لجريدة عمان:
2025-03-03@16:49:06 GMT

قراءة في عقل المتطرف

تاريخ النشر: 3rd, August 2024 GMT

لم أعتدْ تناول قضايا التطرّف والإرهاب والخوض فيها، ولكن لدي شغف لمعرفة ما يجوب في عقل الإنسان المتطرّف الذي نحتاج إلى تشريح فكره، وفكّ شفرة أفكاره المتطرّفة من زاوية نفسية مترامية الدوافع والتأثيرات، و يأتي في مقدمتها الدافع الديني المغلوط الذي أجزل في شرح مفاصله وتشريحه الأستاذ بدر العبري في كتابه القيّم «فقه التطرف»، وهنا لا أرغب بالمزايدة في منحى التأصيل الديني المتعلق بالتطرف، ولكن لعّل ما يمكن أن نخوضه في قراءتنا هذه شيئا من التأملات التي يمكن تصورها في فهم عقل المتطرف.

أذكر منذ سنوات طويلة عندما برز اسم تنظيم «القاعدة» -قبل ثورة وسائل التواصل الاجتماعي وانتشارها- أنني كنت أتساءل عن مغزى تشكّل مثل هذه المنظمات الإرهابية التي أثبتت في كثير من حوادثها أنها ذات نزعة متطرفة عبر مهاجمتها للمجتمعات الإنسانية المدنية التي لا تملك أي تداخل مع العمل العسكري أو السياسي؛ فرأينا تفجير المساجد ودور العبادة ومهاجمة الأبرياء العزّل أفرادا وجماعات دون أيّ غاية واضحة إلا لبثّ الخوف وإحداث القتل والتدمير، ولم تلبث أن تقلّصَ وجود ما يسمى بـ«القاعدة» ليحّل محله ما نعرفه اليوم بـ«داعش» الذي لم يختلف عن سلفه من حيث الأهداف والنزعة المتطرفة، والذي تزامن ظهوره مع أحداث ما يُعرف بـ«الربيع العربي» الذي لم نرَ له أهدافا واضحة؛ ففي معظم مشاهده -التي اتضحت ملامحها بعد عدّة سنوات- لم يجلب إلا الخراب السياسي والاقتصادي للدول والشعوب، ويكاد لا نرى ثورة إلا ويتبعها ظهورٌ للمنظمات المتطرفة التي بات من السهل استنتاج تحديد منابع تمويلها ودعمها للامحدود؛ لتتضح الصورة أن لهذه المنظمات الإرهابية وجهين؛ فيمثل الوجه الأول المنبع الذي يُعزى إليه تشكيل نواة هذه المنظمات وتمويلها، ويمثل الوجه الثاني أفراد هذه المنظمات التي يمكن اعتبار الشريحة الأكبر منها من المغرر بهم عبر وسائل عدة منها المادية والفكرية، ولا أريد التفصيل في الوجه الأول قدر ما نرغب في طرح قراءة خاصة عن الوجه الثاني لهذه المنظمات التي تمثل العقل المتطرف؛ لنحدد بعض مفاصله الفكرية والنفسية الدافعة لتشكيله وتحويله إلى آلة قتل غير عابئة بالمبادئ الإنسانية والدينية، وقبل أن نلجَ إلى هذا الشق نحتاج سريعا العودة إلى الوجه الأول الذي يتمثل في سؤال بسيط: من يقف خلف هذه المنظمات المتطرفة ويموّلها؟ وللإجابة على السؤال يمكن للقارئ أن يبحث في مصادر مرئية ومكتوبة كثيرة في محركات البحث التي سيجدها تؤكد أن هذه المنظمات صهيونية التأسيس والمنشأ حتى وإن التصقت اسما وفكرًا ببعض المدارس الدينية، ولكن حالها حال الفيروسات التي تبحث لها عن ملاذ يمكن اختراقه واستيطانه لاستعداده المسبق، ومع ذلك لا يمكن أن يستمر وجود مثل هذه المنظمات دون وجود التمويل المستمر والقاعدة الشعبية المؤيدة.

