عربي21:
2025-04-30@20:07:51 GMT

انت جيت هنا ليه؟.. (يوميات معتقل- 4)

تاريخ النشر: 4th, August 2024 GMT

"من الصعب عليّ أن أنسى.. من الصعب عليكم أن أتذكر"..

هذه أول عبارة دوّنتها على الورق في السجن، كان الحصول على ورقة وقلم في الأيام الأولى مسألة صعبة، فقد كنت أقيم في غرفة العزل مع عدد متغير من السجناء الجنائيين، وكلهم لا يهتمون بأمر الكتابة والتدوين، حتى رسائل السجناء المعتادة إلى الأهل لم تكن تشغل بال نزلاء زنزانة العزل، لأنهم محرومون من الزيارات، وممنوعون من التريض، وحتى من الاتصال بالسجناء الآخرين إلا بطرق احتيالية مخالفة للأوامر.

.

الشعور الذي يسيطر عليك في الأيام الأولى للسجن، يكاد يتشابه عند جميع السياسيين، لأنهم يؤمنون بشدة من داخلهم أنهم لم يرتكبوا جريمة يستحقون عليها مثل هذا العقاب، لذلك يشعرون كلهم تقريبا بخليط من الغضب المكتوم، والدهشة التي تقترب من الذهول، والاغتراب الذي يستمر أياما وأحيانا يتمدد لفترات أطول، وعدم التصديق بأن "رجلا ما" يستطيع أن يصادر حريتك ويلقي بك في السجن ظلما لمجرد أن رأيك لم يعجبه..

الشعور الذي يسيطر عليك في الأيام الأولى للسجن، يكاد يتشابه عند جميع السياسيين، لأنهم يؤمنون بشدة من داخلهم أنهم لم يرتكبوا جريمة يستحقون عليها مثل هذا العقاب، لذلك يشعرون كلهم تقريبا بخليط من الغضب المكتوم، والدهشة التي تقترب من الذهول، والاغتراب الذي يستمر أياما وأحيانا يتمدد لفترات أطول، وعدم التصديق بأن "رجلا ما" يستطيع أن يصادر حريتك ويلقي بك في السجن ظلما لمجرد أن رأيك لم يعجبه
شعور يشجع على التأمل في حالة السجن ويغذي الفضول الداخلي للحوار مع السجناء الآخرين حول "القضية المركزية" لكل السجناء: انت جيت هنا ليه وازاي؟!

وأسرد لكم بعض الحالات كما احتفظت بها ذاكرتي:

صقر العرباوي:

حكى لي صقر بكل فخر وصراحة أنه كان "قاطع طريق"، لكنه لم يدخل السجن عقابا على هذا "العمل الشريف" (كما قال لي مقتنعا)، لقد دخل السجن لأنه قرر تسليم نفسه للسلطات بعد سنوات من غيابه عن وحدة الأمن المركزي الذي أدى فيها خدمته العسكرية:

"كنت مجندا في شمال سيناء، كانت مهمة سهلة بالنسبة لي، فأنا من عشاق السلاح، أحب البندقية وأصوات ضرب النار، حتى أنني كنت أسلي نفسي ليلا بإطلاق الرصاص بلا أي سبب، وعندما يستيقظ الضابط المناوب مفزوعا على صوت الطلقات، ويأتي مسرعا للاستفسار، أخبره بأنني شاهدت أشباحا من الملثمين تتحرك بالقرب من المعسكر فأطلقت الرصاص باتجاههم، حتى اختفوا..

كنت أقضي شهرا ونصف في المعسكر وأعود إلى دياري لمدة أسبوع، أستغله في الحصول على "شوية فلوس" أصرف منها على نفسي، وكان عملي في صحراء تشبه مكان المعسكر، أقوم بتأمين طرق ومخازن المخدرات للمعلم غريب، بمجرد عودتي في الإجازة أذهب إليه فيقول: "جاي ليه من غير عمك عواد؟"، والمقصود بـ"عمي عواد" هو السلاح.

