انطلقت فكرة المواطنة من انتماء أفراد المجتمع لوطنهم، ووعيهم بمضمون حقوقهم وواجباتهم ومدى التزامهم ومشاركتهم في تفعيل تلك الحقوق والواجبات من ناحية، وخيارات خدمة المجتمع واكتساب احترامه من ناحية أخرى، لذا فإنها تتعلَّق بقدرتهم على إحداث مشاركة فاعلة قائمة على قيم التسامح والحُرية والتنوُّع الإيجابي، والتي تعكس انتمائهم للمجتمع و ولائهم له.
ولقد اكتسب مفهوم المواطنة تطوُّرا كبيرا في العقود الماضية من خلال ما يرسخِّه من مبادئ اجتماعية ربطت بين المجتمع وأفراده عبر عقد اجتماعي يقوم على المشاركة، إلاَّ أن هذا المفهوم اليوم يمر بمنعطفات مهمة بناء على تلك المتغيرات والتطورات التي طرأت على المجتمعات الحديثة، واستطاعت أن تؤثر على أصول العديد من مجتمعات العالم ومبادئه؛ حيث قادتها نحو الانجراف والتقليد الأعمى لما يمكن أن يؤدي إلى تشويه مرتكزاتها الدينية والأخلاقية، وبالتالي يقضي على خصوصيتها وهُويتها الوطنية.
إن ما يحدث في العالم من تبنٍ للكثير من الأخلاقيات تحت شعار (المواطنة العالمية) و(الهُوية العالمية)، لا يودي بالقيم والمبادئ وحسب، بل أيضا يقدِّم نماذج مجتمعية مقولبة ضمن قوالب جاهزة تصنعها الأيديولوجيات التي تهدف إلى فصل المجتمعات عن ماضيها الحضاري وقيمها الأصيلة، التي تُعد أساسا راسخا لا يمكن لأي مجتمع يريد الصمود أمام تلك المتغيرات كلها أن يتخلى عنها لأنها الضمانة الوحيدة التي تضمن له الحفاظ على هُويته ومبادئه الأصيلة.
ولعل الوعي بمفهوم المواطنة العالمية باعتبارها برنامجا تنمويا مشتركا بين المجتمعات الإنسانية، سيساعد على الحد من ذلك الخلط والاندفاع في تبني تلك الأخلاقيات بقالبها الإنساني الخارجي، والذي يمكن أن يكون خادعا للكثير ممن يصعب عليه التفريق بين القضايا الإنسانية المهمة التي علينا جميعا الإيمان بأهميتها وتبنيها، وبين تلك التي تضمر بين جنباتها هدما حقيقيا للقيم والأخلاق والمبادئ والتطرُّف والتعدي على الآخرين والإساءة إليهم.
إن المواطنة العالمية ترتبط بتلك المتغيرات التي تحدث في المجتمعات على مستوى العالم، من حيث تركيزها على قيم الحرية والعدالة والمساواة والتسامح والتنمية، وهي بذلك تقدم نموذجا مهما في التكوين الإنساني وتوعيته بالقضايا الإنسانية التي لا تؤثر على مجتمعه وحسب بل أيضا على أنماط حياته وقدرته على المساهمة الفاعلة في تنمية مجتمعه، والمشاركة في فعل المواطنة الإيجابية.
ولهذا فإن المواطنة العالمية يُنظر إليها باعتبارها الانتماء إلى المجتمع الأوسع، والشعور بتلك القواسم المشتركة بين الشعوب بجوهرها الإنساني من ناحية، وقدرتها على التطوير من ناحية ثانية، وهي بذلك تنبني على الهُوية الإنسانية والمجتمعية التي تُميِّز كل مجتمع عن الآخر، إذ يقوم العالم على التنوُّع والتعدُّد في الهُويات والثقافات والمرجعيات الاجتماعية والدينية وغيرها، وبذلك فإن هذه المواطنة تدعو إلى الانسجام والموضوعية والتسامح و الحوار وغير ذلك مما يرسِّخ القيم الإنسانية الأصيلة.
