ما وقع خلال حفل افتتاح الألعاب الأولمبية بباريس من تطاول على الثوابت المسيحية ليس حدثًا عابرًا أو صدفة عارضة، بل يؤشر في العمق على منعطف جديد وتحول جوهري في تاريخ العلاقة بين الفضاء الثقافي العمومي من ناحية، وبين القيم الروحية الفكرية من ناحية ثانية. فقد حرص المنظمون لهذا الحفل على استغلال رمزية الحدث؛ لتمرير رسالة مفادها أن الغرب قد قطع صلته بالقيم والأخلاق الدينية القديمة، وأصبح يتبنى قيمًا ومرجعية أخلاقية جديدة.

إن الإخراج المسرحي الجديد، لعشاء المسيح عليه السلام الأخير، يؤشر على أن المنظومة ما بعد الحداثية قد بلغت المنتهى في تفكيك القيم الثقافية القائمة على الدين، لتضع محلها قيمًا جديدة قادرة على استيعاب كل شيء، المعنى واللامعنى، الإيمان والكفر، السوي أو قل باختصار الشيء ونقيضه. لقد أريد لاحتفالات افتتاح الألعاب الأولمبية أن تكون إعلانًا رسميًا على دخول حقبة تاريخية جديدة، يتوسع فيها مفهوم الثقافة الغربية ليستوعب كل شيء، مهما شذّ. فبالدخول مرحلة شخصنة الثقافة يصبح مفهوم الشذوذ ذاته شاذًا.

لا جدالَ في أن للإعلان عن انتصار مفهوم الثقافة المتحرر من ربقة المسيحية وإرثها الروحي الكبير، انعكاساتٍ ليس على مستوى العلاقة بين مكونات الغرب الثقافية داخليًا فحسب، بل على مستوى علاقة الثقافة الغربية عمومًا والعالم الخارجي كذلك. ولا شكّ في أن منظومة القيم الجديدة ستعيد تحديد طبيعة العلاقة بين الغرب، والعالم العربي والإسلامي.

من يقرأ كتاب «برنارد لويس» عن الإيمان والسلطة (Faith and Power) يجد فيه نموذجًا حيًا يجسد وعيًا غربيًا دفينًا بأن العلاقة بين الثقافات هي علاقة مغالبة، ومثالًا تطبيقيًا يوضح كيف ظلّ الغرب يوظف الثقافة لتحديد وإملاء مواصفات الزعامة الروحية والفكرية في العالم العربي والإسلاميّ.

ولعلّ هذا ما عمل «إدوارد سعيد» على إبرازه في كتابه عن الثقافة والإمبريالية (Culture and Imperialism). فمعلوم أن الغرب، في سعيه إلى فرض هيمنته، ظل يعمل على تجييش الثقافة وتحريب المثقف من أجل إخضاع الثقافات الأخرى، ومنها الثقافة العربية الإسلامية، وذلك بقطع صلات هذه الثقافات بمرجعياتها الروحية والفكرية.

ولعل الجديد الذي تُنبه عليه احتفالات باريس، هو أن الغرب بلغ مرحلة تاريخية لم يعد يكترث فيها بتوظيف الثقافة بغرض بلوغ الهيمنة الإمبريالية، قدر اكتراثه بما يمكن أن نصطلح عليه بـ «اللاثقافة». ومن هذا المنطلق يمكننا القول إننا أصبحنا في حاجة إلى تجديد الإطار المفاهيمي؛ لفهم طبيعة العلاقة بين الغرب والثقافة العربية الإسلامية. فلعله من المفيد في هذا السياق الانتقال من دراسة العلاقة بين «الثقافة والإمبريالية» إلى دراسة العلاقة بين «التكنولوجيا والإمبريالية».

لا جدال في أن الإنسان في المجتمعات العربية والإسلامية أصبح يشعر اليوم بأنه قد صار الضحية في عالم بلغ أقصى غايات العنف والعبث، وهذا ما يُورّثه حالة من الحيرة المتصلة، فتجده تارة يطلب التفسير الميتافيزيقي لما يحدث، وهو يستفتي منظومته الدينية الفقهية عسى أن يظفر بالجواب؛ وتجده تارة أخرى يُقبل على الخطابات الفكرية الفلسفية، يطلب التحليل العقلي والبرهان المنطقي يعلّل بهما ما يجري من حوله من أحداث. ويصدر هذا الإنسان عن جملة التفاسير والتحاليل الرائجة في بيئته التواصلية؛ كي يلتمس سبل الخروج مما هو فيه من حرج نفسي وضيق حضاري ومأزِق أخلاقي.

