الإيرانيون أمة ودولة وحضارة قديمة، وهذا المستوى من الدول يتعلم كثيرا ليس فقط من قيود الجغرافيا الحاكمة ولكن يتعلم، أيضا، من تفاعل هذه الجغرافيا والمجموعة البشرية الحية فيها، أي شعبها، مع الأحداث في كل حقبة زمنية، وهذا هو ما نسميه التاريخ.. تكون أثمان التعلم أحيانا فادحة وخادشة للهيبة والكرامة والشرف «والتعبير للرئيس الإيراني الجديد مسعود بزشكيان»، كما في حادث اغتيال القائد الشهيد إسماعيل هنية التي وقعت على أراضيها وكشفت عن ثغرات أمنية هائلة.

تتعلم من تراكم خبراتها التاريخية فتحاول ألا تقع في فخ رد الفعل العصبي ولا تندفع إلى معركة يسعى إليها أعداؤها وحددوا ظروفها وتوقيتها.

بكل المعاني المتاحة في القاموس السياسي والعسكري المتعارف عليه وبكل مسار حرب العشرة شهور الأخيرة في غزة فإن ما فعله المتطرف نتانياهو ومؤسسته العسكرية ـ الأمنية من اغتيال فؤاد شكر رئيس أركان حرب حزب الله في بيروت نفسها واغتيال أرفع شخصية في حماس القائد الشهيد هنية في أقل من ٢٤ ساعة كان تغييرا لقواعد اللعبة وتسريعها غير مسبوق لاحتمالات اتساع الحرب. كان عملا استفزازيا بامتياز يرجو نتنياهو منه جر طهران وحلفائها في محور المقاومة إلى حرب إقليمية شاملة.

أمام الإيرانيين وحزب الله خيار الانجرار إلى الاستفزاز باعتباره تخطيطا إسرائيليا خالصا أن يندفعوا تحت وطأة اللطمة المهينة المتعمدة إلى الاستجابة التلقائية لدواعي غسل عار الإهانة بالثأر الفوري.

لكن الإيرانيين أدركوا منذ اللحظة الأولى أكثر من غيرهم أن اغتيال شكر الذي لطم كرامة حزب الله في الضاحية الجنوبية لبيروت واغتيال هنية الذي لطم كرامة الدولة الإيرانية في قلب طهران هو عمل أمريكي ـ إسرائيلي مشترك، وإنها عندما ترد لن تكون في مواجهة عواقب رد إسرائيلي خالص بل رد إسرائيلي مدعوم أمريكيا، بل وربما ردا إسرائيليا أمريكيا مشتركا.

لم يكن ذلك الإدراك صعبا بمجرد ربط هذا الاستفزاز التصعيدي لنتنياهو بتوقيته، الاستفزاز جرى مباشرة بعد زيارته لأمريكا واستغلاله المريب لحادثة مجدل شمس.. أي فهم لما حدث من عمليتي الاغتيال الإسرائيليتين وأي فهم لطبيعة وتوقيت الرد الإيراني وباقي محور المقاومة عليه أن يمر عبر ثقب باب زيارة نتانياهو الأخيرة لأمريكا ولقائه بالإدارة الديمقراطية «بايدن وهاريس» والمرشح الجمهوري دونالد ترامب في خضم معركة الانتخابات الرئاسية.

في هذه الزيارة يمكن القول إن نتانياهو حصل على ضوء أخضر من المعسكرين الديمقراطي والجمهوري لتصعيد الصراع ودفعه إما لحافة حرب إقليمية «ينثني تحتها محور المقاومة خاصة حماس ويقبل استسلاما كاملا لنتانياهو» وإما لحرب إقليمية في كامل نطاق الشرق الأوسط يصبح ذريعة لتحطيم حزب الله تحطيما تاما وتوجيه ضربة عسكرية قاصمة لإيران.