نعود إلى محور نقاشنا الرئيس المتعلق بالعقل المتطرّف من حيث سبل تأسسه ونزعاته التعصبية؛ فنجد أن العقل المتطرّف في أصله يملك الاستعداد المسبق لقبول فكرة التطرّف، والذي يكون في غالبه نتاج النزعة النفسية وتقلباتها التي تعتصر بين الرغبة بالبوح بالألم وتحريره بصوره الكثيرة -منها الجنون والأمراض النفسية- وبين الكبت -الذي يجعل من الإنسان يخوض معاركَ صامتة مع الصراعات النفسية تترجم إلى ممارسات مناقضة أو تبنّي أفكار ضالة-، وكذلك يأتي -في حالات أخرى- نتاج البيئة المؤيدة لفكرة التطرف المغذية لبذرة التعصب الديني أو المذهبي أو العرقي؛ فمع الحالة الأولى، يحاول الإنسان ذو النزعات النفسية المضطربة أن يمارس دورًا مخالفًا للنمط الجمعي الذي يكون في بعض مظاهره في صورة إدمان أو بحث عن وسائل يصب فيها نقمته على المجتمع لأسباب أكثرها وهمية، وفي كلا الحالتين يكون هذا المضطرب النفسي فريسة سهلة لهذه المنظمات التي تعمل على استدراجه تحت غطاء ديني أو مذهبي مضلل، وفي هذه الحالة من السهل أن نقول إن التطرف يزداد نشاطه ورواجه بين المجموعات ذات الاستقرار النفسي الضعيف، وهذا ما يحدث أيضا في الأوساط المجتمعية ذات النشأة الدينية أو العرقية المتطرفة والمتعصبة التي لا تؤمن بمبدأ التعددية والرأي الآخر. نستنتج من ذلك أن العقل المتطرف فاقدٌ لبُوصلته الإنسانية نتيجة التوجيه الديني الخاطئ الذي ينشط مع الانتكاسات النفسية خصوصا ذات النزعات الإجرامية، منهم أصحاب السوابق والقضايا. في حين ما يثير دهشة البعض أن يكون بعض المنتمين لهذا الفكر المتطرف من لم يُعرف عنهم ميولات إجرامية ونكسات نفسية، وأنهم من أصحاب الدخل الجيد والمستقر؛ فتكون آلية بحثنا في العقل المتطرف وتمحيصها مهمة صعبة تتجاوز توقعات الحس الأمني أو حتى احتمالات خوارزميات الذكاء الاصطناعي؛ فغياب خيوط التطرف تجعل من مهمة تشريح العقل المتطرف غير ثابتة المعايير رغم استقرار كثير من معاييرها مثل التي ذكرناها، ورغم ذلك فالبحث في العقل المتطرف بحاجة إلى جمع كل العناصر المستفيضة من ظواهر التطرف ومستجداته بما في ذلك العناصر النفسية الظاهر منها والمكبوت بما فيها ظاهرة القلق الوجودي وأسئلته الكبرى - التي نحتاج إلى مبحث مستقل لتناولها-، وعنصر البيئة وثقافته الجمعية والشاذة، ويشمل التعاليم الدينية المغلوطة والخطاب الديني الذي يمكن أن يعتري بعض مفاصله أو جميعها عنصر التطرف، والعنصر الاجتماعي والمالي. من الممكن ألا تجتمع كل تلك العناصر أو بعضها عند الإنسان فتشكّل في داخله عقلا متطرفا، ولكن من يقف وراء هذه المنظمات الإرهابية فإنه يجيد فن الإقناع الذي يمكن إعماله -ولو بعد عدّة محاولات- في داخل العقل البشري عبر الشحن التعصبي العاطفي المدعوم بالتأثير الديني المضلل المثير للحمية والمهيّج للعاطفة المزخرف بنيل الثواب؛ لتسخيره إلى آلة قتل لا تستجيب لأيّ منطلقات إنسانية؛ فتعمل كأنها آلة مبرمجة تبحث عن وسيلة تطفئ بواسطتها عقدها النفسية المكبوتة، وتوقن -وهما- أنها تتقرّب إلى الله وتكسب رضاه.

