لجريدة عمان:
2025-03-06@20:23:11 GMT

المواطنة العالمية والهُويات

تاريخ النشر: 3rd, August 2024 GMT

انطلقت فكرة المواطنة من انتماء أفراد المجتمع لوطنهم، ووعيهم بمضمون حقوقهم وواجباتهم ومدى التزامهم ومشاركتهم في تفعيل تلك الحقوق والواجبات من ناحية، وخيارات خدمة المجتمع واكتساب احترامه من ناحية أخرى، لذا فإنها تتعلَّق بقدرتهم على إحداث مشاركة فاعلة قائمة على قيم التسامح والحُرية والتنوُّع الإيجابي، والتي تعكس انتمائهم للمجتمع و ولائهم له.

ولقد اكتسب مفهوم المواطنة تطوُّرا كبيرا في العقود الماضية من خلال ما يرسخِّه من مبادئ اجتماعية ربطت بين المجتمع وأفراده عبر عقد اجتماعي يقوم على المشاركة، إلاَّ أن هذا المفهوم اليوم يمر بمنعطفات مهمة بناء على تلك المتغيرات والتطورات التي طرأت على المجتمعات الحديثة، واستطاعت أن تؤثر على أصول العديد من مجتمعات العالم ومبادئه؛ حيث قادتها نحو الانجراف والتقليد الأعمى لما يمكن أن يؤدي إلى تشويه مرتكزاتها الدينية والأخلاقية، وبالتالي يقضي على خصوصيتها وهُويتها الوطنية.

إن ما يحدث في العالم من تبنٍ للكثير من الأخلاقيات تحت شعار (المواطنة العالمية) و(الهُوية العالمية)، لا يودي بالقيم والمبادئ وحسب، بل أيضا يقدِّم نماذج مجتمعية مقولبة ضمن قوالب جاهزة تصنعها الأيديولوجيات التي تهدف إلى فصل المجتمعات عن ماضيها الحضاري وقيمها الأصيلة، التي تُعد أساسا راسخا لا يمكن لأي مجتمع يريد الصمود أمام تلك المتغيرات كلها أن يتخلى عنها لأنها الضمانة الوحيدة التي تضمن له الحفاظ على هُويته ومبادئه الأصيلة.

ولعل الوعي بمفهوم المواطنة العالمية باعتبارها برنامجا تنمويا مشتركا بين المجتمعات الإنسانية، سيساعد على الحد من ذلك الخلط والاندفاع في تبني تلك الأخلاقيات بقالبها الإنساني الخارجي، والذي يمكن أن يكون خادعا للكثير ممن يصعب عليه التفريق بين القضايا الإنسانية المهمة التي علينا جميعا الإيمان بأهميتها وتبنيها، وبين تلك التي تضمر بين جنباتها هدما حقيقيا للقيم والأخلاق والمبادئ والتطرُّف والتعدي على الآخرين والإساءة إليهم.

إن المواطنة العالمية ترتبط بتلك المتغيرات التي تحدث في المجتمعات على مستوى العالم، من حيث تركيزها على قيم الحرية والعدالة والمساواة والتسامح والتنمية، وهي بذلك تقدم نموذجا مهما في التكوين الإنساني وتوعيته بالقضايا الإنسانية التي لا تؤثر على مجتمعه وحسب بل أيضا على أنماط حياته وقدرته على المساهمة الفاعلة في تنمية مجتمعه، والمشاركة في فعل المواطنة الإيجابية.

ولهذا فإن المواطنة العالمية يُنظر إليها باعتبارها الانتماء إلى المجتمع الأوسع، والشعور بتلك القواسم المشتركة بين الشعوب بجوهرها الإنساني من ناحية، وقدرتها على التطوير من ناحية ثانية، وهي بذلك تنبني على الهُوية الإنسانية والمجتمعية التي تُميِّز كل مجتمع عن الآخر، إذ يقوم العالم على التنوُّع والتعدُّد في الهُويات والثقافات والمرجعيات الاجتماعية والدينية وغيرها، وبذلك فإن هذه المواطنة تدعو إلى الانسجام والموضوعية والتسامح و الحوار وغير ذلك مما يرسِّخ القيم الإنسانية الأصيلة.

