بين الحرية والمسؤولية.. معضلة تهور الصحفيين وسطوة السلطة
تاريخ النشر: 5th, August 2024 GMT
في لمح البصر تحول من مقدم برنامج شهير ذي جمهور عريض إلى متهم مقبوض عليه من قبل الأجهزة الأمنية، وتعرض اعترافاته على مواقع التواصل الاجتماعي!.. هذه الحادثة هزت الرأي العام في ليبيا مؤخرا، وبعثت برسائل تحذيرية للوسط الإعلامي.. اليوم قد يكون مقدم البرامج "أحمد السنوسي" وغدا قد أكون أنا أو أنت! هكذا تحدث الصحفيون فيما بينهم.
وحتى نفهم أكثر، "السنوسي" يقدم أحد أكثر البرامج الاقتصادية شهرة في البلاد ويركز كثيرا على قضايا الفساد، ويعرض في كثير من حلقاته ما يقول إنها مستندات سُربت له من مراكز صنع القرار الاقتصادي، وتكشف عديدا من المعاملات والصفقات وحجم الإنفاق مؤخرا كشف بعض القرارات الصادرة عن مسؤول كبير.
تحدث "السنوسي" عن تهديدات تصله من أحد رؤساء الأجهزة الأمنية في طرابلس.. في البداية استهزأ بها.. ثم وصل به الأمر إلى أن تحداه على الهواء بأنه سيعود إلى المدينة دون أن يتمكن أحد من المساس به.
لكن هذا ما لم يحدث..! بمجرد عودة "السنوسي" إلى طرابلس قُبض عليه، وبعد أيام من اختفائه تحركت منظمات حقوقية محلية ودولية، واحتج صحفيون مطالبين بالإفراج عنه، ليتم عرضه على النائب العام قبل أن يجري إطلاق سراحه ليغادر البلاد فورا.
الإفراط وترك المساحات لأحد الخيارين سيكون وبالا على الإعلام الذي هو في حد ذاته ما يزال مترنحا ولم يستقر منذ ثورة شباط/ فبراير 2011.. تبقى المعضلة هي كيف يمكن الموازنة بينهما وكبح جماح القبضة الأمنية، وفي الوقت ذاته ضبط أخلاقيات التناول الإعلامي لقضايا الرأي العام
لكن الأمر لم ينته هنا.. بعد أيام من إطلاق سراحه نشر جهاز الأمن الداخلي بطرابلس تسجيلا مرئيا يظهر فيه "السنوسي"، قالوا إنه تسجيل لاعترافاته.. حيث ذكر مصادره التي تسرب له الوثائق، وأقر بخطأ تصرفه وتحديه للمسؤول الأمني، بحسب التسجيل.
بالطبع هذه الحادثة ليست أساس حديثنا ولسنا هنا لمعرفة المخطئ.. إنما هي توطئة للحديث عن الحالة الصحفية الصعبة التي نعيشها في ليبيا، بتنا محاصرين بين مطرقة تغول وسطوة الأجهزة الأمنية والرقابة، وبين سندان تهور الإعلام وعدم امتثاله لأخلاقيات المهنة والتزامه بمسؤولياته الاجتماعية.
الإفراط وترك المساحات لأحد الخيارين سيكون وبالا على الإعلام الذي هو في حد ذاته ما يزال مترنحا ولم يستقر منذ ثورة شباط/ فبراير 2011.. تبقى المعضلة هي كيف يمكن الموازنة بينهما وكبح جماح القبضة الأمنية، وفي الوقت ذاته ضبط أخلاقيات التناول الإعلامي لقضايا الرأي العام.
المسؤولية الاجتماعية
وتعرف نظرية المسؤولية الاجتماعية في مجال الصحافة والإعلام بأنها مجموعة الوظائف التي ينبغي أن تلتزم الصحافة بتأديتها أمام المجتمع في مختلف مجالاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، بحيث تتوفر في معالجة موادها القيم المهنية والدقة والموضوعية والتوازن والشمول، شريطة أن تتوافر للصحافة حرية حقيقية تجعلها مسؤولة أمام القانون والمجتمع.
