الشعر من أهم مصادر التأريخ لدى العرب، فقد حفظ لنا كثيرا من أخبار الوقائع والأحداث وكثيرا من التفاصيل التي لم تصل إلينا بغيره، ولا عجب، فالشعر ديوان العرب، وسجلهم ومحل فخرهم، وهو الذاكرة النابضة بكل جميل عاشوه، والمحملة بكل أسى عاينوه، فهو عند ابن خلدون في مقدمته "من بين الكلام كان شريفا عند العرب. ولذلك جعلوه ديوان علومهم وأخبارهم وشاهد صوابهم وخطئهم، وأصلا يرجعون إليه في الكثير من علومهم وحكمهم، وكانت ملكته مستحكمة فيهم شأن الملكات كلها".

وهو بهذا المعنى يلتقي مع التاريخ الذي يمثل أيام الناس وأخبارهم وعلومهم في المعنى والغاية، فالشعر العربي وثيقة من الوثائق التاريخية المهمة التي حفظت التحولات الفكرية والحضارية والسياسية والاقتصادية للقبائل العربية، لا سيما في فترة ما قبل الإسلام في العصر الجاهلي، فالتدوين فعليا بدأ في القرن الهجري الثاني، وما قبل ذلك من أحداث نقل شفاهة، وكان الشعر العربي أهم وثيقة تاريخية نقلت دقائق الأحداث وأيام العرب.

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2"لا شيء أسود بالكامل".. رواية الموت والحرب والاختبارات الفنية المتعددةlist 2 of 2رواية "المُمَوِّه".. شعرية الحدث والسرد العربي القصيرend of list ما بين الشعر والتأريخ

في الشعر يبوح الشعراء بما يجول في عقولهم من أفكار وما يعتمل في صدورهم من مشاعر، فيحملون الكلمة عبء البوح والانفعال والإعلان عن اتخاذ الموقف، ويخاطبون الآخر بهدف الإخبار في أحيان، وإحداث الانفعال والتأثير في أحيان أخرى.

وحين يخبر الشاعر عن واقعة لها ما لها في نفسه نراه يروي لنا دقائقها ويصور لنا تفاصيلها حتى ينقلنا على أثير الكلم إلى واقع متخيل يعرض على أذهاننا ما عايشه أو سمعه فتوثق منه، لنشعر بأنفسنا كأننا نعاين ما جرى بقوة الخيال المدعوم بدقائق الوصف والتصوير، ومن هنا توطدت علاقة الشعر بالتأريخ، فصار الشعر كالإعلام للتاريخ، يحفز خيالات المتلقين ليخبرهم بما غاب ذكره عن وثائق التاريخ الأخرى، أو ليكمل رسم صورة لم تكتمل، أو ليضفي لمساته العذبة على الصور الجامدة التي نقلت الأحداث من دون ما كان يلفها من انفعال أو عاطفة، فلغة الشعر مهما حملت من نقل تاريخي لا بد أن تشعر القارئ بما تحمله القصائد من مشاعر المبدع الذي روى ما جرى بأسلوبه الشعري الخاص.

بل إن الشاعر عندما يقوم بتأريخ حدث ما من الأحداث الكبيرة التي يعاينها أو يعيشها قد يكون أوثق من المؤرخ الذي يمارس الرواية المجردة، فالشاعر بطبعه يركز على التفاصيل فينقلها بطريقة تصويرية ترسخ في الأذهان، كما أن الشاعر المؤرخ يحلل الحدث ويفسره ويعلله في شعره، وهذا يضفي على الرواية إضاءات متباينة من زوايا مختلفة تسهم في فهم الصورة الكلية والتفصيلية، كما أن الشعر التأريخي يمتاز بعلو موثوقيته لأنه يغدو رواية عامة يتناقلها الناس بأعداد واسعة تضفي على الإسناد التاريخي مصداقية إضافية.

وإن أردنا الحديث عن تأريخ الشعر لحياة العرب قبل الإسلام فمن نافلة القول أن نذكر أن تلك الحقبة تعرف بكثرة الحروب والسجالات، وقد كان للشعر أثر كبير في نقل الوقائع والأيام والأحداث وإعادة صياغتها وفقا لرؤية الشاعر وموقفه آنذاك، ومن الطبيعي أن يزدهر الشعر في حياة القبائل العربية في زمن الحروب، فبعضه يقال بهدف التحفيز والتشجيع واستجلاب الهمم ونخوة الرجال، وبعضه يقال بهدف التثبيط والحط من شأن الخصم في عيون المقاتلين، وتقرير ذلك لدى مقاتلي الخصم ليشعروا بالوهن والخوف، ويشكوا في قدرتهم على مجاراة من يواجهون في الحروب.

أما القبائل المسالمة التي لم تخض حروبا كثيرة ولم تعش صراعات تذكر فقد خفت وتيرة الأشعار فيها وقل شعراؤها، كقريش مثلا التي كانت تعيش في سلام يتناغم مع مكانتها وسيادتها لمكة المكرمة، قبلة الحجيج العرب الذين لا يرغبون بالدخول في أي صراع، فسدانة البيت العتيق وفرت لقريش الأمان والسلام، مما أدى إلى ازدهار التجارة فيها، فعاشت أمنا عريضا، وبهذا منّ الله عليها كما جاء في كتابه الكريم أنه أطعمها من جوع وآمنها من خوف، وهذا كله أدى بالضرورة إلى قلة حظها من الشعراء تماشيا مع قلة ما خاضته من حروب وعاشته من صراعات، وعن ذلك يقول ابن سلام الجمحي: "وإنما كان يكثر الشعر بالحروب التي بين الأحياء، نحو حرب الأوس والخزرج، أو قوم يغيرون ويغار عليهم، والذي قلل شعر قريش أنه لم يكن بينهم نائرة، ولم يحاربوا".