إن المبادئ التي تعززها المواطنة العالمية لا تدعم تبني الأخلاقيات التي تهدم قيم المجتمعات، ولا تلك التي تقوم على العنف بشتى أشكاله، فمع التحولات التي يعاني منها العالم على المستويات الاقتصادية والتقنيات المتسارعة، ظهرت مجموعة من الأجندات الأيديولوجية سواء تلك الجديدة البارزة على السطح والتي كرَّستها بعض الأنظمة العلمانية تحت شعار المساواة الإنسانية، أو تلك التي تشتعل تحت الرماد وتستعد لضربات موجعة متبنية في ذلك شعارات وقيم ومبادئ كرستها في عقول مريديها باعتبارها حق وهي في حقيقتها باطل وجهل.

لذا فإن المجتمعات عانت وما زالت تعاني من تلك الأيديولوجيات المبطَّنة، وهي معاناة لا تخُص العالم العربي وحده، فما شهدناه في الآونة الأخيرة خلال احتفالات افتتاح دورة الألعاب الأولمبية للعام 2024 في العاصمة الفرنسية باريس يعد نموذجا واضحا لأزمة الهُوية الثقافية والدينية التي أثارت حفيظة المجتمعات الغربية لما قدمته من مشاهد وفقرات تمس قيم الأديان والمجتمع والأخلاق، والتي دفعت إلى الدعوة للتمسك بمبادئ المجتمع الإنساني وأصوله باعتبارها قاعدة أساسية لتطوُّر المجتمعات.

يحدثنا تقرير (المواطنة العالمية لعام 2024)، الصادر عن مؤسسة الشركاء العالميين (CS) ، عن تلك الأدوار التي يمكن أن يقدمها الأفراد في المجتمعات العالمية فكرا ومشاركة وتمكينا، وتلك الأدوات التي يمكن أن تُقاس بها المواطنة العالمية باعتبارها محفزا للمواطنة الإيجابية للأفراد في مجتمعاتهم نفسها؛ فمن يؤمن بالمشاركة والحوار والتعاون فإنه ينطلق من إيمانه الراسخ بأهميتها في بناء مجتمعه، وقدرتها على تأصيل المبادئ الإنسانية.

وعلى الرغم من أن التقرير يركِّز على الانتخابات التي ينتظرها العالم في عام 2024، وما يمكن أن يقدِّمه المواطنون على مستوى العالم من مشاركات فاعلة في التحوُّلات المُنتظرة التي ستعقب الانتخابات الرئاسية المتعددة في العديد من دول العالم لهذا العام، إلاَّ أنه أيضا قدَّم مجموعة من التصورات والتحديات التي تواجه العالم على مستوى (السلامة والأمن، والفرص الاقتصادية، وجودة الحياة، والتنقل العالمي، والحرية المالية)، والتي تُعد تحديات لا يمكن تجاوزها سوى بالمشاركة والانسجام وتفاعل المجتمعات وتقديم كل ما يمكن أن يُسهِم في تحقيق آفاق أفضل للمجتمع والعالم من خلال مواطنة قائمة على التشارك والتعاون والتفاعل الإيجابي.

إن المسؤولية المرتبطة بالمواطنة تحمل شعورا بالالتزام والثقة، التي تمنحها المصداقية والتعاون والتكامل بين الحكومة والشعب، ولهذا فإن المسؤولية هنا لا تتعلَّق بالمصالح الفردية بقدر تعلقها بالمصالح المشتركة أو بالمعنى الأعم المصالح الوطنية الأكثر شمولا واستدامة، فهي مسؤولية تقوم على الوثوق والقدرة على المشاركة والدعم والتعزيز لكل ما يقوي الروابط الإنسانية ويُسهم في تمكين البنية الأساسية للمجتمعات واستدامتها، وهذه الاستدامة ليست مادية بقدر ما هي أخلاقية ثقافية.