لفهم التغيير في موقف الإدارة الأمريكية من الانتقال من موقف كبح اتساع الحرب طيلة الـ ٣٠٠ يوم الماضية إلي موقف إطلاق العنان العسكري لنتانياهو هناك ثلاثة احتمالات.. هذه الاحتمالات لا تتعارض مع بعضها وربما تتكامل فيما بينها لصنع مشهد التصعيد:

- غضب الإدارة من صمود حماس في مفاوضات الصفقة والانتقال لضرورة معاقبتها بسبب وقوفها أمام كل الضغوط التي مارستها واشنطن عليها عبر الوسطاء والحلف الإبراهيمي والسلطة الفلسطينية. لقد توصلت واشنطن مع حماس إلى نفس الاستنتاج الذي استنتجته باستمرار في كل تعاملاتها مع كل قائد أو طرف عربي تفشل في تطويعه بالوسائل الناعمة «ايزنهاور وكينيدي مع عبد الناصر» فتنتقل إلى التآمر للقضاء عليه وعلى نظامه «جونسون ومؤامرة حرب ٦٧» فقررت أن تطلق هنا أيضا العنان لنتانياهو Unleash the dog.

- مقتضيات عام الانتخابات الأمريكية وتسابق هاريس وراعيها بايدن من جهة وترامب من جهة أخرى في استمالة أصوات اللوبي اليهودي وأصوات القاعدة الانتخابية الكبيرة للمسيحية الصهيونية. ترامب قالها لنتانياهو بفجاجة «أكمل مهمتك ـ تدمير حماس ـ واستعادة الردع الإسرائيلي المفقود منذ عار ٧ أكتوبر» في الشهور المتبقية حتى إجراء الانتخابات. الديمقراطيون قالوا ذلك ولكن بشكل غير مباشر ففي المناظرة مع ترامب قال بايدن: «لا يمكن السماح لحماس بالاستمرار، نحن نواصل إرسال خبرائنا ورجال استخباراتنا لمعرفة كيف يمكنهم، أي الإسرائيليين، القضاء على حماس كما قضينا على بن لادن. لقد تم إضعاف حماس ولكن يجب القضاء عليها واستئصالها».

- الاحتمال الثالث هو: أن الأمريكيين والإسرائيليين المصممين على احتكار إسرائيل للسلاح النووي في الإقليم توصلوا لمعلومات تقول إن إيران أصبحت قادرة الآن على تخطي العتبة النووية. ما يعطي هذا الاحتمال مصداقية هو التصريح المفاجئ من بلينكن قبل أسبوعين الذي يزعم فيه أن «إيران قادرة في غضون أسبوع على امتلاك ما يتيح لها صنع قنبلة نووية»!

توافق طهران مع عدوتها واشنطن في كبح نطاق الحرب ومنع اتساعها من خلال اتصالات بينهما لم تتوقف يوما والتي استهدفت منع أن يتسبب أي خطأ في الحسابات في اندلاع حرب شاملة كان ولا يزال محكوما بعاملين، الأول هو مشروع إيران القومي لامتلاك القدرة النووية «مستمر منذ عهد الشاه». فمع التأكيدات الأمريكية العملية بأن حربا بين إسرائيل وإيران ستلتزم انخراطا أمريكيا مباشرا والمتمثلة تحريك البوارج والقطع البحرية الأمريكية لشرق المتوسط والبحر الأحمر والخليج في الأيام الأخيرة.. يمكن القول إن هناك قرارا إستراتيجيا قد تمتنع طهران بمقتضاه عن الوقوع في شرك مواجهة مباشرة مع كل من الولايات المتحدة وإسرائيل تعرف أن هدفه الحقيقي هو تدمير منشآتها النووية بما يلحقها بمشروعات العرب النووية السابقة في العراق وسوريا وليبيا.

في هذا الصدد يتقدم العامل الآخر ألا وهو تراكم الخبرة التاريخية الوطنية والإقليمية كعنصر كابح لسلوك خامنئي في تجنب سياسة رد فعل ترقص على الإيقاع الأمريكي الإسرائيلي. الخبرة الوطنية هي خبرة الرمز الإيراني محمد مصدّق الذي سعى لتأميم البترول الإيراني لكنّ تحالفَ أمريكا وبريطانيا ضده في «خطة آياكس» كان كفيلا بإسقاط تجربته الرائدة للتحرر من الهيمنة الغربية على مصادر النفط.

