شام مصطفى

على خطى ابن بطوطة، والشريف الإدريسي، وابن جبير الأندلسي، يسير الشاعر والصحفي والرحالة السوري هاني نديم جامعا مرويات 20 عاما من السفر والترحال في مؤلّفه “فهرست ابن النديم: لوغاريتم الوجوه متتالية الخطى” الصادر مؤخرا عن دار كنعان للدراسات والنشر.

ويحيلنا العنوان الرئيسي “فهرست ابن النديم” مباشرة لعنوان المؤلَّف العربي الأول في مجال فهرسة الكتب “الفهرست” للمؤرّخ والكاتب البغدادي ابن النديم محمد بن إسحاق المعتزلي (توفي سنة 384 هـ) والذي جمع فيه كل ما صدر من الكتب والمقالات العربية في زمنه.

بينما يوضّح العنوان الفرعي للكتاب “لوغاريتم الوجوه متتالية الخطى” الفرق بين الكتابين؛ ففي حين يختص الأول بفهرَسَةِ الكتب، يختص الآخر بفهرسة الأمكنة وما احتضنته من آثار إنسانية ووجوه كوَّنت المخيال الجمعي للعالم بأسره.

ويجمع نديم بين دفتي كتابه، الممتد إلى 570 صفحة من القطع المتوسط، مرويات وأساطير من عشرات المدن حول العالم، ويرصد أحوال المجتمعات العربية والعجمية وعاداتها وتقاليدها، ويفردُ فهارس لمقاهيها وصناعاتها وفنونها، ويتذوّق شاعرية أزقتها وأنهارها ومتاحفها بأسلوب جامع بين فنون السرد والشعر والمقال، ولغة عالية مكتنزة ويسيرة سهلة في آن.

فنجده أشبه بصيادي دياره الأولى (مدينة النبك السورية) يطارد فرائسه من معجزات الشعوب أينما وجِدَتْ، فمن تاريخ صناعة رسوم الكوميكس البلجيكية، إلى أساطير اكتشاف البن في إثيوبيا، ومن المقاومة عبر موسيقى الراي في الجزائر، إلى المكانة الكبرى التي يحتلها الماتادور ورياضة صراعة الثيران في المجتمع الإسباني، ليكون القارئ أمام رحلة في التاريخ الحضاري لأقوام من “كل أوروبا، ونصف آسيا، وربع أفريقيا، وثمن الأميركيتين” التي زارها الرحّالة.

شغف رحّالة

“دعوت بدعاء لست أكيدا ما إذا كانت جدتي لقنتني إياه حينها أو أنني أُلهمته، لا أعرف سببه أو أين سمعته، إلا أنه أصبح حرزي وطلسمي وبغيتي وضالتي بقية عمري: اللهم أرني بلادك وعرّفني عبادك”.

هي الدعوة التي ردّدها الطفل نديم ذات ليلة قَدر من على شرفة منزله في مدينة النبك عندما كان يراقب نجوم الصيف التي ظنها ملائكة تجمع الأمنيات فتحملها للخالق.

ولم ينتظر نديم إلى أن يكبر فيحمل جواز سفر يخوله ركوب الطائرات إلى مدنه المشتهاة، فسرق جواز سفر أخيه واتجه لإحدى شركات الطيران ليقطع تذكرة، فعلم موظف الحجوزات أن الجواز ليس لنديم وأنه يحاول الاحتيال، فيدوّن المؤلف “لو لم يكن على معرفة بأهلي لاتصل بالشرطة يومها وسجنت”.

ولاحقا استجاب الله لدعاء الطفل. وشبّ نديم مخلفا وراءه بلدته وبلاده، ساعيا خلف رزقه، ومطاردا حلما ملحا في طواف غير منقطع لديار قريبة وأخرى قصية، مُجسدا نموذجا فريدا في حب الترحال والطواف.

الهامش لا المتن

ولما كان نديم شاعرا مرهفا، ومثقفا “يحيا بالتاريخ ويموت” وصحفيا يرتبط رزقه باتساع معرفته واطلاعه، فإنه ينطلق في كتابه من أرضية صلبة لذات واضحة التوجه في ميلها إلى لغتها وأرضها وإرثها الحضاري.

وينعكس ذلك على زاوية النظر التي يرى منها الرحالة الظواهر المختلفة التي يدون عنها في رحلاته، فهو يميل إلى “الهامش” وثقافته، وإلى الفنون التي تحمل سردية المضطهدين، وحتى في المدن التي يزورها يفضل الهوامش، ويقول في مقدمة الكتاب “لقد نبشت من هوامش البلاد وأزقتها الخلفية ما نبشته، ووضعته في المقدمات والمتون”.

