الجزيرة:
2025-04-30@10:38:14 GMT

إيكواس واحتمالات التدخل العسكري في النيجر

تاريخ النشر: 8th, August 2023 GMT

إيكواس واحتمالات التدخل العسكري في النيجر

تتجه أنظار المتابعين لأحداث النيجر صوب أبوجا عاصمة نيجيريا الخميس القادم العاشر من أغسطس/آب 2023، لمعرفة ما سيسفر عنه اجتماع قادة المجموعة الاقتصادية لغرب أفريقيا (إيكواس) بشأن إمكانية التدخل العسكري الذي هددت به في اجتماعها الطارئ بأبوجا أيضا في 30 يوليو/تموز الماضي، الذي تضمن منح الانقلابيين مهلة أسبوع، انتهت الأحد الماضي، لعودة الرئيس المنتخب محمد بازوم، مع حزمة من العقوبات الاقتصادية والتجارية، وحظر الطيران من وإلى النيجر، مع فرض حظر سفر على قادة الانقلاب وأسرهم.

السؤال الذي يطرح نفسه: هل ستتدخل إيكواس بقوات عسكرية تنفيذا لتهديداتها، أم أن هناك احتمالات أخرى؟ وما هذه الاحتمالات؟

الحقيقة أنه قبل هذا وذاك يثور سؤال آخر بديهي: هل سبق لإيكواس أن تدخلت عسكريا في حالات مماثلة؟ وما الأسس التي تستند إليها في عملية التدخل؟ وما أبرز التحديات التي اعترت هذا التدخل، وربما تتكرر في حالة النيجر؟

بداية، يمكن القول إن إيكواس رغم أنها جماعة اقتصادية تنشد التكامل بين دول غرب أفريقيا، فإنها باتت لها اهتمامات أمنية وعسكرية، على اعتبار أن تحقيق التكامل الاقتصادي يتطلب حالة من الاستقرار السياسي والأمني؛ ومن ثم كانت من أوائل المنظمات الأفريقية الفرعية التي استحدثت هياكل مواثيق أمنية متمثلة في بروتوكول عدم الاعتداء 1978، ثم ميثاق دفاع الإيكواس 1981 الذي تحدث عن ظاهرة الأمن الجماعي.

سمح الميثاق الأخير بالتدخل في حالات محددة؛ منها وجود صراع داخلي تتم إدارته ودعمه من الخارج بما يهدد السلم والأمن، وصولا لبروتوكول آلية منع وإدارة وتسوية الصراعات في الجماعة 1999، التي كان من أهم بنودها توسيع قاعدة التدخل؛ حيث نصت المادة 25/3 من بروتوكولها على أنه يجوز التدخل في الصراع الداخلي في حالة التهديد بحدوث كارثة إنسانية، أو وجود أعمال عنف تنتهك حقوق الإنسان وحكم القانون بصورة كبيرة، أو في حالة الإطاحة بحكومة منتخبة.

لمزيد من التأكيد على فكرة الديمقراطية ومنع التدخل العسكري في الحكم؛ قامت الجماعة في ديسمبر/كانون الأول 2001 بإضافة بروتوكول جديد لبروتوكول الآلية عرف باسم بروتوكول الديمقراطية والحكم الجيد، الذي يتناول أسباب الصراعات وجذورها، ومنها الفساد وعدم الاستقرار، كما يتعامل مع عدة قضايا أبرزها حرية ونزاهة الانتخابات، وإشراف المجتمع المدني على المؤسسة العسكرية، ورفض التغيرات غير الدستورية في نظم الحكم.

تدخلات عسكرية سابقة لإيكواس

وبالتالي تدخلت الجماعة عسكريا استنادا إلى هذه البروتوكولات في العديد من الحالات في تسعينيات القرن الماضي؛ في ليبيريا حيث الحرب الأهلية ومواجهة الرئيس تشارلز تايلور، وفي سيراليون لإعادة الرئيس تيجان كاباه الذي أطيح به في انقلاب 1996.

