التَّطرُّف.. الجذور والعواقب
تاريخ النشر: 4th, August 2024 GMT
د. رضية بنت سليمان الحبسية
في ظل التحديات المتزايدة التي تواجه المجتمعات اليوم، يبرز التطرف بكافة أشكاله كواحد من أهم التهديدات التي تُنذر بزعزعة الاستقرار الاجتماعي والسياسي. فالتطرف، سواء كان ذا طبيعة دينية أو سياسية أو اجتماعية، يُمثل انحرافًا عن قيم الوسطية والاعتدال التي تشكل الأساس المتين للمجتمعات الآمنة والمزدهرة.
هنا، تبرز الحاجة الملحة لمواجهة ظاهرة التطرف بشتى أشكاله؛ باعتبارها تهديدًا خطيرًا للسلم الاجتماعي والاستقرار الوطني؛ فالتطرف لا يجلب سوى الكراهية والصراع والعنف، ويقوّض أسس التنمية والرفاه للمجتمعات. لذلك، يتعين علينا أن نتساءل: لماذا يجب رفض التطرف بكافة أشكاله؟ وما هي الآليات الفعّالة لمواجهته والحدّ من انتشاره؟
إنَّ ظاهرة التطرف لا تنشأ من فراغ، بل لها جذور عميقة تتشابك فيها مجموعة من العوامل والأسباب المعقدة. فعلى الصعيد الاجتماعي، يُعدّ الإحباط، الاغتراب، الفقر، وانعدام العدالة من أبرز العوامل المُساهمة في ظهور التطرف. فالأفراد الذين يشعرون بالحرمان والظلم المجتمعي غالبًا ما يكونون أكثر عرضة لجذب الأيديولوجيات المتطرفة التي تقدم لهم شعارات براقة لإنقاذهم من واقعهم المزري.
وعلى الصعيد السياسي، فإنَّ التطرف غالبًا ما ينشأ في ظل أنظمة سياسية قمعية تفتقر إلى المشاركة الحقيقية للمواطنين في صنع القرار. وفي ظل غياب المنافذ السياسية السلمية للتعبير عن الآراء والمطالب، قد يلجأ البعض إلى العنف والتطرف كوسيلة للمطالبة بحقوقهم. أما على الصعيد الثقافي، فإنَّ التطرف يزدهر في بيئات تتسم بالجهل والتعصب وضعف الوعي والمعرفة، فالافتقار إلى التربية والتثقيف الذي يُنمِّي قيم التسامح والتعددية، يجعل الأفراد أكثر عُرضة لتبني الأفكار المتطرفة التي غالبًا ما تعزز من الانقسام والكراهية.
ومن جانب آخر، فإن المتطرفين أنفسهم يمارسون دورًا مهمًا في استغلال هذه الأسباب والعوامل لصالحهم؛ حيث يوظفون المشاعر والأفكار المتطرفة لتحقيق أجنداتهم الخاصة، سواء كانت سياسية أو دينية أو اجتماعية، وبذلك، يُشكل التطرف ظاهرة مُعقدة تتداخل فيها عوامل اجتماعية وسياسية وثقافية، يتم استغلالها من قبل الجهات المتطرفة لإلحاق الضرر بالمُجتمع ككل.
مخاطر ظاهرة التطرف على مختلف الأصعدة، تؤكد ضرورة التصدي لها بشكل جدي وفعّال. فعلى الصعيد الاجتماعي، يُعدّ التطرف من أبرز العوامل المؤدية إلى تفكك النسيج الاجتماعي وتآكل الهُوية الوطنية، فالتطرف يقوم على نشر الكراهية والعنف بين أبناء المجتمع الواحد، مما يؤدي إلى انقسام المجتمع وتصاعد حدة الصراعات والتوترات الداخلية. أما على الصعيد الأمني، فإن التطرف يشكل تهديدًا خطيرًا للاستقرار والأمن، حيث يعمل على تأجيج النزاعات والصراعات المسلحة. فالجماعات المتطرفة غالبًا ما تلجأ إلى العنف والإرهاب كوسيلة للضغط والتأثير على السياسات والقرارات، مما يؤدي إلى زعزعة الأمن والاستقرار في المجتمع.