المتتبع للمشهد الإعلامي في ليبيا خصوصا المشهد في مواقع التواصل الاجتماعي يجد عكس ما ذكرنا.. فهذه المنصات التي باتت فاعلة وأكثر تأثيرا من الإعلام التقليدي؛ سمحت لها هذه السيطرة بنشر كم هائل من المعلومات والبيانات الخطيرة دون مسؤولية.
وحتى نكون منصفين، الأمر لا يتوقف عند الإعلام وبعض تجاوزاته فقط، فهناك أيضا عبء يقع على كاهل السلطة.
نحن ما زلنا نعاني من العلاقة غير سوية بين الإعلام والسلطة.. فالأخيرة بأشكالها المختلفة تحاول الهيمنة على الإعلام باعتبار أن خضوعه لها يعني خضوع المجتمع برمته.
فوضى المؤسسات
عن هذه العلاقة الشائكة يرى مشرف فريق تحرير منصات التواصل الاجتماعي بقناة ليبيا الأحرار ياسين خطاب أن عدم وجود مؤسسات سياسية قائمة في ليبيا انعكس على وضع الصحافة التي باتت هي الأخرى دون مؤسسة واضحة وصلبة.. بالتالي فإن تحديد المسؤوليات على الصحفيين بات يؤخذ بشكل نسبي وفقا لمصالح وحسابات ضيقة سياسية أو حتى جهوية من قبل السلطة، سواء كانت كيانات أو أشخاص ذوي نفوذ، وذلك لعدم وجود مرجعية مؤسسية يرجع لها في كثير من الحالات.
"النقاش حول الإعلام لا يمكن عزله عن النقاش في السياسة في ليبيا، وبالتالي فإن الانقسامات التي تعيشها السياسة انعكست على الإعلام وعلى معاييره وحتى على تحديد خطوطه الحمراء.. الممنوع الحديث عنه هنا قد يُسمح لك به عند الإشارة إلى خصومهم، ويعد مخالفة قانونية تستوجب السجن في حال قمت فقط بمجرد التلميح لناحيتهم"، يقول خطاب.
انتحار مهني!
أستاذ الإعلام في جامعة بنغازي عاطف الأطرش يقول إن على الصحفي أن يكون ملما بمدى درجة عدائية السلطة نحو نشر الحقائق والمعلومات التي قد تُظهر عيوبا أو قصورا في أداء واجباتها، وتحدي هذه السلطة بشكل مباشر يعتبره المتخصصون بالمجال نوعا من الانتحار المهني، لذا على الصحفي أن يتوخى الحذر في التعامل مع مثل هذه المعطيات، وأن يجعل لنفسه طريق رجعة قبل الدخول في مواجهة مباشرة مع السلطة المتغولة.
إشكالية العلاقة بين السلطة والصحافة هي إشكالية تاريخية ولها أوجه مختلفة وليست أمرا حديثا، غير أن الحقيقة المطلقة التي لا يختلف عليها المتابعون للشأن الإعلامي هي: متى كان هناك سلطة مطلقة في المجتمع فشل الإعلام في القيام بدوره وواجباته
يوصي الأطرش باتخاذ الصحفي مبدأ التوازن في نشره لأي معلومات، بحيث يشرك من يمثل تلك السلطة في عمله الصحفي كنوع من التوريط لها من باب حق الرد المكفول.. أما استعراض العضلات وإعلان التحدي في مواجهة السلطة فيجعله هدفا سهلا في اصطياده والأمثلة واضحة للعيان.
التشديد دائما على الصحفيين أن يلتزموا بمبدأ الموضوعية في التناول الصحفي للمشكلة أو الظاهرة المتعلقة بالسلطة، بإشراك أي أطراف ممثلة للسلطة كي يخرج ذلك الصحفي من هذه المعركة سالما وبأقل الخسائر!!
