#موقف_عمومي
د. #هاشم_غرايبه
استمعت في حديث لأحد الدعاة المعروفين، لقصة سمعتها من واعظ آخر أيضا، ويقول إنها حدثت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ومفادها أن أحدهم سافر سفرا طويلا، وأوصى زوجته أن لا تخرج من البيت، وبعد فترة وصلها خبر أن أباها مريض، لكنها التزاما بما أمرها به زوجها لم تذهب لعيادته، ولما اشتد عليه المرض أرسلت الى رسول الله صلى الله عليه وسلم تستشيره في جواز زيارتها لأبيها، فقيل لها إنه يقول لك التزمي بما أوصاك به زوجك، وعندما وصل به الأمر الى الاحتضار وطلب رؤيتها، كررت الاستشارة فجاءتها كما الأولى، فالتزمت ومات والدها ولم تره.
لو ناقشنا معقولية حدوث هذه القصة سنجد أنها غير معقولة أصلا ومخالفة للشرع أيضا، وبالتالي لا يمكن للنبي صلى الله عليه وسلم أن يأمر بما يخالف ما أمر به الله من صلة الوالدين وبرهما وطاعتهما فيما لا يخالف الشرع، فقد حدد تعالى الحالة الوحيدة التي يجوز مخالفة أمرهما هي أمرهما له بالشرك: “وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا” ومع عظم وزر ما يأمران به، فليس له أن يقطع صلته بهما، بل يبقي على طاعتهما فيما خلا ذلك وصلتهما وحسن معاملتهما: “وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا” [لقمان:16].
واضح أن القصة منسوجة أو محوّرة، لتؤدي وظيفة وعظية، وهي رضوخ الزوجة لهوى الزوج الذي وصل به تشدده الى مرض الوسواس الشكي في الآخرين، والذي قد يصل به انحرافه الى درجة سجنها وعدم السماح لها بالتواصل مع أحد حتى مع من هي مأمورة من الله بالبقاء على تواصل معهم وأولهم والديها، أي أنهم يرون أن طاعة الزوج مقدمة على طاعة الله.
قصص كثيرة نسمعها كثيرا نسجها آخرون، ليسوا متشددين، بل مستقيمون لكنهم يريدون الوعظ والتخويف من عاقبة البغي على الآخرين وظلمهم، فيروون بحماسة أنهم يعرفون شخصا أكل أموال ابناء أخيه الأيتام، وفي اليوم التالي جاءته رصاصة طائشة فمات، وآخر اشترى أرضا من أحدهم فغبنه وأخذها بنصف السعر، وبنى عليها بناية، ولما أكملها صعد على السطح فوقع عنها ومات.
وكل يوم تسمع قصة جديدة يقسم لك راووها أنها حدثت حقيقة، هدفهم من ذلك أن يخاف الظالمون ويعتقدوا أنهم سينالون عقوبة فورية من الله.
ينقض مصداقية هذه الروايات مخالفتها لسنة الله في خلقه وهي أن الثواب والعقاب ادخره الله الى يوم القيامة، وليس ما يصيب الإنسان (سواء كان مؤمنا أو كافرا) من شر في الدنيا هو عقاب على معصية ارتكبها، ولا ما يناله من خير هو ثواب على عمل صالح عمله: “فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ . وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ” [الفجر:15-16]، فيجيب الله تعالي في الآية التي تليها : ” كَلَّا ” .. أي ليست هذه هي سنة الله، بل هو ابتلاء في كلتي الحالتين: العطاء والحرمان.
مع أن هنالك عقوبات دنيوية قبل العقوبة الأخروية لأفراد وأقوام، مثل قارون وعاد وثمود وغيرهم، لكنها محددة معدودة وأرادها الله لتكون عبرة، ومكملة لسنة الابتلاء العامة للبشر.