لا تنتهي مهمة البحث في عقل المتطرف وتحديد المسببات التي تقوده إلى التطرف؛ فهي في حالة متجددة نتيجة الظروف والتقدم التقني كما أسلفنا في مقال سابق «المجتمع الرقمي ومواجهة التطرف»، ولكن لابد من المسارعة إلى تطبيق كل الحلول الممكنة التي يمكن أن تسهمَ في دحر التطرف وتقليل مخاطره، وأحد هذه الحلول الممكنة تتبع كل المصادر المؤيدة للتطرف والتعصب سواء الفئات المحرّضة للطائفية عبر خطابها الديني الرسمي أو المستتر أو أصحاب اللغة التكفيرية ونعوتها الطائفية مثل التي نراها في وسائل التواصل الاجتماعي، وحظر الكتب المؤيدة للنزعات المتطرفة، ومعالجة القضايا المجتمعية التي تتعلق بالشأن الاقتصادي والمعيشي، والاهتمام بالصحة النفسية والتوعية بضرورتها، ونشر المبادئ الدينية والأخلاقية السليمة؛ فهناك من يبحث عما يسدّ رغباته الفكرية الداخلية، ويجيب عن أسئلته الوجودية والكبيرة؛ فإن لم يجد لبلوغها سبيلا كان لهذه المنظمات السبيل إلى اقتناصها واستغلال فراغها عبر منهج التضليل وإخضاع العقل إلى سلطة التطرف.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: هذه المنظمات المتطر ف یمکن أن الذی ی

إقرأ أيضاً:

الحريات ومسئولية الاختيار.. الانحيازات الحضارية والعقلية في مؤلفات مفسري القرآن الكريم

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

عَبْر العديد من المؤلفات التفسيرية، طرح مفسرو القرآن الكريم المزيد من الرؤى والأفكار والقراءات التي تنطوي على معاني جمالية وإنسانية مستمدة من النص الكريم، أبرز هذه المعانى هو التأكيد على أهمية العقل، وضرورته فى الكشف عن سُبل الهداية والصلاح، ودوره فى صناعة الحضارة، إذ أن التأكيد على أهمية العقل يعزز من دوره فى العلوم واكتشاف قوانين الطبيعة، وتحرير الإنسان من قيود الخرافة والأساطير.

وقد مرَّ التفسير بمراحل عدة أظهرت مدى ملائمة النص الكريم للظروف التاريخية التى تحيط به، خاصة وأنه مع التوسعات التى انطلق بها العرب للبلاد المجاورة جعلتهم يحتكون بأمم أصحاب حضارات وأصحاب فلسفات ومذاهب فكرية كبرى، وبدورهم استطاع المفسرون تقديم معانى الآيات بما يتناسب ومواجهة هذه الأفكار والفلسفات المختلفة، التى تصنع بدورها جدلا كبيرا حول نصوص الآيات الكريمة.

فى السطور التالية، نعرض لبعض النماذج التفسيرية التى أكدت على دور العقل واهتمت به، وأوضحت دوره فى الوصول إلى الهداية والحق، والنماذج التى أكدت على حرية الإنسان فى اختيار عقيدته، وأيضا التى أكدت على مسئولية الإنسان عن اختياره لطريق الخير أو طريق الشر، وأيضا النماذج التى رأت فى القرآن الكريم نموذجًا للهداية والصلاح، والتوجيهات النافعة والمفيدة.

مدارس التفسير وتنوعها

بدأت محاولات تفسير القرآن الكريم منذ نزوله، وكان النبى محمد صلى الله عليه وسلم حاكمًا للخلاف، فكانوا يرجعون إليه فى الأمور الملتبسة، لكن بعد وفاة النبي الكريم، وظهور الفرق والمذاهب ظهرت تفسيرات معتمدة على الاجتهاد، لم تكن مؤلفات بل كانت أقوالًا يتناقلها الناس، وكان ذلك باعثًا على ظهور التفاسير المعروفة بـ«التفسير بالمأثور" الذى حاول الحد من تلك الظاهرة وحصر معاني نصوص القرآن فى نصوص أخرى قد تكون آيات قرآنية أو أحاديث نبوية أو مقولات الصحابة.

ولا يجتهد التفسير بالمأثور فى بيان معنى من غير دليل، ويتوقف عما لا طائل تحته، ولا فائدة فى معرفته ما لم يرد فيه نقل صحيح. وقد عده البعض من أفضل المناهج لاقتصاره على المعنى دون تفصيلات وترجيحات وظهور إشكاليات النص، ومن أبرز من ألفوا فى ذلك الاتجاه، ابن جرير الطبري فى كتابه «جامع البيان» ونصر بن إبراهيم السمرقندي وكتابه «بحر العلوم» والثعلبي وكتابه «الكشف والبيان» والمواردى وكتابه «النكت والعيون» وقبل هذه المؤلفات ظهرت تفسيرات بالمأثورة مبكرة لم تكن تعرف وضع الأسماء للتفاسير فكان يسمى باسم المفسر مثل تفسير ابن وهب وتفسير مقاتل.

