في سبعينيات القرن العشرين صبغت الرمزية على الطريقة الأوروبية الشعر العربي، وتأثر الشاعر العراقي بدر شاكر السياب وكذلك الشاعرة العراقية نازك الملائكة بما درساه في الجامعة من الشعر الإنجليزي، وتنبَّها إلى اتكاء شعراء الإنجليز على آلهة الإغريق وعلى قصص الإلياذة وكل خرافة قديمة.

وسار الشاعر العربي على هذا النهج، خاصة أنه يمتلك تاريخا عريضا مليئا بالخرافات الممتعة، إذ أخذ الشعراء يستعملون اللغة استعمالات ملتوية بغرض الإيحاء، وليس فقط بغرض إيصال المعنى، وليكن المعنى غامضا وغير مفهوم.

وما فتئت السريالية الأدبية تلفح شعرنا بين الحين والآخر.

وفي هذا السياق، تابع برنامج "تأملات" (2023/8/8) سيرة شاعر اليمن عبد الله البردوني الذي رغم بعده عن مركز التأثر بالشعر الأجنبي، وعدم إلمامه بالشعر الأوروبي، ورغم التزامه بعمود الشعر، فإنه ركب الموجة، إذ قال البردوني يصف جريحا:

لا تَلُمْهُ إذا شَكا، إنَّ شَكْواهُ   وأَنَّاتِهُ دُخانُ اتِّقَادِهْ

كلَّما قالِ آهِ أَو صَعَّدَ الأَنْـفاسَ    شَاهَدْتَ قِطْعَةً مِن فُؤادِهْ

وقال البردوني يصف يمنيا مشردا:

عَرَفْتُهُ يَمَنِيَّا، في تَلَفُّتِهِ خوفٌ، وعيْناهُ تَاريخٌ مِنَ الرَّمَدِ

مِنْ خُضْرَةِ القاتِ في عينيْهِ أَسئِلَةٌ   صُفْرٌ تَبوحُ كَعُودٍ نِصْفِ مُتَّقِدِ

رأيتُ فيكَ بِلاديِ كلَّها اجتمَعتْ    كيف التَقَى التِّسْعَةُ المليونُ في جَسَدِ

وفي هاتين القطعتين تأثر لا يخفى ببيتين للأخطل الصغير يصف مسلولا:

عيناهُ عالقتانِ في نفقٍ     كسِراجِ كوخٍ نصفِ متَّقِدِ

ويَمُجُّ أحياناً دما، فَعَلى      مِنديِلِهِ قِطَعٌ مِنَ الكَبِدِ

وللبردوني صورة قلمية بديعة في وصف انفجار، هذه الصورة التي رسمها لسان الشاعر الكفيف أبلغ تأثيرا من صورة فيديو متحركة يصحبها صوت هادر. قال البردوني:

أَقْبَلَتْ كلُّها الدَّكاكيِنُ وَلْهَى     كَبَغايا هَرَبْنَ مِن نَسْفِ مَلْهَى

لم يَعُدْ مَنْ يَجيِءُ. جاءَتْ سُقوفٌ     فوقَ أُخْرى، وَاهٍ أَتَى فَوقَ أَوْهَى

كان يَسْتَفْسِرُ الغبارُ الشَّظايا:   ألـمَرايا أَوِ الجِراحاتُ أَزْهَى؟

أَقْبَلَتْ كلُّها العَماراتُ عَجْلَى               تَمتَطيِ مَخْبَزا، وتَجْتَرُّ مَقْهَى

وهذه نفحة من رمزية البردوني:

هَذيِ الفِجاجُ كَأُنْثَى ما لها رَحِمٌ       هذا الزِّحامُ رِجالٌ ما بِهِ رَجُلُ

غاصَتْ وُجوهُ الرَّوابيِ تحتَ أَرْجُلِها     في جِلْدِ كلِّ حَصَاةٍ يَنْطَويِ جَبَلُ

وكانَ يَهْمِسُ مِن خَلْفِ الهَديرِ فَمٌ      لا يُورِقُ الناسُ حتى تَذْبُلَ الدُّوَلُ

كما قال أيضا أخرى:

ماذا يُسِرُّ لِسفْحِ الرَّبْوَةِ الحَجَرُ    كَأَنَّ كُلَّ حَصاةٍ هَهُنا خَبَرُ

لِكُلِّ واحِدَةٍ شَكلٌ وتَمْتَمَةٌ     لَكِنْ يُوَحِّدُهُنَّ العَجْزُ والضَّجَرُ

ففي شعر البردوني، تظهر أرياف اليمن التي ظلت غافية زمنا بين الجبال، وكذا عهد الأئمة، والعهد الجمهوري، نرى الفرقة والوحدة، في شعره نعيش حياة اليمن في ذلك الزمن.
ويشار إلى أن الشعر العربي في القرن العشرين -حتى وهو يداعب الرمزية كما في شعر البردوني- يمثِّل مرآة صقيلة للمجتمع ولحركة التاريخ. ليس فيه تواريخُ بالسنوات والأشهر، لكن فيه صورةَ المراحل التي مر بها كل شعب، إلا أن الشعر العربي حاليا فقد إيمانه بالتحولات السياسية واهتمامه بالمجتمع، وأصبح مرآة يرى نفسه فيها فقط. ظل الشعر ديوان العرب 1500 سنة، ولم يعد كذلك الآن.

 

 

المصدر: الجزيرة

إقرأ أيضاً:

الحردلو (21) الليله العديله تقدّمو وتبرا…!!