حرب البسوس في الشعر العربي

أما عن التأريخ التطبيقي في الشعر العربي لحقبة الجاهلية فإن حرب البسوس تعد من أشهر الحروب التي خلدها التاريخ، وكان للشعر العربي فضل كبير في نقل كثير من دقائقها وتفاصيلها، فقد قامت بين قبيلتي تغلب وبكر بن وائل ودامت نحو 40 سنة، وراح من جرائها خلق كثير حتى كادت القبيلتان تفنيان بعضهما.

وأصل الحكاية باختصار أن كليب بن وائل التغلبي قتل ناقة البسوس، سعاد بنت منقذ بن تميم، خالة جساس بن مرة البكري، ويقال إنه قتل فصيل ناقة البسوس، وذلك لأنها وردت في إبل مرة والد جساس من دون إذن كليب، وهو آنذاك ملك مستحكم لا يبت بأمر في إقليمه مهما صغر من دون إذن منه، حتى ضاق به أهله وأبناء عمومته والأقارب قبل الأباعد، فقتله جساس في ساعة جدال وغضب، فقامت قيامة تغلب وانبرى المهلهل بن أبي ربيعة المعروف بالزير سالم للأخذ بثأر أخيه كليب من بني مرة وبني بكر كلهم.

وما يعنينا حقيقة ليس أصل الحكاية وتفصيلاتها، بل ما ورثته لنا من أشعار كثيرة تروي أحداث القصة وتحمل ما وازاها من مشاعر مختلطة، فترى شعراء بني تغلب وبني بكر وغيرهم من شعراء القبائل الذين عاصروا الحادثة والحرب الممتدة يصورون ما جرى بعيون مختلفة وزوايا متغايرة، فتجد نفسك متخبطا بين التعاطف مع المهلهل الذي يريد أن يثأر لأخيه، وبين جساس الذي تمرد على ظلم ابن عمه وتعنته، ثم تنظر إلى الحكاية بامتداد الزمن وهي ترتسم بأشعار وأقوال اللاحقين الذين حللوا شخصية الملك العربي (كليب) وقرروا أسباب تعنته النفسية والاجتماعية، ونظروا إلى شخصية جساس التي رسمها شعراء قبله فوجدوا فيه العربي الأصيل الذي أجار ضيفه وثار لحميته ونهض فأخطأ حين أصاب.

رواية الشعر العربي لحرب البسوس

كانت البسوس شاعرة من شعراء الجاهلية، ويذكر أن الناقة التي قتلها كليب كانت لجار البسوس سعد بن شمس، وحين رأت البسوس ما أوقعه كليب بالناقة، وهي في جوار ابن أختها جساس بن مرة، صاحت وتفجعت: "واذلاه واغربتاه"، وأنشدت أبياتا تسميها العرب بأبيات الفناء لما تسببت به من حرب فتحت باب الفتنة بين أبناء العمومة فأفنتهم وأهلكتهم، حتى صارت البسوس مثلا للشؤم، إذ يقال في أمثال العرب "أشأم من البسوس". وقد حشدت البسوس في أبيات الفناء ما يثير جساسا ويحضه على مواجهة كليب الذي لم يعبأ بحرمة الجار ولم يحفظ لأبناء عمومته كرامتهم، بل أخذته العزة بنفسه كل مأخذ، إذ أنشدت:

لعمرك لو أصبحت في دار منقذ
لما ضيم سعد وهو جار لأبياتي

ولكنني أصبحت في دار غربة
متى يعد فيها الذئب يعد على شاتي

فيا سعد لا تغرر بنفسك وارتحل
فإنك في قوم عن الجار أموات

ودونك أذوادي فإني عنهم
لراحلة لا يفقدوني بنياتي

ويقال في تسمية هذه الأبيات "الموثبات" أيضا، فقد أوغرت الصدور وهيجت نزعة الثأر والانتقام، وفتحت أبواب جهنم بحرب لم تبق ولم تذر، فتأثير الكلمة لدى العرب أوسع مما يمكن للمرء تصوره، فكيف بها إذا كانت شعرا؟ وكيف بها إذا كانت من امرأة تستصرخ وتستغيث؟

وهذه الأبيات تؤرخ بدقة شرارة الانفجار الكبير لحرب دامت عقودا من الدم المراق والأحقاد المتبادلة، وهكذا يظهر لنا أن الشعر يحمل ما لا تحمله الأخبار من حروف صارخة ومشاعر متوثبة وعواطف ملتهبة، وإن كان التاريخ نقلا موضوعيا للحدث، فإن الشعر يضفي عليه اللمسة الإنسانية، وينقل تغيرات النفس وما يخالطها في ظل السياق الاجتماعي الذي يمثل الحاضن الثقافي للواقعة.

