لم أعتدْ تناول قضايا التطرّف والإرهاب والخوض فيها، ولكن لدي شغف لمعرفة ما يجوب في عقل الإنسان المتطرّف الذي نحتاج إلى تشريح فكره، وفكّ شفرة أفكاره المتطرّفة من زاوية نفسية مترامية الدوافع والتأثيرات، و يأتي في مقدمتها الدافع الديني المغلوط الذي أجزل في شرح مفاصله وتشريحه الأستاذ بدر العبري في كتابه القيّم «فقه التطرف»، وهنا لا أرغب بالمزايدة في منحى التأصيل الديني المتعلق بالتطرف، ولكن لعّل ما يمكن أن نخوضه في قراءتنا هذه شيئا من التأملات التي يمكن تصورها في فهم عقل المتطرف.
أذكر منذ سنوات طويلة عندما برز اسم تنظيم «القاعدة» -قبل ثورة وسائل التواصل الاجتماعي وانتشارها- أنني كنت أتساءل عن مغزى تشكّل مثل هذه المنظمات الإرهابية التي أثبتت في كثير من حوادثها أنها ذات نزعة متطرفة عبر مهاجمتها للمجتمعات الإنسانية المدنية التي لا تملك أي تداخل مع العمل العسكري أو السياسي؛ فرأينا تفجير المساجد ودور العبادة ومهاجمة الأبرياء العزّل أفرادا وجماعات دون أيّ غاية واضحة إلا لبثّ الخوف وإحداث القتل والتدمير، ولم تلبث أن تقلّصَ وجود ما يسمى بـ«القاعدة» ليحّل محله ما نعرفه اليوم بـ«داعش» الذي لم يختلف عن سلفه من حيث الأهداف والنزعة المتطرفة، والذي تزامن ظهوره مع أحداث ما يُعرف بـ«الربيع العربي» الذي لم نرَ له أهدافا واضحة؛ ففي معظم مشاهده -التي اتضحت ملامحها بعد عدّة سنوات- لم يجلب إلا الخراب السياسي والاقتصادي للدول والشعوب، ويكاد لا نرى ثورة إلا ويتبعها ظهورٌ للمنظمات المتطرفة التي بات من السهل استنتاج تحديد منابع تمويلها ودعمها للامحدود؛ لتتضح الصورة أن لهذه المنظمات الإرهابية وجهين؛ فيمثل الوجه الأول المنبع الذي يُعزى إليه تشكيل نواة هذه المنظمات وتمويلها، ويمثل الوجه الثاني أفراد هذه المنظمات التي يمكن اعتبار الشريحة الأكبر منها من المغرر بهم عبر وسائل عدة منها المادية والفكرية، ولا أريد التفصيل في الوجه الأول قدر ما نرغب في طرح قراءة خاصة عن الوجه الثاني لهذه المنظمات التي تمثل العقل المتطرف؛ لنحدد بعض مفاصله الفكرية والنفسية الدافعة لتشكيله وتحويله إلى آلة قتل غير عابئة بالمبادئ الإنسانية والدينية، وقبل أن نلجَ إلى هذا الشق نحتاج سريعا العودة إلى الوجه الأول الذي يتمثل في سؤال بسيط: من يقف خلف هذه المنظمات المتطرفة ويموّلها؟ وللإجابة على السؤال يمكن للقارئ أن يبحث في مصادر مرئية ومكتوبة كثيرة في محركات البحث التي سيجدها تؤكد أن هذه المنظمات صهيونية التأسيس والمنشأ حتى وإن التصقت اسما وفكرًا ببعض المدارس الدينية، ولكن حالها حال الفيروسات التي تبحث لها عن ملاذ يمكن اختراقه واستيطانه لاستعداده المسبق، ومع ذلك لا يمكن أن يستمر وجود مثل هذه المنظمات دون وجود التمويل المستمر والقاعدة الشعبية المؤيدة.