مع مرور الزمن وانتشار الإسلام فى غير بلاد العرب وانفتاح العرب على فلسفات وثقافات الشعوب المجاورة ظهرت المسائل الكبيرة التى لا يستطيع التفسير بالمأثور التعامل معها ليتربع بعد ذلك التفسير بالرأى فى قائمة المؤلفات المطلوبة، وهو التفسير بالاستنباط والاجتهاد، وخصوه بما يراه القلب بعد فِكْرٍ وتأمل وطلب لمعرفة وجه الصواب.

وتسلح مفسرو هذا الاتجاه بأدوات كثيرة حتى يتمكنوا من توجيه المعاني، فيكون ملمًا بأحاديث النبى وأقوال الصحابة والتابعين وعارفًا بلغة العرب، ومدركًا لأسباب النزول ومدركًا لغايات النص ومقاصد الآيات الكريمة، ومن أبرز تلك التفسيرات "مفاتيح الغيب «للرازي، و"البحر المحيط" للأندلسي، و"روح المعانى" للألوسى، وتفسير الشيخ محمد عبده، و"التفسير الوسيط" للدكتور محمد سيد طنطاوى، وتفسير محمود شلتوت، و"زهرة التفاسير" لأبى زهرة، و"التحرير والتنوير" للطاهر بن عاشور.

أتاحت التفاسير التي تعتمد على الاجتهاد مساحة كبيرة وواسعة للمفسرين أن يعبروا عن علاقاتهم بالنص وعلاقة النص بالإنسان والكون، وبذلك قدموا رؤية دينية تشارك فى معرفة الإنسان المسلم بالقرآن الكريم، يستطيع المتلقى أن يختلف ويتفق معها بعكس التفسير بالمأثور التى تدخل المتلقي فى دائرة لا خلاص منها، فإن كل نص جديد يحتاج إلى نص شارح وهكذا.

الموضوعية والنظر العقلي

تفسير "الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل فى وجوه التأويل" للإمام محمود بن عمر الزمخشرى يعد أحد أبرز التفاسير الذى فرض نفسه على الساحة الفكرية والثقافية العربية والإسلامية بقوة لما له من باع كبير فى علوم اللغة والفقه والتفسير، وفيه أعطى الزمخشرى قيمة كبيرة للعقل، وأظهر أهميته وضرورته.

ويمكن قراءة تفسيره للآيات: "وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِى ضَلاَلٍ مُّبِينٍ. وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَٰوَٰتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ. فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الْلَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَـٰذَا رَبِّى فَلَمَّآ أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ. فَلَمَّآ رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَـٰذَا رَبِّى فَلَمَّآ أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِى رَبِّى لأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ. فَلَماَّ رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَـٰذَا رَبِّى هَـٰذَآ أَكْبَرُ فَلَمَّآ أَفَلَتْ قَالَ يٰقَوْمِ إِنِّى بَرِياءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ. إِنِّى وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِى فَطَرَ السَّمَٰوَٰتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَآ أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ"، (الأنعام: الآيات من ٧٤ إلى ٧٩).

قال الزمخشري: كان أبوه وقومه يعبدون الأصنام والشمس والقمر والكواكب، فأراد أن ينبههم على الخطأ فى دينهم، وأن يرشدهم إلى طريق النظر والاستدلال، ويعرفهم أن النظر الصحيح مؤد إلى أن شيئا منها لا يصحّ أن يكون إلٰهًا، لقيام دليل الحدوث فيها، وأن وراءها محدثا أحدثها، وصانعًا صنعها، مدبرًا دبر طلوعها وأفولها وانتقالها ومسيرها وسائر أحوالها.

ورأى الزمخشري أن قوله تعالى "هذا ربي" يفيد أن الآية نقلت مقولة خصمها مع العلم إنه قول باطل، لكن الآية ذكرته كما هو دو التعصب لمذهب بعينه، وهذه الطريقة يراها الزمخشرى "أدعى إلى الحق وأنجى من الشغبـ«.

التفت المفسر إلى ضرورة نقل مذهب الخصم كما هو حتى لو كان مخالف لك فى مذهبك، حتى لو كنت ستنقده وتفنده، فالواجب نقل رأي الخصم بأمانة، وهو النهج الذى اتبعه القرآن عندما نقل قول إبراهيم عليه السلام عن الشمس والقمر "هذا ربي" والله عز وجل حكاه ويعلم أنه قول باطل، لكنها الموضوعية التى يعلمنا إياها.

