رد خامنئي على إسرائيل بين «مصدّق» و«عبد الناصر»: محاولة للفهم
تاريخ النشر: 3rd, August 2024 GMT
الإيرانيون أمة ودولة وحضارة قديمة، وهذا المستوى من الدول يتعلم كثيرا ليس فقط من قيود الجغرافيا الحاكمة ولكن يتعلم، أيضا، من تفاعل هذه الجغرافيا والمجموعة البشرية الحية فيها، أي شعبها، مع الأحداث في كل حقبة زمنية، وهذا هو ما نسميه التاريخ.. تكون أثمان التعلم أحيانا فادحة وخادشة للهيبة والكرامة والشرف «والتعبير للرئيس الإيراني الجديد مسعود بزشكيان»، كما في حادث اغتيال القائد الشهيد إسماعيل هنية التي وقعت على أراضيها وكشفت عن ثغرات أمنية هائلة.
تتعلم من تراكم خبراتها التاريخية فتحاول ألا تقع في فخ رد الفعل العصبي ولا تندفع إلى معركة يسعى إليها أعداؤها وحددوا ظروفها وتوقيتها.
بكل المعاني المتاحة في القاموس السياسي والعسكري المتعارف عليه وبكل مسار حرب العشرة شهور الأخيرة في غزة فإن ما فعله المتطرف نتانياهو ومؤسسته العسكرية ـ الأمنية من اغتيال فؤاد شكر رئيس أركان حرب حزب الله في بيروت نفسها واغتيال أرفع شخصية في حماس القائد الشهيد هنية في أقل من ٢٤ ساعة كان تغييرا لقواعد اللعبة وتسريعها غير مسبوق لاحتمالات اتساع الحرب. كان عملا استفزازيا بامتياز يرجو نتنياهو منه جر طهران وحلفائها في محور المقاومة إلى حرب إقليمية شاملة.
أمام الإيرانيين وحزب الله خيار الانجرار إلى الاستفزاز باعتباره تخطيطا إسرائيليا خالصا أن يندفعوا تحت وطأة اللطمة المهينة المتعمدة إلى الاستجابة التلقائية لدواعي غسل عار الإهانة بالثأر الفوري.
لكن الإيرانيين أدركوا منذ اللحظة الأولى أكثر من غيرهم أن اغتيال شكر الذي لطم كرامة حزب الله في الضاحية الجنوبية لبيروت واغتيال هنية الذي لطم كرامة الدولة الإيرانية في قلب طهران هو عمل أمريكي ـ إسرائيلي مشترك، وإنها عندما ترد لن تكون في مواجهة عواقب رد إسرائيلي خالص بل رد إسرائيلي مدعوم أمريكيا، بل وربما ردا إسرائيليا أمريكيا مشتركا.
لم يكن ذلك الإدراك صعبا بمجرد ربط هذا الاستفزاز التصعيدي لنتنياهو بتوقيته، الاستفزاز جرى مباشرة بعد زيارته لأمريكا واستغلاله المريب لحادثة مجدل شمس.. أي فهم لما حدث من عمليتي الاغتيال الإسرائيليتين وأي فهم لطبيعة وتوقيت الرد الإيراني وباقي محور المقاومة عليه أن يمر عبر ثقب باب زيارة نتانياهو الأخيرة لأمريكا ولقائه بالإدارة الديمقراطية «بايدن وهاريس» والمرشح الجمهوري دونالد ترامب في خضم معركة الانتخابات الرئاسية.
في هذه الزيارة يمكن القول إن نتانياهو حصل على ضوء أخضر من المعسكرين الديمقراطي والجمهوري لتصعيد الصراع ودفعه إما لحافة حرب إقليمية «ينثني تحتها محور المقاومة خاصة حماس ويقبل استسلاما كاملا لنتانياهو» وإما لحرب إقليمية في كامل نطاق الشرق الأوسط يصبح ذريعة لتحطيم حزب الله تحطيما تاما وتوجيه ضربة عسكرية قاصمة لإيران.