إن المبادئ التي تعززها المواطنة العالمية لا تدعم تبني الأخلاقيات التي تهدم قيم المجتمعات، ولا تلك التي تقوم على العنف بشتى أشكاله، فمع التحولات التي يعاني منها العالم على المستويات الاقتصادية والتقنيات المتسارعة، ظهرت مجموعة من الأجندات الأيديولوجية سواء تلك الجديدة البارزة على السطح والتي كرَّستها بعض الأنظمة العلمانية تحت شعار المساواة الإنسانية، أو تلك التي تشتعل تحت الرماد وتستعد لضربات موجعة متبنية في ذلك شعارات وقيم ومبادئ كرستها في عقول مريديها باعتبارها حق وهي في حقيقتها باطل وجهل.
لذا فإن المجتمعات عانت وما زالت تعاني من تلك الأيديولوجيات المبطَّنة، وهي معاناة لا تخُص العالم العربي وحده، فما شهدناه في الآونة الأخيرة خلال احتفالات افتتاح دورة الألعاب الأولمبية للعام 2024 في العاصمة الفرنسية باريس يعد نموذجا واضحا لأزمة الهُوية الثقافية والدينية التي أثارت حفيظة المجتمعات الغربية لما قدمته من مشاهد وفقرات تمس قيم الأديان والمجتمع والأخلاق، والتي دفعت إلى الدعوة للتمسك بمبادئ المجتمع الإنساني وأصوله باعتبارها قاعدة أساسية لتطوُّر المجتمعات.
يحدثنا تقرير (المواطنة العالمية لعام 2024)، الصادر عن مؤسسة الشركاء العالميين (CS) ، عن تلك الأدوار التي يمكن أن يقدمها الأفراد في المجتمعات العالمية فكرا ومشاركة وتمكينا، وتلك الأدوات التي يمكن أن تُقاس بها المواطنة العالمية باعتبارها محفزا للمواطنة الإيجابية للأفراد في مجتمعاتهم نفسها؛ فمن يؤمن بالمشاركة والحوار والتعاون فإنه ينطلق من إيمانه الراسخ بأهميتها في بناء مجتمعه، وقدرتها على تأصيل المبادئ الإنسانية.
وعلى الرغم من أن التقرير يركِّز على الانتخابات التي ينتظرها العالم في عام 2024، وما يمكن أن يقدِّمه المواطنون على مستوى العالم من مشاركات فاعلة في التحوُّلات المُنتظرة التي ستعقب الانتخابات الرئاسية المتعددة في العديد من دول العالم لهذا العام، إلاَّ أنه أيضا قدَّم مجموعة من التصورات والتحديات التي تواجه العالم على مستوى (السلامة والأمن، والفرص الاقتصادية، وجودة الحياة، والتنقل العالمي، والحرية المالية)، والتي تُعد تحديات لا يمكن تجاوزها سوى بالمشاركة والانسجام وتفاعل المجتمعات وتقديم كل ما يمكن أن يُسهِم في تحقيق آفاق أفضل للمجتمع والعالم من خلال مواطنة قائمة على التشارك والتعاون والتفاعل الإيجابي.
إن المسؤولية المرتبطة بالمواطنة تحمل شعورا بالالتزام والثقة، التي تمنحها المصداقية والتعاون والتكامل بين الحكومة والشعب، ولهذا فإن المسؤولية هنا لا تتعلَّق بالمصالح الفردية بقدر تعلقها بالمصالح المشتركة أو بالمعنى الأعم المصالح الوطنية الأكثر شمولا واستدامة، فهي مسؤولية تقوم على الوثوق والقدرة على المشاركة والدعم والتعزيز لكل ما يقوي الروابط الإنسانية ويُسهم في تمكين البنية الأساسية للمجتمعات واستدامتها، وهذه الاستدامة ليست مادية بقدر ما هي أخلاقية ثقافية.