نعود إلى محور نقاشنا الرئيس المتعلق بالعقل المتطرّف من حيث سبل تأسسه ونزعاته التعصبية؛ فنجد أن العقل المتطرّف في أصله يملك الاستعداد المسبق لقبول فكرة التطرّف، والذي يكون في غالبه نتاج النزعة النفسية وتقلباتها التي تعتصر بين الرغبة بالبوح بالألم وتحريره بصوره الكثيرة -منها الجنون والأمراض النفسية- وبين الكبت -الذي يجعل من الإنسان يخوض معاركَ صامتة مع الصراعات النفسية تترجم إلى ممارسات مناقضة أو تبنّي أفكار ضالة-، وكذلك يأتي -في حالات أخرى- نتاج البيئة المؤيدة لفكرة التطرف المغذية لبذرة التعصب الديني أو المذهبي أو العرقي؛ فمع الحالة الأولى، يحاول الإنسان ذو النزعات النفسية المضطربة أن يمارس دورًا مخالفًا للنمط الجمعي الذي يكون في بعض مظاهره في صورة إدمان أو بحث عن وسائل يصب فيها نقمته على المجتمع لأسباب أكثرها وهمية، وفي كلا الحالتين يكون هذا المضطرب النفسي فريسة سهلة لهذه المنظمات التي تعمل على استدراجه تحت غطاء ديني أو مذهبي مضلل، وفي هذه الحالة من السهل أن نقول إن التطرف يزداد نشاطه ورواجه بين المجموعات ذات الاستقرار النفسي الضعيف، وهذا ما يحدث أيضا في الأوساط المجتمعية ذات النشأة الدينية أو العرقية المتطرفة والمتعصبة التي لا تؤمن بمبدأ التعددية والرأي الآخر. نستنتج من ذلك أن العقل المتطرف فاقدٌ لبُوصلته الإنسانية نتيجة التوجيه الديني الخاطئ الذي ينشط مع الانتكاسات النفسية خصوصا ذات النزعات الإجرامية، منهم أصحاب السوابق والقضايا. في حين ما يثير دهشة البعض أن يكون بعض المنتمين لهذا الفكر المتطرف من لم يُعرف عنهم ميولات إجرامية ونكسات نفسية، وأنهم من أصحاب الدخل الجيد والمستقر؛ فتكون آلية بحثنا في العقل المتطرف وتمحيصها مهمة صعبة تتجاوز توقعات الحس الأمني أو حتى احتمالات خوارزميات الذكاء الاصطناعي؛ فغياب خيوط التطرف تجعل من مهمة تشريح العقل المتطرف غير ثابتة المعايير رغم استقرار كثير من معاييرها مثل التي ذكرناها، ورغم ذلك فالبحث في العقل المتطرف بحاجة إلى جمع كل العناصر المستفيضة من ظواهر التطرف ومستجداته بما في ذلك العناصر النفسية الظاهر منها والمكبوت بما فيها ظاهرة القلق الوجودي وأسئلته الكبرى - التي نحتاج إلى مبحث مستقل لتناولها-، وعنصر البيئة وثقافته الجمعية والشاذة، ويشمل التعاليم الدينية المغلوطة والخطاب الديني الذي يمكن أن يعتري بعض مفاصله أو جميعها عنصر التطرف، والعنصر الاجتماعي والمالي. من الممكن ألا تجتمع كل تلك العناصر أو بعضها عند الإنسان فتشكّل في داخله عقلا متطرفا، ولكن من يقف وراء هذه المنظمات الإرهابية فإنه يجيد فن الإقناع الذي يمكن إعماله -ولو بعد عدّة محاولات- في داخل العقل البشري عبر الشحن التعصبي العاطفي المدعوم بالتأثير الديني المضلل المثير للحمية والمهيّج للعاطفة المزخرف بنيل الثواب؛ لتسخيره إلى آلة قتل لا تستجيب لأيّ منطلقات إنسانية؛ فتعمل كأنها آلة مبرمجة تبحث عن وسيلة تطفئ بواسطتها عقدها النفسية المكبوتة، وتوقن -وهما- أنها تتقرّب إلى الله وتكسب رضاه.