لذا فإن المواطنة العالمية لا تعني التخلي عن مبادئنا وقيمنا وأصالتنا، بل تنطلق من ترسيخ تلك القيم ودعمها باعتبارها إنسانية قادرة على العبور بين الأمم الأخرى، وفقا لما نقدمه لها من مكامن إنسانية ذات أبعاد قائمة على المحبة والتعاون والحوار البنَّاء، فالمواطنة باعتبارها فعل اجتماعي تنطلق من الإنسان نفسه، وتعتمد على التضامن والتمكين والثقة بين الحكومات والشعوب، وهي ثقة تؤِّصل مشروعية المشاركة الفاعلة والتعاون من أجل المصلحة العامة.

إن المواطنة ترتبط بهُوية المجتمع وتنطلق وفقا لمبادئها الأساسية نحو العالمية، من أجل بناء مجتمع إنساني قادر على مواجهة التحديات والصمود أمام المتغيرات الطارئة التي تهدف إلى هدم تلك الهُوية أو تشويهها، فالمواطن الإيجابي يتميَّز بكفاءة اجتماعية عالية، وقدرة على الاندماج مع مجتمعه والتفاعل معه والمشاركة في تنميته وتحقيق أهدافه، ولهذا فإننا جميعا مسؤولون عن مساهمتنا في تحقيق رفاه مجتمعنا من خلال ما يمكن أن نقدِّمه وما نشارك به من أعمال وابتكار وإبداع وتنمية.

لقد شهدت السنوات الأخيرة تحولاَّت مختلفة على مستوى العالم، أثَّرت وما زالت تُحدث تغييرات في جوهر المجتمعات وأصولها الحضارية والفكرية بل والإنسانية، وهي تحوُّلات تقدِّم نفسها باعتبارها ظاهرة (عالمية) بدأت في الانتشار مع التطورات التقنية والانفتاح العالمي، الأمر الذي يستدعي منا الوعي بماهية تلك التحوُّلات والدعوات الإيديولوجية التي تنضوي تحت شعارات المواطنة وهي منها براء.

إن علينا جميعا المشاركة الفاعلة في التصدي لتلك الأفكار والشعارات التي تهدم المجتمعات، وتسهم في تشويه مفاهيم الإنسانية التي جُبلنا عليها. إنه واجب تقتضيه المواطنة الإيجابية، ويحتمه انتماؤنا لهذه الأرض الطيبة التي لا تُنتج سوى الطيب.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: ما یمکن أن على مستوى من ناحیة اله ویة التی ت

إقرأ أيضاً:

الظلم الذكوري باسم الطاعة وبلبوس الشريعة

لا ينكر عاقلٌ أن المجتمعات التي تعاني من الاستبداد السياسي لا يبقى الاستبداد فيها في إطاره السياسي وممارسة الحكم وإنما يتسرب إلى مفاصل المجتمع ومؤسساته المختلفة السياسية والاجتماعية والتربوية والأهلية، فالاستبداد السياسي إذا ما هيمن على مجتمع من المجتمعات أفرز استبدادًا فكريًّا واستبدادًا اجتماعيًّا.