لذا فإن المواطنة العالمية لا تعني التخلي عن مبادئنا وقيمنا وأصالتنا، بل تنطلق من ترسيخ تلك القيم ودعمها باعتبارها إنسانية قادرة على العبور بين الأمم الأخرى، وفقا لما نقدمه لها من مكامن إنسانية ذات أبعاد قائمة على المحبة والتعاون والحوار البنَّاء، فالمواطنة باعتبارها فعل اجتماعي تنطلق من الإنسان نفسه، وتعتمد على التضامن والتمكين والثقة بين الحكومات والشعوب، وهي ثقة تؤِّصل مشروعية المشاركة الفاعلة والتعاون من أجل المصلحة العامة.
إن المواطنة ترتبط بهُوية المجتمع وتنطلق وفقا لمبادئها الأساسية نحو العالمية، من أجل بناء مجتمع إنساني قادر على مواجهة التحديات والصمود أمام المتغيرات الطارئة التي تهدف إلى هدم تلك الهُوية أو تشويهها، فالمواطن الإيجابي يتميَّز بكفاءة اجتماعية عالية، وقدرة على الاندماج مع مجتمعه والتفاعل معه والمشاركة في تنميته وتحقيق أهدافه، ولهذا فإننا جميعا مسؤولون عن مساهمتنا في تحقيق رفاه مجتمعنا من خلال ما يمكن أن نقدِّمه وما نشارك به من أعمال وابتكار وإبداع وتنمية.
لقد شهدت السنوات الأخيرة تحولاَّت مختلفة على مستوى العالم، أثَّرت وما زالت تُحدث تغييرات في جوهر المجتمعات وأصولها الحضارية والفكرية بل والإنسانية، وهي تحوُّلات تقدِّم نفسها باعتبارها ظاهرة (عالمية) بدأت في الانتشار مع التطورات التقنية والانفتاح العالمي، الأمر الذي يستدعي منا الوعي بماهية تلك التحوُّلات والدعوات الإيديولوجية التي تنضوي تحت شعارات المواطنة وهي منها براء.
إن علينا جميعا المشاركة الفاعلة في التصدي لتلك الأفكار والشعارات التي تهدم المجتمعات، وتسهم في تشويه مفاهيم الإنسانية التي جُبلنا عليها. إنه واجب تقتضيه المواطنة الإيجابية، ويحتمه انتماؤنا لهذه الأرض الطيبة التي لا تُنتج سوى الطيب.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: ما یمکن أن على مستوى من ناحیة اله ویة التی ت
إقرأ أيضاً:
من كهوف التاريخ إلى تأسيس دولة المواطنة.. هموم المفكرين السوريين في مشاريع التجديد والنهضة
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
بوصول المشهد السوري لمرحلة سقوط النظام وانتظار قيام نظام بديل، وفي الوقت الذي لا يمكن التنبوء فيه بمستقبل الدولة السورية مع صعود الفصائل المسلحة إلى سدة الحكم، وبقاء الاختلافات الكبيرة فيما بينها، فإن المرحلة تتطلب تذكيرا دائما بالمشاريع الفكرية العربية التي طُرِحت من قبل مفكرين سوريين، عايشوا الأزمة السورية، وتأثروا بآلامها، ومعاناة السوريين.
وفي إطار البحث عن الطريق القويم، فإنه من الضروري الإشارة لجهود المفكرين السوريين الذين اهتموا بدراسة مواطن استلاب عقل الإنسان العربي، ومواطن قوته وقدرته على العودة، ليعود مجددا من أفوله واستقالته من الإبداع والعطاء الحضاري، خاصة وأن هذه المشروعات التي اهتمت بتحديث الفكر العربي تتناسب مع المعطيات الجديدة للعصر، وضرورة التخلص من التخلف والرجعية، وإعطاء الفكر الدينى وجهاته الإنسانية والحضارية، ومنح الفرصة للدارسين فى فحص ومراجعة الأفكار المصاحبة للنصوص الدينية الأساسية المقدسة، حتى اكتسبت تلك الأفكار صفات يقينية، وجرى تكريسها كى تطرح نفسها على أنها هى الدين ذاته.