لكن هذين التدخلين تحديدا ارتبطا أساسا بنيجيريا التي كان يسعى رئيسها آنذاك إبراهيم بابانجيدا إلى لعب بلاده دور الدولة القائد في الإقليم؛ فقام بإرسال العدد الأكبر من القوات المتدخلة، وتحمّل 90% من عملية التمويل.

لكن مع رحيل بابانجيدا، ووصول قيادة أخرى مثل عبد السلام أبو بكر، ومن بعده أوليسجون أوباسانجو، والتركيز على مشاكل البلاد الداخلية؛ تراجع تدخل إيكواس في الصراعات، وهو ما برز في الصراع بغينيا بيساو في الفترة ذاتها، حيث لم ترسل نيجيريا قوات، واكتفت إيكواس بإرسال قوات محدودة لم تكن لها أية فاعلية، وانسحبت بعد فترة وجيزة، كما أن عملية التمويل وقعت على عاتق فرنسا.

يلاحظ حديثا أن الجماعة لم تتدخل عسكريا في انقلابي مالي وبوركينا فاسو الأخيرين قبل عامين تقريبا، واكتفت بتعليق عضويتهما، وفرض عقوبات اقتصادية وتجارية، وإعطاء مهلة لقادة الانقلاب للقيام بعملية التحول الديمقراطي، لكن لم يتم الالتزام بها حتى الآن، ولم تتخذ الجماعة إجراءات تصعيدية متمثلة في التدخل العسكري بشأنهما.

ومعنى هذا أنه إذا كان يحق للجماعة التدخل العسكري، فإن هذا التدخل مرتبط بعدة إشكاليات؛ سواء أكانت إشكاليات سياسية -توافق الإرادة السياسية للتدخل لدى الدول الأعضاء بالمنظمة- أو مالية مثل توفير التمويل اللازم للتدخل، أو حتى إشكاليات تتعلق بقبول الرأي العام في الدولة المتدخلة. فهل هذه الاعتبارات متوافرة في حالة النيجر؟

ضعف احتمال التدخل العسكري في النيجر

يمكن القول إن احتمال التدخل العسكري لإيكواس في النيجر يظل احتمالا ضعيفا، وإن كان يظل واردا، لاعتبارات متعددة.

إقصاء الانقلابيين في النيجر يتطلب مواجهة عسكرية مباشرة، وعدد قوات لا تقل عن 10 آلاف لمواجهة جيش نظامي، وهذه أمور صعب توفيرها في وقت يسير، خاصة أن قادة الانقلاب أعدوا العدة لذلك

أولا- الاعتبارات السياسية

بالنظر إلى الاعتبارات المتعلقة بمدى تأييد دول الجماعة لهذا التدخل؛ يمكن القول بوجود حالة من الانقسام داخل الجماعة؛ بين دول مؤيدة للتدخل وفي مقدمتها نيجيريا والسنغال، ودول رافضة للتدخل وهي تحديدا مالي وبوركينا فاسو وغينيا. وبالطبع سبب الرفض يرجع إلى أن النظم الحاكمة بها وصلت للسلطة عبر الانقلاب. وهناك الفريق الثالث الذي لم يحدد موقفه بالضبط من التدخل، وإن كان يميل إلى التسوية السياسية.

كما ترتبط بذلك أيضا مجموعة من التحديات التي تتعلق بنيجيريا؛ الدولة الأكبر في الإقليم، وصاحبة التدخلات السابقة، فضلا عن كونها صاحبة أكبر حدود مع النيجر؛ فالرئيس النيجيري المنتخب حديثا بولا أحمد تينوبو يواجه عدة إشكاليات؛ منها وجود مشاكل اقتصادية وأمنية هائلة أبرزها محاربة بوكو حرام المنتشرة في كثير من الولايات، وبالتالي فإن سحب جانب من قوات بلاده إلى النيجر قد يؤثر على كفاءة عملية المواجهة الداخلية، كما أن حدوث حالة من السيولة الأمنية في النيجر جراء عدم الاستقرار، قد يسهم في تدفق عناصر من تنظيم الدولة وغيره من ليبيا عبر النيجر إلى نيجيريا وغيرها من دول الجوار، فضلا عن الفاتورة الاقتصادية التي يصعب دفعها بمفرده.