وعلى الصعيد الاقتصادي، فإن التطرف له تأثيرات سلبية مُدمرة؛ حيث يؤدي إلى تراجع معدلات التنمية والاستثمار؛ إذ إن البيئة غير المستقرة التي ينشئها التطرف تجعل الاقتصاد عرضة للركود والانكماش، مما يفقد الدولة فرص التقدم والتطور الاقتصادي. أما على الصعيد السياسي، فيُمثل التطرف تهديدًا حقيقيًا للحكومات؛ حيث يعمل على زعزعة استقرار المؤسسات السياسية وتقويض أركان الدولة؛ فالجماعات المتطرفة غالبًا ما تسعى إلى الإطاحة بالأنظمة، واستبدالها بأنظمة شمولية تتماشى مع آيديولوجياتهم المتطرفة.
إنَّ هذه المخاطر المتعددة التي ينطوي عليها التطرف تؤكد على ضرورة اتخاذ إجراءات عاجلة وشاملة للتصدي لهذه الظاهرة الخطيرة، فالتصدي للتطرف هو مسؤولية وطنية شاملة تتطلب تضافر الجهود على مختلف المستويات السياسية والاجتماعية والأمنية والاقتصادية. وفي هذا المقام نستشهد بمضمون النطق السامي للسلطان الراحل قابوس بن سعيد- طيّب الله ثراه- الذي أكدّ على رفض المجتمع العُماني لكافة أشكال التطرف والتعصب والتحزب، مهما كانت مسمياتها أو دوافعها، فقد شبهها بـ"نباتات كريهة سامة" التي لا تنبت في "التربة العُمانية الطيبة"، والتي لا تقبل إلا الأمور الإيجابية الطيبة، ولا تتسامح مطلقاً مع "بذور الفرقة والشقاق". إنّ هذه المقولة الحكيمة تعكس عمق الرؤية السياسية والاجتماعية لصاحب الجلالة، والتي ترتكز على التسامح والوحدة الوطنية كأساس متين للهوية العُمانية.
والمجتمع العُماني- بحسب هذه الرؤية- لا يقبل أي محاولات للانقسام أو الفرقة؛ بل يرفض بشدة كل أشكال التطرف والتعصب والتحزب، مهما كانت مُسمَّياتها أو دوافعها، باعتبارها "نباتات كريهة سامة" لا مكان لها في ربوع هذه البلاد الطيبة. وبذلك، أكد السلطان قابوس على ثوابت المجتمع العُماني المتمثلة في التسامح والتعايش السلمي كقيم أساسية لا يمكن التنازل عنها.
وفي هذا الشأن، فإن سلطنة عُمان تُظهِر بقيادتها الحكيمة التزامًا قويًا في مواجهة ظاهرة التطرف والتشدد الفكري، فمن خلال الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الإرهاب، تلعب السلطنة دورًا محوريًا في تنسيق الجهود الوطنية لمواجهة هذه التهديدات، وتؤكد هذه الاستراتيجية على موقف السلطنة الثابت في مكافحة الإرهاب وأسبابه، وتعزيز التصدي لتمويله، كما تهدف إلى ضمان استمرارية المحافظة على سلامة البلاد من أي أنشطة إرهابية، والوقاية من تأثر المواطنين والمقيمين بالأفكار المتطرفة. وبهذه الجهود المتواصلة، تؤكد سلطنة عُمان التزامها بحماية أمن واستقرار البلاد، وتعزيز دورها كنموذج لتعزيز المعتدل والحوار بين الثقافات في المنطقة.
