استضافت مكتبة تنمية المعادي بالقاهرة، ندوة لمناقشة رواية "الباص" للروائي صالح الغازي، وذلك بمشاركة نخبة من الكتاب والنقاد والأكاديميين بينهم: الدكتور هيثم الحاج علي، والدكتور سيد ضيف الله، والدكتورة رحاب إبراهيم، والدكتور إيهاب النجدي، وإيزابيل كمال، وأسامة جاد، وحنان السيد منير، وهجة الصاوي.
الندوة التي أدارتها الإعلامية سماح عبد العزيز، وحضرها جمهور كبير من المثقفين وعٌشّاق فن الراواية، شهدت مناقشات وصفت بالثرية من قبل المشاركين الذي تناولوا الرواية بالكثير من النقد والتحليل، حيث وصف المشاركون الرواية بأنها "مغامرة سردية شائقة"، ووصفوا أحداثها بأنها تحتوي على العديد من المواقف الإنسانية اللافتة، وأن الشعر كان هو مدخل المؤلف للتعبير عن الذات.

 

مهمة لنمط السارد الزائر


وفي مداخلته بالندوة، قال الدكتور هيثم الحاج علي، إن رواية الباص للأديب صالح الغازي، تُعتبر حالة تمثيل مهمة لنمط السارد الزائر الذي يحاول أن يرصد العالم من خارجه دون التورط فيه، وذلك لأنه لا يعتبر نفسه جزءا من هذا العالم. وهو الأمر الذي يمكن النظر إليه من خلال مجموعة من السمات التي تحكم شخصية البطل هنا من حيث التقوقع على الذات الذي يظهر من خلال انعزاله اختياريا عن المجتمع من خلال استخدامه لسماعات التليفون شبه الدائم لسماع الموسيقى مثلا، ثم الترقب والتوجس حيث يبدو البطل على مدار الرواية يصنع المساحة الآمنة بينه وبين باقي الشخصيات التي بدأ في تصنيفها من حيث إمكانية إيقاع الأذى به وبحيث لم يصنع علاقة إنسانية سوى مع ابن صديقه القديم، الطفل الذي يبادله الشعور بالوحدة والاهتمام بألعاب الوجبات المفرحة، وأضاف د. الحاج: "من هنا سيبدو الاهتمام برصد التفاصيل الصغيرة في حياته والمقارنة الدائمة بين المجتمع الجديد والمجتمعات التي عاش فيها البطل من قبل كلها عناصر تتسق مع عدم وجود حبكة قصصية من النوع التقليدي، حيث تشبه الرواية فكرة اليوميات إلى حد بعيد، وهو الأمر الذي يتضافر مع فكرة محاولة عدم الاندماج في المجتمع الجديد، أو التورّط فيه، ومعاملة هذا المجتمع بوصفه حالة عابرة في حياته، هي حالة أشبه بما يحدث في الباص من حيث هو وسيلة غير خاصة يستقلها الراكب لبعض الوقت ولا يشعر أبدا بامتلاكه لها، ويتعامل مع الراكبين فيه وغن تكرروا من خلال معرفة عابرة لا يمكن أن تمتد لأكثر من ذلك. من هنا جاءت تقنيات الرواية ولغتها في صورة محايدة كأنها تتوازى مع تلك الرغبة الشديدة في الرصد الخارجي غير المنحاز، لا إلى العالم ولا إلى الشخصيات وهو ما نجحت الرواية في نقل حالته إلى القارئ".
مواقف إنسانية
ومن جانبها رأت القاصة د. رحاب إبراهيم، بأن الرواية فيها التشبث بالنفس ليستطيع أن يرى العالم بزاويته، والرواية تحتوي على رصد مواقف انسانية عالية جدا مثلا عند تواصل الغريب مع الاسرة بالفيديو عبر الماسنجر أو حادثة جلوريا التي توفي زوجها في حادث في الفلبين، واضطرت للعودة وترك العمل والاستغناء عن مصدر الدخل، لترعى ابناها الصغيرة، وطول الرواية هناك لمسات انسانية.