وإلى جانب عملي الرسمي مع المعلم غريب، كانت لي "طلعاتي" الليلية الخاصة، بعد منتصف الليل أركب الموتوسيكل والسلاح على ظهري واللثام على وجهي، وأختار بعض الشاحنات التي تقف على جانب الطريق ليرتاح السائقون من السفر الطويل، أضع فوهة البندقية في رأس السائق وأطلب منه "كارتة الأمان" وأقبل بما يدفع.. 100 جنيه، مائتين، مش مهم، المهم يدفع حاجة، أصطاد كام واحد من السائقين الذين اعتادوا على هذا، وأقنع برزق الليلة، واللي بعدها نشوف غيرهم..

طبعا لم يكن في بالي أبدا أن أطلق الرصاص على أي سائق حتى لو رفض الدفع، اللعبة كلها سلمية ومفهومة للطرفين، وبعد انتهاء الإجازة كنت أعود للمعسكر، وأعيش حياة أخرى تختلف عن معظم زملائي المجندين، فهم يطيعون الأوامر من غير تفكير ويقبلون بالمذلة والإهانة من أي رتبة ومن أي مجند اقدم منهم أيضا، ولا ينفقون شيئا من جيوبهم، لأن راتبهم العسكري القليل كان هو دخلهم الوحيد، ويا عالم بالظروف الصعبة التي يعاني منها كل واحد فيهم، فكلهم صنايعية ومزارعون أجبرتهم فترة التجنيد على ترك أعمالهم والانتهاء من الخدمة العسكرية لهدف أساسي هو الحصول على شهادة إنهاء الخدمة لاستخراج جواز سفر والحلم بفرصة عمل خارج البلاد.

أما أنا فلم يكن يشغلني السفر، ولا حتى شهادة الجيش، كانت فكرة خبطت في دماغي لما توترت علاقتي مع واحد شايف نفسه من صبيان المعلم غريب المقربين، وبدأت الأحوال تتغير معايا، وفي الوقت نفسه ابتعد عني معظم الأصدقاء لاتجاهم إلى التجنيد، أو لانشغالهم في حياتهم ورزقهم. وفي "لحظة زهق" أخذت ورقي ورحت التجنيد، وقعدت مبسوط قرابة 3 سنين، حتى حصلت حادثة راح فيها تلاتة من زمايلي في الكتيبة، واحد منهم كان على وشك الانتهاء من خدمته، وحصل على تصريح إجازة لعقد القران على خطيبته الذي كان يحكي لي كلما سهرنا معا عن حبه لها، وأمله في إنهاء الخدمة بسلام ليتزوج ويعيش في هناء..

موت زملائي أصابني بحالة من الغم والاكتئاب، خاصة أننا لم نعرف حقيقة ما حدث، كما كان يحدث معي كثيرا، سمعنا صوت ضرب نار بالليل، وحصل اشتباك في الظلام، ومحدش عارف مين بيضرب مين، ولما بدأ النهار يشق الظلام بعد الفجر، لقينا الجثث والمصابين، ولم نجد أي أثر لطرف آخر..

هل كانت المعركة متوهمة على الطريقة اللي كنت بعملها تسلية في ليل الخدمة الطويل؟ أم أنها مواجهة مع إرهابيين أو "بدو" كان غرضهم سرقة سلاح المجندين؟

نزلت في إجازة ولم أعد للمعسكر مرة تانية، رغم أن كل الباقي من فترة تجنيدي أقل من 6 أشهر، ورجعت بقوة لطريقتي القديمة في العمل والمعيشة، لكن رجعت بعنف وعصبية ومشاكل كتير، وخسرت علاقات كتير بسبب العصبية والرغبة في الابتعاد عن الجميع، اخترت مكانا منعزلا في الجبل، واعتبرته خلوة مع نفسي، لما اتخنق آخد بعضي في عز الليل وأروح هناك، أقعد بالساعات نايم على ظهري، أدخن وأبص للسما.. لو سألتني بتفكر في إيه يا صقر؟ ولا حاجة، ولا أعرف ولا افتكر..

وبرضه بعد سنين.. تقريبا أربع سنين، قررت أرجع الكتيبة وأسلّم نفسي وأحاول أجرب حاجة تانية في الحياة، واتحكم عليّ بسنة.. هقضيها عشرة أشهر ولما أخرج مش عارف هعمل إيه؟!