وفي مجال التربية والتوعية، تحرص الأسرة العُمانية على تعزيز قيم التسامج، احترام الاختلاف، والتعايش السلمي مع الآخرين. وبالتوازي مع ذلك، تأتي المؤسسات التعليمية لتعزز هذه المبادئ من خلال المناهج الدراسية والأنشطة اللامنهجية؛ إذ تُركِّز على تنمية قيم الاعتدال، التفاهم المتبادل لدى الطلاب، وتُشجعهم على المشاركة في برامج الحوار والتواصل بين مختلف الثقافات. ومن خلال مختلف وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة، تُسلط السلطنة الضوء على القيم الأخلاقية والاجتماعية الأصيلة في الثقافة العُمانية، كما يؤدي المسجد دورًا بارزًا في مواجهة الأفكار الضَّالة، والتأكيد على أهمية التعايش السلمي بين مختلف الأديان والثقافات، وتعزيز قيم الوسطية والاعتدال في الفكر والممارسة.
وفيما يتعلق بالتنمية المستدامة والتنمية الشاملة، فإن رؤية "عُمان 2040"، وما تتضمنه من أولويات استراتيجية، تتقدم سلطنة عُمان لتكون في مصاف الدول المتقدمة بخُطى وثابة، لتحقيق الاستقرار الاجتماعي، الاقتصادي، السياسي، والأمني. وفي ذلك، فقد أطلقت الحكومة برامج طموحة، واعتمدت استراتيجيات وطنية؛ لتعزيز التنمية الاقتصادية والاجتماعية في مختلف المحافظات، وتطبيق منظومة التشريعات والقوانيين التي تحفظ للبلاد أمنه واستقراره.
وبهذه الجهود الشاملة والمتكاملة، تؤكد سلطنة عُمان التزامها الراسخ بمكافحة التطرف والحفاظ على أمن المجتمع وسلامة نسيجه الوطني، فالهوية العمانية المتسامحة والمعتدلة، تمثل خير سياج لصيانة قيمنا الأصيلة في مواجهة أي محاولات للتطرف أو الانحراف. وفي هذا المقام، فإننا نستدل بالمقولة الحكيمة لصاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- أطال الله في عمره- في خطابه بمناسبة الإنعقاد السنوي الأول للدورة الثامنة لمجلس عُمان 2023، التي أكدّ فيها العلاقة الوثيقة بين التحديات المجتمعية وضرورة التصدي لها بشكل متكامل؛ إذ إن جلالته يؤكد على أهمية رصد تلك التحديات وتأثيراتها السلبية على المنظومة الأخلاقية والثقافية للمجتمع العُماني، وربط ذلك بضرورة الدراسة والمتابعة المستمرة لها، بهدف تعزيز قدرة المجتمع على مواجهتها وترسيخ الهوية الوطنية والقيم الأصيلة.
إنَّ هذا النهج الشمولي والحكيم يعكس عمق رؤية صاحب الجلالة السلطان المفدى- حفظه الله ورعاه- بأهمية الحفاظ على المنظومة الأخلاقية والثقافية للمجتمع، باعتبارها الركيزة الأساسية للهوية العُمانية، وما تمثله من قيم التسامح والتعايش السلمي التي أكد عليها السلطان قابوس- طيب الله ثراه.
وفي ظل المتغيرات الجيوسياسية والاجتماعية العالمية المتسارعة، والتحديات المعاصرة التي تواجه المجتمعات، فقد أصبحت الحاجة مُلِحَّة وضرورية لمواصلة الجهود الوطنية الرامية إلى تعزيز قيم الاعتدال والتسامح في المجتمع العُماني، وبناء مناعة اجتماعية قوية ضد أي أفكار متطرفة أو ضالة قد تظهر في المجتمع، وفيما يلي بعض الآليات المقترحة لتحقيق هذه الغايات:
تلعب المؤسسات التعليمية والدينية في سلطنة عُمان دورًا محوريًا في تعزيز قيم الاعتدال والحوار في المجتمع، فمن خلال المناهج الدراسية والبرامج التوعوية، يُمكن للمدارس والجامعات اعتماد برامج ومنتديات نوعية ومستدامة؛ لتعزيز قيم التسامح والتعايش السلمي بين مختلف فئات المجتمع، كما يُمكن للمؤسسات الدينية تكثيف جهودها، والاستمرار في استخدام منابرها لنشر رسائل الوسطية، وإدانة أي أفكار ضالة، أو ممارسات عنيفة. مشاركة الجمعيات والأندية المختلفة بالمجتمع، والسبلة العُمانية خاصةً في حوارات مجتمعية صريحة ومفتوحة، يُعد أمرًا بالغ الأهمية لتعزيز التواصل والتفاهم بين مختلف شرائح المجتمع، فهذه الجهات تتمتع بقدرة فريدة على التواصل مع المواطنين وفهم احتياجاتهم وتطلعاتهم، مما يساعد في تصميم برامج وأنشطة تعزز التماسك الاجتماعي. المًضي قدمًا في تنفيذ الاستراتيجيات الوطنية الاجتماعية والاقتصادية في سلطنة عُمان، يمثل أمرًا حيويًا لمعالجة الجذور العميقة للتطرف؛ فالاستمرار في خططها نحو الاستثمار في تنمية المحافظات، وتوفير فرص وظيفية أكثر استدامة للباحثين عن عمل، والاستمرار في تحسين الخدمات الاجتماعية والصحية، كلها عوامل تُسهم في تعزيز الشعور بالولاء والانتماء لدى المواطنين، مما ينعكس إيجابًا على مناعة المجتمع ضد الأفكار المتطرفة. الاستمرار في تطبيق القانون بحزم ضد أي شخص ينتهج أساليب التطرف والعنف؛ فالحزم في إنفاذ القانون والمحاسبة الصارمة للمتورطين في أنشطة متطرفة، يُعد رسالة واضحة بأن المجتمع لن يتهاون مع أي محاولات للإضرار بالأمن والاستقرار.ونختم هذه المقالة بالتأكيد على أن مكافحة التطرف بجميع أشكاله، تتطلب عملًا جماعيًا ومتضافرًا من جميع أفراد المجتمع والمؤسسات المختلفة، فلا يمكن أن تنجح الجهود الفردية أو الحكومية وحدها في مواجهة هذه الآفة الخطيرة، وتكامل الجهود الوطنية، يعزز إجراءات سلطنة عُمان للحفاظ على أمن المجتمع وسلامة نسيجه، وتحقيق التنمية والازدهار في ظل التسامح والوئام، وبما ينعكس على تعزيز صورة السلطنة كنموذج للاعتدال والتسامح على الصعيدين الإقليمي والدولي.
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
أوجلان والكلمة التي أنهت حربا
آخر تحديث: 12 يوليوز 2025 - 7:24 صبقلم: فاروق يوسف تخلى حزب العمال الكردستاني عن خيار الكفاح المسلح معلنا نزع سلاحه. فهل يعني ذلك اعترافا بالهزيمة؟كان عبدالله أوجلان زعيم الحزب واضحا في كلامه. الاستمرار في ذلك الخيار يعني المشي في طريق مسدودة.لقد سبق للزعيم الكردي الذي تم اعتقاله عام 1999 في سياق صفقة سياسية مبتذلة على المستوى الأخلاقي أن دعا غير مرة من سجنه إلى طي صفحة الحرب.كان من الصعب على الحزب الذي تأسس عام 1984 أن يطوي تلك الصفحة التي انطلق منها من غير أن تتغير المعادلات السياسية في تركيا. تلك المعادلات المتحجرة التي كانت قائمة على عدم الاعتراف بوجود الأكراد جزءا من التركيبة الوطنية في تركيا.
لقد أنهى أوجلان الحرب بكلمة. غير أن تلك الكلمة ما كان لها أن تكون بذلك التأثير لولا أن الواقع السياسي التركي قد قدّم لها كل أسباب القوة قاوم الأكراد تحجّر العقل السياسي التركي بطريقة تعبّر عن معرفة عميقة بتعثر إمكانية الحوار تحت مظلة وطنية جامعة. فبغض النظر عن نوع النظام الحاكم في أنقرة، دينيا كان أم مدنيا فإن الاعتراف بحقوق الأكراد القومية كان خطاً أحمر لا يمكن تجاوزه، حتى أن تركيا لم تكن تعترف بوجود الأكراد قومية مستقلة وكانت تسمّيهم بأتراك الجبل.