مغامرة سردية


وبدوره قال الدكتور ايهاب النجدي، إن رواية "الباص" مغامرة سردية جديدة، وشائقة في الحقيقة، عندما يشرع كاتب مقيم أو وافد إلى بلد خليجي في كتابة رواية، ويكون فضاؤها المكاني هو البلد نفسه الذي يقيم فيه، فإن أسئلة كثيرة تحاصر هذا العمل، وظنون أيضا، لكن أن يتلقاها القراء من المواطنين والمقيمين راضين مرضيين، كما هي الحال مع "الباص"، فهي إذن مغامرة أدبية ناجحة وتستحق التقدير.
وأضاف "النجدي" قائلاً: "المغامرة حاضرة أيضًا بقدر معتبر في الموضوع أو زاوية المعالجة، وفي الأداء السردي، فمن خلال الرواية نكتشف عالمين متقاطعين: العالم الداخلي للمغترب/ الوافد/ المقيم بوصفه نموذجًا متحقّقًا. والعالم الخارجي الذي يحيط بهذا المقيم كما يحيط السوار بالمعصم، مكانًا وبشرًا وتفاعلاً مستمرا بين ثقافات عديدة وجنسيات شتى. وتابع د. النجدي: "الوطن حاضر في الرواية، والحنين مستبدٌ به الشخصية الرئيسة، يتوسل إلى ذلك بتقنية الاستدعاء تارة، أو بالقطع المتوازي "المونتاج" تارة أخرى، تحضر المحلة المدينة الصناعية الصغيرة وذكرياتها، وبرج الساعة المعروف وأثره في الناس، أسماء الشوارع المصرية في قلب الكويت: شارع القاهرة، شارع عبد المنعم رياض".


التعبير عن الذات


ونوّهت الإعلامية سماح عبد العزيز في حديثها إلى أن الشعر مدخلا للشاعر والروائي صالح الغازي، للتعبير عن الذات والعالم الخارجي، دخل عالم الرواية بخطى ثابته وأصدر روايته " الباص"، واختيار الكاتب إلى الباص، اختيار له فلسفته، الباص حيز محدود المكان وأيضا غير ثابت ومتحرك. ودائما الروايات التي تحدث داخل حيز كما "بين السماء والارض" لنجيب محفوظ، تتحمل بالرموز، وبتعدد الشخصيات التي يكون الاختلاف سمتها أكثر من الاتفاق، فما بالنا حين يكون الباص يحمل جنسيات من كل دول العالم، أي يحمل لغات مختلفة وسلوكيات وأراء وديانات وملامح أيضا مختلفة.
وأضافت بأن رواية " الباص " توثق يوميات بطل الرواية "أحمد صابر" الذي انتقل للعمل في شركة اتصالات في الكويت، وعمل البطل في الاتصالات، استفاد منه الكاتب، في تركيزه في متن الرواية، على الهواتف في يد رواد الباص، فتحول الهاتف إلى رغبة التواصل مع الخارج والهروب والتخفي من الواقع، ورمزا للحنين، واستجلاب الوطن البعيد، وتأكيدا للغربة، وكشفا لطموح المغترب، وصنع حالة من التعاطف بين غرباء يجمعهم حيز واحد، رغم كل الاختلافات الانسانية بينهم تعاطف الغرباء تمثل في اقتراب البطل من "نورما الفلبينية"، لكن المشاعر لم تمنعه من التورط في التجسس على الأخرين، هذا التجسس رغم أنه جرم، لكنه يمكن أن يفهم على أنه نوعا من الهروب من الوحدة، والتغلغل في الآخرين.


