جريدة الرؤية العمانية:
2025-02-07@10:25:47 GMT

كيف تنازلنا عن لُغتنا؟!

تاريخ النشر: 4th, August 2024 GMT

كيف تنازلنا عن لُغتنا؟!

 

د. صالح الفهدي

 

في أحد المكاتب الاستشارية وبعد أن أنهينا الحديث مع إحدى المهندسات التي كُنا نظنَّها طوال الوقت من الجنسية اللُّبنانية، قالت دون أن نسألها لأنَّ الأمر بَدَا محسومًا لدينا: أنا سيرلانكيَّة!، حينها فتحنا أعيننا دهشةً، ولم نكد نصدِّق أنها سيرلانكيَّة بلسانٍ لُبناني! فسألناها: كيف ذلك؟ قالت: عملتُ في لُبنان عدَّةَ سنوات ولهذا أتحدَّث بلسانهم.

تذكَّرتُ عندئذٍ مشاهد العاملات الآسيويات والأفريقيات في لُبنان وهنَّ يتحدَّث باللسان اللُّبناني الذي لا يُفرِّق بينه وأبناء لُبنان.  

هُنا تساءلت: كيف يقضي الوافدُ في مُجتمعاتنا الخليجية جُلَّ عمرهِ، وهو يتحدَّث بلغةٍ مُكسَّرةٍ لا هي بعربيةٍ ولا بأجنبية، وإِنَّما هي من اختراعنا نحن؟! فلا تحدَّثنا بلغتنا إليه، ولا حدَّثناهُ بلغته؛ بل اخترنا لغةً هجينةً مركَّبةً، كلماتها معوجَّة، وحروفها مكسَّرة، وعباراتها مُلفقَّة!!

لقد حَرص اللُّبنانيون على لهجتهم فتعلَّمها الأجنبيُّ منهم بإتقان، وتنازلنا نحنُ عن لهجتنا فأردنا أن نصل والأجنبي إلى طريقٍ وسط، فكان هذا الطريقُ غير معبَّد؛ بل مليءٌ بالحفرِ، والمطبَّات، والأحراش!

قد تكونُ نيَّتنا في ذلك طيِّبة، وهي أن لا نكلِّفَ الأجنبي عناء فكِّ رموز لغتنا ولكننا أسأنا في ذلك أيَّما إساءة، فلا تكلَّمنا بلغتنا العادية أمامه وكسبنا بذلك ملايين من المتحدثين بلغتنا العربية أو بلهجاتنا العربية التي تتفاوتُ في نطقها وتشتركُ في كلامها غالبا، ولا نحنُ تعلَّمنا لغته فكسبنا لغةً أُخرى إلى لغتنا؟!

في إحدى مَنَاجِر الخشب، كان الزبون يتحدَّث إلى الصيني مالك المنجرة بذات اللغة الهجينة المكسَّرة التي يتحدَّثُ بها مع الآسيوي وهو يشرحُ لهُ ما يريدُ بمشقةٍ ومُعاناةٍ، فلمَّا انتهى ردَّ عليه الصيني المسلم بلغةٍ عربيَّة فصيحةٍ؛ بل إنِّه روى له حديثًا شريفًا عن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "المسلمون عند شروطهم" ففغر الزبون فَمَه، وجحظت عيناه وهو لا يكاد يُصدِّق ما يسمع، وليس ذلك فحسب؛ بل وشعر في نفسه بالدُونيّة، فكيف له وهو العربيِّ أن يتحدَّث بلهجةٍ مقطَّعة الأوصال، ملفَّقة الكلمات، وكأنَّها مصنوعةٍ من الخردةِ في إحدى الصناعيات، في حين أن صينيًا مُسلمًا يتحدَّث بلغةٍ عربيَّة فصيحةٍ مضمِّنا كلامه حديثا شريفا؟!