وقال الزمخشري: "لا أُحِبُّ الأفِلِينَ" لا أحبّ عبادة الأرباب المتغيرين من حال إلى حال، المتنقلين من مكان إلى آخر، المحتجبين بستر، فإنّ ذلك من صفات الأجرام "بَازِغًا" مبتدئا فى الطلوع. "لَئِن لَّمْ يَهْدِنِى رَبّى" تنبيه لقومه على أنّ من اتخذ القمر إلٰهًا وهو نظير الكوكب فى الأفول، فهو ضال، وأنّ الهداية إلى الحق بتوفيق الله ولطفه، "هَـٰذَا أَكْبَرُ" من باب استعمال النصفة أيضًا مع خصومه "إِنّى بَرِىء مّمَّا تُشْرِكُونَ" من الأجرام التى تجعلونها شركاء لخالقها "إِنّى وَجَّهْتُ وَجْهِىَ لِلَّذِى فَطَرَ السَّمَـٰوٰتِ وَالأرْضَ" أى للذى دلت هذه المحدثات عليه وعلى أنه مبتدؤها ومبتدعها. وقيل: هذا كان نظره واستدلاله فى نفسه، فحكاه الله".

وهكذا فإن تفسير هذه الآيات للزمخشرى ركز على سمات حضارية عظيمة مثل نقل رأى الخصوم بأمانة، كما ركز على أن النظر والاستدلال هو الطريق الصواب للوصول إلى طريق الهداية ومعرفة الحق.

مسئولية الخير والشر

فى تفسيره "مفاتيح الغيب ـ « شرح الفخر الرازى عدة تفاسير وآراء حول قوله تعالى "إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورا". (الإنسان:٣) تفيد بحرية الإنسان فى اختيار طريقه، سواء كان خيرا أو شرا، فهو فيما بعد مسئول عن اختياره هذا أمام الخالق.

يقول الرازى إن الآية بها عدة مسائل: المسألة الأولى، الآية دالة على أن إعطاء الحواس كالمقدم على إعطاء العقل والأمر كذلك لأن الإنسان خلق فى مبدأ الفطرة خاليا عن معرفة الأشياء، إلا أنه أعطاه آلات تعينه على تحصيل تلك المعارف، وهى الحواس الظاهرة والباطنة، فإذا أحس بالمحسوسات تنبه لمشاركات بينها ومباينات، ينتزع منها عقائد صادقة أولية، كعلمنا بأن النفي والإثبات لا يجتمعان ولا يرتفعان وأن الكل أعظم من الجزء، وهذه العلوم الأولية هى آلة العقل لأن بتركيباتها يمكن التوصل إلى استعلام المجهولات النظرية، فثبت أن الحس مقدم فى الوجود على العقل، ولذلك قيل: من فقد حسًا فقد علمًا، ومن قال: المراد من كونه سميعًا بصيرًا هو العقل، قال: إنه لما بين فى الآية الأولى أنه أعطاه العقل بين فى هذه الآية، أنه إنما أعطاه العقل ليبين له السبيل ويظهر له أن الذى يجب فعله ما هو. والذى لا يجوز ما هو".

و"المسألة الثانية، السبيل هو الذى يسلك من الطريق، فيجوز أن يكون المراد بالسبيل ههنا سبيل الخير والشر والنجاة والهلاك، ويكون معنى هديناه، أى عرفناه وبينا كيفية كل واحد منهما له، كقوله تعالى "وَهَدَيْنَـٰهُ النَّجْدَينِ" [البلد: ١٠] ويكون السبيل اسمًا للجنس، فلهذا أفرد لفظه كقوله تعالى "إِنَّ الإنسَـٰنَ لَفِى خُسْرٍ" [العصر: ٢] ويجوز أن يكون المراد بالسبيل، هو سبيل الهدى لأنها هى الطريقة المعروفة المستحقة لهذا الاسم على الإطلاق، فأما سبيل الضلالة فإنما هى سبيل بالإضافة".

و"المسألة الثالثة، المراد من هداية السبيل خلق الدلائل، وخلق العقل الهادى وبعثة الأنبياء وإنزال الكتب، كأنه تعالى قال: خلقتك للابتلاء ثم أعطيتك كل ما تحتاج إليه ليهلك من هلك عن بينة وليس معناه خلقنا الهداية، ألا ترى أنه ذكر السبيل، فقال "هَدَيْنَـٰهُ السَّبِيلَ" أى أريناه ذلك".