ومن الطبيعي أن تتم ممارسة الاستبداد من القوي على الضعيف؛ فكما يمارس الحاكم المستبد سلطته على الجماهير التي أقنعها بضعفها وقلة حيلتها، فإن الرجل الذي تعشّش الاستبداد في رأسه يمارس قهره على المرأة والطفل اليتيم الذي فقد سنده البشري بوصفهما الحلقة الأضعف في المجتمع، ولذا نرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شدد على حق المرأة واليتيم في أي مجتمع لأنهما الحلقة الأضعف فيه لا سيما عند اختلال الموازين الأخلاقية والقيمية للمجتمع وفقدان انتمائه الحقيقي لتعاليم الشريعة الغراء، ولقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه أحمد وابن ماجه والنسائي والحاكم بسند صحيح: "إني أحرّجُ عليكم حق الضعيفين اليتيم والمرأة"، جاء في حاشية السندي على ابن ماجه: "أي: أضيّق على الناس في تضييع حقهما، وأشدد عليهم في ذلك، والمقصود إشهاده تعالى في تبليغ ذلك الحكم إليهم، وفي الزوائد: المعنى أحرج عن هذا الإثم بمعنى أن يضيع حقهما، وأحذر من ذلك تحذيرًا بليغًا وأزجرُ عنه زجرًا أكيدًا؛ قاله النووي، قال: وإسناده صحيحٌ رجالُه ثقات".

إعلان

وهذا الظلم المجتمعي يلقي بظلاله على مؤسسة الأسرة فيمارسُ شريحةٌ من الآباء والأمهات تعزيز ثقافة الخضوع من خلال الفهم المشوّه لمعنى المرأة في الأسرة ومكانها ومكانتها، فعندما يأتيهم الشاب خاطبًا يأتيه الرد بالموافقة بعبارة "جارية في مطبخكم" أو "خادمة في عائلتكم"، ولئن كانت هذه العبارات يراد بها إيصال رسالة القبول بثوب فيه تحبب وتودّد للخاطب وأهله، غير أنها تستبطن ثقافة مجتمعية ترى المرأة عندما تتزوج تكون جاريةً في المطبخ أو خادمةً في أسرتها الجديدة، وإن الثقافة العامة التي ترى في المرأة ابتداءً جارية في المطبخ أو خادمةً ستفرز بلا شك فهمًا شائهًا لمعنى الطاعة داخل الأسرة يقوم على خضوع الجارية لمالكها والخادمة لسيدها.

ويقع الإشكال الأكبر حين يتم إلباس هذا الفهم المجتمعي المغلوط ثوب الشريعة الإسلامية زورًا، ويتم التأصيل الشرعي له من بعض من عشش في رؤوسهم هذا الظلم المجتمعي وحسبوا أن الشريعة مهمتها تسويغ وتبرير السلوكيات المجتمعية السائدة والأفكار التي تدغدغ نزعة الاستبداد الاجتماعي في نفوس الرجال، فعندها يمارس الأزواج سلطتهم بطريقة مغرقة في الظلم الذكوري متذرعين بوجوب طاعة المرأة زوجها، ملبسين تذرعهم لبوس الشريعة والأحكام الفقهية؛ مما يدفع شريحة من المعانيات من هذا الظلم إلى الربط بين فكرة طاعة الزوج وبين ما تعانيه من قهر وإخضاع فيتصاعد رفضها الداخلي الذي يمكن أن يتحول إلى ثورة سلوكية متجهًا إلى رفض الفكرة من أساسها والتمرد الفكري على أصل المسألة وصولًا إلى التمرد السلوكي على الظلم المُمارس بحقهن، ويستصحبن في هذه المحاولات للتحرر من ظلمٍ حقيقي واقع عليهن قناعاتهن بالتحرر من الحكم الشرعي لأنه استقر في أذهانهن أن هذا الحكم هو سبب ما هن فيه من بلاء وظلم.

يضاف إلى ذلك الضخ الذي تتعرض له المرأة بأن ما تعيشه من ظلم أو معاناة سببه "المجتمع الذكوري" أو "الذكورية" و"النظام الأبوي" أو "البطريركية" مما يقودها إلى التمرد على الأسرة الصغيرة والعائلة الكبيرة التي تنتمي لها لأنها تريد أن تخلع ثوب الطاعة الذي ترى فيه سبب البلاء المصبوب عليها صبًّا.