ولا غرابة في أن تبرز في سياق الحيرة هذا الحاجة إلى زعامات روحية وفكرية يناط بها مسؤولية صياغة التمثل الصحيح للواقع، ثم مسؤولية تعيين سبل الخروج من هذا الواقع. ولا شك أن مفهوم الزعامة الروحية والفكرية قد أصبح هو ذاته في حاجة إلى تمثل صحيح. فبعد أن كان الزعيم الروحي أو الفكري هو من يُفرزه الفضاء الثقافي العام لِيُنيط به مسؤولية النطق باسم المجتمع والأمة، صار هذا الزعيم مجرد مؤثر تحدد الخوارزميات مجال تأثيره في فضاء رقمي سمته التشتت والتشظي.

قبل الخوض في التحديات التي تواجه الزعامة الروحية والفكرية في الثقافة العربية الإسلامية في زمن الهيمنة التكنولوجية يحسن بنا أن نقف بعجالة عند مفهوم هذه الزعامة، كما تحددت بعض مدلولاته في تاريخ المجتمعات العربية والإسلامية.

لقد حاول ابن خلدون في مقدمته، مثلًا، أن يستشكل قضية الزعامة، حيث يذهب إلى القول بأن «العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصيغة دينية من نبوة أو ولاية أو أثر عظيم من الدين على الجملة». ويقف في معرض تعليله لهذا الأمر عند تفاصيل نفسية دقيقة. ولعل هذا ما يجعل الكثير من زعماء الفكر في العالم العربي والإسلامي يجتهدون من أجل تأسيس سلطة الفكرة، أو الأفكار التي يبشرون بها على قاعدة روحية دينية.

نفيد من هذا أن الأصل في الفضاء العمومي في السياق العربي والإسلامي أنه يُبنى على أساس الاحتكام لمنطق سرديات روحية وفكرية يقوم عليها إجماع الأغلبية. أما اليوم، ومع ما نشهده من نزوع متنامٍ نحو شخصنة هذا الفضاء، فقد أصبح فضاءً هجينًا يتوسل الفرد في بنائه بذاكرته وعاطفته الشخصيتين.

لقد أصبح عالم الهجنة القائم على المزج بين الافتراض والواقع يذكي شعور الفرد بالقدرة على تقمّص دور الزعامة الروحية والفكرية. فليس أقل من أن هذا الفرد أصبح وهو يحيل على هذا أو ذاك الزعيم الروحي أو الفكري إنما يثبت زعامته هو وتميزه في الاختيار والانتقاء. إن الأدوات التكنولوجية صارت تُمكّن الفرد من استدعاء الزعامة الروحية الفكرية استدعاءً يُكيِّفها مع مقتضيات الفضاء الشخصي، وحاجة الفرد إلى البروز والظهور وإثبات الذات.

ليست الثقافة العربية الإسلامية في منأى عن تأثيرات منظومة ما بعد الحداثة القيمية. وعليه يمكن القول إن دور الزعامة الروحية والفكرية في هذه الثقافة في انحسار وتراجع أمام ما أصبحت تتيحه الفضاءات الرقمية من مجالات واسعة لإثبات الذات.

المؤكد أن هذه الزعامة لم تعد تملك أدوات تحريك الواقع في عالم التواصل الجديد. فمن الواضح أن صبيب الصور والمعلومات، تحت ظل عالم التواصل الرقمي الممدود، حيث كل شيء عابر أو إن شئت قل سائلًا، أصبح يَحول دون رسوخ التجارب الروحية والمقولات الفكرية. فلعل تعلق البصر بتفاصيل الأحداث اليومية التي لا ينضب صبيبها أصبح يضيق ساحة النظر بالبصيرة. ونحن نعلم أن الزعيم الروحي والفكري يدعو الناس إلى التبصّر، لا إلى الإبصار فقط.

ليس المقصود مما سبق، القول إن محاولة تأسيس الفكرة الفلسفية السياسية على قاعدة روحية دينية، قد نجحت في ردم الهوة بين الجانب الروحي من ناحية، والجانب الفكري المتعلق بالاجتماع البشري من ناحية ثانية. هذه المحاولة ظلت ثابتًا من ثوابت كل الحركات الإصلاحية الدينية في الوطن العربي الإسلامي منذ منتصف القرن التاسع عشر على أقل تقدير.