فبالنظر إلى أشعار المهلهل بن أبي ربيعة في رثاء أخيه كليب تستشعر صدق الحرف وحرقة القلب، لا سيما أن مهلهلا لم يكن يوافق أخاه فيما يذهب إليه كليب من تثبيت حدود الملك وترسيخ قواعد التعامل معه بما لم يعتده العرب من قبل، وبما لا يوافق طبيعة حياتهم ولا يروق لأخلاقهم وفطرتهم في العيش الذي اعتادوه، فجاء مقتل كليب في لحظة نفسية قاسية لدى المهلهل، إذ شعر أنه خذل أخاه قبل مماته، ولن يفعل ذلك بعد مماته، ولو كلفه أن يطيح بكل ما ألفه من أخلاق التعامل مع أبناء العمومة وأبناء العشيرة والقبيلة نفسها، فنجد المهلهل في شعره باكيا أخاه بكاء مريرا، متوعدا بالثأر والانتقام له، مؤرخا للحادثة، ناقلا مرحلة مفصلية من مراحل تلك الحرب:

إن في الصدر من كليب شجونا

هاجسات نكأن منه الجراحا

أنكرتني حليلتي إذ رأتني

كاسف اللون لا أطيق المزاحا

يا خليلي ناديا لي كليبا

واعلما أنه ملاق كفاحا

يا خليلي ناديا لي كليبا

قبل أن تبصر العيون الصباحا

ويح أمي وويحها لقتيل

من بني تغلب وويحا وواحا

يا قتيلا نماه فرع كريم

فقده قد أشاب مني المساحا

كيف أسلو عن البكاء وقومي

قد تفانوا فكيف أرجو الفلاحا

يعد حزن المهلهل على مقتل أخيه كليب أيقونة عربية خالصة في الشعر العربي، وكذلك ثأره وانتقامه، ويقال إن كليبا ترك للمهلهل وصية يحثه فيها على الثأر له، وكان قد كتبها بدمه على صخرة في الموقع الذي غدر به جساس فيه ورماه بسهم أو رمح توسط ظهره، فصار ثأر المهلهل لأخيه بعد هذه الوصية مضاعفا بحمل الأمانة وتحقيق الوصية، فيجيء رد سالم في قصيدة أخرى متوجعا ومتوعدا مهددا في الوقت نفسه:

كليب لا خير في الدنيا ومن فيها

إن أنت خليتها في من يخليها

كليب أي فتى عز ومكرمة

تحت السفاسف إذ يعلوك سافيها

نعى النعاة كليبا لي فقلت لهم

مادت بنا الأرض أم مادت رواسيها

ليت السماء على من تحتها وقعت

وحالت الأرض فانجابت بمن فيها

لا أصلح الله منا من يصالحكم

ما لاحت الشمس في أعلى مجاريها

وعن توثيق جموح المهلهل في النيل من قاتل أخيه وإغراقه في الثأر، وكأنه وجد لنفسه سببا يحيا لأجله، تراه ينشد واصفا نفسه وروح القبيلة كلها بين يدي الصراع الشرس والقتال المرير:

لما نعى الناعي كليبا أظلمت

شمس النهار فما تريد طلوعا

قتلوا كليبا ثم قالوا أرتعوا

كذبوا لقد منعوا الجياد رتوعا

كلا وأنصاب لنا عادية

معبودة قد قطعت تقطيعا

حتى أبيد قبيلة وقبيلة

وقبيلة وقبيلتين جميعا

وتذوق حتفا آل بكر كلها

ونهد منها سمكها المرفوعا

حتى نرى أوصالهم وجماجما

منهم عليها الخامعات وقوعا

ونرى سباع الطير تنقر أعينا

وتجر أعضاء لهم وضلوعا

والمشرفية لا تعرج عنهم

ضربا يقد مغافرا ودروعا

إن في تتبع أشعار العرب ما يعكس لنا صورة مكتملة عن المجتمع العربي آنذاك، بحلوه ومره، وجماله وقبحه، وحنوه وقسوته، فالقارئ للشعر العربي القديم ما قبل الإسلام يكون فكرة شاملة عن طبيعة المجتمع في العصر الجاهلي وطبيعة أفراده.

من أين للتاريخ أن يحفظ حكاية حرب البسوس وأمثالها لولا ما جاء عنها وحولها في الشعر العربي؟ فالتأليف والتدوين لم يكن حاضرا في ذلك الوقت، وكانت طبيعة الإنسان العربي حينها مولعة بالرواية والمشافهة، أو لنقل إنها لم تعرف سبيلا غيرها لنقل الأحداث، فكان الشعر بذلك لسهولة حفظه وتداوله خير وسيلة لحفظ الأحداث بغض النظر عن محاكمتها من جهة الدقة والصدق والكذب، غير أنها في كثير من الأحيان تتطابق مع غيرها من المصادر التاريخية الأخرى، وتزيد عليها، وفي أحيان أخرى لا بد من النظر إليها بحذر وبعين الشك والريبة، فالشعر لا يسلم من تداخلات النفس وأهواء الشعراء وأغراضهم، وخاصة في غرضي المدح والهجاء.

عند اعتماد الشعر بوصفه وثيقة تاريخية فإنه لا يقتصر على الشعر الفصيح، ولا يمكن أن تحاكم الأشعار فنيا فحسب، ولا بد من الحذر في قضية الموثوقية، فالتزيد في التاريخ وتشويه الحقائق عن طريق الشعر وارد، رغم صعوبته لكنه ليس مستحيلا.

