إخلاء منازل المدنيين بين جدة وجنيف
تاريخ النشر: 5th, August 2024 GMT
حسام عثمان محجوب
4 أغسطس 2024
لم يكن واقعياً الظن بأن مفاوضات منبر جدة التي بدأت بعد اندلاع الحرب بأسابيع قليلة قادرة على إنهاء الحرب أو على أقل تقدير تحقيق وقف إطلاق نار قابل للاستمرار. ولكنها صارت مرجعية "أمر واقع" لكل المجهودات الدبلوماسية الدولية لإيقاف الحرب؛ مرجعية برعاتها الأمريكان والسعوديين، وبطرفي تفاوضها، القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع، وبمراقبيها وميسريها وداعميها المتزايدين، وبما توصلت له في جولاتها المتعددة من اتفاقات وإعلانات، وبما نتج عنها من فشل المرة تلو الأخرى.
والأمر كذلك، فليس منطقياً تبرع سياسيين وإعلاميين مدنيين من غير أعضاء مليشيا الدعم السريع بالتهوين من وجوب الالتزام بالتعهدات التي تم التوصل إليها في جولات جدة المختلفة، وعلى رأسها إعلان جدة بالالتزام بحماية المدنيين في السودان في 11 مايو 2023، واتفاقية وقف إطلاق النار قصير الأمد والترتيبات الإنسانية في 20 مايو 2023. منذ أشهر تكرر تبرير فطير بأنه لا يمكن المطالبة بخروج أفراد الدعم السريع من منازل المواطنين قبل الدخول في جولة تفاوض جديدة لأنهم دخلوها طلباً للحماية من هجمات الجيش ابتداءً. ثم في الأيام القليلة الماضية مع الإعلان عن جولة جنيف تبارى آخرون في الإتيان بمبررات جديدة، منها مثلاً أن الخروج من المنازل لم يرد نصاً أو أنه ورد في الإعلان الذي ليس له نفس قوة الاتفاق، وغيرها من مبررات أخرى مخزية. والأغرب أن بيانات مليشيا الدعم السريع الرسمية لم تعلن رفض إخلاء منازل المواطنين، أو عدم التزامهم بما وقعوا عليه من إعلانات واتفاقات.
من واجب الحريصين على حماية المدنيين السودانيين وإيقاف الحرب عدم السماح لكل الأطراف ذات الصلة بمنبر جدة، وعلى رأسها الجيش والمليشيا والرعاة، بالتخلي عن مسؤلياتها والتزاماتها، حتى مع علمنا بتاريخ نقضنا للعهود والمواثيق، وعلمنا بأنه لا قادة القوات المسلحة (وحكومة الأمر الواقع) ولا مليشيا الدعم السريع بحريصين على حماية المدنيين. وبدلاً من إيجاد الأعذار للمليشيا، فالأولى استحضار هذه الالتزامات وجعلها في مقدمة أي حديث عن إيقاف الحرب.
التزمت القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع في "إعلان جدة" الموقع في 11 مايو بمبادئ القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان بما فيها:
التمييز بين المدنيين والمقاتلين، وبين الأعيان المدنية والأهداف العسكرية، والامتناع عن أي هجوم يمكن أن يسبب أضراراً مدنيةً عرضيةً، والتحوط لتجنب وتقليل الضرر الذي يلحق بالمدنيين، مما يهدف إلى إخلاء مساكن المدنيين، وعدم استخدام المدنيين كدروع بشرية، والالتزام بحماية الاحتياجات والضروريات مثل المواد الغذائية والمناطق الزراعية والمحاصيل والثروة الحيوانية، وحظر النهب والسلب والإتلاف، والامتناع عن الإخفاء القسري والاحتجاز التعسفي للمدنيين، وعن التعذيب أو المعاملة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة، أو العنف الجنسي. والتزم الطرفان بضمان التزام جميع الأشخاص الخاضعين لهم أو تحت سيطرتهم بالقانون الإنساني الدولي.