وهداية السبيل فى مسائل الرازى هنا كانت بمثابة إعطاء الإنسان العقل والحواس ليتمكن من معرفة الأشياء والكون من حوله، وإدراك الهداية بآلات ممنوحة له، وبمثابة التبصرة بطريق الخير والشر وعليه أن يختار، وبمثابة إعطاء دلائل الهداية مثل إنزال الكتب والأنبياء ليكون كل إنسان مسئول عن اختياره.

حرية العقيدة

واحدة من الأسس الحضارية التى أظهرتها التفاسير وعلقت عليها باهتمام هى حرية العقيدة من قوله تعالى: "وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ". (الكهف:٢٩)، إذ أن ضمان حرية العقيدة هو الضمانة للتعايش السلمى داخل المجتمعات المتحضرة.

قال الثعلبى فى تفسيره "الكشف والبيان": "ومعنى الآية: وقل يا محمّد لهؤلاء الّذين أغفلنا قلوبهم عن ذكرنا: أيُّها الناس، مِن ربكم الحقُّ، وإليه التوفيق والخذلان، وبيده الضلالة والهدى، يهدى من يشاء فيؤمن، ويضل من يشاء فيكفر ليس إليّ من ذلك شيء، ولست بطارد المؤمنين لكم، فإن شئتم فآمنوا، وإن شئتم فاكفروا؛ فإنكم إن كفرتم فقد أعدّ لكم ربكم على كفركم نارًا أحاط بكم سرادقها، وإن آمنتم وأطعتم فإن لكم ما وصف الله عزّ وجلّ لأهل طاعته. وقوله: "فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ" ليس بترخيص وتخيير، إنما هو وعيد وتهديد".

أما الزمخشري فقد رأى فى تفسيره "الكشاف"، أن المعنى هو "جاء الحق وراحت العلل فلم يبق إلا اختياركم لأنفسكم ما شئتم من الأخذ فى طريق النجاة أو فى طريق الهلاك، وجيء بلفظ الأمر والتخيير، لأنه لما مكن من اختيار أيهما شاء، فكأنه مخير مأمور بأن يتخير ما شاء من النجدين".

ورأى ناصر الدين البيضاوى صاحب تفسير "أنوار التنزيل وأسرار التأويل"، أن المعنى هو "لا أبالى بإيمان من آمن ولا كفر من كفر، وهو لا يقتضي استقلال العبد بفعله".

وتختلف التفاسير فيما بينها حول لمن تعود المشيئة المذكورة فى الآية، هل هى مشيئة الله؟ أم مشيئة الإنسان؟ وقد انحاز الزمخشرى إلى أنها إرادة الإنسان، أما البيضاوى فقد رأى أن الآية من باب استغناء الله عن إيمان وكفر العبد، بينما رأى الثعلبى أن الآية ليست من باب التخيير إنما هى من باب الوعيد فى الكفر، وهو ثراء تفسيرى يدل على سعة أفق المفسرين واختلاف مدارسهم.

هدايات سامية وتوجيهات نافعة

تفسير "الوسيط" للدكتور محمد سيد طنطاوى هو تفسير ذو قيمة كبيرة ويحتوى على جهد شاق بذله الشيخ الراحل، ويتميز بالسهولة والوضوح والمنهجية.

يتميز "الوسيط" بلغته السهلة الرشيقة البعيدة عن التعقيدات اللغوية القديمة، كما أنه يخرج من التفريعات الطويلة والألغاز الشاقة التى تأخذ القارئ بعيدا عن أهداف القرآن ككتاب هداية، ويستوعب الكتابات العصرية والأسلوب العلمى فى التأليف، إلى جانب النظرة العقلية فى تمحيص الأخبار والحكايات من أجل الوصول إلى معنى كلى مستقيم.

تحدث طنطاوى عن تفسير القرآن فذكر أنه هو المفتاح الذى يكشف عن الهدايات السامية، والتوجيهات النافعة، والعظات الشافية، والكنوز الثمينة التى احتواها هذا الكتاب الكريم، ومن غير تفسير القرآن تفسيرًا علميًا مستنيرًا لا يمكن الوصول إلى ما اشتمل عليه هذا الكتاب من هدايات وتوجيهات مهما قرأه القارئون وردد ألفاظه المرددون.

