ثمة بكل تأكيد ما يعدّ لكل واحد منا «الحدث»، ذلك الزمن الذي لسنا واثقين من قدرتنا على تسميته، وإن فعلنا فإننا غالبا ما نشعر بالفزع من فكرة مشاركته مع الآخرين، لأسباب كثيرة من بينها الإخلاص لذلك الحدث، لأننا عندما نكتب أو نتحدث عنه، سنحمله بطاقة تراجيدية، تستهلكه تماما، على الرغم مما فعله بنا. لقد جعلنا نؤمن بعده بأن السكينة قد لا تعني أكثر من كونها عدم الانتظار.
ربما هذا ما دفع آني آرنو، للكتابة عن «الحدث» الخاص بها، لم يكن الأمر بالنسبة لها مرورها بتجربة إجهاض في بداية الستينيات عندما كانت بعدُ طالبة جامعية، بل التأمل في فكرة «الحدث» هذه المرة دون تجريد. إن الحدث معزول أصلا، فكيف يمكن الاقتراب منه، ربما بالحذر الكبير لطائر يريد دودة بعينها. كتبت آرنو هذا النص من فبراير وحتى أكتوبر من عام 1999 أي بعد مرور أربعة عقود تقريبا، ربما هي المسافة الكافية، للنظر في عين ذلك «الحدث» وإعلانه أخيرا.
ما يميز آني آرنو ، بالإضافة لإيمانها بالحياة العادية كمكون كافٍ للأدب، وبشفافية اللغة التي تستخدمها للتعبير، أنها مثل المصباح الذي يضيء فجأة داخل النص العادي، إن من شأن تلك الكتابة العادية والمباشرة، أن تجعلنا نلتف حول أنفسنا، أن نلهو قليلا مع آرنو بعيدا حتى عن القصة التي تقدمها لنا. فلنتأمل هذه الأمثلة من رواية «الحدث» «وهي فتاة شقراء في غاية الجمال والهدوء. عندما رأيتها، قدَّرتُ أنني كنت بصدد التحوُّل إلى فتاة مسكينة». فها هي تجرؤ أن تقول لنا شيئا نسكتُ عنه في العادة، خصوصا تلك النساء اللواتي يشعرن بالنبذ وبأنهن قبيحات مع شعور بأنهن مذنبات في كونهن كذلك، كأن الأمر صنيعة وجودهن نفسه، وشرطا لطبيعتهن التي يكرهنها. ولنقرأ مثالا آخر: «جِيلْ، نادل المقهى اللَّامبالي الذي كنت أشبِّهه بشخصيَّة النادل في كتاب الوجود والعدم، ذاك الذي لم يكن نادل مقهى، بل رجلا يؤدِّي دور نادل المقهى». ألا يبدو هذا رائعا صديقي القارئ؟ أليس هذا بالضبط ما يزعجنا في بعض الندل في المقاهي اليوم؟ لا ليس المقهى وحده بل في حياتنا العامة، نجد زميلا لنا في العمل، أو حتى صديقا وربما أمّا، إنهم يبدون كما لو أنهم يؤدون دورا بدلا من أن يكونوا «الوظيفة» التي يعنونها بالنسبة لنا، كما لو أن هنالك مسافة واسعة وفضفاضة بين أجسادهم والملابس التي يرتدونها، أو بين ما يكونون عليه فعلا وما يفعلونه معنا. على الرغم من قلة صفحات روايات آرنو كلها تقريبا، إلا أنها تدفعك للتوقف، تقتلعك بشدة من السرد المتدفق، لتتوقف للتأمل عند لوحة ما، كأن لا علاقة بها بالضرورة بكل القصة. يروق لي أن أعتبر أن هذه الومضات التماعات وردة تنبثق وسط الغبار.
