لو سئلت عن أهم الباحثين عن الحقيقة فى العالم لكان من بينهم ليبولد فايس. ذلك الصحفى الغريب الذى عمل معلماً ومترجماً وناقداً وفيلسوفاً، وعاش اثنين وتسعين عاماً يجوب الأرض بحثاً عن خلاص.
هذا الرجل النمساوى الأصل، يهودى الديانة، الذى ولد فى أوكرانيا سنة 1900، ثُم سافر بحثاً عن علم، ثم عمل ثم غاية مفسرة للوجود، فلف العالم، واختلط بالناس فى كل مكان: فى القدس والأردن وسوريا وليبيا والمغرب والحجاز والهند ومصر، وصاحب الملوك والقادة، وحارب إلى جوار الشعوب فى تصديها للاستعمار، تصدى للصهيونية، وراجع رأسه، وبدل أفكاره واعتنق الإسلام سنة 1926، وغير اسمه ليصبح محمد أسد.
ويلفت النظر فى الكتاب شهادته بشأن مصر والمصريين حيث زارها خلال العشرينيات لعدة مرات حتى أنه كتب «بت أعرف إيران ومصر أكثر مما أعرف البلاد الأوروبية».
فى زيارته الأولى عقب القبض على سعد زغلول، جاء إلى القاهرة مراسلاً لصحيفة «فرانكفورتر ذيتونج» وسكن فى بيت بحى شعبى صاحبته يونانية، ولم يكن لديه مال كافٍ لتحمل نفقات المعيشة، فعمل مترجماً للفرنسية بإحدى الشركات الأجنبية، إلى جانب عمله الصحفى.
استرعى انتباه ليبولد فايس مرح المصريين الغريب رغم سوء أحوالهم، وتساءل «كيف يمتلكون كل هذه القدرة على الضحك؟ وكيف يسايرون الأيام والزمن يوماً بعد يوم؟ كيف يسيرون فى الشوارع منتصبى القامة بخطوات مرحة فى قمصانهم الطويلة التى يسمونها جلابية بعقول حرة حتى يعتقد المرء أن كل هذا الفقر الطاحن والاضطرابات ليست سوى مزحة؟».
وفى الريف لفت نظره مشهد الفلاحات الرشيقات وهُن يعملن فى الحقول من الصباح الباكر بجد وحيوية. وعلق الرجل على المشهد مستغرباً كيف أن هؤلاء النسوة يحملن فوق رؤوسهن أوانى المياه الفخارية دون أن يسندنهن بأياديهن والبسمات تعلو وجوههن. يقول «ليبولد فايس» فكرت فى هذا المشهد مقرراً أنه لا يضاهيه جمالاً فى العالم أى مشهد من أعظم منشأة معمارية إلى أفضل كتاب معرفى».
فى لقائه مع الشيخ مصطفى المراغى، شيخ الأزهر، وفى محاوراته بشأن الدين مع نماذج من العامة لاحظ تسامحاً غريباً، وقبولاً للحوار العقلانى. وفى القطار كان شاهداً على حوار متزن وهادئ وحضارى بين عمدة مصرى لا يقرأ ولا يكتب، وخواجة يونانى بشأن تعدد الزوجات فى الإسلام، وراقه أن يمتلك العمدة المصرى كل هذه الرزانة والقدرة على الحديث بمنطق ودون تصعب.
كان الجمال حاضرا فى مصر رغم الاحتلال والاضطرابات وسوء الحال، وليس أدل على ذلك من أن ليبولد فايس أصيب بمرض الملاريا، وظل يخضع للعلاج فى منزله البسيط بالقاهرة، ولم يعنه على ذلك سوى صوت البيانولا التى يعزفها درويش بسيط بآلة غريبة لتصدر ألحاناً شجية وعذبة دون نوتة موسيقية.
ولفت نظره أيضاً أن المرح والتقبل وحب السخرية الذى كان يسيطر على المصريين لم يكن يعنى خضوعاً وانسحاقاً أمام السلطة المستبدة، فحسب تعبيره «كانت مصر فى حالة غليان مستمر ضد الوصاية البريطانية عليها. وكانت القنابل تلقى كل يوم على أماكن يرتادها الجنود البريطانيون، وكانت سلطات الاحتلال ترد بقسوة وتعسف وعنف مستخدمة الاعتقال والنفى وإغلاق الصحف وسياسات الترهيب، غير أن ذلك كله لم ينل من عزم المصريين لنيل حرياتهم».