لا تنتهي مهمة البحث في عقل المتطرف وتحديد المسببات التي تقوده إلى التطرف؛ فهي في حالة متجددة نتيجة الظروف والتقدم التقني كما أسلفنا في مقال سابق «المجتمع الرقمي ومواجهة التطرف»، ولكن لابد من المسارعة إلى تطبيق كل الحلول الممكنة التي يمكن أن تسهمَ في دحر التطرف وتقليل مخاطره، وأحد هذه الحلول الممكنة تتبع كل المصادر المؤيدة للتطرف والتعصب سواء الفئات المحرّضة للطائفية عبر خطابها الديني الرسمي أو المستتر أو أصحاب اللغة التكفيرية ونعوتها الطائفية مثل التي نراها في وسائل التواصل الاجتماعي، وحظر الكتب المؤيدة للنزعات المتطرفة، ومعالجة القضايا المجتمعية التي تتعلق بالشأن الاقتصادي والمعيشي، والاهتمام بالصحة النفسية والتوعية بضرورتها، ونشر المبادئ الدينية والأخلاقية السليمة؛ فهناك من يبحث عما يسدّ رغباته الفكرية الداخلية، ويجيب عن أسئلته الوجودية والكبيرة؛ فإن لم يجد لبلوغها سبيلا كان لهذه المنظمات السبيل إلى اقتناصها واستغلال فراغها عبر منهج التضليل وإخضاع العقل إلى سلطة التطرف.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: هذه المنظمات المتطر ف یمکن أن الذی ی
إقرأ أيضاً:
بوتين يهدد بـالإجراء المتطرف.. ما هي العقيدة النووية الروسية؟
صعد الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، من تهديداته النووية، معلنا الثلاثاء توسيع نطاق القوة النووية لتشمل دولا لا تمتلك قدرات نووية، في ما يعد تغييرا على عقيدة موسكو النووية.
وجاء التهديد الروسي عقب قرار الرئيس الأميركي جو بايدن السماح لأوكرانيا باستخدام صواريخ أميركية لاستهداف مواقع داخل روسيا.
فما هي العقيدة النووية الروسية؟ وكيف تغيرت خلال السنوات القلية الماضية خلال الحرب مع أوكرانيا؟
تهديدات متكررةكان بوتين قد أصدر مرسوما الثلاثاء يجيز استخدام أسلحة نووية ضد دولة لا تملك هذا النوع من السلاح إذا كانت مدعومة من قوى نووية.
وأفاد المرسوم بأن "من الشروط التي تبرر استخدام أسلحة نووية إطلاق صواريخ بالستية ضد روسيا".
وتزامنت هذه الخطوة مع مرور ألف يوم على بدء الغزو الروسي لأوكرانيا، وبعدما أعطت الولايات المتحدة موافقة لكييف لاستخدام صواريخ طويلة المدى لضرب أهداف عسكرية داخل روسيا.
ومنذ الغزو الروسي لأوكرانيا عام 2022، هدد بوتين ومسؤولون آخرون في الكرملين الغرب مرارا بترسانة روسيا النووية.، وفي اليوم الأول من الحرب، قال بوتين "كل من يحاول إعاقتنا، ناهيك عن تهديد بلدنا وشعبه، يجب أن يعرف أن الرد الروسي سيكون فوريا وسيؤدي إلى عواقب لم يشهدها في التاريخ من قبل".
وعاد الكرملين ليقول، في سبتمبر، إن روسيا أعدت تعديلات على عقيدتها النووية.
والعقيدة معروفة رسميا باسم "المبادئ الأساسية لسياسة الدولة بشأن الردع النووي"، والتي وقع عليها بوتين في عام 2020، وهي تحدد متى يمكن لروسيا أن تلجأ لترسانتها من هذا النوع.