لاحظت أن صقرا تنتابه أحيانا حالة "تأتأة" ويتلعثم لا إراديا في الكلام، وكان أول من يستيقظ وآخر من ينام، وهذه الحالة هيّأت لنا فرصة السهر وحدنا بين النائمين، مما يسهل الرغبة في الفضفضة والاعترافات الليلية. وعرفت من صقر أن هذه الحالة لم تكن عنده قبل حادث مقتل زملائه في الكتيبة، وأنه لا يتذكر تحديدا متى بدأت عنده، ولم يلاحظها إلا بعد تعليق أصدقائه عليها.

وحيد البنغالي:

شاب أسمر مستدير الوجه هادئ الملامح، شعره فاحم السواد، متوسط القامة ممتلئ الجسم، يتحدث العربية جيدا، جاء إلى مصر منذ 12 عاما تقريبا، تزوج من مصرية وأنجب منها ثلاثة أطفال، افتتح مصنع نسيج في أحد الأقاليم، ولما انتعشت أحواله المالية والتجارية، بدأ يساعد "بلدياته" المهاجرين إلى مصر ويوفر لهم فرص عمل في مصنعه إلى جانب المصريين.

وقد استعان بمحام مصري لإدارة شؤونه القانونية في المصنع، والأوراق الخاصة بالإقامة وتصريحات العمل، له ولعماله الجدد من البنغاليين. وحسب حديثه المقتضب معي، فوجئ بالشرطة تقبض عليه لتزويره تصاريح عمل غير شرعية لعماله الأجانب، ولما أكد للشرطة بكل الأدلة أنه ليس له علاقة بهذه التهم، وأن المحامي المصري يقوم بذلك بعيدا عنه ومن خلال علاقة مباشرة مع العمال، وأنه غير مسؤول عن تصرفات المحامي أو العمال، انتهى به قرار النيابة إلى الحبس الاحتياطي..

قضى وحيد معظم وقته صموتا ودامع العينين، يقرأ القرآن في مصحف صغير يحتفظ به في الجيب العلوي لجلبابه، ونادرا ما يتشارك معنا حتى في الطعام الذي كنا نحرص أن يكون للجميع..

وكلما حاولت التخفيف عنه وتجاذب أطراف الحديث معه، كان وحيد يكرر سؤالا لا يغيره من غير أن ينتظر رد أحد:

هو أنا فعلا ممكن اتحبس على حاجة معملتهاش؟

طيب وزوجتي وأولادي هيعملوا إيه من غيري؟

المصنع اتقفل ومفيش دخل يعيشوا منه..

تزيغ نظرة وحيد ويصمت عن الحديث، ويمد يده إلى جيبه، يستخرج المصحف ويواصل قراءة القرآن في سره، لا ينشغل بما يدور حوله ولا يسمع لنا ولا ينظر إلينا، كأننا غير موجودين في المكان.

المهندس هشام الحسيني:

قصة هذا الشاب المثقف الوسيم ملون العينين، أشبه برواية كابوسية من الطراز الكافكاوي، وحتى أوفيها حقها لا بد من مساحة عرض مفصل لا يتسع لها هذا المقال، فإلى لقاء في المقال المقبل.

[email protected]

أيام المغسلة.. يوميات معتقل (3)

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه مصر مصر سجون معتقلين مقالات مقالات مقالات صحافة سياسة رياضة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة من غیر

إقرأ أيضاً:

الذي يأتي ولا يأتي من الحـافلات

الذي يأتي ولا يأتي من الحـافلات
(من أرشيف باب "ومع ذلك" بجريدة الخرطوم 1988)
(طرأ لي إعادة نشر هذه الكلمة القديمة وأنا أرى مصارع السيارات المهجورة ملء البصر في الخرطوم في أعقاب غزوة الجنجويد)