وأخيرا، رفض مجلس الشيوخ في البلاد طلب الرئيس بشأن التدخل. صحيح أنه يجوز للرئيس اتخاذ قرار مخالف للمجلس بموجب الدستور في حال الحديث عن تهديد للسلم والأمن في البلاد؛ لكنه قد لا يقدم منفردا على هذه الخطوة بهذه السرعة، لا سيما أن قوى المعارضة الرئيسية ترفض التدخل أيضا، وتميل للحلول السياسية.

ثانيا- الاعتبارات المالية

وهي المتعلقة بتمويل التدخل العسكري، وقد ظهر ذلك بوضوح أثناء عمليات تدخل قوات الجماعة المعروفة "بالإيكوموج" في حالات ليبيريا وسيراليون وغينيا بيساو في تسعينيات القرن الماضي؛ ففي أزمة ليبيريا كان الاتفاق المبدئي هو أن تقوم كل دولة مشاِركة بتمويل قواتها المشاركة خلال الشهر الأول، على أن تقع المسؤولية بعد ذلك على الجماعة.

ولم تقم بعض دول الجماعة بدفع حصتها في ذلك على اعتبار أنها لا تؤيد عملية إرسال قوات إلى ليبيريا، والأمر نفسه حدث في سيراليون، حيث تحملت نيجيريا -كذلك- معظم نفقات بعثة الإيكوموج، رغم أن بروتوكول آلية منع الصراع الذي تبنته الجماعة 1999 نص على طرق التمويل، ومنها إسهامات الدول الأعضاء، وإمكانية الحصول على مساعدات أجنبية، إلا أنه لم يحدد نسب إسهام معينة، كما أن اللجوء للمساعدات الخارجية يفسح المجال للدول المانحة لفرض أجندتها على القوات المتدخلة.

إن ضعف عملية التمويل الذاتي قد يفتح الباب أمام التمويل الخارجي، وما يحمله ذلك من محاذير تضر بالجماعة أكثر مما تفيد، كما أنها لا تتسق مع أهدافها، مع دفع سكرتيرها التنفيذي السابق لانساي كوياتي للتحذير من خطورة عملية التمويل الخارجي بقوله "إذا اعتمدنا بنسبة 100% على المانحين، فإن كل الأفكار الجيدة التي تسعى الجماعة لتحقيقها لن تتحقق".

ثالثا- طبيعة مهام القوات المتدخلة

هل ستكون القواتُ قوات حفظ سلام أم فرض سلام؟ وهناك فرق كبير بينهما؛ ففرض السلام يستلزم مهمات قتالية، وأسلحة ومعدات ثقيلة، فضلا عن التكلفة الباهظة، ناهيك عن الخسائر البشرية والمادية المتوقعة.

وبالتالي فإن إقصاء الانقلابيين في النيجر يتطلب مواجهة عسكرية مباشرة، وعدد قوات لا تقل عن 10 آلاف لمواجهة جيش نظامي، وهذه أمور صعب توفيرها في وقت يسير، خاصة أن قادة الانقلاب أعدوا العدة لذلك، وقاموا بغلق الحدود، وإعادة انتشار القوات، فضلا عن أن قائد الانقلاب كان في وقت من الأوقات قائد قوات الجماعة المتدخلة في ساحل العاج.

وبالتالي فهو يعرف جيدا طبيعة القوات المتدخلة، ونقاط القوة والضعف وغير ذلك. ناهيك عن إعلان كل من مالي وبوركينا فاسو وقوفهما إلى جانب الانقلابيين؛ مما يعني أن القوات المتدخلة لن تواجه جيشا نظاميا فقط، وإنما ستواجه جيوش دول أخرى متحالفة معه؛ مما يعني إطالة أمد الحرب من ناحية، وزيادة فاتورة الخسائر المادية والبشرية من ناحية ثانية.