مدخلات


وتحدث كاتب الرواية صالح الغازي، فقال إن التركيز في الرواية ومن البداية عن حالة المغترب في دولة خليجية لا يساعده أحد فيحاول التعرف بنفسه على كل شيء ومدة الرواية تقريبا شهر، هذا الشهر الأول المجهد والمتعب والقاسي. وكتبت الرواية بلغة بسيطة تناسب الحالة وتطرق أسماع القارئ العادي.
وخلال مداخلته بالندوة، طرح الدكتور سيد ضيف الله سؤالاً عن المقصود بضرورة تمثيل أدب الغربة وما المقصود أن الانترنت أصبح خرافة؟ وكان رد مؤلف الرواية صلاح الغازي أن في الخليج يوجد ملايين المصريين ولهم خصوصية ولم يعكس تجاربهم الأدب. بينما هناك صورة نمطية يتم تداولها باستمرار. أما خرافة الانترنت ترجع ان الملاحم القديمة اعتمدت على صراع الخير والشر، والوجود بين البشر والجن والمخلوقات الأخرى بينما العصر الحالي الصراع مع الانترنت كمؤثر في الحياة والعلاقات، فالبطل تجسّس على من حوله عبر الانترنت، والمغترب يتابع احوال اسرته واصحابه عبر الانترنت. وتحدث بلال علام عن اختلاف المدن في احتوائها للمغترب فمثلا هو شعر بالارتياح في مدن، بينما هناك مدن غير مريحة وتحدث عن تجربته في الهجرة. في الختام عبر الروائي الغازي عن امتنانه للحضور ولمساندة أسرته. وقدم الشكر لمكتبة تنمية والناشر خالد لطفي وفريق العمل.
يُذكر أن رواية "الباص" لمؤلفها صلاح الغازي، كانت قد حلّلت في قائمة أفضل 18 رواية عربية، ومرشحة لجائزة كتارا للرواية العربية في الدورة العاشرة. وقد صدر لمؤلفها عدة دواوين شعر منها: "شايف يعني مش خايف"، "نازل طالع زى عصاية كمنجة"، الروح الطيبة"، و"المتوحش اللي جوايا"، وكتاب نقدي ومجموعتي قصص ومقالات.

المصدر: بوابة الوفد

كلمات دلالية: من خلال

إقرأ أيضاً:

رحلة إلى جهنم .. مقطع مسلسل من رواية قنابل الثقوب السوداء

#سواليف

#رحلة إلى #جهنم
(مقطع مسلسل من #رواية #قنابل_الثقوب_السوداء )

ملحوظة: نُشرت عن دار كتبنا عام 2019
بقلمي: إبراهيم أمين مؤمن ٢٤ فبراير ٢٠٢٥

كانت الرحلة إلى القمر هي الأمل المشرق للبشرية، وهكذا اكتظت أرض القمر بأكثر من ثلاثة آلاف من أبرز التقنيين الفضائيين، الذين كانوا من خيرة الخبراء في هندسة الفضاء والتصميمات الفضائية. بينهم مجموعة من البروفيسورات الحاصلين على جوائز نوبل، وكل واحد منهم كان يحمل عبئا ثقيلًا في مشروع قد يغير مستقبل البشرية. تسلّق هؤلاء العلماء حبلي السماء عبر المصاعد الفضائية التي كانت تعمل بنظام هوائي، مما جعلها صعودًا سهلًا كما لو كانوا على قطار سكة حديد، وكانت كل مركبة مضغوطة بعناية لتوفر أجواء من الراحة والتأمين.
بينما كان بعض العلماء قد تسلّقوا قبل ذلك بوقت طويل، كانت الغالبية العظمى قد تسلقت حديثًا بناء على دعوة جاك، ذلك العبقري الذي دعا الجميع للانضمام إلى بناء محطات ليزرية على سطح القمر وتنفيذ مشروع “ناسا” الذي بدأ منذ فترة قصيرة. كان جاك ينادي عبر شاشات التلفاز، داعيًا جميع الخبراء للتوجه إلى القمر، حيث كانت هذه هي معركتهم الحقيقية. كان صوته يتردد في العالم، يحثهم على التوحد والانضمام لمهمتهم العظمى: “تسلّقوا حبلي السماء، اصعدوا سلم السماء، اتحدوا هناك، نريد الهيليوم-3، نريد أن نكمل بناء المحطات الليزرية العملاقة”.

مقالات ذات صلة ثقافة اربد تنظم ورشة للخط العربي بمناسبة اليوم العالمي للغة الأم في مركز إربد الثقافي. 2025/02/27

وصلوا أخيرًا إلى القمر، حيث كانت الأرض تحتهم مجرد نقطة زرقاء بعيدة، وبدأ العمل على التنقيب في تربة القمر بحثًا عن هيليوم-3. هذه المادة، التي كانت تُعدّ مكونًا أساسيًا للطاقة المستقبلية، ستكون سر تقدم البشرية. بالإضافة إلى ذلك، كانت توجد العشرات من الروبوتات المتطورة التي تعمل على جمع الخامات المختلفة. كانت هذه الروبوتات تُرسل الخام إلى مراكز الخبراء لاستخلاص الهيليوم-3 منه، بينما كانت المجسات الفضائية تساعد في التوغل إلى أعماق التربة القمرية.