كانت بصيرة الرجل حاضرة وهو يصف شعوباً وأمماً رآها وعايشها، تغيرت سلوكياتها وتبدلت أفكارها وتعرضت بعض سماتها المجتمعية لعواصف تجريف غريبة على مدى عقود تالية، وربما كان أهل مصر منهم.
والله أعلم
[email protected]
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: أهم الباحثين الهند ومصر مصطفى عبيد
إقرأ أيضاً:
تحية واجبة للشرطة المصرية
بعد غد السبت يوافق ذكرى غالية فى سجل الوطنية المصرية، وهى ذكرى معركة الإسماعيلية المجيدة التى تجسدت فيها بطولات رجال الشرطة وقيم التضحية والفداء والاستبسال دفاعاً عن تراب الوطن وكانت وبحق ملحمة كفاح ونضال ستظل على مر العصور شاهدة على نبل البطولة وشرف الصمود.
فى هذا اليوم منذ 73 عاماً، الذى يوافق 25 يناير 1952، سطرت قوات الشرطة المصرية ملحمة باسلة لانتصار الإرادة المصرية على المحتل البريطانى، الأمر الذى كان الشرارة التى انطلقت فى سبيل تحرير البلاد من احتلال دام أكثر من 70 عاماً. فى عيد الشرطة نتذكر المواقف الباسلة لجنود أمننا الداخلى، ونقول لهم كل عام وكل شرطى فى مصر بخير وعافية، أدام الله قوتكم ووجودكم، فتحية إجلال وفخر لرجال مصر الأوفياء الذين يضحون براحتهم من أجل أمن المواطنين، ونوجه بهذه المناسبة تحية عطرة إلى روح الزعيم فؤاد سراج الدين وزير الداخلية فى هذا الوقت والذى أهدى المصريين هذا اليوم أو هذا العيد الذى يحتفل به المصريون شعبياً ورسمياً، ونوجه التحية إلى وزير الداخلية الحالى اللواء محمود توفيق، العين الساهرة على أمن مصر على امتداد مواقع العمل الأمنى، فى كافة أرجاء البلاد، ويواصل رجاله من أبناء هيئة الشرطة الجهد والعطاء والتضحية فى أداء رسالتهم العظيمة فى الحفاظ على أمن واستقرار الوطن.
فمن نعم الله علينا نعمة الأمن الذى لا يستطيع أى إنسان أن يعيش بدونه لقوله تعالى: «فليعبدوا رب هذا البيت الذى أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف»، وكان دعاء سيدنا إبراهيم عليه السلام: «وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمناً واجنبنى وبنىّ أن نعبد الأصنام»، فالأمن يعتبر من مقومات الحياة ولا يستطيع الإنسان أن يعيش بدونه كما أخبر بذلك الرسول صلى الله عليه وسلم، حيث قال: «من أصبح منكم آمناً فى سربه، معافى فى بدنه، عنده قوت يومه، فقد حيزت له الدنيا بحذافيرها».
فى هذا اليوم لابد أن نعترف بأن الوطن أمانة فى أعناقنا جميعاً، وهو ميراث الأجداد والأسلاف، فلنحافظ عليه ولندافع عنه ولنقم بدورنا كما أمر الله، ولنعُد إلى الوراء كيف كانت بلادنا قبل سنوات، لقد فقدنا فيها الأمن والأمان فى ظل حكم فاشى فاسد فاشل، خلال فترة جماعة الإخوان الإرهابية، ونحمد الله أنه لم يدم إلا عاما واحدا وانقشع كما ينقشع الظلام بفضل تكاتف الشعب مع الجيش والشرطة لطرد عصابة حكم المرشد، فى فترة هذه الجماعة كانت الأرواح تزهق دون وازع من دين، حتى قيض الله رجالاً مخلصين من أبناء هذا الوطن وقدموا جهوداً كبيرة فاستتب الأمن وانتعشت التنمية.
الأمن كنز ثمين، فيه تحفظ الأنفس، وتصان الأعراض والأموال، وتأمن السبل وتقام الحدود، والأمن نعمة منَّ الله بها على عباده فبدونها لا يهنأ عيش، ولا يتحقق استقرار أو تنمية ولا يكون هناك ازدهار، فقد يتحمل الإنسان الفقر والجوع والعطش ولكنه لا يمكن أن يعيش فى غياب الأمن.
تحية لأرواح شهداء الشرطة الذين انتصروا للوطن فى 25 يناير 1952، و25 يناير 2011، و30 يونيو 2013، وتحية لزعيم مصر الرئيس عبدالفتاح السيسى الذى بنى مصر الجديدة بعد إنقاذ الوطن من قبضة الإرهاب وحوّل المحنة إلى منحة، وحفظ للمصريين كرامتهم.