قائمة كبيرة من المفكرين السوريين، ويمكن النظر إلى بعضهم أمثال صادق جلال العظم، جورج طرابيشي، فراس السواح، حيدر حيدر، محمد قجة، وجادالكريم الجباعي، من أجل مطالعة بعض الهموم الفكرية التي انشغلوا بها.
يُعد المفكر السوري صادق جلال العظم (1934-2016) أهم صوت فكري سوري في التاريخ الحديث، بحسب ما يصفه الباحثون والمفكرون والمثقفون العرب، دافع عن العلمانية وانتقد طريقة الفكر الديني وتحكمها في المجتمعات العربية، كما نقد الأنظمة السياسية، وترك تأثيرا واسعا في مجالات عدة مثل الفلسفة، والنقد الأدبي، والفكر العقلاني التجديدي.
طالب "العظم" بضرورة وقف الهيمنة السياسية على المجتمعات العربية مستعينة بالقيود الدينية، مؤكدا أنه من الضروري أيضا تحديث الفكر ليصبح علميا قادرا على مواجهة الخرافات والغيبيات وليصبح مناسبا مع تطورات العصر، وجاء كتابه في هذا الإطار بعنوان "نقد الفكر الديني" وهو ما خلق جدلا واسعا في لبنان أثناء عمله في الجامعة الأمريكية هناك، ما سبب له الكثير من المشاكل مع رجال الدين.
تبنى المطالبة بأهمية التحديث في العالم العربي على أسس علمية وعقلانية، مع رفع مكانة العلوم الحديثة، خاصة أنه يرى أن المجتمعات العربية تحتاج إلى مغادرة الطرق التقليدية في تفكيرها وتعليمها من أجل هدف تجاوز الجمود.
انتقد "العظم" الأنظمة السياسية الاستبدادية، وأدان غياب الديمقراطية والحريات، معتقدا أن هذه الأنظمة هي إحدى العوامل الرئيسية في تعطيل التقدم والتطور، إلى جانب تحكم الثقافة الرجعية التي تفرض مزيدا من القيود على العقل والإبداع.
لم يكن "العظم" ماركسيًا بالمعنى التقليدي، فرغم أنه تأثر بالنظرية الماركسية في تحليله للأوضاع الاجتماعية والسياسية العربية، فإنه رأى أن الطبقات الاجتماعية المهمشة هي الأكثر قدرة على إحداث التغيير الاجتماعي، كما رأى أن مبادئ العلمانية هى الطريق الصواب لتجنب الأزمات الداخلية والحروب الأهلية.
خلال كتابه "ذهنية التحريم" الذي أصدره بعد الهجوم الواسع على كتاب "آيات شيطانية" لكاتب البريطاني سلمان رشدي، سعى "العظم" إلى إحداث تغيير فكري وثقافي، مبنيا على تقدم حقيقي ناتج عن تبني العقلانية والنقد الذاتي والتحرر من القيود التقليدية سواء كانت سياسية أم دينية.
استقر المفكر السورى جورج طرابيشى (1939-2016) على قراءة الواقع العربى وأسباب تراجعه عن بقية الأمم، وتساءل بدوره، أهى أسباب خارجية قضت على العرب أم أسباب داخلية توفرت بيئتها فعملت على ضياعنا، هل هى أسباب تعود لعوامل خارجية من فعل «الآخر» كما يذهب المفكر المغربى محمد عابد الجابرى، أم هى أسباب تعود لعوامل داخلية من فعل الذات لا «الغير"! كما يرجح طرابيشى ذاته.