هذا من جانب الإعلام.. لكن ماذا عن الجانب الآخر؟ كيف يمكن التخفيف من أثر القبضة الأمنية على الصحفيين؟ حتى في حال قدم الإعلام الحد الأدنى من الالتزام فهل يمكن الحصول على الحد الأدنى من الضفة الأخرى؟
إشكالية تاريخية
إشكالية العلاقة بين السلطة والصحافة هي إشكالية تاريخية ولها أوجه مختلفة وليست أمرا حديثا، غير أن الحقيقة المطلقة التي لا يختلف عليها المتابعون للشأن الإعلامي هي: متى كان هناك سلطة مطلقة في المجتمع فشل الإعلام في القيام بدوره وواجباته.. وهذا للأسف ما نعيشه في مجتمعاتنا.
وجود سلطة مطلقة عشوائية في ليبيا مع غياب مؤسسي للصحافة يجعل الصحفي هنا مكشوفا دون حماية، بالتالي لقمة سائغة لأجهزة وأذرع السلطة المختلفة.
حتى مع وجود ضغط مدني في بعض الأحيان في مواجهة السلطة عند القبض على صحفي أو سجنه، فإنهم يلجأون إلى أساليب أخرى.. فيكفي أن يتم اغتيال سمعة الصحفي والتشهير به عند إثارته لقضية ما.. والجمهور -نفسه الذي شكل بعضٌ منه ضغطا مدنيا سابقا- ستُسهل له شبكات التواصل الاجتماعي محاكمة الصحفي نفسه وحتى إعدامه إعلاميا دون أخذ أي اعتبار أن المتهم بريء حتى تثبت إدانته..!
تحرير الإعلام من السلطة
على الجميع أن يعي جيدا أن سبل علاج مشكلة المسؤولية والحرية في الإعلام لها طرق ووسائل عدة.. وبالتأكيد ليس من بينها إخضاع الإعلام ووضعه تحت مظلة السلطة..!
تعزيز مفهوم الحرية في وسائل الإعلام هو أن تكون الحرية مسؤولة لا حرية مطلقة، ولذلك فإنّ مبادئ نظرية المسؤولية الاجتماعية في الإعلام حاولت أنّ تحرر الصحافة بداية ثم تقوم بتحرير وسائل الإعلام من سيطرة فئات معينة من المجتمع عليها، ليكون أساسها الموضوعية، على أن تبقى هذه الوسائل بعيدة عن سلطة الحكومة.
المشكل أننا اليوم -في ليبيا على الأقل- نتحدث ونناقش ونبحث عن حلول لإيجاد أرضية تتماشى مع أمر نشأت نظريته في المجتمعات الغربية في القرن الثامن عشر..! وهو أمر يعكس لنا إلى أي مدى التخلف عن الركب في هذا القطاع.
في الختام، أرى أنه ينبغي على الإعلاميين والصحفيين في ليبيا -وأنا منهم- بذل جهد أكبر لبناء مؤسسات إعلامية مستقلة وفي معزل عن السلطات. مؤخرا بدأنا نلاحظ جهود بناء مؤسسي إعلامي ترعاه الدولة.. وإذ لا ننكر هذه الجهود إلا أن هواجسنا تبقى مشروعة اتجاهها.. فأكثر ما نخشاه اليوم أن يُستخدم الإعلام في إطار المصالح والحسابات الضيقة، وبالتالي يعزله عن وظيفته ودوره الحقيقي المتمثل في كونه صوت المجتمع..
على الجميع أن يعي جيدا أن سبل علاج مشكلة المسؤولية والحرية في الإعلام لها طرق ووسائل عدة.. وبالتأكيد ليس من بينها إخضاع الإعلام ووضعه تحت مظلة السلطة..!