لفهم التغيير في موقف الإدارة الأمريكية من الانتقال من موقف كبح اتساع الحرب طيلة الـ ٣٠٠ يوم الماضية إلي موقف إطلاق العنان العسكري لنتانياهو هناك ثلاثة احتمالات.. هذه الاحتمالات لا تتعارض مع بعضها وربما تتكامل فيما بينها لصنع مشهد التصعيد:
- غضب الإدارة من صمود حماس في مفاوضات الصفقة والانتقال لضرورة معاقبتها بسبب وقوفها أمام كل الضغوط التي مارستها واشنطن عليها عبر الوسطاء والحلف الإبراهيمي والسلطة الفلسطينية. لقد توصلت واشنطن مع حماس إلى نفس الاستنتاج الذي استنتجته باستمرار في كل تعاملاتها مع كل قائد أو طرف عربي تفشل في تطويعه بالوسائل الناعمة «ايزنهاور وكينيدي مع عبد الناصر» فتنتقل إلى التآمر للقضاء عليه وعلى نظامه «جونسون ومؤامرة حرب ٦٧» فقررت أن تطلق هنا أيضا العنان لنتانياهو Unleash the dog.
- مقتضيات عام الانتخابات الأمريكية وتسابق هاريس وراعيها بايدن من جهة وترامب من جهة أخرى في استمالة أصوات اللوبي اليهودي وأصوات القاعدة الانتخابية الكبيرة للمسيحية الصهيونية. ترامب قالها لنتانياهو بفجاجة «أكمل مهمتك ـ تدمير حماس ـ واستعادة الردع الإسرائيلي المفقود منذ عار ٧ أكتوبر» في الشهور المتبقية حتى إجراء الانتخابات. الديمقراطيون قالوا ذلك ولكن بشكل غير مباشر ففي المناظرة مع ترامب قال بايدن: «لا يمكن السماح لحماس بالاستمرار، نحن نواصل إرسال خبرائنا ورجال استخباراتنا لمعرفة كيف يمكنهم، أي الإسرائيليين، القضاء على حماس كما قضينا على بن لادن. لقد تم إضعاف حماس ولكن يجب القضاء عليها واستئصالها».
- الاحتمال الثالث هو: أن الأمريكيين والإسرائيليين المصممين على احتكار إسرائيل للسلاح النووي في الإقليم توصلوا لمعلومات تقول إن إيران أصبحت قادرة الآن على تخطي العتبة النووية. ما يعطي هذا الاحتمال مصداقية هو التصريح المفاجئ من بلينكن قبل أسبوعين الذي يزعم فيه أن «إيران قادرة في غضون أسبوع على امتلاك ما يتيح لها صنع قنبلة نووية»!
توافق طهران مع عدوتها واشنطن في كبح نطاق الحرب ومنع اتساعها من خلال اتصالات بينهما لم تتوقف يوما والتي استهدفت منع أن يتسبب أي خطأ في الحسابات في اندلاع حرب شاملة كان ولا يزال محكوما بعاملين، الأول هو مشروع إيران القومي لامتلاك القدرة النووية «مستمر منذ عهد الشاه». فمع التأكيدات الأمريكية العملية بأن حربا بين إسرائيل وإيران ستلتزم انخراطا أمريكيا مباشرا والمتمثلة تحريك البوارج والقطع البحرية الأمريكية لشرق المتوسط والبحر الأحمر والخليج في الأيام الأخيرة.. يمكن القول إن هناك قرارا إستراتيجيا قد تمتنع طهران بمقتضاه عن الوقوع في شرك مواجهة مباشرة مع كل من الولايات المتحدة وإسرائيل تعرف أن هدفه الحقيقي هو تدمير منشآتها النووية بما يلحقها بمشروعات العرب النووية السابقة في العراق وسوريا وليبيا.
في هذا الصدد يتقدم العامل الآخر ألا وهو تراكم الخبرة التاريخية الوطنية والإقليمية كعنصر كابح لسلوك خامنئي في تجنب سياسة رد فعل ترقص على الإيقاع الأمريكي الإسرائيلي. الخبرة الوطنية هي خبرة الرمز الإيراني محمد مصدّق الذي سعى لتأميم البترول الإيراني لكنّ تحالفَ أمريكا وبريطانيا ضده في «خطة آياكس» كان كفيلا بإسقاط تجربته الرائدة للتحرر من الهيمنة الغربية على مصادر النفط.