فى كتابه «المعجزة أو سُبات العقل فى الإسلام» حذَّر طرابيشى من تأثير شيوع الخرافة فى الفكر العربى والإسلامى، موجهًا سهام الإدانة والنقد للمؤلفات التى احتفت بمنطق المعجزة والخروج عن قوانين الطبيعة، بل توسعت فى الكتابة عنها وتسجيل المزيد منها بصورة مطردة مع الزمن، ومطالبًا فى الوقت نفسه بثورة علمية من داخل التراث، وليست عليه، ثورة تسعى لإعادة تفسيره، وفى زماننا المعاصر حيث يبدو العالم العربى والإسلامى بشكل أعم مهددا بالارتداد نحو قرون وسطى جديدة، فإن ثورة كوبرنيكية على صعيد العقل، وعلى صعيد عالم العقل الذى هو التراث والتأويل الموروث للتراث. وجه طرابيشى سهم الإدانة لمنطق المعجزة، لأن أدبيات المعجزة ومنطقها أسهم فى إذاعة الوهم فى الثقافة العربية والإسلامية الموروثة بإمكانية سيطرة سحرية على الطبيعة والكون والتحكم بقواهما من دون حاجة إلى معرفة قوانينهما. مطالبًا بـ"ثورة ذاتية ينتفض فيها العقل كما تكوَّن فى التراث على نفسه؛ ليعيد تأسيس ذاته فى عقل مكوِّن جديد يستطيع معه وبه أن يكتسب رهان الحداثة».
وكان طرابيشي خلال مشروعه الفكري قد عمل على نقد مشروع "الجابري"، حيث قضى طرابيشي نحو ربع القرن في التعامل مع أطروحات المفكر المغربي عابد الجابري المتعلقة بإشكاليات العقل العربي والإسلامي، إلا أن "الجابري" الذي عايش فترات الرد على مشروعه وانتقاده فإنه رفض رؤية طرابيشي واعتبرها "غير مسئولة"، وفي لقاء تليفزيوني تحدث الجابري عن النقد الموجه لأفكاره من قبل طرابيشي، فقال، إنه لم يقرأ إلا بعض سطور من مقدمة طرابيشي، حتى وصل لعبارة لا بد أن نُنزل الجابري عن عرشه. فشعر أنه يقرأ كلامًا وصفه بـ"غير المسئول".
ورغم تسطيح الجابري للنقد الموجه له، فإن طرابيشي قدم قراءة ثرية وجادة في التراث العربي والإسلامي وكان من أبرزها تأثير الإيمان بالمعجزات بصورة مطردة ومتوسعة عمقت أزمة التعلق بدور الخرافة وخرق قوانين الطبيعة كمسار جاد في الحياة من حولنا.
عكف المفكر السوري الراحل محمد شحرور (1938-2019) طوال مشواره الفكري على مناقشة عدة مشكلات أثارتها وارتبطت بها جماعات متطرفة، ففي كتابه "تجفيف منابع الإرهاب" تعرض شحرور لعدد من القضايا مثل الجهاد والقتال والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والولاء والبراء، وهي مفاهيم تم الالتفاف عليها.
خلال مشروعه، انتبه شحرور لضرورة خلق العقل النقدي في المجتمعات العربية، وحصار العقل الحفظي، كما وضع رؤية مكتملة في طريقة التعامل مع مؤلفات السيرة والحديث النبوي، وطريقة التعامل مع نص القرآن الكريم بوصفه تنزيلا حكيما يحمل صفة الحياة والتجدد مع كل قراءة له.
ورأى شحرور أن العقل النقدي "يصل به الإنسان الواعي إلى رؤية الأشياء دونما حاجة إلى استعارة عيون الآخرين"؛ حسب تعبير شحرور في إشادته بالعقل الناقد الذي يكتسب العلوم والمعارف.
ركز شحرور على ضرورة التفريق بين الحقائق الدينية والحقائق العلمية، بهدف منع وقوع المسلمين في دائرة الكسل والتوقف عن البحث والاستقصاء، بحجة أن النص الديني قدم لنا مقولات علمية جاهزة، لذا كان من الضروري لدى شحرور التعامل مع آيات التنزيل الحكيم بوصفها نصا إيمانيا، وليست دليلا علميا، تقع حجته على المؤمنين بها فقط، في حين لا يمكن إقامة الحجة بواسطته على غيرهم، وعلى المؤمنين به تقديم الدليل المنطقي والعلمي على صحته ومصداقيته.