***

بينما بدأ العمل الجاد على سطح القمر، كانت هناك العديد من التقنيات المتطورة التي تمّ تصميمها خصيصًا لهذه الرحلة الفضائية العظيمة. أولى هذه التقنيات كانت المحطات الشمسية التي تمّ نشرها في نقطة استواء القمر. كانت هذه المحطات الشمسية قد تم تطويرها بواسطة مجموعة من الروبوتات المتخصصة في صناعة الخلايا الشمسية النانوية، التي تعمل على تحويل أشعة الشمس إلى طاقة هائلة. كانت المحطتان الشمسيّتان اللتان تمّ بناؤهما تعملان بطاقة تيرا وات واحدة، مما يضمن إمداد الطاقة اللازمة لجميع العمليات على القمر.
ثم كانت هناك تكنولوجيا الاندماج النووي، والتي كانت تمثل جزءًا محوريًا من المشروع. في المناطق المظللة من سطح القمر، حيث يتواجد الهيليوم-3، كان معظم الروبوتات يعملون بشكل مستمر لاستخراج هذا العنصر الذي يعدّ ضروريًا لعملية الاندماج النووي.
لكن المشكلة كانت أن تركيز الهيليوم-3 في تربة القمر كان ضعيفًا جدًا، مما جعل المهمة صعبة. كان يتعين على الروبوتات نقل أطنان من المواد القمرية إلى مراكز استخراج الطاقة، حيث كان الخبراء فيزياء النووية يقومون بفصل الهيليوم-3 من التربة. وكانت كل عملية استخراج تتطلب جهدًا هائلًا، حيث كانت المجسات تحدد مكان الحفر، ومن ثمّ تقوم آلات الحفر بحفر أعماق تتراوح بين خمسة سنتيمترات إلى 120 سنتيمترًا لاستخراج ما يمكن من المادة الثمينة.
وفي الوقت نفسه، كانت محطات الليزر تتخذ مكانها على سطح القمر، حيث كان العمل على بناء سبع محطات ليزرية مستمرًا. كان الهدف من هذه المحطات هو إرسال حزم مستمرة من الليزر على مدار اليوم القمري بالكامل. كل محطة كان يتم تصميمها بعناية، وكل واحدة منها تحمل شعار أحد القارات السبع، في رمز لاتحاد البشرية في هذا المشروع العظيم. كانت مساحة كل محطة تصل إلى حوالي ثلاثين كيلومترًا، ما يعكس حجم وتعقيد هذه المهمة.