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه ليبيا الإعلامي السلطة ليبيا السلطة حريات الإعلام سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة التواصل الاجتماعی على الإعلام الإعلام فی على الصحفی فی لیبیا
إقرأ أيضاً:
المرسل الوسيط وممارسة رقابته الإعلامية
نوفمبر 24, 2024آخر تحديث: نوفمبر 24, 2024
د. محمد وليد صالح
كاتب عراقي
يعرض الإعلام الهادف ما تختزنه القيّم الاجتماعية من قدرة رائعة على إرساء ملامح التعايش والتسامح واللاعنف في المجتمع العراقي، وتنطلق هذه الحاجة من إعلام حضاري يرتكز على وسائل واضحة ذات أهداف نبيلة ورسالة سامية، الذي يوصل المجتمع إلى الحالة الحضارية المنشودة، لابد من انتقاء رسائل تبثها أو ترسلها ذات تأثيرات وانعكاسات هامة تسترعي بمن يؤدي وظيفة المرسل الوسيط، توفر الثقافة الشاملة المساعدة على التمييز والإدراك لما هو مهم أو غير مهم وفهم التوجيهات العامة لسياسة الدولة ومصلحتها وقيم الناس وتقاليدهم وثقافتهم، فضلاً عن رؤية المؤسسة وأهدافها وضرورة التعبير عنها، بواسطة القراءة السريعة والتحليل المتأني والاستنباط وامتلاك الحواس المناسبة لطبيعة عمله.
ومقابل ذلك تتوافر عوامل ثانوية تنعكس على العمل ومنها الجانب الاقتصادي والقيم الثقافية والاجتماعية والسياسية فهي عوامل تشترك في تحديد اختيار محتوى الرسائل الإعلامية ووسائلها ومستويات لغتها، وتبرز هنا طرائق تصنيف بناءً على أسس عدة ومنها رصد الشخصيات والأحداث والقضايا والرأي العام المحلي والدولي، ورصد الصورة وأنشطة الشركات والمؤسسات، من خلال حجم المواد التي يتلقاها وتعدد مصادرها، مثل الصحف والمجلات اليومية سواء أكانت محلية أم عربية أم اجنبية ولها مواقعها الإلكترونية، وتنوع مصادرها تحتاج إلى سمات ومهارات فنية وتقنية ولغوية جيدة، لتغطية مجالات الموضوع السياسي والاقتصادي والاجتماعي والشخصيات العامة مما يؤثر على مقدرة الراصد على استيعابها.
وعلى الرغم مما تقدمه لائحة قواعد ونظم للبث الإعلامي الصادرة عن هيئة الإعلام والاتصالات من مواد لتنظيم عمل وسائل الإعلام المرئي والمسموع، فإن ذلك قد لا يكفي مالم يقترن بالتزام المؤسسات الإعلامية والقائمين على الانتاج الإعلامي بالتطبيقات الصحيحة في واقع ممارساتهم الميدانية من اجل ضمان فاعلية تنظيم عملها في المجتمع، ومن الجوانب التي تؤثر على منهجية ممارسة الرصد الإعلامي، ما نوع وسائل الإعلام، ما نوع المواد الإعلامية أو المحتوى، كيفية تحديد الوقت، هل يكتفي الرصد بجمع البيانات وتحليلها أم ماذا؟
إذ تجاوزت تطورات الاتصالات الحواجز التقليدية بوساطة الفضاء الرقمي المفتوح، الأمر الذي جعل المعلومات المباحة والمحظورة متاحة إلا ان الرقابة لا تزال موجودة، والتساؤل الذي يقدمه الباحث العربي صالح خليل ابواصبع، هل ان الرقابة الإعلامية والرصد الإعلامي عمل متكامل أم ماذا؟ تكمن الأهميته بتقديم ما هو غير متاح وما هو مخالف ومتابعة ما يبحث عنه المراقب مثل وسيادة الدولة وأركانها وحفظ أمنها القومي لمنع المحظورات ومعاقبة مقترفيها، بينما يقوم الرصد الإعلامي بمتابعتها وإبرازها للمتلقي من صنّاع القرار كي يستنيروا ويعرفوا ما يجري حولهم.
بالرجوع الى الأطر الموضوعة لتحسين المسارات الإعلامية للوسائل وقياس الأثر الذي يعني مدى حالة الاستجابة سلبية كانت أم ايجابية، فضلاً عن حجم الالتزام لسلامة النظام الإعلامي والسياسي القائم، فالقضايا والأولويات المهمة التي تتطلع اليها الأمم والمجتمعات في تجاهلها بالصمت وعدم النشر حولها لتقليل شأنها وإبعادها عن الاهتمام، ويحولها إلى قضية ثانوية أو مجهولة ويشغل الأفراد بغير اولوياتهم واحتياجاتهم.