لآني آرنو ميزة واضحة أخرى، الاشتباك السياسي مع الهالة التي تحيط بذلك «الحدث» مهما بدا صغيرا. ولا أقصد هنا أي في روايتها «الحدث» الإشارة لموقف السلطات الفرنسية من مسألة الإجهاض فحسب، بل هنالك في السر الذي يتكشف رويدا رويدا، معنى سياسيا واضحا، يجب التنبيه لكون آرنو واعية به، أي تقصده لإيمانها بدورها في ذلك النوع من الاشتباك -ضحكتُ كثيرا وأنا أكتب هذه الجملة وأنا أتذكر الكاتبات هنا واللواتي يتنصلن من نسوية أعمالهن حتى بعد أن ينشرنها- تتورط آني آرنو مع موضوع الطبقة الاجتماعية في مجمل أعمالها، فلا استثناء في رواية الحدث، فلنقرأ مثلا: «أقمت على نحو ملتبس رابطا بين طبقتي الاجتماعية الأصلية وما يحدث لي. فأنا أوَّل من أنجز دراساتٍ عليا في عائلة تتكون من العمَّال والتجَّار الصغار، حيث نجوت من قبضة المصنع وعرض السلع للبيع. ولكن لا شهادة البكالوريا ولا الإجازة في الآداب نجحتا في أن تصرفا عني لعنة فقر حين كانت تعاملُ الفتاة الحامل، مثل مدمنة كحول تماما. لقد أُخِذتُ على حين غرة، وما كان ينمو داخلي، بطريقة ما، لم يكن سوى تعبير عن الفشل الاجتماعي». وفي هذا المثال أيضا: «كأن شيئا ما قديما جدا كان يشدُّني إليه، شيئا ما على علاقة بعالم العمَّال اليدويين الذي انحدرت منه، العالم الذي كان يخشى (العمل الذهني المضني)» تشير آرنو هنا للموقف الذي تجد فيه الطبقة المتوسطة والدنيا نفسها إزاء كل الأعمال التي تعتمد على التفكير والشغل الذهني مثل مهنة الكتابة، إنها وبطبيعة الحال غير واردة في معظم الوقت، وإذا ما طرأت على حياة من ينتمي لهذه الطبقة أو تلك فإنه سيخاف كثيرا من المضي قدما فيها.
لا تكتفي آرنو بالإشارة للتحديات التي تواجهها بصفتها تنتمي لطبقة العمال، بل تحاول تقديم مقاربة عن الانفعالات والسمات التي يمتاز بها المنتمون لهذه الطبقات عموما. «كانت والدتي تنتمي لجيل ما قبل الحرب، جيل الخطيئة والعار الجنسي. كنت واثقة من أن معتقداتها مقدَّسة، وأنَّ قدرتي على مكابدتها لا تماثلها إلا قدرتها على إقناع نفسها بأنني أقاسمها إياها». وفي مثال آخر: «كان والديّ مثل أغلب الوالدين، يتصوَّران اكتشافهما، على نحو لا يشوبه الخطأ، ومنذ الوهلة الأولى، أقلَّ دليل على الانحراف. كان يكفي، لكي أطمئنهما، أن أزورهما بانتظام بوجه مبتسم وناعم، إضافة إلى جلب ثيابي المتَّسخة، وأن أحمل المؤونة».