نشر ترمنقهام مؤلف كتاب (الإسلام في السودان) جملة من الأفكار الخاطئة عن ثقافة السودان وإسلامه. غير أنني اتفق كثيراً مع ملحوظته القائلة بأن خريجي المدارس الحديثة (الصفوة بتعبير آخر) غير راغبين في إجراء تحسين جذري في حياة مواطنيهم. فعلى أن ترمنقهام أذاع هذه الملحوظة في الأربعينات إلا أنها ما تزال صادقة إلى حد كبير.
سمّت جريدة (السيـاسة) في افتتاحية لها مشكلة المواصلات (الهاجس اليومي) الذي يجعل حياة المواطن عبئاً لا يطاق. ولعل أخطر مظاهر المشكلة ليس المعاناة اليومية التي يتكبدها المواطن في غدوه ورواحه، ولكن إحساسه بأن هذه المشكلة المعلقة لأكثر من عقد من الزمان تبدو بلا حل قريب أو بعيد.
فالمعتمدية تراوح في مكانها القديم من المشكلة بين إنزال بصات جديدة (أو الوعد بذلك) وبتصليح العطلان منها وبين حملات تأديبية على أصحاب المركبات العامة الذين يزوغون عن العمل بالخطوط مكتفين بالبنزين. كما تتمسك المعتمدية في وصاية فارغة بفئات قانونية للطلبة وغير الطلبة. وفي مطالبة أهل حي بعينه من المعتمدية الانصياع للفئة التي قررها أصحاب المركبات العامة مؤشر قوي على استفحال المشكلة وعدم واقعية (أو بالأحرى جدية) المعتمدية.
ولعل أكثر دواعي اليأس من حل أزمة المواصلات هو تطاولها على خيالنا وفكرنا. فالأزمة غير واردة في أجندة فكرنا السياسي والاجتماعي والنقابي. فلم نعد نسمع شيئاً عن الدراسة التي التزمت المعتمدية بإجرائها على ضـوء استبيانات وزعتها. وهذه الدراسة هي الدليل الوحيد على أن المشكلة شاغل فكري معتبر يتجاوز همهمات المكتوين بنار الأزمة مما تنشره الصحف.
وأهـل الفكر عن المسألة في شغل وانصـراف. فطاقم الدولة القيادي اكتفى بتوسيع بند شراء العربات الحكومية (الخاصة) ليمتطيها آناء الليل وأطراف النهار. فقد صدقت وزارة الاقتصاد مؤخرا بـ 15 مليون دولار لشراء عربات كريسيدا تدفع مقابلها الوزارة من سمسم الوطن، أو القضارف. كما اتجهت نقابات الاطباء وأساتذة الجامعات والبياطرة وغيرهم الى مساومات مع وزارة التجارة وموردي السيارات لاستيراد عربات خاصة بأعضائها. ولا غبار على هذه الإجـراءات لو لم تكن هروباُ من مواجهة هذه الأزمة المزمنة. وما يجعل ذلك الهروب سخيفاً بحق هو أن يصدر من أكثر الفئات فصاحة في السياسة وأنسبها تأهيلاً للنظر في الأزمة وتدبير الحلول.
فمعاناة الشعب ليس عبارة تقال وتبتذل بالتكرار. إنها أوجاع بلا حصر تستنفر الخيال والنظر. فعلى أيام اختناقات البنزين تفتق ذهن الجماعات الصفوية عن فكرة إدخال الحاسوب لضبط توزيعه. ولكن حين يستمر المواطنون على أرصفة الشوارع لأكثر من عقد من الزمان ينتظرون الذي لا يأتي من الحـافلات فصفوتنا السياسية والفكرية خالية الوفاض من الحيل والمناهج.
لقد صدق ترمنقهام في واحدة وهي أن الصفوة من كل شاكلة ولون غير راغبة في تحسين حياة أهلها من كل شاكلة ولون.


ibrahima@missouri.edu

   

مقالات مشابهة

  • من هدوء المدينة إلى نار الاشتباكات والطائفية... ما الذي حدث في جرمانا السورية؟
  • الملاكم محمد علي وحرب فيتنام: البطل الذي رفض التجنيد فعوقب على مواقفه ثم انتصر
  • المشهد اليمني الذي يشبهُ غزة
  • السودان… مشاهد من يوميات حرب عبثية
  • ما هو صاروخ “بار” الذي استخدمه الاحتلال لأول مرة في غزة؟
  • وفاة أكاديمي وداعية سعودي في السجن.. معتقل منذ 4 سنوات
  • العشاء الذي أسهم في إنقاذ أوروبا
  • لذا لزم التنويه: الزمن في السجن (4-8)
  • لذا لزم التنويه: الزمن في السجن (4)
  • الذي يأتي ولا يأتي من الحـافلات