تنازُلُنَا عنْ لغتنا أرخَصَ فينا قيمة لغتنا، وهي رأسُ هويتنا، وميِّزةُ خصوصيتنا، فأصبحَ الكثيرون منَّا يتحدَّثون بالإنجليزية دون مناسبةٍ مع بعضهم البعض ليس لأنهم يتقنونها بل لأنهم أرخصوا لغتهم فهانتْ عليهم، في مقابل تفضيلهم الأجنبية على لغتهم الأم لأنهم يشعرون -وهمًا- أن الأجنبية علامة على التَّحضُّر، وإشارة إلى العصرنة، ولكن ذلك ليس إلا نكرانًا للسانهم الأم، وجحودًا لهويتهم الأصل!.

لِمَ يحرصُ أجنبيٌّ على التحدِّثِ باللغةِ العربيةِ الفصيحة بعد أن يبذل مشقَّةً في تعلُّمها، أمَّا ابنها -ابن العربيَّةِ- فيراها غريبةً، شاذَّةً على لسانه، وهي أصلُه، ويراهُ المجتمعُ متصنِّعًا، متكلِّفًا إن تحدَّث بها؟!! لقد سألتُ ألمانيَّا يتحدَّثُ اللغة العربية عن السَّبب الذي جعلهُ يتعلَّمها فقال: "ذلك سرٌّ إلهي أَودعهُ اللهُ في صدري"، الله ما أجملها من عبارة، ويضيف: "لقد أحببتُ العربيَّة، وأحببتُ كتابةَ حروفها" ووجدتهُ قد كتبَ في بطاقةِ أحد الطلَّاب عبارة: "بارك الله فيك" إلى جانبِ عبارات كتبها بعض العمانيين بالإنجليزية!.

إنَّ لدينا من العمانيين أو غيرهم في المجتمعات الخليجية من يتحدَّثون في بيوتهم مع أبنائهم باللغة الإنجليزية، ولقد شهدتُ على ذلك، ليس بسبب العاملات الأجنبية وحسب؛ بل لحرص بعض الآباء والأمهات على أن يُرضعوا أبناءهم اللغة الأجنبية منذ نعومة أظفارهم، وهم لا يتصوَّرون كيف ستكون عقلية أبنائهم أو توجُّهاتهم حين يكبرون، فاللغةُ احتلالٌ للعقلِ، تُملي عليه الأفكار، والتوجُّهات، والسلوكيات، ثم يصبحُ مُغتربًا، مسلوبَ الثقافة؛ بل مسلوب الانتماء والولاء!!

حدَّثني أحد الإنجليز جنسيَّةً- العُمانيين قلبًا وروحًا- يقول: "إنني وبعد أن أصبحتُ أتحدَّث اللهجة العُمانية بإجادة، قُلتُ لنفسي: كيف أتحدَّث باللهجةِ العمانيةِ وأنا غيرُ مسلم، فدرستُ الإسلام في ستةِ أشهرٍ، ثم أعتنقتُ الدين الإِسلامي". أرأيتم فِعل اللغةِ في الإِنسان؟ هذه رسالة لعل بعض أولياء الأمور أن يعتبروا منها، ويعلموا الأثر المترتِّبَ على دفع أبنائهم دفعًا لإتقان الأجنبية على حساب لغتهم الأم العربيَّة.

لقد رأينا أقليات في بلاد الغربِ لم تُستلب منهم لغتهم الأم؛ بل حافظوا عليها في مجتمعات الأقلية، فلم تُنسهم السنين الطوال، واختلاطهم بالمجتمعات الأجنبية لغتهم العربية، في حين أن البعض في مجتمعاتنا العربية قد تغرَّبوا، وليس ذلك إلّا إنقاصًا من أنفسهم، يقول الشاعر الصيني Chen Lei (b.1939) مخاطبًا الذي يتحدَّث الإنجليزية:

خُذ نظرة: تعال إلى أمريكا

وتحدَّث بالشنغاهية، أو الكانتونية، أو البكِّينيَّة

هل يكترثُ أحدٌ بتحدِّيك للتحدُّثِ بها؟!