قال إياس بن معاوية- استشهد بمقولته طنطاوى- مثل الذين يقرأون القرآن وهم لا يعلمون تفسيره كمثل قوم جاءهم كتاب من مليكهم ليلا وليس عندهم مصباح فتداخلتهم روعة لا يدرون ما فى الكتاب، ومثل الذى يعرف التفسير كمثل رجل جاءهم بمصباح فقرأوا ما فى الكتاب.

ويوضح: «فإن قال قائل فما أحسن طرق التفسير؟ فالجواب أن أصح طريق فى ذلك أن يفسر القرآن بالقرآن، فما أجمل فى مكان فإنه قد بسط فى موضع آخر، فإن أعياك ذلك فعليك بالسنة فإنها شارحة للقرآن ومثله معه يعنى السنة، والغرض أنك تطلب تفسير القرآن منه، فإن لم تجده فمن السنة، فإن لم تجده فمن أقوال الصحابة، فإن لم تجده فقد رجع كثير من الأئمة فى ذلك إلى أقوال التابعين كمجاهد بن جبر، وسعيد بن جبير وعكرمة مولى ابن عباس وعطاء بن أبى رباح والحسن البصرى وغيرهم».

وشرح طنطاوى خلال مقدمته للوسيط، أنه انتفع بكتابات السابقين، ثم يوضح منهجه وطريقة سيره فى تأليف التفسير، حيث يقول: «ولقد انتفعت كثيرا بما كتبه الكاتبون عن كتاب الله تعالى، وهأنذا أقدم لك تفسيرا وسيطا، وقد بذلت فيه أقصى جهدى ليكون تفسيرا علميا محققا محررا من الأقوال الضعيفة والشبه الباطلة والمعانى السقيمة».

«ستلاحظ أننى كثيرا ما أبدأ بشرح الألفاظ القرآنية شرحا لغويا مناسبا، ثم أبين المراد منها إذا كان الأمر يقتضى ذلك»؛ هكذا يقول طنطاوى ويستكمل مقدمته بـ«ثم أذكر سبب النزول للآية أو الآيات إذا وجد وكان مقبولا، ثم أذكر المعنى الإجمالي للآية أو الجملة، مستعرضا لما اشتملت عليه من وجوه البلاغة والبيان والعظات والآداب والأحكام، مدعما ذلك بما يؤيد المعنى من آيات أخرى ومن الأحاديث النبوية ومن أقوال السلف الصالح، وقد تجنبت التوسع فى وجوه الإعراب واكتفيت بالرأى أو الآراء الراجحة إذا تعددت الأقوال، وذلك لأننى توخيت فيما كتبت إبراز ما اشتمل عليه القرآن الكريم من هدايات جامعة وأحكام سامية وتشريعات جليلة وآداب فضيلة وعظات بليغة وأخبار صادقة وتوجيهات نافعة وأساليب بليغة وألفاظ فصيحة».

ويعد تفسير الوسيط للقرآن الكريم من أهم التفاسير العصرية، لأنه يبرز التصورات الحضارية والمنافع السامية للنص الحكيم، كما أنه يطرح العديد من الرؤى حول كثير من المشكلات التى تواجه المسلمين فى واقعهم.

في العدد الإليكتروني

مقالات مشابهة

  • معرض الإبداع والابتكار في مؤسسات محمد بن خالد
  • الأمم المتحدة تطالب الحوثيين بالإفراج عن المختطفين
  • خبراء لـ«الاتحاد»: الذكاء الاصطناعي يكافح الإرهاب والتطرف
  • البطريرك الراعي: الصلاة في زمن الصوم بمثابة "رفع العقل والقلب إلى الله"
  • حماس تُعلق على قرار وقف المساعدات الإنسانية: ابتزاز رخيص
  • في اتصال مع السفير البابوي في لبنان.. شيخ العقل يطمئن على صحة البابا
  • الحكيم يقترح تأسيس مرصد وطني لمكافحة الفساد
  • ألمانيا بين الاستقلال عن أميركا وصعود اليمين المتطرف
  • الأمم المتحدة:عملنا في العراق لدعم تنفيذ الاستراتيجية الوطنية لمكافحة التطرف
  • الحريات ومسئولية الاختيار.. الانحيازات الحضارية والعقلية في مؤلفات مفسري القرآن الكريم