مع تصادم الايديولوجيات السياسية والأدبية في "شعر ما بعد الاستقلال".. كالاشتراكية والماركسية والواقعية والإسلاموية والسريالية والوجودية والبنائية وما بعدها؛ يصف"د. محمد الواثق" الأكاديمي والناقد والباحث والشاعر هذه التيارات بأنها (أقنعة مصطنعة) لتمويه الهوية السودانية الأصيلة المتجذّرة في الصوفية الشعبية لعصر الفونج وأيضاً الحس الجمالي للبطانة..- هكذا قال..!
ومع ذلك يقر د.الواثق بأن شعراء معيّنين يمكن تصنيفهم كنتاج للبيئة البدوية (مثل محمد سعيد العباسي وعبد الله محمد عمر البنا وعبد الله الطيب) بينما آخرون (مثل التجاني يوسف بشير ومحمد أحمد محجوب وأحمد محمد صالح وصلاح أحمد إبراهيم) تتم نسبتهم للبيئة الحضرية المدنية..وجميعهم في التحليل الأخير كما يقول- يمكن إرجاعهم إلى الجذر الجماعي العام (الفونج والبطانة)..!
الإعجاب والافتتان بالبيئة البدوية يتمثّل بخاصة في شعر (محمد سعيد العباسي) أحد شعراء القرن العشرين الكبار في السودان وعبر العالم العربي..فهو مولود في عائلة صوفية شهيرة، وجده هو الشيخ أحمد الطيب مؤسس الطريقة السمانية في السودان..وبعد دراسته في الخلوة أرسلته أسرته إلى مصر حيث انتسب إلى الكلية الحربية، ولكنه هجرها بعد أن مكث فيها عامين..وعاد للسودان وأمضي شطراً كبيراً من حياته يتجوّل في سهول وسهوب كردفان ودارفور على ظهر جمله..يختلط بالبدويين وينشد مادحاً ومتغزّلاً بالجمال الفطري: (حيّاك مليط):
May heavy-laden clouds greet you,
Oh Mellit,
With abundant shower
on your orchard-rich valley
**
حيّاكِ "مليط" صوب العارض الغادي
وجاد واديك ذا الجنّات من وادِ
فكم جَلوتِ لنا من منظرٍ عجبٍ
يُشجي الخليَّ ويروي غُلةَ الصادي
أنتسيتني برحَ أيامي وما أخذتْ
منّا المطايا بايجافٍ وإيخادِ
كثبانك العفرُ ما أبهى مناظرها..
أنسٌ لذي وحشةٍ..رزقٌ لمرتادِ
فباسق النخل ملء الطرفِ يلثم مِن..
ذيل السحابِ بلا كدٍ وإجهادِ
كأنه ورمالاً حوله ارتفعت..
أعلام جيشٍ بناها فوق أطوادِ
وأعيُن الماء تجري في جداولها
صوارماً عَرضوها غير إغمادِ
والوُرقُ تهتف والأظلال وارفة
والـريحُ تـدفع مـيّاداً..لميّادِ
لو استطعتُ لأهديت الخلودَ لها
..لو كان شيءٌ على الدنيا لإخلادِ
**
العباسي عند د.الواثق هو النموذج الكلاسيكي لشعراء القرن العشرين الذين يكتبون بالعربي الفصيح، في ذات الوقت الذي يستلهمون فيه البيئة البدوية..! إنه مفتون بتلك البيئة حتى أن بعض شعره الفصيح يتحوّل إلى نمط (الجراري) وهو تركيبة غنائية تجاري حركة الإبل..وهو غناء ينتشر في كردفان ودارفور حيث قضى الشاعر هناك سنوات طويلة..!
وبالرغم من الدرجات الواسعة من التحديث الحضري، فإن غالبية السودانيين لا يزالون عاطفياً على ارتباط بجذورهم الريفية ..وهذا ربما يفسّر ذيوع (أغنية الحقيبة) واستمرار أشكال أخرى من الأغاني الشعبية التي لا يزال يجري الاحتفاء بها منذ قرن حتى الآن..!
وبعض الولع بهذه الأغنيات ربما يعود جزئياً إلى حقيقة أنها تشابه الشعر البدوي؛ ليس في النَظم فقط ولكن في المحتوى والموضوعات الرئيسية مثل التغزّل في الجمال واستدعاء الشجن والحنين..!
**
صدى جماليات الشعر البدوي يمكن استشعار وجوده حتى الآن في الشعر الغنائي الحديث والأغنيات المصحوبة بالموسيقى..!!
الموسيقار والمطرب (محمد الأمين) وهو من بين أميز الموسيقيين يضيف أحياناً إلى غنائه وموسيقاه نكهة بدوية..! إحدى أغنياته (حروف إسمك) هي رسالة حب رقيقة يروي فيها شاعرها هاشم صديق ما يعنيه له اسم محبوبة روحه:
حروف اسمك جمال الفال ..وراحة البال
وهجعة زول بعد ترحال..
وتنية حلوة للشبال..
ودنيتنا ومشاويرنا وحكاياتنا اللي ما بتنقال
حروف اسمك نجوم ركّت على الياسمين
فرح في عين جمالا حزين
أساور في ايدين طفله
بتحفظ في كتاب الدين..
زفاف عاشقين بعد فُرقه..
وسط باقات دعا الطيبين
**
حروف اسمك
عقد منضوم بخيط النور
وطلّة ورده من السور
ونغمه تنادي من طنبور
وشعلة فرحه في الوادي
تشع جزلانه ليها شهور ..
حروف اسمك وكت اشتاق وارحل ليك
..واسرح في عسل عينيك
بتحضني قبل ألمس حرير ايديك
تأرجحني وتفرحني وتخليني
أدق سدري واقيف وسط البلد واهتف..
بريدك يا صباح عمري..!
انه يرى في حروف اسمها هذا الجو البهيج:
زفاف عاشقين بعد فرقة
وسط باقات دعا الطيبين
هذا ما يسجله "عادل بابكر":
In the letters of your name
I see two lovers united in marriage
after a long parting,
amid cheers and best wishes
from kind hearts
**
ومن أجل تعميق المزاج الاحتفالي في هذا المقطع من الأغنية يدخل (محمد الأمين) إليه بجملة موسيقية ترجّع صدى أغنية شعبية تنشدها البنات خلال طقوس الزواج تخاطب العريس خلال السيرة إلى بيت العروس:
May this path bring you glad tidings
May good fortune lead your way,
and guard you from behind..!!
الليله العديل والزين
والليله العديله تقدمو وتبرا ..!

مرتضى الغالي

murtadamore@yahoo.com  

مقالات مشابهة

  • انطلاق ملتقى الشعر العربي في نيجيريا
  • بقصائد تلامس شغاف القلوب “ملتقى نيجيريا” ينبض بالشعر العربي
  • تفسير حلم تساقط الشعر لابن سيرين.. «4 حالات»
  • الحردلو (21) الليله العديله تقدّمو وتبرا…!!
  • «مهرجان البدر».. خط حرّ وقصص مشوّقة للأطفال
  • مهرجان البدر يستضيف ورشتين للخط وقصص الأطفال
  • اليمن تشارك في المنتدى العربي السادس للمياه في أبو ظبي
  • اليكتي: العلاقة الممتازة بين المحافظ والعرب ستخلق الاستقرار في كركوك
  • اليكتي: العلاقة الممتازة بين المحافظ والعرب ستخلق الاستقرار في كركوك - عاجل
  • رئيس المجلس العربي للمياه: ‏التحديات التي نواجهها هائلة ولكنها ليست مستعصية على الحل