تحرير الفوارق المهمة بين الدور الإلهي في تحديد الحلال والحرام، وبين الدور النبوي في التبليغ وإيصال الرسالة، أكسب فكر "شحرور" خاصية الدقة في التعامل مع النص القرآني ونصوص الحديث النبوي الشريف.
وضع فروقًا بين مقامي النبوة والرسالة، وهو ما أثار جدلا حول فكر وأراء الدكتور شحرور، فقد اعتبر أن محمدا صلى الله عليه وسلم كان مجتهدا في مقام النبوة "لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار"، ومعصومًا في مقام الرسالة "يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك"، وأن الإيمان بالله وباليوم الآخرة تذكرة دخول للإسلام، والعمل الصالح هو السلوك العام للمسلم.
لغويًا، لفت المفكر إلى أن التنزيل الحكيم نص خال من الترادف في الألفاظ والتراكيب، وخال من الحشو واللغو والزيادة، كما أنه دقيق في تراكيبه ومعانيه، وأن تأويل الآيات يعتمد على الخيط اللغوي، وأن التنزيل هو أساس التدوين والتقعيد فلا يجب ساعتها أن نقيس النص القرآني على قواعد سيوبيه مثلا. مشيرا إلى أنه لا بد أن ندرك أن التنزيل يحمل في ذاته تطويرا لغويًا لم يعرفه الجاهليون، فلقد استعار ألفاظا من لغات أخرى، وأنه من الواجب الأخذ في الحسبان التطور الهائل الذي تعرضت له الدراسات اللغوية.
الإطار الفكري عند "شحرور" هام للغاية، فمن خلاله استكمل المنهج في التعامل مع النص القرآني، فبدأ أولا بأنه لا يمكن فهم أي نص خارج ما يقتضيه العقل، مع ضرورة الربط المنطقي بين صحة الشكل اللغوي والمضمون الفكري للنص، وأن القرآن يحوي المصداقية وخال من العبث، ولا يمكن فهمه من خلال فهم الشعر الجاهلي ومفرداته، وبذلك خالف شحرور ما درجت عليه الدراسات المتعلقة بالنص القرآن والتي تنطلق من الشعر الجاهلي لفك معاني النص القرآني، معتبرا أن الطريقة التقليدية في التعامل مع النصوص الدينية هي من باب تكاسل العقل العربي.
ناقش الكاتب السوري جادالكريم الجباعي (1945-.....) عدة قضايا ملحة على الوضع السوري المحتدم، أهمها هو كيف يذهب الشعب السوري إلى تحقيق مجتمع دولة وإنشاء دولة حديثة.
يعتقد الجباعي أنه من الضروري أن يؤمن الأفراد داخل أي مجتمع بأهمية ووجوب وجود الفروقات والاختلافات الفكرية والسياسية والمذهبية، وأيضا العرقية، وإن التخلي عن هذه الفروقات لصالح وحدة مزعومة لن يكون صحيحا للمجتمع أو للدولة الحديثة.
أدان الجباعي في كتاباته الاستبداد الذي عانت منه سوريا طويلا، ونسب له الكثير من السلبيات التي انتشرت في المجتمع السوري، لأن هذا الاستبداد هو الذي عمل على حظر الأحزاب السياسية، وعمل على تسييس النقابات وتنظيمات المجتمع المدني، وسلب حرية الأفراد لدرجة ردهم إلى مرحلة حيوانية لا يعرفون فيها إلا العدوان.
في مؤلفاته مثل "فخ المساواة" و"المجتمع المدني هوية الاختلاف" و "من الرعوية إلى المواطنة" ألح الجباعي على فكرة اتساع الوطن الواحد والدولة الوطنية لكل الاختلافات السياسية والفكرية والعرقية، بحيث تقف الدولة على مسافة واحدة بين جميع الأطراف، وتعمل جاهدة على إقرار القانون بشكل حاسم دون النظر للمذهبيات والطائفيات.