ومن الأحداث البارزة التي يؤرخ لها الشعر الجاهلي في تفاصيل هذه الحرب ومراحلها ما جرى مع الحارث بن عباد عندما أﺭﺳﻞ ﺍﺑﻨﻪ بجيرا بهدف الإصلاح ﺑﻴﻦ ﺑﻜﺮ ﻭﺗﻐﻠﺐ، فقتله ﺍﻟﻤﻬﻠﻬﻞ وقال: "ﺑﺆ ﺑﺸﺴﻊ ﻧﻌﻞ ﻛﻠﻴﺐ"، فلما بلغ ابن عباد خبر مقتل ابنه قال قصيدته الشهيرة "قربا مربط النعامة مني"، والنعامة اسم فرسه، إذ أرخ في هذه القصيدة للحادثة كلها، بقلب الوالد المفجوع الموتور:

يا بجير الخيرات لا صلح حتى

نملأ البيد من رؤوس الرجال

 

أصبحت وائل تعج من الحر

ب عجيج الجمال بالأثقال

 

لم أكن من جناتها علم الله

وإني لحرها اليوم صالي

 

قد تجنبت وائلا كي يفيقوا

فأبت تغلب علي اعتزالي

 

وأشابوا ذؤابتي ببجير

قتلوه ظلما بغير قتال

 

قتلوه بشسع نعل كليب

إن قتل الكريم بالشسع غالي

 

يا بني تغلب خذوا الحذر إنا

قد شربنا بكأس موت زلال

 

يا بني تغلب قتلتم قتيلا

ما سمعنا بمثله في الخوالي

 

قربا مربط النعامة مني

لقحت حرب وائل عن حيال

 

قربا مربط النعامة مني

ليس قولي يراد لكن فعالي

 

قربا مربط النعامة مني

جد نوح النساء بالإعوال

 

قربا مربط النعامة مني

لاعتناق الأبطال بالأبطال

 

قربا مربط النعامة مني

لكريم متوج بالجمال

 

قربا مربط النعامة مني

لا نبيع الرجال بيع النعال

 

الشعر الجاهلي مؤرخا حركة المجتمع

يبقى الشعر الجاهلي أحد أهم المصادر التاريخية التي تؤرخ لقرنين أو 3 من الزمن، إذ يتزامن ذلك مع توقف النقوش القديمة، لذلك يكاد يكون الشعر الجاهلي المصدر الوحيد الذي يؤرخ لتلك الفترة في جزيرة العرب قبل الإسلام، وبالنظر إلى شعر عنترة بن شداد تحديدا نجد أنه خير من أرخ لحروب القبائل ووقائعها في أشعاره آنذاك، كما صور لنا المجتمع وما ساد فيه من فخر بالقبيلة وافتخار بالنفس، وما يعليه من مكارم الأخلاق كالشجاعة والحلم وإغاثة الملهوف، وما ينأى عنه من إهانة وغدر وخيانة، وما يحض عليه من أنفة وإغاثة للملهوف، وما يبرأ منه من مثالب الأخلاق ومساوئها.

كما نجد في أشعار عنترة كثيرا من أسماء القبائل التي تناحرت، وأسماء الأيام والحروب التي وقعت، كحرب داحس والغبراء بين قبيلتي عبس وذبيان، وسببها كان رهانا على سباق جرى بين حصان يسمى داحسا وفرس تسمى الغبراء، وكان الرهان بين سيد بني عبس قيس بن زهير وسيد بني فزارة حذيفة بن بدر، ونتيجة الغش والغدر من جهة حذيفة قامت قيامة القبيلتين واقتتلتا نحو 40 عاما، وخلفت لنا هذه الحرب كغيرها ملاحم وقصائد خالدة، ففي ديوان عنترة كثير من ملامح تلك الحرب، تفرد بوصفها وجعل منها سلما ليرقى في ميداني الشعر والفروسية على حد سواء، فلننظر إلى قوله الآتي ذاكرا أسماء الأماكن التي جرت فيها بعض الوقائع فعرفت بها:

فسلي لكيما تخبري بفعائلي

وسلي الملوك وطيئ الأجيال

وسلي عشائر ضبة إذ أسلمت

بكر حلائلها ورهط عقال

وبني صباح قد تركنا منهم

جزرا بذات الرمث فوق أثال

زيدا وسودا والمقطع أقصدت

أرماحنا ومجاشع بن هلال

من مثل قومي حين يختلف القنا

وإذا تزل قوائم الأبطال

نلحظ أن عنترة يذكر في أشعاره كثيرا من أسماء القبائل والأيام والأشخاص، وهو بذلك يعكس تحركات قبيلته عبس، ويعطي صورة واسعة عن حياتها وعلاقاتها السياسية آنذاك، وكذلك حروبها وصراعاتها وامتداداتها في الجزيرة العربية.