إعلان

وهنا يتعاضد الخطاب النسوي الذي يدعو إلى تمرد المرأة على الطاعة مع الخطاب الشرعي المشوّه الذي يسوّغ الظلم الذكوري والذي يمارسه شريحة من الدعاة فيكونان معًا السبب في نفور المرأة من مفهوم طاعة المرأة لزوجها، فيتفقان في النتيجة وإن اختلفا في المدخل إليها وكانا في الظاهر متصارعين لأجل المرأة وصراعهما في الحقيقة عليها لا لها، وللأسف أن هذا الخطاب الذكوري الذي يلبس ثوب الشريعة أدى في ردة فعل غير عقلانية إلى إنتاج خطاب جندري ونسوي يتم إلباسه ثوب الشريعة زورًا وبهتانًا، وكلا الخطابين يسيء إلى الشريعة الغراء قبل أن يسيء للمرأة ويظلمها بصورتين متقابلتين؛ ظلم الإخضاع وظلم التفلّت.

ومما تجب ملاحظته أيضًا أن الخطاب النسوي الذي تحول إلى صورة استبدادية في الغرب كما هو الخطاب الذكوري في بعض المجتمعات الإسلامية بدأ يجعل شرائح من المجتمع تشعر أن غياب قدرة الرجال على تحمل المسؤوليات داخل الأسرة وغياب مفهوم الطاعة بوصفه جزءًا من تحمل المسؤولية ينذر بخطر كبير بحق المجتمعات، ومن ذلك ما ذكرته عالمة النفس هيلين سميث في كتابها "الرجال في إضراب"، إذ ترى سميث أن النسوية تؤدي بشكل عام إلى ترسيخ قناعات عند شرائح واسعة من الرجال بأن العالم مناهض لفكرة الذكورة من الأساس، مما يُحدث ردة فعلٍ عند هؤلاء الرجال يدفع أغلبهم إلى العزوف عن الدراسة الجامعية وعن العمل، كما يدفعهم إلى تجنب الزواج بمعدلات عالية تنذر بالخطر، وسبب قيامهم بذلك لأنهم يرون أن المجتمع لا يقدم لهم الفرص حتى يكونوا أزواجًا وآباءً لهم قيمتهم داخل الأسرة ومتحملين للمسؤولية، وهذه القناعات تجعلهم يخوضون إضرابًا إما بوعي أو بغير وعي، لأنهم لا يريدون أن يصابوا بأذى أو تهميش أو تمييز بسبب عدد لا يحصى من القوانين والمواقف التي باتت تدعم النساء أكثر من الرجال.

إعلان

وكذلك ذهبت الكاتبة الأميركية كريستينا هوف سومرز في كتابها "الحرب ضد الأولاد" إلى أن النظام التعليمي في الولايات المتحدة الأميركية يقوم أساسًا على التمييز بين الإناث والذكور لمصلحة الإناث، فالنظام التعليمي المدرسي يدعم الفتيات أكثر من الأولاد وينتصر لهن عليهم، وهذا الأمر الذي ينذر بالتأثير السلبي على مستقبلهم كما ترى الكاتبة.

فالتلاعب بالمفاهيم الأسرية ومن أهمها مفهوم طاعة المرأة لزوجها لا ينذر بخطر على المجتمعات الإسلامية فحسب بل إن الأصوات بدأت تتعالى في الغرب اليوم للتحذير من فقدان الرجال مسؤولياتهم داخل بيوتهم وأسرهم.

وهنا لا بد من بيان أن مجابهة الظلم الذكوري للمرأة لا سيما إن كان بلبوس الخطاب الشرعي يبدأ من تحرير المجتمعات من الاستبداد السياسي الذي هو رأس الشرور كلها، ومن ثم تحرير الخطاب الشرعي من النزعات الذكورية الطاغية في بعض المجتمعات، وتحرير الخطاب الشرعي من هذه الذكورية لا يكون على الإطلاق بإلباسه ثوب النسوية والجندرية لأننا بهذا ننزع عنه ثوب ظلمٍ قاتم للمرأة لنلبسه ثوب ظلم آخر لها لا يختلف عن الثوب الأول إلا في أنه مزركش وألوانه تسرّ بعض الناظرين.