لكن التجربة الأهم المتعلقة مباشرة بجوهر الحرب الجارية وهي القضية الفلسطينية والتي أحسب أن إيران تضعها نصب عينيها هي التجربة الإقليمية وبالتحديد تجربة جمال عبد الناصر سواء في الإعجاب بها في مساندة فلسطين دون هوادة أو في تحدي الغرب والسعي لتصفية نفوذه الهائل على ثروات العرب. ولكن الأهم أنها تسعى لعدم الوقوع في أخطائها كالاستدراج إلى فخ عام ٦٧. حضور ناصر في التفكير الإيراني الإستراتيجي يمكن قراءته في خطبة شهيرة من الإمام خامنئي أشاد فيها بدور مصر وعبد الناصر كقائد للعرب وصاحب أهم مشروع للتحرر من الغرب وهيمنته وكمدافع لا يلين عن فلسطين.
ويمكن قراءته في خطاب لأحد ممثلي حزب الله في يونيو الماضي في المؤتمر القومي العربي الذي قال فيه إن نظرية حزب الله ومحور المقاومة في مواجهة إسرائيل هي نفس مفهوم ناصر في حرب الاستنزاف. وهو مفهوم يتفادى الحرب الشاملة حتى تتغير جوهريا موازين القوى ولكن يرهق العدو ويضعفه ويستنزف قواته تدريجيا.
لكن حتما لابدّ من قراءته في استيعاب طهران خطة «اصطياد الديك الرومي» الشهيرة بهزيمة يونيو فهي كانت كما هو الحال الآن خطة خداع متدرج ومرتب بين واشنطن وتل أبيب وأطراف عربية تآمرت كلها على استفزاز كرامة عبد الناصر بحجة ضرب سوريا فوقع في أحابيلها وفيها تلقى مشروع التحرر العربي أكبر لطمة منذ انطلاقه في حرب السويس ٥٦.
بين مصدق وخطة آياكس «الاسم الأمريكي لخطة الانقلاب المتفق عليها بين تشرشل وأيزنهاور على مصدق ٥٣ وبين ناصر وخطة اصطياد الديك الرومي بين ليندون جونسون وليفي أشكول على عبد الناصر ٦٧.
تتدبر إيران ردها وخطوتها القادمة لتفادي أي شيء يمنع وُلوجها النادي الذهبي للقوى النووية في العالم.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: عبد الناصر حزب الله
إقرأ أيضاً:
الأردن: إسرائيل تمنع المساعدات عن غزة في محاولة للتطهير العرقي
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
أوضح وزير الخارجية الأردني ونائب رئيس الوزراء، أيمن الصفدي، يوم الخميس، أن المساعدات الإنسانية تعرقل بشكل كامل من قبل سلطات الاحتلال الإسرائيلي، مما يؤدي إلى معاناة إنسانية شديدة في قطاع غزة ويعكس سياسة تسعى إلى تهجير السكان قسريًا.
جاءت هذه التصريحات خلال مؤتمر صحفي مشترك عقده مع الممثل الأعلى للشؤون الخارجية في الاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل.
أكد الصفدي أن الظروف في شمال القطاع أصبحت كارثية، حيث يعاني المدنيون من نقص حاد في الغذاء والماء وغياب الأدوية الضرورية، مشيرًا إلى أن الوضع يمثل مثالًا صارخًا على انتهاك حقوق الإنسان.
ولفت إلى أن السياسات الإسرائيلية في غزة تتمثل في تدمير ممنهج للبنية التحتية ومنع إدخال المساعدات، مما يؤدي إلى تفاقم المأساة الإنسانية بشكل غير مسبوق.
ناقش الجانبان الجهود الدولية الرامية إلى وقف العمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة ولبنان، مع التأكيد على أهمية حماية المدنيين وضمان وصول المساعدات الإنسانية بشكل مستدام، كما شددوا على ضرورة العمل الفوري لإيقاف التصعيد المتزايد في الضفة الغربية الذي يهدد الأمن والاستقرار في المنطقة.
تناولت المحادثات أيضًا المساعي الدولية لحل الصراع السوري، مع الإشارة إلى تراجع كبير في الدعم المقدم للاجئين، مما يزيد من التحديات الإنسانية والسياسية في الأزمة المستمرة.
وأكد الصفدي أن الشراكة مع الاتحاد الأوروبي تتميز بعمق استراتيجي وتعاون وثيق انعكس إيجابيًا على العديد من المبادرات المشتركة.
هذه الزيارة جاءت كجزء من جولة بوريل الختامية في موقعه الحالي قبل مغادرته منصبه الشهر المقبل، حيث شدد الطرفان على أهمية الحفاظ على الحوار البناء للتعامل مع الأزمات الإقليمية المستمرة وضمان السلام في المنطقة.