رابعا- إمكانية انهيار وضعف فاعلية الجماعة

نقصد هنا الجماعة التي تشهد منذ أول تدخل في ليبيريا حالة من الانقسام بين دول الأنجلوفون بقيادة نيجيريا، ودول الفرانكفون بقيادة ساحل العاج في حينها، وأزمة عدم الثقة بين التكتلين، وتأثير ذلك على فاعليتها في عملية التدخل. وفي أزمة النيجر الأخيرة، نجد هذا الانقسام ليس فقط بين دول مؤيدة ودول معارضة، بل يلاحظ أن الأخيرة تهدد بالانسحاب من الجماعة؛ مما قد يؤثر على قوتها وفاعليتها.

بدائل أخرى غير عسكرية

وإذا كان احتمال تدخل إيكواس يظل ضعيفا للاعتبارات السابقة، فإنه قد يكون هناك احتمالان آخران أمام قادة إيكواس في اجتماع الخميس:

الأول: تمديد المهلة الممنوحة للانقلابيين، وإعطاء فرصة للحلول الدبلوماسية، خاصة في ظل وجود ميل لذلك من قبل الولايات المتحدة وتدلل عليه تصريحات فيكتوريا نولاند مساعدة وزير الخارجية الأميركي، ورئيس وزراء النيجر المعزول، وغيرهما. وقد يكون هذا الأمر مقبولا، خاصة في ظل عدم جاهزية القوات للتدخل.

لكن ذلك قد يفقد إيكواس مصداقيتها، لا سيما في ظل موجة التصعيد التي انتهجتها منذ بداية الأزمة، وربما نلمس ميلا للجماعة لهذا الخيار عبر تصريحات مفوض الشؤون السياسية والسلام والأمن بها عبد الفتاح موسى، فرغم تأكيده وجود خطة للتدخل العسكري، فإنه شدد على أن دول المجموعة تأمل التوصل لحل سياسي، وتمنح قادة الانقلاب كل الفرص الممكنة لإعادة السلطة للرئيس المنتخب محمد بازوم.

الثاني: الاتفاق على فترة انتقالية لإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية لا تسمح لحزب الرئيس المعزول بازوم بالمشاركة فيها، كما تنتهي برحيل الانقلابيين، مدة تتراوح عادة بين عام وعامين، كما حدث في مالي وبوركينا فاسو، لكن تبقى إشكالية وفاء الانقلابيين بعهودهم، فقد حدث نكوص عن ذلك في حالة مالي تحديدا، وطالب العسكر بفترة انتقالية مدتها 5 سنوات وليس 18 شهرا كما كان متفقا عليه. ولم تقم الجماعة بأية إجراءات تدخلية أخرى.

وفي الأخير يبقى أن قرار الجماعة بشأن التدخل في النيجر تعتريه عقبات عدة داخلية وإقليمية، وحتى دولية، مما يعني أن قرار مدّ المهلة قد يكون الأمثل لحين إشعار آخر.

aj-logo

aj-logo

aj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معناأعلن معناوظائف شاغرةترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinerssجميع الحقوق محفوظة © 2023 شبكة الجزيرة الاعلامية

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: مالی وبورکینا فاسو التدخل العسکری قادة الانقلاب فی النیجر تدخل فی فضلا عن حالة من بین دول فی حالة کما أن

إقرأ أيضاً:

الإخوان المسلمون.. إشكالية الذاكرة المثقوبة!

قبل أيام نشر الزميل العزيز، قطب العربي، مقالا في موقع "عربي21"، بعنوان "نهايات المئوية الأولى للإخوان.. تحديات البقاء".

ولست معنيا هنا بمناقشة فكرة بقاء الجماعة من عدمه، بقدر اهتمامي ببحث قدرتها على اصطناع روايات تاريخية غير صحيحة، لاستخدامها في تبرير أخطائها، حيث تم تمرير بعض المرويات غير الصحيحة مثل أنه "أصبحت الجماعة جزءا أساسيا من حركة وطنية واسعة ضده، وهو ما لم يحتمله الملك، فسعى إلى شيطنة الجماعة، واتهامها بكل نقيصة"، أو أن علاقتها بضباط يوليو/ تموز 1952 تغيرت حين "طالب الإخوان بعودة الديمقراطية، وتسليم الحكم للمدنيين، مع عودة الضباط إلى ثكناتهم".

