتبارات، مع ملاحظة أن المطار لن يكون بمأمن من أي تهديد أمني داخل المدينة. أعتقد كان، ولازال، من الممكن تخطي هذه العقبة بأكثر من طريقة، وسنتناول ذلك في مقالنا القادم.

نقلا عن صحيفة القدس العربي

الوسومد. الشفيع خضر

المصدر: صحيفة التغيير السودانية

كلمات دلالية: د الشفيع خضر

إقرأ أيضاً:

السودان الجديد وصورة دوران قري (1-2)

ملخص
(لم تكن دولة جنوب السودان التي تحكمها حركة سياسية، وُلد مبدأ السودان الجديد في رؤاها وممارستها، عند توقع جماعة نيروبي. فانقدحت فيها في الثامن من مارس (آذار) الجاري شرارة الحرب بين رئيس الجمهورية سلفا كير ونائبه رياك مشار حتى قال معلق إن "جنوب السودان عاد لصراع القوى المستهتر الذي انقض ظهر البلد في الماضي". وأنذر المعلق باندلاع الحرب الأهلية الرابعة منذ استقلال أحدث دول العالم).
قدمت المنظمات السودانية التي اجتمعت في نيروبي في منتصف فبراير الماضي لإنشاء حكومة بديلة لـ"حكومة بورتسودان"، نفسها على أنها التجسيد التاريخي للسودان الجديد الذي هو رؤية الحركة الشعبية لتحرير السودان، العقيد جون قرنق، لدى قيامها عام 1983. وما لبثوا إلا قليلاً حتى أخرجت دولة جنوب السودان، مصنع فكرة هذا السودان الأول، أثقالها وقال العالم مالها. وظلل خطاب السودان الجديد اجتماع نيروبي في مثل قولهم "وجوب مخاطبة جذور أزمة السودان" و"التزام التنوع التاريخي والمعاصر" الراجعة للعقيد جون قرنق (توفي في 30 يوليو عام 2005) قائد الحركة الشعبية لتحرير السودان. وصدح الحضور بشعار مبتكر وهو "سودان قديم يتحطم وسودان جديد يتقدم".
ولم تكُن دولة جنوب السودان، التي تحكمها حركة سياسية وُلِد مبدأ السودان الجديد في رؤاها وممارستها، عند توقع جماعة نيروبي. فانقدحت فيها في الثامن من مارس الجاري شرارة الحرب بين رئيس الجمهورية سلفا كير ونائبه رياك مشار حتى قال معلق إن "جنوب السودان عاد لصراع القوى المستهتر الذي انقض ظهر البلد في الماضي"، وأنذر المعلق باندلاع الحرب الأهلية الرابعة منذ استقلال أحدث دول العالم لأنه لا سلفا كير ولا مشار، ممن بينهما ما صنع الحداد، من سيأتي بالأمر إلى بر آمن. ووجهت الأمم المتحدة موظفيها بمغادرة البلد إلا من القائمين بأحوال الحرج والطوارئ لأن "تدهوراً منذراً قد يمسح بالأرض سنوات من التقدم المحرز بعسر شديد في جنوب السودان". وكان الجيش الأبيض، المنسوب لشعب النوير، الجماعة الأغزر عدداً ومنهم مشار بعد شعب الدينكا الذين منهم سلفا كير، استولى على حامية الناصر في ولاية أعالي النيل. فحاصرت الحكومة بيت مشار في جوبا وآخرين من جماعته بمن فيهم نائب رئيس هيئة أركان الجيش جبرائيل ديوب. وخشي الناس أن تؤدي تلك المواجهات إلى دورة جديدة من الحرب الأهلية التي بدأت عام 2013 لأربع سنوات وحصدت 400 ألف ضحية.
واندلعت تلك الحرب على خطوط إثنية، دينكا ونوير، بعد اتهام سلفا كير لمشار بالتدبير للانقلاب عليه وأخذ مقاليد الحكم. وهرب مشار من جوبا وكاد أنصاره أن يستولوا على جوبا لولا تدخل قوات أوغندية خاصة كما فعلت منذ أيام دعماً لسلفا كير بحسب تصريح قيادة الجيش الأوغندي. وكانت قوى إقليمية وغربية حملت الزعيمين للصلح باتفاق سياسي عام 2018 تضمن عقد انتخابات عامة ظلت تؤجل وآخر موعد مضروب لها هو عام 2026. ولم يتقدم الطرفان في تنفيذ الاتفاق وخرق كل منهما وقف إطلاق النار مرات، وكانت أكبر عقبات تنفيذ الاتفاق دمج جيشي الرئيس ونائبه. وهذا سودان جديد يتحطم.
دوريان قري
بدا من فرح اجتماع نيروبي بـ"السودان الجديد"، وهو على ما رأينا منه مطبقاً (أو منسياً) في جنوب السودان كمثل علاقة دوريان قري وصورته في الرواية المشهورة للكاتب الإنجليزي أوسكار وايلد. فاختار دوريان قري لصورته أن تأخذ عنه وطء اطراد العمر ووخطه بالتجاعيد وخطاياه في حين يبقى هو شاباً نضراً عظيم الحلاوة. وبالمثل اختار الهامش ومناصروه أن يبقوا على وسامتهم السودانية الجديدة كما في مؤتمر نيروبي بينما تشيخ صورة السودان الجديد في جنوب السودان وتذبل.