وكما يؤرخ الشعر الجاهلي لأيام العرب وحروبها وتشابك العلاقات بين قبائلها، فإنه يؤرخ للقيم الإنسانية الحاضرة في ذلك الوقت أيضا، ليعطينا صورة مفصلة عن تناقضات المجتمع العربي الذي جمع في الآن نفسه بين الظلم المتعاظم والقيم العالية والأخلاق السامية، كالحرب والقتال نصرة لحظ النفس، وإجارة الضعيف الملهوف ونصرة المظلوم، ومن تلك الحوادث التي يؤرخها الشعر الجاهلي ما يقوله عمرو بن كلثوم:

ألم تشكر لنا أبناء تيم

وإخوتها اللهازم والقعور

بأنا نحن أحمينا حماهم

وأنكرنا وليس لهم نكير

ونحن ليالي الأفهار فيهم

يشد بها الأقدة والحصور

كشفنا الخوف والسعيات عنهم

فكيف يغرهم منا الغرور

ومن ذلك أيضا تأريخ زهير بن أبي سلمى لحادثة الصلح الشهيرة بين عبس وذبيان، التي سعى فيها هرم بن سنان مع الحارث بن عوف، وتحملا ديات القتلى ونشرا السلام في غطفان، مما دعا زهير بن أبي سلمى ليمدح هذين العظيمين على ما قاما به من جهود لتوطيد دعائم السلم في الجزيرة العربية، وأرخ للحادثة قائلا:

يمينا لنعم السيدان وجدتما

على كل حال من سحيل ومبرم

تداركتما عبسا وذبيان بعدما

تفانوا ودقوا بينهم عطر منشم

وقد قلتما إن ندرك السلم واسعا

بمال ومعروف من القول نسلم

فأصبحتما منها على خير موطن

بعيدين فيها من عقوق ومأثم

عظيمين في عليا معد هديتما

ومن يستبح كنزا من المجد يعظم

وهكذا يحدثنا التاريخ بمصادره المتعددة عن واقعة ما فينقل لنا خبرها نقلا مباشرا، غير أن الشعر لا يكتفي بذلك، فالشاعر حين ينقل لنا حادثة ويعمل على تأريخها من حيث لم يقصد، ينقلنا بشعره إلى عالمها الداخلي ويصورها كما تناهت إلى نفسه هو، ويحملها مشاعر من كانوا فيها وفقا لرؤيته، فإن كان التاريخ نقلا للأحداث المهمة والوقائع العظيمة بين الأجيال، فإن ما نقل عن طريق الشعر هو روح الأحداث وحضورها في نفس الإنسان آنذاك.

الشعر وجه من وجوه الحضارات الإنسانية، يحمل ثقافاتها ويطوي في ثناياه عوالمها الداخلية فكرا وعاطفة، وقد حاز مكانة مهمة في مصادر التأريخ للفترة التي سبقت الإسلام، فصور ووصف وأبان، وحدد ملامح الهوية العربية وسلط الضوء على وقائع ما كنا لنسمع عنها لولا ما قيل عنها في الشعر العربي، فصار الشعر بذلك معززا للهوية ورافدا للتاريخ ومعادلا للثقافة، تتوارثه الأجيال فيزدهي ويعلو على مر السنين والأيام بوصفه حاملا للتراث وحافظا للانتماء وشاهدا على الإنسان.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات فی الشعر العربی الشعر الجاهلی قبل الإسلام کثیر من ما جرى بن أبی

إقرأ أيضاً:

لهم فضْلُ القديمِ وسابقاته.. عن لغة الشعر النبطي

تزوج شاعر البادية الأردنية محمد علي عذيمان من فتاة أحبها وكانت تنتقل معه في البادية حيث حل وارتحل، وبعد أن أنجبت له مولودته الأولى أصابتها حمى النفاس ومرضت وماتت في أثناء ولادتها.

وكانت الثلوج حينها تهطل بغزارة ولم يكن له في منزله ذاك جيران قريبون، فلم يتمكن من دفنها فجلس حاملا ابنته التي رفضت النوم في أحضانه، فما كان منه إلا أن ذهب بها إلى فراش أمها المسجّاة، ووضعها في حضنها فسكتت البنت عن البكاء ونامت، وفي منتصف الليل سكن الجو وتوقف الثلج عن الهطول وتوقفت الرياح وإذا عواء الذئب يجلجل بين تلك التلال، وفي ذلك الموقف الحزين قال الشاعر عذيمان:

يا ذيب ياللي توحش القلب بعواك

أظن حالك صاير(ن) مثل حالي

انت عويلك يوم فاتك معشاك

وانا عويلي من تيتَّمْ عيالي

وان كان صيدك فاقد(ن) من خوياك

انا فقدت من الخويا الغوالي

حذراك من سود الليالي تغشاك

ويعتم عليك الضو عقب الدلالي

وتعال أيها القارئ نستمع معًا إلى الشاعر الشيخ نمر بن عدوان وهو يبكي زوجته وضحاء، ويذكر حالها في القبر وحاله بفقدها، ويشنّع على لائميه داعيًا عليهم، وجرّب أن تقرأ الأبيات الآتية بتسكين أواخرها، واستحضِر في نفسك واجلب إلى مسامعك أسلوب إلقاء الشعر النبطي:

سار القلم بداجي الليل مهتاج

سار بهوى قليبي وحير دليلي

بكيت غرام بالحشا يوهج اوهاج

من وجد وجدي الويل فرقا خليلي

عيني تهل الدمع لاجن بلجلاج

ودموع عيني سيل دوما يسيلي

واجب علي أهله بكل ملعاج

ودموع عيني مثل نهر تسيلي

سمعت انا بظلمة القبر مهتاج

عفت الحياه وعند قبره نزيلي

ياقبر انا ما أظن من جاك يحتاج

تعريف هي وضحا أُو قلبي عليلي

ياقبرها يامنوة الروح وسراج

والله انا عندك طنيب ودخيلي

مجنون ليلى كان داير بلجلاج

ما أضن يشبهني ولا هو مثيلي

هات الكفن يا عقاب وتابوت من صاج

أو علي من رمل السبايب هيلي

واحفر على قبري بازميل وهاج

اللي جرى ياعقاب وانت الوكيلي

انقش سقيم عايف الطب واعلاج

أضحى طريح الحب وامسى قتيلي

من لامني يبلاه بالهم وهاج

عليه حسبي الله ونعم الوكيلي

الشعر النبطي أسلوب الإلقاء والقدرة على جعله غنائيا، إذ يلتقط كُتاب الأغاني الشعبية القصائد النبطية ويستثمرونها ويحولونها إلى أغانٍ (مولدة بالذكاء الاصطناعي-الجزيرة)