انظر إذن: لماذا أنت وحدك من يتصرَّف هكذا؟

يمكنك أن تخدش لحمي

لكنك لا تستطيع أن تسلبني حقِّي في لغتني

صوتي هو إحساسي

لغتي هي تفكيري.

تنازُلُنا عن لغتنا يعني تنازُلَنا عن هويَّتنا بصراحةٍ ووضوح، وكلُّ من لا يضعُ قيمة الأفضلية للغته التي نشأ عليها آباؤه وأجداده فهو متنكِّرٌ لهم، جاحدٌ للسانهِ، مضيِّعٌ لهويته.

علينا أن نتحدَّث مع الآسيوي بلغتنا اليومية دون تكسيرٍ، ولا تغيير، كما يتحدَّث اللبنانيون وغيرهم معه، وعلينا أن نعلِّم أبناءنا أن لغتهم الأم تعني هُويتهم فإِن ضيَّعوها فقد ضيَّعوا أنفسهم، أما لمن يحسبُ أنني أدعو لعدم تعلُّم لغةٍ أُخرى فأقول: بل أنَّ الأمر محسومٌ في قيمةِ تعلِّم لغةٍ أُخرى خاصَّة الإنجليزية فهي اللغة الرسمية الأُولى، ولكن معقل كلامي هو أن باختصار علينا أن نتوقف عن التحدث بلغةٍ هجينة مع الآسيوي، وأن نتحدث مع متحدثي الإنجليزية بها إن كُنا نستطيع، وأن نعلم أبناءنا أفضلية لغتنا العربية على كل لغةٍ في العالم.

رابط مختصر

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

ساعتان مع رئيس الجامعة الأم!!

ساعتان مع رئيس الجامعة الأم!!
بقلم: د. #ذوقان_عبيدات
بدعوة من جمعية الشؤون الدولية، كان لنا فرصة الاستماع إلى د. نذير عبيدات رئيس الجامعة الأردنية، وبحضور عدد من أصحاب الدولة. والتربويين، وكأنك تستمع إلى مفكر تربوي، وليس طبيبًا ناجحًا، مفكر وقائد تحدثت عنه إنجازات عديدة قيل: إنها أعادت للجامعة الأردنية ألقها ومكانتها. تحدث رئيس الجامعة في موضوعات عديدة، أقتطف ما كان لها صلة بالتغيير، والتجديد، والتطوير في مجالات الفكر التربوي، والسياسات التغييرية التي قادها! متجاوزًا الإنجازات التي يعرفها كل أردني في تطوير بنى الجامعة المادية، وتحسين تصنيفها العالمي!

(١)