فليس من بين من تصارخوا للسودان الجديد في نيروبي من لم يكن ضحية له بصورة أو أخرى. وأشهر ضحاياه هو عبدالعزيز الحلو قائد "الحركة الشعبية لتحرير السودان- شمال" التي كانت جزءاً عضوياً في الحركة الشعبية الجنوبية قبل انفصال جنوب السودان عام 2011. فلم يمنح اتفاق السلام الشامل الذي عقد بين حكومة السودان والحركة الشعبية (2005) مناطق جبال النوبة والنيل الأزرق، مناطق نفوذ الحلو، ما انعقد لجنوب السودان وهو ألا يخضع لأحكام الشريعة الإسلامية وحق تقرير المصير. وكانت حجة الحكومة أن المنطقتين واقعتان في حدود شمال السودان منذ استقلاله عام 1956 ويجري عليهما ما يجري عليه. ولما جعلت الحكومة استفتاء المنطقتين عن مصائرهما خطاً أحمر تكون به المفاوضات أو لا تكون، تنازل قرنق متحرجاً. ووجدت الدبلوماسية النرويجية التي شاركت في مفاوضات السلام السودانية ودونت مجرياتها في كتابها "شن السلام في السودان" هيلدا جونسون أن قرنق كان في حال حرج لخذلانه رفاق السلاح. فاقترحت عليه منح المنطقتين ما عرف لاحقاً بـ"المشورة الشعبية" التي قالت إنها مستمدة من تجربة تيمور الشرقية مع إندونيسيا. وبمقتضاها لا يسقط عن المنطقتين حق الانفصال فحسب، بل تطبق الشريعة الإسلامية فيهما كذلك. وتعويضاً لهما عن الفقد ستكون لمجالس المنطقتين النيابية الشورى في مدى التزام الحكومة ما اتفقت عليه حيالهما في اتفاق السلام الشامل. ومن حق تلك المجالس أن تقرر، على ضوء جردها لما تحقق من ذلك الالتزام، إن كانت سعيدة بسجل الحكومة في الخصوص أو أن تعطل اتفاق السلام معها، وتطلب الاستفتاء المؤدي إلى الانفصال. وتركوا كل ذلك لزمانه ومكانه تحت الحكومة الانتقالية التي سيكون للحركة الشعبية فيها حظ كبير. وفسدت خطة "المشورة الشعبية" واندلعت الحرب بين الحركة الشعبية والحكومة مجدداً. وهذا قبح في السودان الجديد تنكر فيه لمقاتلي النوبة الذين لم يدخروا وسعاً في حرب الحكومة كتفاً لكتف مع الجنوبيين.
حق تقرير المصير وسياسة الإقصاء
ولم يحسن السودان الجديد، لا ل"حزب الأمة"، ولا "الاتحادي الديمقراطي" ولا "مؤتمر البجا" التي وقّع عنها في "تأسيس" (في مؤتمر نيروبي) من طعن آخرون في شرعية تمثيلهم لهذه الجماعات التي كانت اجتمعت عام 1991 مع "الحركة الشعبية" في التجمع الوطني الديمقراطي المعارض لـ"دولة الإنقاذ". وبلغ من حلفها معه أن تبنى "التجمع" حق تقرير المصير بصور مختلفة للجنوب وجبال النوبة والنيل الأزرق. ولكن ما جاء وقت التفاوض بين الحركة والحكومة عام 2002، الذي انتهى إلى اتفاق السلام الشامل عام 2005، حتى اقتصر التفاوض عليهما من دون التجمع حتى يتفقا على شيء في مسألتهما ثم يعقد مؤتمر دستوري ينظر في مسألة حلفاء الحركة. ولم يتفق ذلك التدبير للتجمع وساءه استبعاده من مفاوضات هو في صميمها. وسمى الكاتب والوزير منصور خالد تململ "التجمع" لإقصائه من المفاوضات "غيرة سياسية". فالقضية في مفاوضات الحكومة والحركة هي الحرب والسلام، والتجمع ليس جزءاً منها (الاتحاد الظبيانية 7 أغسطس 2002).
ونواصل

ibrahima@missouri.edu  

مقالات مشابهة

  • تجربة درع السودان وتجارب كل التشكيلات العسكرية التي ساهمت (..)
  • كاف يخطر الزمالك بطاقم تحكيم مباراته أمام ستيلينبوش الجنوب أفريقي
  • ارتفاع أسعار المنتجات الأميركية بسبب الحرب التجارية التي أطلقها ترمب
  • عادل الباز يكتب: الخطة (ط): التطويق (1)
  • اختفاء 2000 شخص فى السودان منذ بدء الحرب
  • السودان الجديد وصورة دوران قري (1-2)
  • كيكل: الوحدة التي حدثت بسبب هذه الحرب لن تندثر – فيديو
  • هل دخل السودان عصر الميليشيات؟
  • السلاح والغذاء في حرب السودان
  • الدول التي تدرس إدارة ترامب فرض حظر سفر عليها