وصف المؤرخ والمفكر الراحل محمد قجة (1939- 2024) بأنه "آخر مؤرخي حلب"، وكانت له عدة مؤلفات من أبرزها: "حلب مطلع القرن العشرين"، "فلسفة العمارة الإسلامية- حلب نموذجاً"، "المدن العربية الكوسموبوليتية"، "الجامع الأموي في حلب"، "القدس في عيون الشعراء"، "شجرة الدر"، "عبد الملك بن مروان"، "صلاح الدين" و"الظاهر بيبرس".
رأى قجة في الصوفي الكبير محيي الدين بن عربي نموذجا مهما في التجربة الروحية المتسمة بالتسامح والسلام، لذا انشغل بتقديم دراسة مهمة عن حياة وفكر ابن عربي بعنوان "الشيخ محيي الدين بن عربي وأثره الحضاري في حوض المتوسط"، موضحا فيها أن الشيخ محيي الدين بن عربي تربع على قمة الهرم الفكري في الحضارة الإسلامية، علمًا وغزارة تأليف وشمول معارف.
ضربه الوضع السوري المأزوم، فكان بمثابة الفجيعة الكبرى والصدمة غير المنتظرة لدى الأديب والمفكر الراحل حيدر حيدر(1936-2023) لأنها وضعته أمام مواقفه القديمة وأفكاره، فبدلا من المطالبة بالتغيير والتنوير والحراك الثقافي، والتقدم نحو إعلاء سلطة العقل، وتحرير الشعوب العربية وافتكاك قيوده، بدلا من العمل التنويري الثقافي الذي انشغل به "حيدر" أصبح يفكر في حال المواطن السوري الذي يعيش حياة صعبة للغاية يفتقد فيها المسكن والطعام، يعيش حياة غير آدمية يفتقد فيها كل المقومات الأساسية للحياة.
رغم أسفاره المتعددة، عاد إلى مسقط رأسه أخيرا، وفي مقدمة كتابه "أوراق المنفى" تحدث "حيدر" عن تطلعه للاغتراب والسفر والهجرة، تاركا ورائه دمشق الحبيبة، لكنه في رحلته الطويلة ظل وفيًا لكل الأوطان التي احتضنته، سافر إلى لبنان والجزائر وقبرص وفرنسا، واصفا هذه الرحلة بـ"غير السعيدة"، لكنها "غنية في تجربة الكتابة واكتشاف البشر والأماكن عرفت أوطانا أخرى غير وطني الأول لقد تأقلمت مع هذه الأوطان والتحمت بها وكما كنت وفيا ومحبا لوطني ما اختلف الأمر بالنسبة لهذه الأوطان"، ورغم افتتانه بالرحلة غير السعيدة فإن عودته لقريته التي ولد فيها "حصين البحر" القريبة من طرطوس كان أمرًا ضروريا بعد كل هذه التغيرات التي طالت بلادنا العربية، وبعد الأزمة المعقدة التي تعرضت لها سوريا في طوال السنوات الأخيرة التي تجاوزت عشر سنوات.
انتقد "حيدر" سيطرة حالة من الخمول على الذهن العربي نتيجة تفسير النصوص القديمة بمنهج مثالي وامتثالي مُعادٍ للاجتهاد العقلي والمنهج المادي التاريخي، وبانتصار الفكر الرجعي المدعوم، طغت ثقافة رجعية ارتدادية محورها تمجيد الماضي المقدس.
أشار إلى الممارسات السيئة التي وقعت تحت عين السلطة السياسية آنذاك نتيجة الجمود وصعود التيارات العدائية للعقل، قائلا: "إن محاكمة غيلان الدمشقي المعتزلي وصلبه، ثم إبادة المعتزلة كفرقة كلامية عقلية على يد المتوكل، ومحاكمة الحلاج وصلبه، والتنكيل بأتباعه، وإحراق كتب ابن رشد في ساحات قرطبة ومقتل السهروردي وقافلة شهداء العقل والحرية في عصور الظلام والانحطاط، ومن ثم ضرب وسحق الحركات الثورية كالمعتزلة اتخذت كسيرورة تاريخية، في إطار هذا السياق المضاد لصعود العقل ونقد المطلق جاءت محاكمة طه حسين وعلي عبدالرازق وغيرهما.