يُكتب الشعر النبطي كما ينطق، وقد استحدثت كل قبيلة مفردات وألفاظا جديدة، واستعملتها وأدخلتها على الشعر النبطي بقصد أو بدون قصد، فضم بذلك الشعر النبطي كثيرا من اللهجات المختلفة، وصار له قاموسه الخاص. وفي توصيف لغة الشعر النبطي وبُعدها عن الإعراب والحركات قال ابن خلدون "أساليب الشّعر وفنونه موجودة في أشعارهم هذه ما عدا حركات الإعراب في أواخر الكلم، فإنّ غالب كلماتهم موقوفة الآخر، ويتميز عندهم الفاعل من المفعول والمبتدأ من الخبر بقرائن الكلام لا بحركات الإعراب".

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2جماعة تحت السور التونسية.. أدباء ساخرون من المجتمع والاستعمار وكل شيءlist 2 of 2غيث حمور: أدب المنفى السوري وجد طريقه أخيرا للوطنend of list إعلان

يعتمد الشعر النبطي على اللهجة العامية الدارجة والمتداولة بين الناس والأسلوب البسيط الواضح قريب المأخذ في سرد الوقائع والقصص، وله قدرة عالية على نشر الحكمة وتوثيق الأحداث بأسلوب يسير ومشوق يربط بين الماضي والحاضر بسلاسة وعذوبة؛ وذلك لاستعماله لغة الناس المحكية.

قد يتعذّر عليك فهم بعض الكلمات وربما كثير منها لبعد اللهجات المحلية اليوم عن بعضها، غير أن ذلك لا يحجب عنك تذوق سحر اللغة و جمال الشعور والاستمتاع بعذوبة التراكيب؛ فالشعر النبطي يمتاز بقدرة عالية على سكب المشاعر الإنسانية في ألفاظ شعرية بسيطة وواضحة ومباشرة، وفي قوالب شعرية قريبة من قلوب عامة الناس، فهو في المحصلة شعر، والشعر يتكئ على الخيال والتصوير والفني، ويعتمد على ألوان البلاغة وأساليبها المتنوعة كالتشبيه والاستعارة، ويميل إلى تزيين النصوص الشعرية بألوان البديع التي تضفي على النصوص جمالًا وعمقًا.

ومن أهم ما يتميز به الشعر النبطي أسلوب الإلقاء والقدرة على جعله غنائيا، إذ يلتقط كُتاب الأغاني الشعبية القصائد النبطية ويستثمرونها ويحولونها إلى أغان تحقق شهرته وانتشاره وشعبيته بين الناس.

ما الذي يجعل بعض أبناء العربية ينظرون إلى الشعر النبطي نظرة سلبية؟

وُجّهت انتقادات كثيرة لناظمي هذا النوع من الشعر، لأنه يبدو تأصيلا للعامية على حساب الفصحى وتنحيتها، وقد أُلّف كتاب بهذا الهدف بعنوان (كَفُّ المُخْطِي عن الدَّعوةِ إلى الشِّعرِ النَّبَطِي)؛ رأى فيه المؤلف ذياب الغامدي أن الشعراء الذين ينظمون الشعر النبطي: "دُعاة العامِّيَّة، وما أدراك ما العامِّيَّة؟! سواء كانت دَعوتهم سافرة جِهارًا نهارًا، كما تبنَّتْه الصُّحف وغيرها، أو دعوة مُستَتِرة تحت ثوب فَضفاض نسجَتْه أيدي الأعداء فألبسَته أمَّة الإسلام، والعرب العَرْباء، وشباب الصَّحوة؛ وذلك فيما يُسمى بالشّعر النَّبَطيِّ".

وُجّهت انتقادات كثيرة لناظمي الشعر النبطي، وقد أُلّف كتاب بهذا الهدف بعنوان (كَفُّ المُخْطِي عن الدَّعوة إلى الشِّعر النَّبَطِي) (الجزيرة)

ويقول الغامدي في موضع آخر من هذا الكتاب "ولو استسلم العُلماء أمام هذه السَّفسَطة والجَهالة التي يتّكئ عليها عشاق النَّبَطيّ في القرن الثّاني عشر الهجريّ وما تلاه من قرون، لكانت اللّغة الفصحى اليوم خبرًا بعد عِيان، كما يراد لها… وما زلنا نظنّ أن جَذوة دُعاة النّبطي ستنطفئ، وتنهار قواهم، حتَّى اتّسع الخَرق، وتجاوز شِعرُهم حُدوده، وعَلَت أصواتُهم، حتى استباحوا الصُّحف والمجلَّات والإذاعات، وأقاموا النَّدَوات والأُمسِيات؛ تمجيدًا وتعزيزًا، وتقريرًا وتقنينًا لنشر النَّبَطيّ".