لكن التجربة الأهم المتعلقة مباشرة بجوهر الحرب الجارية وهي القضية الفلسطينية والتي أحسب أن إيران تضعها نصب عينيها هي التجربة الإقليمية وبالتحديد تجربة جمال عبد الناصر سواء في الإعجاب بها في مساندة فلسطين دون هوادة أو في تحدي الغرب والسعي لتصفية نفوذه الهائل على ثروات العرب. ولكن الأهم أنها تسعى لعدم الوقوع في أخطائها كالاستدراج إلى فخ عام ٦٧. حضور ناصر في التفكير الإيراني الإستراتيجي يمكن قراءته في خطبة شهيرة من الإمام خامنئي أشاد فيها بدور مصر وعبد الناصر كقائد للعرب وصاحب أهم مشروع للتحرر من الغرب وهيمنته وكمدافع لا يلين عن فلسطين.

ويمكن قراءته في خطاب لأحد ممثلي حزب الله في يونيو الماضي في المؤتمر القومي العربي الذي قال فيه إن نظرية حزب الله ومحور المقاومة في مواجهة إسرائيل هي نفس مفهوم ناصر في حرب الاستنزاف. وهو مفهوم يتفادى الحرب الشاملة حتى تتغير جوهريا موازين القوى ولكن يرهق العدو ويضعفه ويستنزف قواته تدريجيا.

لكن حتما لابدّ من قراءته في استيعاب طهران خطة «اصطياد الديك الرومي» الشهيرة بهزيمة يونيو فهي كانت كما هو الحال الآن خطة خداع متدرج ومرتب بين واشنطن وتل أبيب وأطراف عربية تآمرت كلها على استفزاز كرامة عبد الناصر بحجة ضرب سوريا فوقع في أحابيلها وفيها تلقى مشروع التحرر العربي أكبر لطمة منذ انطلاقه في حرب السويس ٥٦.

بين مصدق وخطة آياكس «الاسم الأمريكي لخطة الانقلاب المتفق عليها بين تشرشل وأيزنهاور على مصدق ٥٣ وبين ناصر وخطة اصطياد الديك الرومي بين ليندون جونسون وليفي أشكول على عبد الناصر ٦٧.

تتدبر إيران ردها وخطوتها القادمة لتفادي أي شيء يمنع وُلوجها النادي الذهبي للقوى النووية في العالم.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: عبد الناصر حزب الله

إقرأ أيضاً:

حماس: دعوات ضم الضفة محاولة يائسة لتصفية القضية

استنكرت حركة المقاومة الإسلامية (حماس) تصريحات وزراء إسرائيليين دعوا إلى فرض "السيادة الإسرائيلية" على الضفة الغربية المحتلة، ووصفتها بأنها محاولة يائسة لتصفية القضية الفلسطينية عبر نهب الأرض وسرقتها من أصحابها الأصليين.

وقالت حماس في بيان، اليوم الاثنين، إن "هذه التصريحات التي تعكس العقلية الاستعمارية والفاشية المتحكمة في منظومة الاحتلال وتشكّل انتهاكا صارخا للقانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية، تضع المجتمع الدولي والأمم المتحدة ومؤسساتها أمام مسؤولية التحرك الفوري لمحاسبة الاحتلال ووقف سياساته التوسعية الإجرامية بحق شعبنا وأرضنا ومقدساتنا".

ودعت حماس "جماهير شعبنا الصابر المرابط إلى تصعيد المقاومة بكل أشكالها، ومواصلة الانتفاضة والاشتباك مع جيش الاحتلال وقطعان مستوطنيه حتى كسر إرادة المحتل وقادته الفاشيين وإفشال مخططاتهم التهويدية".

جاء ذلك بعدما دعا 4 وزراء في حكومة بنيامين نتنياهو، خلال مشاركتهم في افتتاح حي بمستوطنة "هار براخا" بالضفة الغربية، إلى فرض "السيادة الإسرائيلية" على الضفة.

خطوات الضم

وقال الأكاديمي المختص بالشؤون الإسرائيلية مهند مصطفى، في مقابلة مع الجزيرة نت، إن حكومة الاحتلال الإسرائيلي تسعى حاليا إلى بناء أرضية قانونية تتيح لها ضم الضفة الغربية أو أجزاء منها، عبر تشريعات تمهّد لفرض القانون الإسرائيلي على الأراضي المستهدفة.

إعلان

وأوضح مصطفى أن هذا المسار القانوني هو المدخل الرئيسي نحو فرض السيادة الإسرائيلية على الضفة، مشيرا إلى أنه لا توجد معارضة فاعلة في الشارع الإسرائيلي لهذا المشروع، رغم أن غالبية الإسرائيليين لا يدعمون الضم، بل يفضلون الانفصال عن الفلسطينيين دون إقامة دولة لهم.