احتدام الصراع بين تيار الجمود وتيار العقل، ذكره "حيدر" بأنه محكوم بسيف مسنون سينتهي بالقضاء على الرجعية، مؤكدا أنه "بين خندق التقدم وخندق الرجعية سيف مسنون لا تزيده المحن والصراعات إلا شحذا ومضاء، وهذا السيف لن يغمد إلا بعد أن يغرز في قلب الرجعية، لن يغمد إلا بعد أن تجري مراسيم دفن العالم القديم، ما دام هناك شعب لن يركع ولأن التاريخ يرفض العودة إلى الوراء". وهكذا يتضح من كلماته مدى احتدام الصراع بين الفريقين، ومدى انحيازه للتيار العقلاني، واصفا الفريق الآخر بأنه "اتجاه ثقافي يحاول دمج الماضي السحيق بالحاضر الذي يطرح مسائل عصرية هي في أساسها الفكري متعارضة جوهريًا مع الفكر السلفي أو منفصلة عنه تاريخيا ونفسيا".
تخوَّف "حيدر" من مجموعة من المثقفين سماهم بـ"التراثيين"، لا يؤمنون بأن لكل كاتب أسلوبه المتغير والمتطور والمناسب للزمن، ويطالبون بالعودة لأسلوب الكتابة العربية القديمة الذي يشبه أسلوب ألف ليلة وليلة ومقامات بديع الزمان، وكتابة ابن إياس الحنفي في بدائعه. ويعتقد أن لكل كاتب في مجالات الإبداع أسلوبه، لأنه اختيار ثقافي شخصي تبلوره التجربة والمعرفة والدأب والتمثل اللغوي على مدى سنوات مغامرة الإبداع الصعبة والسعيدة.
أما الاتجاه الآخر الذي يحاول سجن الأسلوب العربي الحديث في كتب القدماء، يدافع عن نفسه بأنه التيار الواقف أمام التغريب والاستعمار، ويغلف مقولاته بشعارات مثل "الأصالة" و"العودة إلى النبع" و"الحفاظ على المقدس من لغة وميراث الأجداد" و"مكافحة الجرثوم الاستعماري الحديث الزاحف لتدمير لغتنا العظيمة".
لمثل هذا الاتجاه الذي يدعونا للماضي، وهو شبيه بدعوات الجماعات التي لا ترى مستقبلا دون الرجوع للماضي الذي تضفي عليه "القداسة"، له عدة مخاطر منها: الوقوع في فرضية لا تاريخية ترى في اللغة العربية كائنا ميثولوجيا انتهى تشكلها عبر الحقب، فعادت عصية على التطور وغير قادرة على النمو والظهور بأشكال جديدة تستوعب معان جديدة في حين أن نظرة تبسيطية مدرسية تشير إلى الطاقة المذهلة للغة العربية على تطور ونمو أساليبها منذ عصر التدوين حتى يومنا الراهن.
ومن المخاطر التي يضيفها "حيدر"، عدم الانتباه المعرفي لتطور ونمو الثقافة العربية عبر مراحل القرن العشرين، وهذا التطور أساس في بداية تبلور شخصية الإنسان والمجتمع العربي داخل ميكانيزمات الانتقال من المراحل البدائية والرعوية والزراعية والريفية إلى المراحل المدنية والصناعية والتجارية، مرفقة بتحديات ضرورة التقدم واكتساب المعارف ومواجهة الأعداء في التقنية والعلوم والحروب والسباق الثقافي.
مؤكدا في النهاية، أن العودة الأسلوبية إلى الزمان القديم والكتابة بلغة الأجداد يمكن أن تأتي تضمينا داخل الأسلوب الحديث، وليست عودة حرفية إلى تقليد عفا عليه الزمن، وسُجِّل في أرشيف التاريخ، وإلا فنحن بصدد انكفاء سياسي حضاري سيعيدنا إلى كهوف التاريخ في عصر المدن والكتل والتقنية والانفجارات النووية وغزو الفضاء.