كل القرائن تدل على صعوبة الجمع بين الزعامة الروحية الدينية والزعامة الفكرية السياسية، كما تدلّ في الوقت نفسه على صعوبة الفصل بينهما، وهو الفصل الذي يفضي إلى ضرب من العلمانية التي تقوم على أساس تخليص الفكرة والفعل السياسيين من عوالق الدين ونزع القداسة الروحية عنهما. فعند التأمل نجد العالم العربي والإسلامي اليوم يتأرجح بين رغبتين متضاربتين، الرغبة في الجمع بين الزعامة الروحية الدينية والزعامة السياسية، وبين الرغبة في الفصل بين هاتين الزعامتين.

إذا كان العالم العربي والإسلامي ما يزال عند مرحلة الصّراع حول الجمع أو الفصل بين الديني الروحي والسياسي الفكري، وهو صراع ما يزال متعلقًا بالفضاء العمومي وبمنطق الأغلبية والأقلية إلى حد بعيد، فإن الساهرين على تنظيم احتفالات باريس بمناسبة افتتاح الألعاب الأولمبية يؤكدون أن الصراع قد خرج من دائرة الدين والعلمانية باتجاه أفق قيمي جديد، هذا الأفق الذي حالت الثقافة العربية الإسلامية دون بروزه خلال بطولة العالم لكرة القدم التي أجريت في قطر.

الراجح أنّ المنظومة القيمية التي حاول المنظمون لحفل افتتاح ألعاب باريس الأولمبية إبرازها، ستحدد شكل الصراع القادم ليس بين العالم الغربي والعالم العربي والإسلامي فحسب، بل بين العالم الغربي وباقي الثقافات، بما في ذلك ثقافته الموروثة.

ولعل من يحقق النظر فيما تعد به هذه المنظومة من حريات فردية لا حدود لها، يجدها لا تخلو من المزايدة وردود الأفعال، ويحملها على أنها حريات تعد بهدم كل الزعامات الروحية والفكرية للمجتمعات، بل تقوض فكرة المجتمع في أساسها.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلامية

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات الثقافة العربیة الإسلامیة العالم العربی والإسلامی العلاقة بین من ناحیة أصبح ی

إقرأ أيضاً:

«العربي للدراسات»: العالم الغربي يقدم دعما بلا حدود لإسرائيل لإبادة الفلسطينيين

 

قال الدكتور مختار غباشي، نائب رئيس المركز العربي للدراسات السياسية والاستراتيجية، إن مصر وتركيا أدركا أهمية الملفات الخارجية المشتركة بينهما ولا بديل سوى أن يكون هناك تعاون مشترك في هذه الملفات.
وأضاف الدكتور مختار غباشي، محمد موسى خلال تقديم برنامج "خط أحمر" على قناة الحدث اليوم، الوضع في قطاع غزة في أمس الحاجة إلى الجانب التركي وإلى أي دولة تستطيع أن تقدم مساعدات أو يد العون للجانب الفلسطيني أو تستطيع أن تشكل آلية ضغط على الولايات المتحدة الأمريكية والعالم الغربي الذي يقف خلف إسرائيل وقفا بلا حدود.
تابع نائب رئيس المركز العربي للدراسات السياسية والاستراتيجية، التعاون المشترك بين مصر وتركيا قادر على إنهاء 90 % من المشاكل التي تواجه الملف الليبي والسوري وهناك رؤية مصرية بضرورة خروج كل القوات الأجنبية الموجودة داخل الساحة السورية، ومعلوم أن تركيا لها شكل من أشكال التدخل العسكري في إقليم شرق وشمال سوريا داخل سوريا، والتعاون مع مصر يساعد كثيرا في حل هذه المعضلة ونستطيع أن نصل إلى تسوية فيها.

مقالات مشابهة

  • حزب «المصريين»: الحوار الوطني أصبح ركيزة أساسية لبناء مستقبل أفضل
  • اجتماع موسع بوزارة الثقافة والسياحة
  • الممثل والمخرج قاسم إسطنبولي عضو لجنة تحكيم في مهرجان صيف الزرقاء المسرحي العربي
  • المسرح العربي والخليجي يودع عميد المسرح القطري موسي زينل
  • فضيحة غرامية تطيح بوزير الثقافة الإيطالي.. وميلوني تصفه بالرجل "الأمين"
  • «محدش طايقه».. كيف أصبح وزير الأمن القومي الإسرائيلي الأكثر كراهية في العالم؟
  • "محرم وشركاه" تشارك في المنتدى الدولي للاتصال الحكومي بالشارقة
  • الشهري يكشف توتر العلاقة بين مانشيني ولاعبي المنتخب السعودي
  • «العربي للدراسات»: العالم الغربي يقدم دعما بلا حدود لإسرائيل لإبادة الفلسطينيين
  • الاستباحة المتأصلة في التعليم والثقافة اليهودية