وسأعود إلى هاتين الواقعتين لاحقا، لكن لا بد من الإشارة هنا إلى الدراسة المهمة التي نشرها الباحث حسام تمام -رحمه الله- عام 2003 بعنوان "لماذا لا يكتب الإخوان تاريخهم"، حيث حث تمام في الدراسة جماعة الإخوان المسلمين، على ضرورة الإسراع بكتابة تاريخهم، خاصة ما يتعلق منه بعلاقتهم بتنظيم الضباط الأحرار، والكشف عن دور الجماعة في الإطاحة بالملك فاروق، وما تلاها من أحداث غيرت وجه الحياة في مصر والمنطقة بأسرها.

الجماعة لا تتعامل مع تاريخها بوصفها مؤسسة بحثية، بل باعتبارها طرفا مشاركا وصانعا له، وفي ظل الصراع السياسي والأيديولوجي الذي تخوضه الجماعة، فمن غير المتوقع أن ننتظر الحقيقة كاملة، إضافة إلى أن إخراج الجماعة لرواية تاريخية معتمدة، سيوقع الباحثين في العنت والمشقة للخروج من أسر الرواية الرسمية، أو تنقية ما ورد فيها من مرويات تخالف روايات أخرى أشد موثوقية
الباحث الراحل (ت: 2011) تساءل قبل 22 عاما قائلا: "فهل ينطق الإخوان ويكشفون تاريخهم الحقيقي والمسكوت عنه مع ثورة يوليو أم يظل قرار الفرار إلى الصمت؟".

لكن وبعد هذه المدة ورحيل جميع شهود تلك المرحلة تقريبا، اتضح للجميع أن الجماعة اختارت اللوذ بالصمت، وهو ذات الخيار الذي تتبناه حاليا، والأغلب مستقبلا، بشأن أسرار ما حدث منذ 25 كانون الثاني/ يناير 2011 وحتى الآن.

فالجماعة لا تتعامل مع تاريخها بوصفها مؤسسة بحثية، بل باعتبارها طرفا مشاركا وصانعا له، وفي ظل الصراع السياسي والأيديولوجي الذي تخوضه الجماعة، فمن غير المتوقع أن ننتظر الحقيقة كاملة، إضافة إلى أن إخراج الجماعة لرواية تاريخية معتمدة، سيوقع الباحثين في العنت والمشقة للخروج من أسر الرواية الرسمية، أو تنقية ما ورد فيها من مرويات تخالف روايات أخرى أشد موثوقية.

لذا، فرغم أن مطالبة "تمام" حينها كانت وجيهة وطبيعية، وتحمس لها البعض من داخل الجماعة وخارجها، لكني اليوم أقول إن قرار "الفرار إلى الصمت" الذي اختاره التنظيم، كان هو الأشد إفادة والأنفع للتاريخ، ولصيانة الذاكرة الوطنية.

لكن عدم وجود تأريخ رسمي ومعتمد للجماعة جعل الباحثين أمام روايتين للأحداث، إحداهما شعبوية مصنوعة بعنابة موجهة لأبناء التنظيم، عبر الخطب والمؤتمرات وفي ثنايا المقالات التربوية والدعوية، أما الرواية الثانية، وهي الأقرب إلى الصواب، إن لم تكن الأصوب على الإطلاق، فيجب البحث عنها بعناية في مرويات ومذكرات شهود عيان، خاصة قادة الجماعة، وما كتبه آخرون من خارجها في مذكراتهم أو أعمالهم البحثية ذات الصلة، مع ملاحظة أن الرواية الشعبوية تظل لها قوة تأثير هائلة على وعي أبناء التنظيم، وليس من السهل زحزحة تلك القناعات حتى بروايات أخرى لقادة الجماعة وليس لخصومها.