تكتب آني آرنو من أنها تعبر عن حكاية «الحدث» الخاص بها، لا لأنها تريد إعادة عيش ما كانت تمتلك فيه الحق الأدنى، لأنه لا وجود لأي شيء كهذا، ولكنها تذهب إلى أقصى علاقة بها مع هذه التجربة لأنها لو لم تفعل ستسهم في تعتيم واقع النساء والاصطفاف بجانب هيمنة العالم الذكورية. ليس من الغريب إذن أن تتحدث آرنو وفي أكثر من مناسبة عن موقفها من القضية الفلسطينية. يبدو ذلك مفهوما في سياق ما تكتب ووعيها به. فهي تفهم موقعها في التاريخ ولا ترتاب من تقديم نسويتها. تعيش شخصيات آني آرنو دوما في حالة من الاغتراب القهري، الشيء الذي يبدو مفهوما في روايتها الاحتلال التي تجد الشخصية فيها نفسها وقد تملكتها الغيرة القاتلة على رجل هي من تركته أصلا، فتبدأ بملاحقته رغما عن هذه الحقيقة! في الحدث أيضا يستمر دفق التغريب نفسه «يراودني انطباع بأن حملي مجرد خيال» لم تستطع الاعتراف حتى في مذكراتها بأنها حامل، فكتبت في مفكرتها: « (هذا)، (هذا الشيء)، ثم كتبت مرَّة واحدة فقط كلمة: حامل». لا تخشى آرنو التعبير عن العار الذي تعيشه، وعن الضعف الذي يبدو بالنسبة للكثير منا مخزيا وقد لا نعترف به لأنفسنا. كم يأسرني ذلك، إنها تجعل حتى تلك الأشياء المخجلة نابضة بالحياة عندما لا نصمت عنها على طريقة آرنو.
في النهاية تكتب آرنو «الأشياء حدثت لي كي أدرك معناها ولعل الهدف الحقيقي في حياتي هو فقط التالي: أن يتحول جسدي وحواسي وأفكاري إلى كتابة، أي إلى شيء ما واضح وشامل، إلى وجودي الذائب بأكمله في أذهان الآخرين وحياتهم». إنها إذن تجعل الكتابة، نوعا موازيا للحياة، وهي كافية بطبيعة الحال، إنها لا تعدّ نفسها هناك -أي في الكتابة- وهنا -أي في الواقع. وإنها لو كانت في الكتابة فلا بأس في ذلك، لأنها ترفد الواقع بقصص ستمتزج مع دماء الناس وعظامهم. إنها لا ترى الكتابة نشاطا جانبيا، بل وعلى طريقة كافكا الساحرة ترى أنها الأدب بحد ذاته. وهذا ليس دورا تؤديه، بل هذا ما هي عليه.
أخيرا: ترى ما الحدث الخاص بك؟ وهل يمكن لك التعبير عنه الآن، أو وربما بعد أربعة عقود؟
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
تعرض منزل نتنياهو في قيساريا لإطلاق قنابل مضيئة
القدس المحتلة -ترجمة صفا
تعرض منزل رئيس حكومة الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الليلة الماضية لإلقاء قنابل مضيئة متسببة باندلاع حريق في باحة منزله بمدينة قيساريا الساحلية.
وذكر بيان للشاباك وشرطة الاحتلال، وفق ترجمة وكالة 'صفا"، أن مجهولين أطلقوا قنبلتين مضيئتين تجاه منزل نتنياهو، الذي لم يكن موجودًا وعائلته في المنزل ساعة الحادث.
وتوعد الشاباك بالوصول إلى المنفذين، واصفاً الحدث بأنه "تجاوز للخطوط الحمراء".
في حين أدان قادة الائتلاف الحكومي والمعارضة الهجوم على حد سواء، حيث وصف زعيم المعارضة يائير لبيد الحدث بأنه "بالغ الخطورة"، مطالباً الشرطة والشاباك بسرعة الكشف عن المنفذين.
فيما أدان وزير الأمن القومي الإسرائيلي المتطرف إيتمار بن غفير الهجوم، مشدداً على أنه "يأتي نتيجة مباشرة للتحريض المباشر لقتل نتنياهو".
بينما استغل وزير القضاء في حكومة نتنياهو يريف ليفين الحدث للدعوة لإعادة إحياء التغييرات القضائية كرد على الهجوم.
لكن وزير الجيش الأسبق بيني غانتس هاجم دعوة ليفين، مشيراً إلى أن "التغييرات القضائية كانت أحد المسببات لهجوم السابع من أكتوبر".