***

بعدما تمّ وضع خطة العمل بالكامل وبدأت الأمور تسير على نحو جاد، أصبحت جميع الأنظار متجهة نحو تحديد طاقم الرحلة الذي سيكون على عاتقه تنفيذ هذه المهمة الفضائية العملاقة. لم يكن الأمر مجرد اختيار للأفضل، بل كان له دلالات سياسية ودبلوماسية كبيرة، كما كان يحمل بين طياته رسالة للعالم كله.
في الاجتماع الذي عقدته وكالة ناسا، كان جاك يتقدّم الجميع بحماسة عالية، مستعرضًا الخيارات المختلفة. ورغم أنّ فكرة اختيار طاقم أمريكي محض كانت قد تبدو مغرية للبعض، إلّا أن جاك كان له رأي مختلف. نظر إلى الحضور وقال بصوت حازم: “لا يمكن أن تكون هذه الرحلة مجرد مسألة تخص أمريكا فقط. نحن نواجه تهديدًا عالميًّا، ولا بد من مشاركة الجميع في هذه المعركة.”
كانت هذه الجملة بمثابة الشرارة التي أثارت نقاشًا حادًا في الاجتماع، حيث اعترض بعض الحضور على هذه الفكرة بشكل علني، خاصةً في ما يخص تضمين رواد فضاء من دول مثل اليابان وروسيا والصين، الذين حملوا في ذاكراتهم تاريخًا مليئًا بالعداء والتوترات السياسية.
لكنّ جاك لم يتراجع عن موقفه. أضاف: “إنّ مشاركة هذه الدول ليست مجرّد خطوة دبلوماسية، بل هي خطوة ضرورية لضمان سلامة البشرية جمعاء. إذا تذكرنا ما حدث في الماضي، سنعرف أنه لو لم نتحد حينها لما كانت لدينا فرصة للنجاة. نحتاج إلى أن نُعلم الجميع درسًا واحدًا: إذا اتحدنا في الفضاء، سنكون أقوى على الأرض.”
حاول الرئيس تحجيم النقاش قائلاً: “جاك، هل تعتقد حقًا أن اليابان ستنسى ما فعلناه بها؟”
أجاب جاك بثبات: “نعم، أعتقد أننا يجب أن ننسى. ننسى عندما نتعظ من دروس الماضي. جميعنا أخطأنا، واليوم فرصتنا للمصالحة والتعاون من أجل البقاء. لا داعي للمزيد من الصراع.”
هذه الكلمات كانت نقطة حاسمة في تغيير مسار النقاش، مما دفع بقية الأعضاء إلى قبول الفكرة. أُقرّت التوصية باختيار طاقم متنوع يمثل دولًا من مختلف القارات، حيث تم تضمين اليابان وروسيا والصين جنبًا إلى جنب مع الولايات المتحدة. كانت تلك رسالة قوية للعالم كله: “إنها رحلة للبقاء، وليست صراعًا جديدًا”.
لكن الحوار لم يتوقف عند هذا الحد، حيث كان من الضروري تحديد الكفاءات التقنية التي يمكنها التفاعل مع التحديات الفضائية الكبرى. وبحسب خطة جاك، كانت التكنولوجيا ستعتمد على أقوى الأجهزة والمعدات المتاحة في العالم، لتكون جاهزة لأية مفاجآت قد تطرأ أثناء الرحلة.
بعد النقاشات، قرر الجميع أن يتم الإشراف على محطات الليزر الشمسية بواسطة الفرق اليابانية والروسية، حيث أبدع هؤلاء في مجال التكنولوجيا المتقدمة. أما فيما يخص المفاعلات النووية، فقد تمّ اختيار مجموعة من الخبراء الروس، الذين اشتهروا بعبقريتهم في الفيزياء النظرية.
وفي لحظة حزينة، وبعد أن انتهى النقاش وأعلن الجميع موافقتهم على القرار، بدأ جاك يتذكر ما كانت عليه الأرض منذ سنوات قليلة فقط، وكيف أنّ هذه اللحظة كانت تحتاج إلى تضحيات أكبر مما يتصورون.
ثمّ انتقل الحديث إلى الجزء الأكثر تعقيدًا في المهمة: كيف سيُشرف هؤلاء على إدارة أجهزة الدفع المختلفة، وكيف سيتم استخدام محطات الليزر لدفع الشراع الشمسي؟ كانت العملية تحتاج لتنسيق دقيق بين التخصصات المختلفة، لكن الجميع كان متحمسًا لتحقيق الهدف المشترك.
وأخيرا، وفي خضم هذا التحليل المعمّق للتفاصيل التقنية، بدأ الجميع ينسحب تدريجيًا من الاجتماع. ولكن جاك كان لا يزال يراقب الأفق في صمت، كمن يختزن في داخله الكثير من الأسئلة التي قد لا تجد إجابة شافية، لكنه كان يعرف أن الجميع كان في هذه المهمة لأجل غاية واحدة: “إنقاذ البشرية.”