وبيّن أن انشغال الرأي العام الإسرائيلي بالحرب على غزة وملف الأسرى، إلى جانب عدم شعور الإسرائيليين بتكلفة الضم حاليا، يساهم في حالة اللامبالاة تجاه خطوات اليمين نحو الضم، لكنه شدد على أن هذا الصمت لا يعني وجود تأييد شعبي واسع لهذه السياسة.

أقلية يمينية

وحسب مصطفى، فإن نحو 25% فقط من الإسرائيليين يدعمون مشروع الضم، بينما يفضّل الباقون الانفصال عن الفلسطينيين دون إقامة دولة فلسطينية.

واعتبر أن اليمين يرى في الوضع الراهن فرصة لتشريع قوانين ترسخ السيادة الإسرائيلية على مراحل، موضحا أن عملية الضم قد تبدأ بمراحل من خلال اختيار مناطق معينة وتشريع قوانين خاصة بها، وصولا إلى ضم واسع.

ومنذ بدء حرب الإبادة بقطاع غزة في أكتوبر/تشرين الأول 2023، أعلن مسؤولون إسرائيليون، في مقدمتهم رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، رفضهم إقامة دولة فلسطينية واعتزامهم ضم الضفة الغربية رسميا.

وبالموازاة مع الإبادة، تكثف إسرائيل تحركاتها لضم الضفة، لا سيما عبر توسيع وتسريع الاستيطان وتهجير الفلسطينيين من أراضيهم، خصوصا تحت وطأة عدوان عسكري مستمر شمالي الضفة منذ يناير/كانون الثاني الماضي.

صمت عربي

وقال الكاتب والمحلل السياسي الفلسطيني أحمد الحيلة إن إسرائيل تستغل الصمت العربي، وضعف المنظومة الدولية، لاستكمال احتلالها للأراضي الفلسطينية، ومن ثم التوسع في الإقليم، كما يجري الآن في لبنان وسوريا، حيث أكد نتنياهو عزمه عدم الانسحاب منهما.

وأوضح الحيلة أن إجراءات الاحتلال المحمومة بزرع المزيد من المستوطنات في عموم الضفة الغربية، ومن ثم السعي لتشريع ضم الضفة أو أجزاء منها لإسرائيل، تعد أعمالا وتشريعات احتلالية باطلة وفق القانون الدولي.

إعلان

وأشار إلى أن الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية لعام 2024 يؤكد أن الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 هي أراض محتلة وعلى المجتمع الدولي العمل على إزالة الاحتلال منها، وتمكين الشعب الفلسطيني من ممارسة حقه في تقرير مصيره.

ووفقا للحيلة، فإن ضم الضفة الغربية عمليا يعني نهاية فرضية إقامة الدولة الفلسطينية، وفق اتفاقيات أوسلو، ومن ثم تحويل السلطة الفلسطينية لمجرد إدارة مدنية وأمنية لإدارة شؤون الفلسطينيين تحت سيادة إسرائيل المباشرة، ووفقا لقوانينها ومعاييرها السياسية.

مقالات مشابهة

  • تحصينات تحت الجبل.. إيران تعزز منشآتها النووية.. وواشنطن وتل أبيب تتوعدان
  • الصين تدعم المحادثات النووية بين إيران والولايات المتحدة
  • الصين: ندعم المحادثات النووية بين إيران والولايات المتحدة
  • وسط ترقب دولي للنتائج.. تقدّم إيجابي في المحادثات النووية الإيرانية
  • واشنطن تفرض عقوبات على قطب الغاز الطبيعي الإيراني إمام جمعة.. وطهران تدين
  • طهران: المحادثات النووية مع واشنطن في الاتجاه الصحيح لكن تحتاج إلى وقت أطول
  • وزير الخارجية الإيراني إلى الصين قبل جولة المفاوضات النووية في عُمان
  • حماس: دعوات ضم الضفة محاولة يائسة لتصفية القضية
  • تواصل سري بين طهران وفريق ترامب بعلم خامنئي.. وهذه تفاصيله
  • إيران تتهم إسرائيل بالسعي لتقويض المباحثات النووية مع واشنطن