ويتحوّل الهامش في كتاب نديم إلى مقدمة ومتن، ليسلّط الضوء -في جزء منه- على حال الذات الجمعية العربية وموقعها الهامشي في حقبة الاستقلال أو “ما بعد الاستعمار” وما تعانيه من أزمات في صراعها حينا وحوارها أحيانا مع الآخر الثقافي والحضاري، لتبدو صورتها متناقضة ومنقسمة بين موقفها من الآخر صاحب الإرث الاستعماري، وبين التفاعل معه بوصفه صاحب منجز حضاري لا يمكن تجاهله.

 

وتعكس سيرورة فن الراي الجزائري هذا التفاعل الجدلي بين الذات والآخر، فيستغل نديم رحلته إلى مدينة وهران الجزائرية لتتبع مسار نشأة وتبلور موسيقى الراي منذ أن كانت موسيقى محلية في القرن الـ18 وصولا إلى العالمية في تسعينيات القرن الماضي.

فكان الراي “لغة المهمّشين في مجتمع مستعمَر، فبدأ مع مقاومة الاستعمار ومقاومة الحياة البائسة” ولكن مع جلاء الفرنسيين عن الجزائر (5 يوليو/تموز 1962) أخذ مجددون في موسيقى الراي من أمثال “خالدي المعسكري” و”صافي بوتلة ” بإدخال أنماط موسيقية غربية إلى النغم المغاربي الأصيل للراي، وما هي إلا سنوات بعد ذلك حتى غزا الراي العالم، وأصبح ينافس ألبوم “الشاب خالد” في مبيعاته المغني الأميركي الشهير مايكل جاكسون.

وعلى هذا المنوال تتجه بوصلة نديم نحو “الهامش لا المتن، الشروح لا النصوص، المجاز والإحالة لا المعنى والمباشرة” لتبدو زاوية نظره تحديا لعالم يزداد فيه التركيز على المراكز ومصالحها.

رحلة في دهاليز الخيال

ينجذب الكاتب إلى أساطير الشعوب ومروياتها وأمكنتها العريقة وموسيقاها أكثر ما ينجذب، حتى لتبدو رحلاته أشبه بمحاولة للإحاطة بجمل ومفردات المخيال الجمعي لكل شعب من شعوب البلدان التي زارها على مدار 20 عاما.

فإذا حط رحاله في إسبانيا روى لنا مطولا عن تاريخ رياضة مصارعة الثيران، وعن الماتادور (قاتل الثيران) الذي تُقام له النصب التذكارية في الساحات العامة تعبيرا عن مكانته في وجدان الإسبان، ليُتبِعَ كل ذلك بفهرست يضم أهم مصارعي الثيران في تاريخ هذه الرياضة.

وإن وصلَ باريس، أخذ يزور مقاهيها ويسرد عن تاريخ تأسيسها، ويعد أهم الشخصيات التي جلست على طاولاتها، وكيف أسهمت تلك المقاهي في صناعة حاضر المدينة الأكثر شهرة في العالم، واضعا بعد ذلك فهرست “تخليص الإبريز في تلخيص مقاهي باريس”.

وبأسلوب مشابه وسرد رشيق عن رحلاته إلى عواصم العالم، يمهِّد نديم لفهارس عديدة لاحقة تضم مقاهي بيروت والقاهرة ودمشق وعمان والمغرب والقارة العجوز، فالمقاهي “بذرة مجتمع أولية سرعان ما تفرز بعضها البعض، وتتطوّر من جينات اهتماماتها وصلب طموحاتها” مشكلة مرآة لهوية ومخيال سكان المدن.

ومن الأماكن الخاصة كالمقاهي، ينتقل نديم إلى الفضاءات العمرانية المفتوحة ليستنطق جماليات المدن والبلدات، ويطارد منابع الشاعرية فيها، ثم يعرّج على أساطير الشعوب والقصص المهيمنة على خيالها، فمن فايكينغ السويد، مرورا بقصص الرعب في ألمانيا، وصولا إلى حكايات الذئاب في بلدته “النبك”.

ويخصص الكاتب فهارس لما تشتهر فيه كل دولة من الدول التي زارها، فلإيطاليا فهرست أبرز مصممي الأزياء، ولبلجيكا فهرست أهم فناني رسوم الكوميكس، ولتركيا فهرست أساطين غنائها، ولهولندا فهرست رساميها، وهكذا تتعاقب الفهارس معرفة القارئ بأوجه كل ظاهرة ثقافية أو فنية من تلك الظواهر التي يعرض لها الكاتب في رحلاته.

أدب الرحلة الوصفية

ويندرج كتاب “فهرست ابن النديم: لوغاريتم الوجوه متتالية الخطى” تحت “أدب الرحلة الوصفية” والتي يصف فيها الرحالة المعالم الحضارية والثقافية للبلدان التي يدون عنها، إلى جانب انطباعاته الشخصية عن تلك المعالم والأقوام مستعينا بالشكل القصصي، فيزود القارئ بمعلومات قيّمة من وحي التجربة والواقع متميزا بذلك عن غيره من الأجناس الأدبية.