إعلان

يرى بعض الباحثين أن التغيير اللغوي أمر طبيعي في سياق مرور الزمن وتطور الحياة، ولا يمكن أن ننظر إلى الشعر النبطي لأنه يعتمد العامية على أنه فساد لغوي، لا سيّما في ظل إمكانية رد الألفاظ العامية إلى الفصيح منها استنادا إلى القواعد الصرفية والصوتية تحديدا، ناهيك عن أن عامل الزمن يفرض تغيُّرات وتطوّرات حتمية يقررها تقدُّم الحياة وتطوّرها، وتمر بها أي لغة حية في سيرورة الأيام.

إن أكبر سبب -في حقيقة الأمر- للنظرة السلبية التي يحملها بعض أبناء العربية تجاه الشعر النبطي تتعلق باعتماده على اللهجات المحكية الدارجة، وذلك ليس إلا تخوفا من شيوعها وانتشارها واستسهالها على حساب العناية باللغة العربية الفصيحة التي تعد حاملا للدين ومصادره وأداة لمعرفة التاريخ العربي الممتد عبر العصور، وجسرا لعبور المعارف والوقائع والأحداث من جيل إلى آخر.

تبدو هذه المخاوف مشروعة لكن ينبغي ألا نبالغ فيها، فالشعر النبطي لون من ألوان الفنون الكلامية، وشكل من أشكال الإبداع الشعري، لا يهدف إلى إزاحة الشعر العربي التقليدي عن عرشه ولا قدرة له على ذلك، وإن كنا نستمع إليه ونتذوق جمالياته لقرب عهده أو قرب لغته، فإن ذلك لا يعني أنه راجح على ما سواه من أشكال الشعر العربي في الذائقة العربية.

حافظت أرض الحجاز على كثير من أخبار الشعر النبطي الذي نشأ في شبه الجزيرة العربية، وأولته عناية خاصة لأنه يعكس كثيرا من القيم والعادات والتقاليد المهمة لدى المجتمعات الخليجية (مولدة بالذكاء الاصطناعي-الجزيرة) الشعر النبطي في مرايا العصر الحالي

تولي دول الخليج العربي أهمية كبيرة للشعر النبطي باعتباره امتدادا لأصالة عاشها الأجداد في غابر الزمن، واستمر عبقها أخاذا على مر العصور، يربط الماضي بالحاضر، ويوحد الذائقة الشعرية لدى الأجيال المتعاقبة، وكأنه الحبل الأصيل المتين الذي يربط إنسان العصر في بوادي العربية بالإنسان العربي القديم الذي عاش فيها وأثبت عراقته وبنى حضارة ما تزال مشعة بين صفحات التاريخ، لا سيما في بادية الحجاز وما والاها، لأنه سجل دقيق دوّنوا فيه أهم الأحداث التاريخية والاجتماعية، وهو وسيلة للحفاظ على اللهجات المحلية والتراث الثقافي، ناهيك عن أنه يعزز القيم البدوية كالكرم والشجاعة وغيرها.

إعلان

حافظت أرض الحجاز على كثير من أخبار الشعر النبطي الذي نشأ في شبه الجزيرة العربية، وأولته عناية خاصة لأنه يعكس كثيرا من القيم والعادات والتقاليد المهمة لدى المجتمعات الخليجية. غير أن مجال النظر في موضوع الشعر النبطي واسع جدا، ويحتاج إلى كثير من البحث والتدقيق والجهد للوصول إلى نتائج دقيقة وأجوبة شافية، لا سيما في مسألة اللغة المحكية التي يعتمدها.

الشعر النبطي جزء أساسي لا يتجزأ من الثقافة البدوية، وقد شهد بمرور الأيام والعصور تحولات كبيرة جعلته يتماشى مع متطلبات العصر الحديث، فصار الشعراء يميلون إلى استخدام وسائل الإعلام والتواصل الحديثة لنشر قصائدهم وإبداعاتهم، فازدادت شعبية الشعر النبطي، وعمد بعض الشعراء إلى المزج بين الشعر الفصيح والنبطي فأضافوا بذلك أبعادا جديدة فنية وجمالية لقصائدهم وأشعارهم.

ومن أمثال ذلك الحديث عن القهوة العربيّة ومجالسها التي تعد أهم معالم الهويّة البدويّة، وقد قيل في ذلك كثير من الأشعار؛ منها ما قاله الشاعر حوشان بن عبود بن سويلم الشلواني العازمي:

لادك في قلبي من الهم هوجاس

حطيت فوق النار زين المحاميس

وحمست ما يجلى من الهم وعماس

بنٍّ من النيبار يجلى الحواسيس

لا ذاقه اللي من عنا الوقت محتاس

من لذته تنجال عنه النواحيس

ولننظر معا إلى قول الشاعر راكان بن فلاح بن مانع بن حثلين العجمي متغزلًا بفنجان القهوة راسمًا تفاصيل الشعور المرافق لاحتسائه القهوة في مجلس برفقة الأصحاب والأحباب؛ في صورة شعرية بديعة:

ياما حلى الفنجال مع سجّة البال

في مجلس ما فيه نفس ثقيله

هذا ولد عم وهذا ولد خال

وهذا رفيق ما لقينا مثيله

قصائد الشعر النبطي نلحظ بها جمال المزج بين الماضي والحاضر حين يعمد الشاعر إلى مفاجأة المستمع بنقله من الماضي السحيق إلى الواقع المعاصر (مولدة بالذكاء الاصطناعي-الجزيرة) القيم البدوية المجتمعية والإخوانيات في الشعر النبطي