وعلى الرغم من أن الحرب على الساحة الكردية قد كلفت تركيا خسائر بشرية ومادية هائلة فإن دولة أتاتورك كانت مستعدة لخرق القانون الدولي واحتلال أجزاء من سوريا والعراق من أجل مطاردة المتمردين الأكراد.كان خيار السلم على الأراضي التركية التي يقيم فيها الأكراد مُستبعدا حتى بعد اعتقال أوجلان. ذلك لأن حزب العمال وقد وجد له حاضنة في شمال العراق كان يأبى أن ينضم إلى زعيمه في معتقله ويستسلم. وإذا ما كان حزب العمال قد استفاد من الاستقلال النسبي للإقليم الكردي في شمال العراق فإنه استفاد أيضا من الظرف الإقليمي المضطرب بحيث كانت تركيا حائرة في أن تحارب على أيّ جبهة، في سوريا أم في العراق أم في الداخل التركي.ولا يخفى على تركيا وهي الضليعة بمؤامرات الناتو التي هي جزء منه ما تخطط له الولايات المتحدة وهي تعمل على تأثيث وجودها في المنطقة بأسلوب استعماري جديد. كل تفكير بتركيا قوية يبدو ساذجا في ظل استضعافها محليا من خلال المسألة الكردية. ولأن تركيا بدت عاجزة عن حل مشكلة محلية فقد بات الحل الدولي قريبا. فعلى الرغم من أن تركيا كانت حاضرة في المعالجة الدولية للمسألة السورية فإن ذلك لم يضمن لها انحياز الجانب الأميركي.يملك الأكراد اليوم تمثيلا قويا في الحياة السياسية التركية. ذلك ما يعني أن تركيا قد تغيّرت. ولأن تركيا قد تغيّرت فقد آن للأكراد أن يتغيّروا.من المهم أن أنبه هنا إلى أن أكراد تركيا على الرغم مما عانوه من تهميش وعزل وازدراء إلا أنهم لم يطالبوا إلا بحقوقهم المدنية وهي حقوق المواطنة المتوازنة والسوية من المؤكد أن أكراد حزب العمال لم يتخلوا عن خيار الكفاح المسلح إلا بعد أن ضمنوا أن هناك حياة وطنية عادلة في انتظارهم.
من المهم أن أنبه هنا إلى أن أكراد تركيا على الرغم مما عانوه من تهميش وعزل وازدراء إلا أنهم لم يطالبوا إلا بحقوقهم المدنية وهي حقوق المواطنة المتوازنة والسوية. وكما يبدو فإن تركيا تغيرت عبر الزمن. لذلك صار على الأكراد أن يتغيّروا ويغيّروا نهجهم وطريقتهم في التلويح بمطالبهم. والأهم من ذلك أن مبدأ الكفاح المسلح لم يعد مقنعا للكثير منهم، أولئك الذين انخرطوا في الحياة السياسية التركية من خلال الأحزاب التي صار لها صوت في الشارع. كان عبدالله أوجلان حكيما ورجلا مسؤولا حين صارح شعبه بأهمية الاستجابة لتلك التغيّرات والتفاعل معها بطريقة إيجابية. فالمهم بالنسبة إليه وإلى شعبه أن يكون الهدف الذي اختاروا من أجله اللجوء إلى الكفاح المسلح قد تحقق أو في طريقه إلى أن يكون واقعا وليس الكفاح المسلح هدفا في حد ذاته. هنا تكمن واحدة من أهم صفات الزعيم العاقل. ليس من المعلوم حتى الآن ما هي الصفقة التي تخلّى حزب العمال بموجبها عن سلاحه منهيا الحرب التي أضرّت بالأكراد مثلما أضرّت بتركيا.لكن اللافت هنا أن رجلا لا يزال قيد الاعتقال منذ أكثر من ربع قرن كان قادرا على أن يقول كلمة النهاية. وهو ما يعني أن الطرفين، الكردي والتركي، يثقان بذلك الرجل الذي وهب شعبه الجزء الأكبر من عمره.لقد أنهى أوجلان الحرب بكلمة. غير أن تلك الكلمة ما كان لها أن تكون بذلك التأثير لولا أن الواقع السياسي التركي قد قدّم لها كل أسباب القوة.