وتصف العقيدة الأسلحة النووية بأنها "وسيلة للردع"، مشيرة إلى أن استخدامها "إجراء متطرف واضطراري". وتقول إن روسيا "تبذل كل الجهود اللازمة للحد من التهديد النووي ومنع تفاقم الخلافات بين الدول، التي قد تؤدي إلى نشوب صراعات عسكرية، بما في ذلك الصراعات النووية".
وتنص على أن "الردع النووي يهدف إلى توفير الفهم للخصم المحتمل لحتمية الانتقام في حالة العدوان على الاتحاد الروسي و/أو حلفائه".
وتنص العقيدة على استخدام روسيا أسلحة نووية "في حالة وقوع هجوم نووي من قبل عدو أو هجوم بأسلحة تقليدية يهدد وجود الدولة".
روسيا وتعديل العقيدة النووية.. ما وراء الإعلان "الأكثر حسما"؟ ما هي "العقيدة النووية الروسية؟، وماذا يعني تعديلها؟"، تساؤلات صاحبت إعلان موسكو نيتها إدخال تعديلات على تلك العقيدة في ظل الحرب بأوكرانيا، ونجاح القوات الأوكرانية في السيطرة على مناطق من الأراضي الروسية.وتقول العقيدة إن الأسلحة النووية يمكن استخدامها في المواقف المحددة التالية:
- إذا وردت معلومات موثوقة عن إطلاق صواريخ باليستية تستهدف أراضي روسيا أو حلفائها.
- إذا تم استخدام الأسلحة النووية أو غيرها من أسلحة الدمار الشامل ضد روسيا أو حلفائها.
- إذا هدد هجوم عدو بأسلحة تقليدية وجود روسيا.
- إذا كانت هناك هجمات على منشآت حكومية أو عسكرية روسية بالغة الأهمية من شأنها أن تقوض قدرة البلاد على شن ضربات نووية انتقامية.
دواعي الرد النوويعندما سئل في يونيو الماضي هذا السؤال، أشار بوتين إلى ما يسمى بـ"العقيدة النووية الروسية. انظروا إلى ما هو مكتوب هناك". وقال في منتدى سانت بطرسبرغ "إذا هددت تصرفات أي شخص سيادتنا وسلامة أراضينا، فإننا نعتبر أنه من الممكن استخدام كل الوسائل المتاحة لنا".
وفي تصريحات سابقة لموقع الحرة، قال الخبير الاستراتيجي الروسي، أندريه مورتازين، إن العقيدة النووية الروسية تنص على استخدام السلاح النووي في حالتين.
والحالة الأولى هي تعرض روسيا لـ"هجوم نووي"، ما يستدعي "الرد الجوابي"، والحالة الثانية تعرض كيان الدولة الروسية لـ"خطر وجودي". ولا يوجد "تفسير محدد" لمعنى تعرض الدولة لـ"خطر وجودي"، ولا يتم تحديد ماهية تلك التهديدات الوجودية، حسب الخبير.
وأشار الخبير العسكري والاستراتيجي، العميد ركن أحمد رحال، إلى 4 أسباب قد تدفع روسيا لاستخدام السلاح النووي وفق العقيدة الروسية. وتتعلق تلك الحالات بتهديد كيان الدولة حتى لو باستخدام "أسلحة تقليدية"، وإذا تم توجيه ضربات باستخدام "صواريخ باليستية"، أو التعرض لضربات نووية "مباشرة"، أو التعرض لمخاطر "السلاح الكيماوي والبيولوجي"، وفق حديثه لموقع "الحرة".
وهناك تسع دول فقط حول العالم تمتلك أسلحة نووية وهي "روسيا، الولايات المتحدة، فرنسا، الصين، بريطانيا، الهند، باكستان، وكوريا الشمالية"، فضلا عن إسرائيل التي "لم تؤكد ولم تنف أبدا" حيازتها السلاح النووي.
وتمتلك روسيا أكبر مخزون من الأسلحة النووية في العالم بما لديها من نحو 6000 رأس حربي.