ويمكن بوضوح ملاحظة أن مليشيا الدعم السريع لم تقم بأي من التزاماتها التي وقعت عليها في ذلك الإعلان، بل وقد زادت منها نوعاً وعدداً وانتشاراً. ولا يوجد مبرر لتجاوز هذه الاعتداءات بما فيها ذلك المبرر البائخ بأن هذه كلها من تبعات الحروب الطبيعية، فهذه التبعات لم تكن غائبة عن واضعي القوانين والمعاهدات الدولية والسياسيين والعسكريين. وبالطبع فإن الجيش نفسه خرق التزاماته في هذا الإعلان ويجب تحميله مسؤولياته عن خروقاته وجرائمه والضغط لإيقافها.
بعد إعلان جدة وقع الطرفان على اتفاقية "وقف إطلاق النار قصير الأمد والترتيبات الإنسانية" في 20 مايو 2023، كان من المفترض أن يسري وقف إطلاق النار لمدة أسبوع بعد يومين من التوقيع، وهو ما لم يحدث بالطبع رغم تمديد الاتفاقية. وقد حوت الاتفاقية تفاصيل عن الأعمال الممنوعة والمسموح بها أثناء وقف إطلاق النار، والتزامات الترتيبات الإنسانية. ومن أهم ما يجب ذكره من الاتفاقية تأكيدها على مرجعية إعلان جدة، وعلى جميع الالتزامات الواردة فيه. ورغم أن الاتفاقية انتهت ولم يتم تنفيذها، لكن من المهم الإِشارة لأن من الأعمال الممنوعة بحسبها استخدام المدنيين كدروع بشرية، واحتلال المستشفيات ومرافق البنية التحتية الأساسية، واحتلال مساكن المدنيين، والنهب والسلب والتخريب، والإخفاء القسري أو الاحتجاز التعسفي للأشخاص.
في 7 نوفمبر 2023 صدر بيان التزامات من المحادثات في جدة بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع، أعاد التأكيد على إعلان جدة (11 مايو)، ووضح أن المحادثات تركز على تسهيل إيصال المساعدات الإنسانية وتحقيق وقف إطلاق النار وغيره من إجراءات بناء الثقة تمهيداً للتوصل إلى وقف دائم للعدائيات. اشتهر من هذه الإجراءات احتجاز الهاربين من السجون، وكان منها أيضاً تحسين المحتوى الإعلامي لكلا الطرفين، وتخفيف حدة اللغة الإعلامية، واتخاذ إجراءات حيال الأطراف المثيرة للتصعيد والمؤججة للصراع. ووقع ممثلا الطرفين على تعهدات محددة في الشأن الإنساني في ورقتين منفصلتين.
وصلنا كسودانيين، وما زال بعضنا في الطريق، للقناعة المؤسفة أن الحرب إن توقفت اليوم فلن نستطيع العودة لمنازلنا التي احتلها الجنجويد أو دمروها غداً. ولذلك يبدو تخير التزام قوات الدعم السريع بإخلاء المنازل دون غيره من التزامات القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان الأكبر والأشمل إما تقصيراً أو تضليلاً، ويجب أن لا يخفت الصوت الذي يفضح انتهاكات القتلة والمجرمين ويعمل على إيقافها ويحملهم مسؤولياتهم حتى يحين موعد محاسبتهم عليها.