الروايتان الشعبوية والحقيقية

في الدراسة المشار إليها، قلل تمام من أهمية ما تركه قادة الجماعة من مذكرات وشهادات بشأن ما حدث في تموز/ يوليو 1952، واعتبر أنها "أقرب للاجتهادات الشخصية التي تأخذ -في الغالب- طابع المذكرات وربما المقتطفات والذكريات والخواطر الذاتية منها إلى الكتابة التاريخية المعتمدة". لكن هذا التقليل لم يكن دقيقا، فمذكرات هؤلاء القادة تعد رافدا مهمّا يمكن من خلاله تصويب الروايات الشعبوية الرائجة بشأن أحداث مفصلية، ومن ثم الوصول إلى التفسير الصحيح لسلوك الفاعلين في تلك الحقب الزمنية.

فمثلا، تردّ الرواية الشعبوية الصِدام بين الجماعة ورئيس الوزراء الراحل محمود فهمي النقراشي؛ إلى اشتراك الجماعة في حرب فلسطين 1948، وتحرك النقراشي ضد الجماعة بناء على أوامر بريطانية صهيونية. لكن شهادة محمود الصباغ في كتابه "حقيقة التنظيم الخاص ودوره في دعوة الإخوان المسلمين"، الذي قدم له المرشد الخامس الأستاذ مصطفى مشهور، تقدم لنا رواية أخرى لعلاقة تحالف وطيدة بين الإخوان والنقراشي.

فالصباغ يقرر أن الجماعة رأت أن "تأييد النقراشي باشا إذا ما سلك أسلوبا جديدا في مواجهة الإنجليز أجدى وأنفع من دخول البلاد في اضطرابات داخلية جديدة". وأرسل البنا رسالة باسم الإخوان إلى رئيس مجلس الأمن الدولي، للتصدي لاتهام زعيم حزب الوفد مصطفى النحاس باشا؛ للنقراشي بالديكتاتورية.

ويكمل الصباغ شهادته على تلك العلاقة، وانعكاسها على الحرب في فلسطين فيقول: "كان من نتائج سياسية تعاون الإخوان المسلمين مع حكومة النقراشي باشا الثانية، فور إعلانها أنها عزمت على قطع المفاوضات ومنابذة الإنجليز في هيئة الأمم المتحدة، أن سهّلت للإخوان المسلمين رسالتها في تسليح الفلسطينيين".

بل يمضي الشوط إلى نهايته، فالنقراشي كان يتابع وصول أفواج الإخوان إلى فلسطين بسلام، وتذليل العقبات أمامها. والمفاجأة أنه وحسب تأكيد الصباغ، الذي كان مسجونا على ذمة قضية "السيارة الجيب" الشهيرة، لم يكن في السجون من أعضاء الجماعة حتى مقتل النقراشي إلا المتهمون في تلك القضية فقط!

إذن، فنحن هنا أمام رواية مكتوبة تناقض السردية الشعبوية، عن اعتقال النقراشي لمجاهدي الجماعة عقب عودتهم قسريا من فلسطين، والزج بهم في السجون.

الإخوان والملك فاروق

وهذا مثال ثانٍ، ورد في مقال الزميل قطب العربي، عن "شيطنة الملك للجماعة" لكونها كانت جزءا من حركة وطنية واسعة ضده.

لكن الثابت تاريخيا أنه عقب انتهاء أزمة اغتيال النقراشي، ومقتل الأستاذ حسن البنا، تم إلغاء الحظر عام 1951، وتم اختيار الأستاذ حسن الهضيبي مرشدا خلفا للبنا، وبعيدا عن جدل كيفية الاختيار، فالثابت أنه لاقى قبولا لدى القصر الملكي، حيث وافق الملك على لقائه، وتحدث معه عن ضرورة مواجهة الشيوعية، عقب خروج القوات البريطانية المرتقب من مصر. وخرج بعدها الهضيبي ليصف اللقاء للصحافة بقوله: "دعوة كريمة من ملك كريم". وفي التفاصيل الكثير مما يمكن أن يقال.

الإخوان وعبد الناصر

المثال الثالث يخص علاقة عبد الناصر بالإخوان المسلمين، فالرواية المكتوبة تدحض السردية الشعبوية، من أن العلاقة كانت عابرة أو محض تعاون مؤقت.