إن ما ينقض هذه الروايات، أن العقاب الفوري للظالم، أو النجاة لمن رجع عن ظلمه، ليست من سنن الله في خلقه، فلو كان كل من اقترف ذنبا أو أكل حق غيره عوقب في الدنيا، لما جرؤ أحد على فعل سيئة، خوفا من العقاب المباشر، ولصار الناس كلهم فاعلي خير، طمعا في نيل عطاء الله الفوري جزاء إحسانه..وإذن لسقط عن البشر التكليف، ولبطل مبرر الحساب والعقاب في الآخرة.
يعتقد بعض الوعاظ أن حسن نيته في تحقيق الصلاح والحض على التقوى، تبرر له اختلاق القصص وترويج الحكايات الخرافية ذات المغزى الداعي الى الفضيلة، لكن ذلك هو أحد أبواب الكذب، والكذب نقيض للصلاح، ولا يوجد باب منه يفتح على الإيمان.
الكذب حبله قصير، وحين اكتشافه يذهب الهيبة ويبطل الحجة، وعاقبة ذلك تنعكس سلبا على الدعوة، إذ يكفي اكتشاف تزوير واحد لكي يؤخذ حجة على الدين ذاته، ويُذهب الثقة بجهود كثير من الصادقين. مقالات ذات صلة نور على نور 2024/08/03
المصدر: سواليف
كلمات دلالية: موقف عمومي
إقرأ أيضاً:
هل عدم زيارة المدينة يؤثر على صحة العمرة؟.. أمين الفتوى يوضح الحكم الشرعي وفضل زيارة النبي
تلقى برنامج «فتاوى الناس» سؤالًا من أحد المشاهدين، أحمد من أسوان، قال فيه: «أنا في العمرة بطوف سبع مرات وبسعى سبع مرات، ومش عايز أروح المدينة. هل لو ما رحتش الروضة عند النبي صلى الله عليه وسلم يبقى عليَّ ذنب؟».
وأجاب الشيخ خلال لقائه على قناة الناس بأن العمرة صحيحة تمامًا ما دام المعتمر أتى بأركانها الأربعة: الإحرام، الطواف، السعي، والحلق أو التقصير، مؤكدًا: «من ناحية الأحكام الشرعية عمرتك صحيحة ولا حرج فيها».
وانتقل إلى جانب الأعمال القلبية، متسائلًا: «إزاي تبقى في مكة المكرمة وما تروحش لسيدنا النبي صلى الله عليه وسلم؟ إزاي المسافة تبقى قريبة بينك وبين المدينة وما تروحش تزور خير الخلق؟».
وأشار إلى أن المذاهب الأربعة كلها قالت باستحباب زيارة النبي صلى الله عليه وسلم بعد الانتهاء من الحج أو العمرة، مستشهدًا بكلام الإمام النووي: «ويستحب للمعتمر أو الحاج أن يذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أداء المناسك».
وتساءل: «يعني تبقى موجود في مكة، وسيدنا النبي على بُعد ساعات قليلة، وتمنع نفسك من السلام عليه؟ والنبي بيقول: ما من مسلم يُسلم عليّ إلا رد الله عليّ روحي حتى أرد عليه السلام».
وأضاف أن الصلاة في الروضة الشريفة فضل عظيم، مستشهدًا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة»، قائلًا: «يعني مكان من الجنة.. مش عايز تصلي فيه؟».
وروى الشيخ قصة أحد الصحابة الذي كان لا يطيق البعد عن وجه النبي، وشكا له حزنه من أن يفارقه في الآخرة، فأنزل الله قوله تعالى: «وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم…» الآية، ففرح الصحابي فرحًا شديدًا.
وأوضح أن الآية: «ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله…» تدل على فضل المجيء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وطلب الشفاعة والدعاء عنده.
وعلّق على الأحاديث الواردة في فضل زيارة قبر النبي، مثل: «من حج البيت ولم يزرني فقد جفاني» و«من زار قبري وجبت له شفاعتي»، مبينًا أن علماء الحديث قالوا إنها أحاديث مقبولة ويُعمل بها في فضائل الأعمال.
وقال: «أنصحك.. طالما ربنا كتب لك الوصول للحرمين، فلا تحرم نفسك من زيارة سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم، والسلام عليه، والصلاة في الروضة، والإكثار من الاستغفار هناك».