إنما المراد إعادة الخطاب الشرعي إلى أصالته الأولى التي ترى المرأة والرجل متساويين في الكرامة الإنسانية وفي أصل التكليف في إعمار الكون والاستخلاف في الأرض، ثم تأتي الاختلافات بينهما في توزيع الأدوار التنفيذية والتخصصات العملية التطبيقية، وطاعة المرأة زوجها داخل الأسرة هي عملية ضبط إداري داخل مؤسسة تعد الأخطر في تأسيس المجتمع البشري ولا يمكن أن تقوم أي مؤسسة بدورها فضلًا عن أن تنجح في أداء مهمتها دون الضبط الإداري داخلها، فهي ليست ميزة بنيوية للرجل على المرأة ولا تفضيلًا له بوصفه ذكرًا، كما أنها ليست تفضيلًا له في المكانة، فقد يكون الوالي أو الحاكم في بيئة ما حاكمًا على من هو أعلى منه قدرًا وأرفع منه مكانة وتلزمهم طاعته، ألم يكن في جيش أسامة الذي كلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم بإمارة الجيش كبار الصحابة؟! وكان يلزمهم طاعته وهم أعلى منه قدرًا في الإسلام وأكبر منه مكانة وأسبق منه فضلًا وأقدم منه إسلامًا، ولم يكن يرى أي واحد من هؤلاء في طاعته لأسامة رضي الله عنه منقصة له أو خضوعًا غير عادل.

إعلان

وكما أن أي مؤسسة لا يمكن أن يستقيم أمرها من دون ضبط إداري وطاعة المسؤول فيها لتسير نحو النجاح فإن الأسرة التي هي أخطر المؤسسات في البناء الإنساني أولى المؤسسات بسنّ القوانين التي تحقق درجة عالية من الانضباط الذي يتيح لكل أفرادها القيام بمسؤولياتهم بما يحقق للمؤسسة الريادة والنجاح.

المرأة لم تكن يومًا خادمة في مطبخها أو جارية عند زوجها بل هي معه في مسؤوليته عن الرعاية والبناء يدًا بيد كما نصّ الصادق المصدوق عليه والصلاة والسلام فيما أخرجه البخاري في صحيحه: "والرجل في أهله راعٍ وهو مسؤولٌ عن رعيته، والمرأة في بيت زوجها راعية وهي مسؤولة عن رعيتها"، وطاعة المرأة زوجَها فرع عن هذه المسؤولية المشتركة وسبيل من سبل قيامها بواجباتها في بيتها على أتمّ وجه يحقق مهمتها في هذا الكون التي تشترك فيها مع الرجل إعمارًا واستخلافًا.

مقالات مشابهة

  • قادة الصين لن يغيروا مسارهم مهما تغير العالم من حولهم.. ثوابت بكين مستمرة رغم التحولات العالمية
  • خالد الجندي يوضح الفرق بين الهَدْي والهُدَى في القرآن
  • المغرب يستضيف قمة كرة القدم العالمية
  • مرايا الوحي: المحاضرة الرمضانية (5) للسيد القائد 1446
  • الظلم الذكوري باسم الطاعة وبلبوس الشريعة
  • 62.7% حصة آسيا من الشركات متعددة الجنسيات التي استقطبتها غرفة دبي العالمية في 2024
  • أونروا تحذر: المساعدات الإنسانية لا يمكن استخدامها كأسلحة حرب
  • ثالوث تخلّف المجتمعات
  • الندوة العالمية توقّع مذكرتَي تفاهم مع اليونيسيف والمفوضية السامية لدعم الأطفال واللاجئين
  • مديرة الأبحاث بمستشفى الملك فيصل ضمن قائمة فوربس العالمية