***

بعد أن حسم جاك أمره، تواصل مع فريقه ليُعلمهم بالخطوات القادمة، وقرر أن الوقت قد حان لتحريك العملية بالكامل. لم يكن أمامه خيار آخر، الرحلة كانت بحاجة لأن تبدأ، والنقاط الحساسة التي تم التوافق عليها يجب أن تُنفذ فورًا. كان جاك يطمح أن يجمع تحت مظلته أكفأ العقول من مختلف أنحاء العالم، دون النظر إلى التوترات التاريخية والسياسية بين الدول. “الرحلة هي أمل البشرية، وليست ملكًا لدولة بعينها”، هكذا كان يردد دائمًا.
في اجتماع حاسم مع فريق ناسا، حيث كان يجلس حول الطاولة كبار العلماء والخبراء، أعلن جاك عن قراره الجريء: “هذه الرحلة ستشمل الجميع، ولن يكون فيها مكان للسياسات القديمة”. قد يُنظر لهذا القرار على أنه شجاعة، وقد يعتبره آخرون تهورًا، لكنه كان يؤمن أن هذه هي الفرصة الوحيدة لوضع نهاية للصراع، ولو لعدة سنوات.
ثم بدأ في عرض خطة الرحلة. “الطاقم يجب أن يتكون من جنسيات متعددة: أمريكي، روسي، ياباني، صيني، وحتى عربي. هؤلاء هم الأكثر كفاءة، وهم وحدهم القادرون على النجاح في هذه المهمة”، قال جاك، وهو يلتفت إلى الحضور الذين كانوا ينظرون إليه بعيون مشدوهة.
كان الجدل داخل الغرفة قد بدأ يدب في أرجائها، فالعالم ما زال يعاني من التوترات السياسية، وكان من غير الممكن أن يغفل أحد عن التاريخ الدامي الذي جمع بين بعض هذه الدول. ومع ذلك، كان جاك على يقين من أن المهمة أكبر من كل الخلافات، وأنها قد تكون المفتاح للسلام.
وبينما كان الجميع غارقين في النقاش، دخل الرئيس، الذي بدا مترددًا في اتخاذ قرار حاسم في هذا السياق. قال له جاك بثقة: “نعم، يجب أن نتخطى الماضي. أعتقد أنه حان الوقت لنصنع مستقبلاً أفضل. هل سنظل عالقين في دوامة الحروب والمنافسات، أم نبدأ بناء شيء عظيم للبشرية؟”
وأعلن جاك تفاصيل فريقه المختار: “سأكون قائد الرحلة، والروس سيتولون المهمة النووية، بينما اليابانيون هم الأقدر على التعامل مع تقنيات الليزر. أما العرب، فسيكون لهم دور أساسي في دعم الأنظمة الرقمية والاتصالات. ما رأيكم؟”
لكن على الرغم من الموافقة المبدئية، كانت بعض الهمسات تدور بين أعضاء الفريق. لم يكن الجميع متفقين مع الفكرة. كان هناك حديث عن مدى صعوبة إشراك بعض الدول مثل اليابان، حيث حمل الماضي الثقيل من التوترات بين الولايات المتحدة واليابان، لكن جاك، الذي كان يتنفس بعمق، قطع الحديث قائلاً: “إذا أردنا فعلاً بناء شيء أكبر، يجب أن نغفر ونبدأ من نقطة جديدة”.