مفهوم جديد للجامعة

تغير دور الجامعة من إعداد الطلبة باتجاه معين، إلى بناء شخصيات مفكرة، مرنة، قادرة على إحداث التغيير بأنفسهم، وتقبل التغيرات الخارجية ، والتعامل معها بنجاح! لقد انتهى عهد حامل الشهادة، فالعمل لن يتوقف عند السؤال عن الشهادة، بل سيسأل طالب العمل أسئلة تتعلق بماذا تستطيع أن تضيف لنا؟ وما المهارات التي يمكنك ممارستها في مؤسساتنا! فالجامعة تتوجه لأن تكون جامعة مهارات، لا جامعة شهادات. فالعمل الجامعي المستقبلي بناء للخرّيج وتزويده بمهارات العصر ومهارات المستقبل، وفي مقدمتها: كيف تنتج عملك الخاص، وكيف تخطط لذلك؟!
نعم، ركز الرئيس على بناء عقلية مفكرة مخططة ذات رؤيا مستقبلية!
والجامعة الحديثة لا تعمل بمعزل عن شراكات مع سوق العمل، ومؤسساته الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية، ومع شراكات عربية وعالمية. فالأستاذ الجيد المأمول يقيم نصف وقته في السوق، وكذلك الطالب، فالإعداد والتعلم ليسا محصورين في قاعات التدريس بمقدار ما هما تعلم حقيقي في مختلف حقول الاقتصاد، واهتمامات المجتمع!
(٢)
مجتمعات البحث والتعلم
يقصَد بهذه المجتمعات شراكة مع باحثين من مختلف التخصصات، ومن الأكاديميين والتطبيقيين، والتقنيين، وبشراكة مع مؤسسات الجامعة الأردنية، والجامعات الأخرى. هذه المجتمعات تعمل معًا، وتتبادل الثقافة، والفكر، والإنجاز!
مجتمعات تعمل في بحوث تطبيقية تسهم في حل مشكلات المجتمع، ركز الرئيس على هذه المجتمعات، وإمكانات تقديم حلول لمشكلات مثل: الزراعة، والمياه، والمواصلات، والأبنية، والتعليم، والصحة، وغيرها.
ولا شك أن هذا التوجه واعِد، ومطلوب، نأمل أن يتوسع ويحفز جميع الهيئات التدريسية على تشكيل مثل هذه المجتمعات!
(٣)
ما بين التخصصات
ركز الرئيس على أهمية تشكيل مجتمعات من تخصصات مختلفة، بل وبناء هيئات تدريسية متنوعة الأعداد! فما المانع من تعيين أستاذ يحمل بكالوريوس فيزياء، ودكتوراة علوم سياسية، أو بكالوريوس لغة إنجليزية، ودكتوراة قانون! نحن بحاجة إلى خبرات متنوعة في الكلية الواحدة! انتهى عهد التضييق في المسرب الواحد: التخصص نفسه في البكالوريوس، والماجستير، والدكتوراة! إن وجود أساتذة من خلفيات متنوعة سيدفع بالكلية إلى سرعة التطور، ففي كلية التربية مثلًا نحتاج فنانًا، ومهنيّا، ومهندسًا، ومحاميًا، ورياضيّّا، ففي تفاعلاتها انطلاقة أكثر جرأة وإبداعًا.
(٤)
أفكار نقاشية
ساهم الجمهور في استخلاص أعمق ما لدى نذير عبيدات من أفكار، ودارت أفكار حول برامج ومناهج، ودبلومات تتم من خلال تقديم سندويشات تربوية، وأكاديمية قصيرة، وفق حاجات محدودة! وأفكار أخرى حول جامعات تفتح ليلًا بما يسمح بالتعلم المستمر!
أعجبني ذلك التباين بين من يهتمون بالمعدلات، والعلامات، والامتحانات، والشهادات، وبين من يهتمون بالمهارات، والخبرات!
سوق العمل لن يسأل في المستقبل وربما الآن: ما شهادتك؟
بل بماذا تستطيع أن تُضيف لي!!
فهمت عليّ؟

مقالات ذات صلة الإبداع والابتكار… ليسا إلهامًا فقط! 2025/02/04

مقالات مشابهة

  • رئيس جامعة الأزهر يشارك في افتتاح مجالس تقريب التراث بكلية اللغة العربية بالقاهرة
  • استعدادا لمبادرة " مدرستي تكتب وتقرأ بطلاقة " مدير تعليم مطروح تتابع ورش العمل لمعلمي اللغة العربية
  • جدول توزيع منهج اللغة العربية للصف الأول الإعدادي الترم الثاني
  • مركز تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها ينظم زيارة لمعرض الكتاب
  • معرض الكتاب يناقش مستقبل اللغة العربية
  • رؤية مستقبلية للغة العربية.. ندوة بمعرض الكتاب عن دور الذكاء الاصطناعي في التطوير
  • مركز تعليم اللغة العربية ينظم زيارة للطلاب الوافدين إلى معرض القاهرة الدولي للكتاب
  • أم الولد
  • الزعبي في رابطة الكتاب فرع إربد يتحدّث عن تجربة السجن / صور
  • ساعتان مع رئيس الجامعة الأم!!