ففي كتابنا ينتقل الرحالة دائما من الكلي إلى الجزئي، ومن العام إلى الخاص، فيكفل للقارئ المتعة والمعرفة وحسن الاطلاع في آن، متجنبا تقديم مادة سردية جافة.

ويبدو واضحا منذ البداية أن نديم لم يكن مهتما بإخراج مؤلَّف له خصائص شكلية واضحة ومحددة، لذلك جاءت الأخبار والقصص والحكايات متقطعة وغير متسلسلة تبدأ من القلمون السوري ثم تنتقل فجأة إلى باريس ثم مراكش فروما وغيرها من المدن دون وجود معيار زمني أو جغرافي يحدد ذلك الانتقال، فما إن يبدأ الكاتب بحكاية حتى نراه يندفع إلى أخرى ويشبعها بحثا وتفصيلا، ثم سرعان ما يقفز إلى ثالثة غير منشغل بالبحث عن ترابط منطقي بينها.

ويشحن الكاتب مؤلَّفه بالكثير من الاقتباسات عن أغان أحبها أو سمعها ليستمد منها مادته التعبيرية التي غالبا ما جاءت على هيئة مذكرات دُست في تضاعيفها حكايات الارتحال، ولعل كونه شاعرا وصحفيا وكاتب أفلام وثائقية في آن ساعده على الجمع بين القص والشعر والمقال بلغة أدبية رفيعة.

وقد شغل الشاعر والصحفي نديم خلال مسيرته المهنية عددا من المناصب كان أبرزها: مسؤول القسم الثقافي بمؤسسة التراث السعودية (1998-2000)، مدير نصوص إبداعية في وكالة غراي للأفلام الوثائقية (2005-2009)، وفي رصيده عديد الأفلام الوثائقية والدواوين الشعرية.

 

المصدر : الجزيرة

 

المصدر: الوحدة نيوز

كلمات دلالية: الامم المتحدة الجزائر الحديدة الدكتور عبدالعزيز المقالح السودان الصين العالم العربي العدوان العدوان على اليمن المجلس السياسي الأعلى المجلس السياسي الاعلى الوحدة نيوز الولايات المتحدة الامريكية اليمن امريكا انصار الله في العراق ايران تونس روسيا سوريا شهداء تعز صنعاء عاصم السادة عبدالعزيز بن حبتور عبدالله صبري فلسطين لبنان ليفربول مجلس الشورى مجلس الوزراء مصر نائب رئيس المجلس السياسي نبيل الصوفي

إقرأ أيضاً:

من أرشيف الكاتب أحمد حسن الزعبي .. قصاصة حقيقة!

#قصاصة_حقيقة!

من أرشيف الكاتب #أحمد_حسن_الزعبي

نشر بتاريخ .. 18 / 3 / 2017

كانت تحضر مع انتهاء الفصل.. مع نهاية الشتاء مثلاً أو آخر زفرات الصيف، لكنها مثل الطيور المهاجرة تحافظ على هذين التوقيتين ولا تحيد بوصلتها عنهما، لا أذكر ملامح صاحبها، ولا أحد يعرف في أي ساعة كانت تدخل المدينة، كل ما أذكره أن الخبر كان ينتشر سريعاً بين أولاد الحي، ليقفز مثل الغيمة فوق الأحياء القريبة، وتبدأ النساء يحضّرن وجبات القماش..

مقالات ذات صلة “أوتشا”: أزمة الجوع مستمرة بالتفاقم في غزة 2025/01/10

هيكل حديدي ضخم نسبياً يرتكز على عجلين صغيرين.. لها فوهة مثل فوهة البركان يبتلع القطع الكبيرة ومزراب صغير ينزل منه فتات الملابس والخيطان وقد اختلطت ألوانها.. صاحب “مطحنة الشرايط” كان يحضرها في الساحة الترابية الممتدة بين مقبرتي المدينة، لم يغيّر يوماَ ذاك المكان البائس، ولم يحاول أن ينتقل إلى ساحات أكثر حيوية، ربما لأن الملابس العتيقة المنوي طحنها هي “موتى” الملابس، والمقبرة مكان ملائم لهذه النهايات، وربما أن الملابس نفسها تعود إلى بعض الموتى، فكان المكان ملائماً لإلقاء النظرة الأخيرة على ما كانوا يرتدون قبل أن يتقمّصوا البياض الأبدي، وربما أن ضوضاء الماكنة وصوت محركها المرتفع لا يحتمله إلا الميت، والميت لا يقوى على المنازعة أو الشكوى.. لذا اختيار هذا المكان ليكون مقرّاً مؤقتاً لطحن الذكرى والزمن الملتصق على أبدان الثياب كان له دلالات كثيرة..