***

بينما كان الاجتماع يتواصل، نظرت مجموعة الحضور إلى بعضهم البعض في صمت، حيث بدأوا يُدركون تباعًا أن ما قاله جاك ربما كان صحيحًا. شعور من الحيرة والندم تملّك الجميع، وكأنهم كانوا في حاجة إلى قوى إضافية، لحظة حاسمة في رحلتهم التي لا عودة عنها.
نهض رئيس ناسا فجأة، وتحرك مهرولًا نحو جاك، يناديه: “جاك، جاك!”
أجاب جاك في هدوء، “لبيك، سيدي الرئيس.”
قال الرئيس، “لا تغضب، أرى في عيونهم الحسرة والندم… ارجعْ، واخترْ ما تشاء.”
جاك وقف لحظة، ثم أجاب بصوت متأمل،
“سأرجع،” ثم سكت لحظة، وكأن كلمات كثيرة تملأ عقله، “لكن هناك شيء لطالما أردت أن أسالك إياه، منذ زمن، ولم أكن أجرؤ.”
أجاب الرئيس بلطف، “سلْ، لا تتردد.”
جاك بصوت خفيض، “أين مجموعة ذرات الرابيديوم الثلاث؟”
الرئيس تردد قليلاً، ثم أجاب:
“لا يعلم أحد مكانها سوى الرئيس الأمريكي ووزير الدفاع ووزير المخابرات، وأنا.”
جاك، وقد بدا عليه الاستفهام، سأل: “أين هي؟”
أجاب الرئيس بتأنٍّ،
“على الرغم من أنه ليس لدي تصريح بإخبارك، لكنني متأكد أنهم لن يغضبوا إن أخبرتك. إنها في نفق تحت الأرض، حيث يوجد ثلاثة أجهزة ليزر عملاقة، وثلاثة من أفضل خبراء فيزياء النووي، وثلاثة آخرون كفريق احتياطي.”
جاك بدت عليه علامات الاستفهام والقلق، فقال مستاءً:
“كيف تجعلون مصير البشرية في أيدي هؤلاء الخبراء فقط؟”
الرئيس، وقد شعر بثقل السؤال، أجاب مطمئنًا:
“لا يعلم هؤلاء الخبراء مكانها في النفق. هم فقط مكلفون بمهمة محددة. في حال احتجنا إليهم، سنرسل لهم ذرات الرابيديوم ليقوموا بضربها بالليزر.”
جاك تنفس بارتياح وقال:
“هذا أفضل. لكنني بحاجة إلى ذرات الرابيديوم، سيدي الرئيس، الآن.”
أضاف جاك، بعد أن تراجع قليلاً في مكانه:
“هيا بنا إلى المجلس لنكمل حديثنا.”
في المجلس، عاد جاك وجلس وسط الحضور قائلاً:
“لقد فكرتُ كثيرًا في الرحلة، وأعددتُ لها كل التجهيزات. وضعتُ الخطة كاملة، ولم أنسَ الطاقم الذي اخترته. هذه هي التفاصيل في هذه الورقة.”
وهو يقرأ قائمة الطاقم بأصوات هادئة ومتسلسلة:
جاك، قائد الرحلة، للإشراف على جميع العمليات.
“جوليا”، الروسية، لقيادة المركبة الرئيسة.
“كازو”، الياباني، للإشراف على وحدة الخدمة.
إيريكا 300، الروبوت الياباني، للإشراف على الشراع والجهاز الشامل وأداء وظائف السُبات.
أما الطاقم الاحتياطي، فقد ضم:
فرد ياباني، فرد روسي، فرد أمريكي، فرد إيطالي.
فريق الدعم: أربعة روّاد من جنسيات مختلفة: روسي، صيني، أمريكي، وعربي.
توقف جاك لحظة، وخيم الصمت على الجميع، قبل أن يهمس أحدهم:
“هل سيأتون هؤلاء جميعًا؟ سيدخلون هنا، ويشرفون على مراكز اتصالاتنا، مراكز انطلاق صواريخنا…”
جاك نظر إليه بنظرة حادة، ثم قال ببرود:
“هل لديك اعتراض؟”
ثم أكمل حديثه،
“وسيتم دفع الشراع بواسطة سبع أجهزة ليزر،
كل جهاز عليه علم قارته،
وسيتم الدفع من على القمر بواسطة محطات ليزر خاصة بالقارات السبع.”
نظرات القلق بدأت تظهر على وجوه الحضور، لكن أحدًا لم يجرؤ على الاعتراض.
“هل هناك أحد غير موافق؟”
لكن لا أحد رد، وصمت المكان لوهلة، حتى أكمل جاك: “سيدفع بإشرافكم، وإشراف اليابان، لأنكم الأقدر على صناعة الليزر.
أما مفاعلات الانشطار والاندماج، فمعظمها تحت إشراف الروس لأنهم عباقرة في هذا المجال…”
لكنه توقّف فجأة، وتشنّج جسده، ثم انفجر باكيًا بحرقة،
“رفقًا بي يا ولدي…”
قالها رئيس ناسا وهو يربت على كتفه بحنان، “فهمان يعيش بين أهل الخير من الجنّ.”
جاك تمالك نفسه، ثم أكمل بعصبية شديدة، “عباقرة في الفيزياء النظرية…”
ثم، بلهجة حازمة، قال:
“موافقون؟”
ردّ الجميع بصوت واحد: “نعم.”