نصوص الاتفاقات:
https://www.spa.gov.sa/76895ccb96v
https://www.state.gov/jeddah-declaration-of-commitment-to-protect-the-civilians-of-sudan/
https://www.spa.gov.sa/w1905904
https://www.spa.gov.sa/N1993108
https://www.state.gov/joint-statement-on-commitments-from-jeddah-talks-between-sudanese-armed-forces-and-rapid-support-forces/
https://www.state.gov/wp-content/uploads/2023/11/SAF-Humanitarian-Commitments-Jeddah-ARABIC-Signed.pdf
https://www.state.gov/wp-content/uploads/2023/11/RSF-Commitments-Jeddah-ARABIC_Signed.pdf
husamom@yahoo.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: ملیشیا الدعم السریع وقف إطلاق النار القوات المسلحة إعلان جدة
إقرأ أيضاً:
لماذا تستميت قوات الدعم السريع في الدفاع عن جسر سوبا؟
الخرطوم- تتصاعد المواجهات بعد نحو 22 شهرا من اندلاع القتال بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في الخرطوم، في جنوب وشرق ووسط العاصمة، في حين تستميت القوات في التمسك بجسر سوبا الذي يربط الخرطوم مع شرق النيل حتى لا تحاصر وتعزل عن بعضها بين مدن الولاية.
وأطلق الجيش في 26 سبتمبر/أيلول الماضي عملية عسكرية واسعة في مدن ولاية الخرطوم الثلاث عبر جسور النيل الأبيض والفتيحاب والحلفايا نحو أهداف قوات الدعم السريع وسيطر على مواقع مهمة بوسط الخرطوم، في تحول بارز.
وتربط 10 جسور رئيسية بين مدن العاصمة السودانية الثلاثة -الخرطوم وأم درمان والخرطوم بحري- على النيلين الأزرق والأبيض ونهر النيل.
وترتبط الخرطوم مع شرق النيل بجسري سوبا والمنشية التي تسيطر عليهما قوات الدعم السريع، كما ترتبط مع الخرطوم بحري بجسور النيل الأزرق والقوات المسلحة "كوبر"، و"المك نمر".
ويفصل الخرطوم عن أم درمان جسور النيل الأبيض والفتيحاب وجبل أولياء، في حين ترتبط الخرطوم بحري مع أم درمان بجسري الحلفايا وشمبات.
ويخوض الجيش السوداني وقوات الدعم السريع قتالا ضاريا منذ 3 أيام للسيطرة على جسر سوبا الإستراتيجي الذي يربط غرب مدينة الخرطوم بشرقها.
إعلانويوم الثلاثاء، قال رئيس مجلس السيادة وقائد الجيش عبد الفتاح البرهان خلال زيارته منطقة ود أبو صالح في شرق النيل إن الجيش اقترب من بسط السيطرة على جسر سوبا.
يقع جسر سوبا على النيل الأزرق جنوبي العاصمة الخرطوم، يربط بين منطقتي سوبا "شرق وغرب"، وبين الخرطوم وشرق النيل ويبلغ طول الجسم الخرساني للجسر 571 مترا، بينما يبلغ عرضه 27 مترا بـ3 مسارات في كل اتجاه.
وبدأت عمليات إنشاء الجسر في ديسمبر/كانون الأول 2012 وتم تشغيله في يوليو/تموز 2017، وبلغت كلفة إنشائه 40 مليون دولار.
وتمتد مداخل الجسر من الناحية الغربية لمسافة 3450 مترا لتلتقي مع شارع ود مدني عاصمة ولاية الجزيرة، ومداخله من الناحية الشرقية تمتد مسافة 2300 متر لتلتقي مع شارع العيلفون المؤدي لجسر حنتوب من الناحية الشرقية لولاية الجزيرة.
يمثل الجسر جزءا من الطريق الدائري الذي يربط ولاية الخرطوم ببعضها، ضمن خطة الولاية في طريق ربط الطرق القومية والدائرية في الولاية. حيث تعبره حافلات الركاب والشاحنات من ميناء بورتسودان إلى العاصمة.