أهم تحديات بقاء الجماعة هو قدرتها على قراءة تاريخها قراءة صحيحة، من واقع شهادات قادتها وغيرهم، ثم الاعتراف بما فيه من أخطاء وضمان عدم تكرارها
فالمرشد الرابع الأستاذ محمد حامد أبو النصر، يذكر في كتابه "حقيقة الخلاف بين الإخوان المسلمين وعبد الناصر" بالتفصيل بيعة عبد الناصر عام 1945 تقريبا، للأستاذ صالح عشماوي في منزله بالقاهرة، نيابة عن المرشد العام. ولم يكن عبد الناصر بمفرده بل كان معه أسماء عسكرية مشهورة، مثل عبد الحكيم عامر، وكمال الدين حسين، وخالد محيي الدين، وآخرين بايعوا في وقت لاحق.

وهذا يفسر لنا سبب انحياز أطياف من الجماعة، ومن التنظيم السري بشكل خاص، لعبد الناصر في مواجهة الهضيبي، فهو الأقدم بيعة ووجودا داخل الجماعة، وكان محل ثقة أيضا.

ورغم تذبذب العلاقة بين الجماعة وعبد الناصر صعودا وهبوطا في الفترة من بين 1952 إلى 1954، إلا أن التواصل بينهما لم ينقطع، ووافقه الإخوان على إجراءات حل الأحزاب. بل ودعموه في أشد حالات ضعفه، عقب بيان 25 آذار/ مارس 1954، الذي التزم فيه بعودة الأحزاب، وإلغاء الحظر السياسي، وتسليم السلطة للمدنيين. لكنه التف على البيان بالتواصل مع الإخوان رغم أن العلاقة بينهما حينها كانت سيئة للغاية، وتعهد لهم بعودة الجماعة مرة أخرى عقب قرار حلها في كانون الثاني/ يناير من نفس العام.

وبالفعل أعلن الإخوان على لسان الهضيبي رفض بيان آذار/ مارس، فكانوا -مع آخرين- معينا لعبد الناصر على التنصل من البيان الذي كان يمكن أن يغير تاريخ مصر السياسي إذا ما عاد الجيش إلى ثكناته، وتم استئناف الحياة النيابية.

الخلاصة

كانت تلك مجرد أمثلة، فالذاكرة المثقوبة للجماعة ألحقت ضررا بالغا بها، إذ حجبتها عن رؤية أخطائها، ومن ثم العمل على تقويمها وعدم تكرارها، فالأخطاء الكارثية التي ارتكبتها ما بين عامي 1952 إلى 1954 كررتها مرة أخرى في الفترة من 2011 إلى 2013، ومن الطبيعي أن تكون النتائج متشابهة إن لم تتطابق.

من هنا أظن أن أهم تحديات بقاء الجماعة هو قدرتها على قراءة تاريخها قراءة صحيحة، من واقع شهادات قادتها وغيرهم، ثم الاعتراف بما فيه من أخطاء وضمان عدم تكرارها.

مقالات مشابهة

  • الحوثيون يهددون بريطانيا برد قاس على خلفية هجومها الأخير
  • المجموعة الأفريقية تطالب تونس بوقف التدخل في القضاء
  • الإخوان المسلمون.. إشكالية الذاكرة المثقوبة!
  • أوكرانيا ترفض هدنة بوتين وتتهم موسكو بالتمويه العسكري
  • الإنفاق العسكري العالمي يسجل أعلى مستوى له منذ نهاية الحرب الباردة
  • النيجر ومالي وبوركينافاسو يرحبون بالمبادرة الملكية للولوج إلى الأطلسي والتعاون جنوب-جنوب
  • 2.72 تريليون دولار.. الإنفاق العسكري العالمي نحو أعلى زيادة منذ الحرب الباردة
  • تركيا تضع منظومة تدخل رباعية لمواجهة زلزال إسطنبول المرتقب
  • الخطيب: على الفلسطينيين عدم التدخل في الشؤون اللبنانية
  • «حزب صوت الشعب» يردّ على وزير داخلية النيجر: احترام سيادة ليبيا ضرورة