يركز الشعر النبطي على القيم والأخلاق والعادات والتقاليد ويقدسها، ولا عجب في ذلك لأن الشاعر ابن بيئته، والشعر محاكاة للبيئة التي يُنظم فيها، والشعر النبطي بدوي في أصالته، يؤكد أهمية الحفاظ على القيم المجتمعية وتوارثها بين الأجيال، فالقيم الأخلاقية تحدد هوية الشعوب وانتماء المجتمعات، لذا يبدو الشعر النبطي ممتلئًا بكل ما يحض على مكارم الأخلاق ويزكيها في النفوس، ومن ذلك قول الشاعر محمد بن ناصر بن صقر السياري:

ياللي تعرف الجوهرة من نحاسَـــــهْ

خذ لك على درب التـــجاريب مرواس

مبنى على الغرمول ينــهد ساســـــه

ويثــبت إليــا عزيت مبنى على ســاس

واجب على الرجال يلبـــــس مقاسه

ويـصــير بعـيون الرياجــيل نــبراس

يرفع مجـــــاله عن دروب الـدناسـه

ونفــســه يدربـــها عـلى قــوة الـــباس

ويحــسن أخلا قـه بلــيّا شراســـــــه

لــو هـو شجاع ويلبس الـدرع والطاس

وياخذ تجاريب الـــــليالي دراســـه

ويمــيـّز الياقــوت من لمــعة الــــماس

ومن يصحب الأنذال وأهل النجاسه

يُــقـْـلب عــليه الهـرج في كل مجلاس

الذيــب يرفع هــمته عن مداســـــه

يوم يجوع وســاعـةٍ يــــرفــع الــراس

وبعض العرب مـــا همه إلا لباســـه

ودايم على عورات الأجواد عـــســاس

وحين نطالع قصائد الشعر النبطي نلحظ مدى سعة ثقافة الشعراء واطلاعهم على التراث الثقافي، ونلحظ جمال المزج بين الماضي والحاضر حين يعمد الشاعر إلى مفاجأة المستمع بنقله من الماضي السحيق إلى الواقع المعاصر، بذكر حكاية مشهورة من حكايا التراث القديم، وإسقاط المعاني بعدها على واقعنا المعيش بذكر أسماء أو رموز تدل عليه، وها هو الشاعر حمد بن علي بن مايقة الحبابي يَذكر في الأبيات الآتية حشدًا من الشُّعراء الأماجد في الفصحى؛ فيقول:

صناديد لهم باب النَّشيد

تفتَّح واستحلُّوا مغلقاتِهْ

الاخْطَل والفرزْدق مع جريرٍ

والاعْشى والذي سوَّى سواتِهْ

وابن ثابت وأبي سلمى زهير

وعمرٍو والضليلِ ومبكياتِهْ

وعنتر مَن هوى عبلةْ وقيس

هوى ليلى مسوِّي بهْ شراتِهْ

وذي الرمة والأقرع مع جميل

ومن قولهْ تسبَّب في وفاتِهْ

وبشار بن بردٍ والمهلهلْ

ومَن سمي الفحل بمقدماته

وحاتم والنوابغ وابن حلزهْ

وطرفة واطراف المعاني طراته

وأنا قصدي هو الشِّعر الفصيح

لهم فضْلُ القديمِ وسابقاتِه

إنّ الشعر النبطي  لم ينشَأ لمحاربة الفُصحى ولم يعرف عنه مزاحمتها، بل إنَّ التجارب المتراكمة تؤكد أنّه حاول أن يسير جنبًا إلى جنب معها واستقى منها واعتمد عليها ونهل من معينها، فقد اتخذ من طُرق الشعر التقليدي الذي يعتمد اللغة الفصيحة وأساليبه مرجعًا له.

إعلان

مقالات مشابهة

  • رئيس شؤون الضباط في وزارة الدفاع العميد محمد منصور: الجيش العربي السوري كان وسيبقى عماد السيادة الوطنية، واستعادة الكفاءات والخبرات العسكرية التي انشقت وانحازت للشعب في مواجهة نظام الأسد البائد والتي خاضت معارك الدفاع عن الوطن أمرٌ ضروري لتعزيز قدرات جيشن
  • الطواف العربي في رحاب التغيير : البحث عن دور
  • تركيا الأولى عالميا ضمن الدول التي يصعب فيها امتلاك منزل!
  • “واينت”: مفاوضات واشنطن وحركة الفصائل الفلسطينية المباشرة جاءت بنتائج عكسية
  • لهم فضْلُ القديمِ وسابقاته.. عن لغة الشعر النبطي
  • منصور بن زايد: يوم الطفل الإماراتي مناسبة نعزز فيها وعي المجتمع بحقوق الطفل واحتياجاته
  • أمير طعيمة: أضع ضوابط خاصة لاختيار الأعمال التي أشارك فيها .. فيديو
  • أكاديميون: ترامب يعود بالعالم لحقبة الفاشية في ثلاثينيات القرن الماضي
  • مهرجان هوليوود للفيلم العربي يكرّم أحمد حلمي
  • عبدالله بن سالم وسلطان بن أحمد يشهدان المجلس الرمضاني لـ«الشارقة للصحافة»