بعد سلسلة انتصارات حققها في الخرطوم الكبرى وولاية الجزيرة.. الجيش السوداني يخوض قتالا ضاريا مع قوات الدعم السريع للسيطرة على جسر سوبا الإستراتيجي الذي يربط غرب مدينة الخرطوم بشرقها
للاطلاع على المزيد: https://t.co/iy9IR9y3F3 pic.twitter.com/W1nkSfSMO1
— Aljazeera.net • الجزيرة نت (@AJArabicnet) February 6, 2025
ما الأهمية العسكرية لجسر سوبا؟يرى الخبير العسكري والأمني سالم عبد الله أن الجسور مواقع إستراتيجية مهمة في المعركة، فهي تسمح بخطوط الاتصال والإمداد عبر النيل الأزرق والنيل الأبيض والنيل الرئيسي بين مدن الخرطوم الثلاث، وأن السيطرة على الجسر يمكن أن تعني الكثير للأطراف المتقاتلة.
إعلانوفي حديث للجزيرة نت يوضح الخبير أن الجسر يعدّ إستراتيجيا بالنسبة لقوات الدعم السريع، إذ يربطها من شرق النيل بالخرطوم، ويمكّنها من الحركة والمناورة والإمداد في هذه المنطقة، وتعني سيطرة الجيش على الجسر إحكام الطوق بشكل كبير على القوات.
ماذا يعني فقد الدعم السريع للجسر؟
يعتقد مصدر عسكري، في تصريح للجزيرة نت، أن مستقبل الحرب في العاصمة يعتمد إلى حد كبير على المعارك الجارية، وإذا تمكن الجيش من إعادة السيطرة على جسر سوبا، واعتبرها -مسألة وقت- سيكون قد حرم الدعم السريع من ممر مهم بين شرق النيل الأزرق وغربه، وسيغير ذلك مسار الحرب.
وحسب المصدر العسكري -الذي طلب عدم الإفصاح عن هويته- فإن السيطرة على الجسر ستعزل الدعم السريع في جيوب محاصرة، مما يمنع عنها أي إمداد.
ويكشف المصدر ذاته أن قوات الدعم السريع في منطقة سوبا محاصرة، من الجنوب، من قوات الدعم الزاحفة من شرق ولاية الجزيرة ومنطقة العيلفون، وشمالا من الجيش الذي وصل إلى منطقة مرابيع الشريف، وشرقا النيل الأزرق، ولم يعد أمامها إلا الموت أو الهرب غربا إلى الخرطوم ومنها إلى جبل أولياء نحو غرب السودان.
وصار مصير قوات الدعم السريع في منطقة شرق النيل كاملة، التي تجري فيها عمليات نشطة ووصل الجيش إلى عمقها، مرتبطا بجسر سوبا. لأن جسر المنشية الذي يربط الخرطوم مع شرق النيل أيضا يمكن تحييده في أي وقت بعدما اقترب الجيش من الوصول إلى مدخله الشرقي، ويمكن السيطرة عليه بالنيران في أي وقت.
ويرى المتحدث ذاته أن عدم انسحاب قوات الدعم السريع يعني انتحارها، لأنه ليس أمامها أي منفذ أو معبر للإمداد أو الحركة والمناورة، بحسبه.
كيف تنظر قوات الدعم السريع لتقدم الجيش نحو جسر سوبا وشرق النيل؟بلهجة حادة نفي رئيس دائرة التوجيه والخدمات بقوات الدعم السريع، حسن الترابي، المعلومات عن تراجع قواته في ولاية الخرطوم، معتبرا أن هذه الأنباء ليست سوى إشاعات يروج لها إعلام "العدو والفلول" بهدف تضليل الرأي العام.
إعلانوفي مؤتمر صحفي تم بثه عبر منصات موالية، أكد حسن الترابي الخميس أن "الحقيقة الواضحة هي أن قواتنا تمكنت من صد هجمات العدو في جميع المحاور بشكل كامل وقواتنا متماسكة وقوية، وتواصل التقدم في كل المواقع".
ويقول مسؤول في المكتب الإعلامي لقوات الدعم السريع للجزيرة نت أنهم لا يزالون متمسكين بكافة المواقع الحاكمة والمهمة في الخرطوم وستكون المواجهات حولها عملية "كسر عظم" سواء في جسر سوبا أو غيره.