كانت تحضر الأمهات أكياس الألبسة العتيقة على رؤوسهن من كل الأحياء، يضعنها قرب القبور الجديدة وينتظرن دورهن في “طحن القماش”.. قمصان انتهت موضتها وتسببت بتخمة زائفة للخزائن الضيقة، سراويل قديمة قضمت من الركبة ذات سقوط وكانت عصية على كل الرقع، معاطف اختزلت فصول الشتاء والعواصف والرعود والركض إلى المدرسة في طرق الطين، فخرج الصوف من قلب البطانة وبدأ يثلج كتلاً أثناء المسير، قبعات قضمها فأر الشتاء في عتمة الخزانة فأحدث ثقبها بيضوياً عند الجبهة، فنفر الأولاد من لبسها، وثوب تزاحمت الرقع على الشقوق فصار الثوب رقعة كبيرة..

كنت أسأل نفسي لم ما زلنا نحلم بالعائلة القديمة بتقاسيمهما وأصواتها وملابسها، لم ما زالت الأحلام طفلة رغم كهولتنا؟
الأمهات القديمات لم يكنّ يحببن التجديد والإتلاف.. دائماً يرغبن في إعادة التدوير والاستفادة من الممكن.. حتى القمصان والبناطيل البالية الذاهبة في طريقها إلى الطحن، كن يقطعن منها الأزرار، ويستخرجن السحّابات المعدنية، قبل أن يسلّمن إلى مقصلة الملابس.. تبتلع الماكنة الخصر والحجول والأكمام، تتناثر الخيطان فوق فوّهة الآلة كرذاذ الكلام من فم عجوز.. ثم بعد لحظات يخرج مزيجاً من الألوان يغلبه الرمادي من مزراب القماش المسحوق.. تملأ الأمهات أكياسهن بطحين الخيوط والملابس والقطع الصوفية، ثم يحملنها إلى البيوت ثانية ليصنعن منها وسائد للصغار، أو مساند للضيوف، أو لحفاً ثقيلة للشتاء القادم، فهذا المزيج من القطن والصوف والنايلون والجينز والكيتان.. يمكن أن يكون وسادة أو لحافاً أو فرشاً عالياً يجلس عليه أهل البيت ويغنيهم عن فراش جديد..

كنت أسأل نفسي لم ما زلنا نحلم بالعائلة القديمة بتقاسيمهما وأصواتها وملابسها، لم ما زالت الأحلام طفلة رغم كهولتنا؟ فاكتشفت أن السرّ في الوسادة واللحاف.. كيف لوسادة تحمل خليط ملابسهم ورائحتهم أن تنساهم؟ كيف لها ألا تنسج خيوط الحلم من معاطفهم الشتوية ورعشاتهم الطفولية وكنزات الصوف المعتقة بقصص أمي الليلية؟

كان يا مكان.. كان هناك “مطحنة شرايط” تأكل ملابسنا في النهار ثم تنسج أحلامنا من الوسائد في الليل، ترى ماذا لو كانت هناك “مطحنة جرايد” تأكل كل الأخبار اليومية والوعود الرسمية وحل الدولتين وحدود الرابع من حزيران، ورفض تقسيم العراق المقسم، والحفاظ على وحدة سوريا المشتتة؟ لو أن هناك مطحنة تلوك كل هذا الورق المجبول بالحبر، وتنبت لنا قصاصة حقيقة واحدة أو وسادة صدق تصحح أحلامنا!

ااحمد حسن الزعبي

ahmedalzoubi@hotmail.com

مضى #193يوما …

بقي #83يوما

#الحريه_لاحمد_حسن_الزعبي

#سجين_الوطن

#متضامن_مع_احمد_حسن_الزعبي

مقالات مشابهة

  • ورد الآن .. بيان مهم للقوات المسلحة اليمنية “نص البيان”
  • هذه هي النصائح والتوجيهات التي تحتاجها للسفر بأمان على الطائرة
  • فقدان “إسرائيلي” في تايلاند والعثور على جثته مقتولاً
  • نديم الجميّل: صفحة جديدة فتحت في لبنان
  • “إنفيديا” الأمريكية تنتقد القيود التي تعتزم إدارة بايدن فرضها
  • من أرشيف الكاتب أحمد حسن الزعبي .. قصاصة حقيقة!
  • حرائق الغابات في لوس أنجلوس تحرق منازل “هوليوود” 
  • حماس توافق على قائمة “الرهائن” التي قدمها الاحتلال للمرحلة الأولى 
  • الدولار بالعراق: “152 ألفاً للورقة”
  • رسالة مؤلمة جدا من الكاتب السجين