***

بينما كان الاجتماع مستمرًا في نقاشاته، كان في مكان آخر، في بُعد آخر من أبعاد الكون الذي كشفت عنه نظرية الأوتار الفائقة. بُعدٍ غامضٍ، مظلمٍ، ربما هو ما يُسمى بـ “بُعد الشيطان”. داخل غرفة صغيرة محاطة بأجهزة شيطانية متطورة، كان “فهمان” يتصارع مع ذاته، في صراعٍ عميقٍ لا يمكن تفسيره بكلمات. كان الجسد ينتفض هنا وهناك، وكأن هناك شيئًا غريبًا يجري في كيانه. الطبيب الذي كان يراقب حالته من بعيد، لم يستطع تفسير ما كان يحدث له، إذ كانت هناك بعض الحالات التي لم يسبق له أن شهدها من قبل.
في عينيه كانت نظرات حائرة، بين حلم واقعي وفكرة غامضة، وبينما هو غارق في تفكيره، شعر الأطباء وكأن “فهمان” يحاول الهروب من شيء ما. هل هو هروب من الذات؟ أم هو تماهي مع المجهول الذي يراه في أحلامه؟ كانت أفكار “فهمان” تتنقل بسرعة داخل رأسه، وكأنها صورة متحركة من الأحداث التي مرت به منذ سنوات، وكأن الزمان والمكان يتداخلان في لحظة واحدة.
تخيل أن تكون في مكان بعيد جدًا، حيث لم يعد للزمان أي معنى. كان “فهمان” يدرك أن هناك أمرًا أكبر يحدث، وأنه ليس مجرد جندي في تلك اللعبة الفضائية، بل كان جزءًا من شيء ضخم، شيء لم يكن ليعلمه أبدًا لو لم يكن قد مر بهذه التجربة.
وبينما كان عقله في دوامة من الأفكار، شعر بشيء آخر، صوتًا يهمس له من الداخل. “أنت جزء من الصورة الكبرى، أنت جزء من الحل، ولكن هناك حقيقة أخرى يجب أن تعرفها”. تلك الكلمات كانت تثير فيه فضولًا كبيرًا، وهو لا يعلم حتى الآن ما هي الإجابة. لكن شيئًا ما في أعماقه كان يقول له أن كل شيء سيصل إلى نهايته قريبًا.
وكان هناك شيء في قلبه يخبره بأن تلك اللحظات، رغم غرابتها، هي التي ستحدد مصيره. ما الذي يعنيه أن تكون هنا في هذا المكان الآن؟ هل كان مجرد صدف عابرة، أم أن هناك قوة خفية تسوقه نحو هدف أكبر؟ كانت أسئلة كثيرة تراوده، لكن الإجابة الوحيدة التي كان يشعر بها هي أنه لا يمكنه الهروب من هذه المهمة.

مقالات مشابهة

  • مدير أمن محافظة اللاذقية لـ سانا: المجموعات المسلحة التي تشتبك معها قواتنا الأمنية في ريف اللاذقية كانت تتبع لمجرم الحرب “سهيل الحسن” الذي ارتكب أبشع المجازر بحق الشعب السوري
  • الكاتب عمرو دنقل لـ "البوابة نيوز": الرواية تستوعب إبداعي.. وأميل للفلسفة .. ولا أستطيع الكتابة فى شهر رمضان.. ولكنى أقرأ
  • عمرو دنقل: الرواية تستوعب إبداعي.. وأميل للكتابة الفلسفية
  • الوحش الذي أرعب العالم: من هو محمد شريف الله الذي أعلن ترامب عن اعتقاله أمس
  • رحلة إلى جهنم .. مقطع مسلسل من رواية قنابل الثقوب السوداء
  • وزارة النفط:حقل جمجمال الغازي أكبر حقل في العراق
  • خصوبة الشر.. سرد 60 عاما من الذاكرة الجزائرية بأسلوب الرواية السوداء
  • رواية في طرف الصحراء
  • ليست إسرائيل.. رواية مغايرة حول الجهة المسؤولة عن اغتيال نصر الله
  • «مغامرة القراصنة الكبرى» تعود إلى أبوظبي