لجريدة عمان:
2025-02-07@11:22:07 GMT

الحدث

تاريخ النشر: 8th, August 2023 GMT

ثمة بكل تأكيد ما يعدّ لكل واحد منا «الحدث»، ذلك الزمن الذي لسنا واثقين من قدرتنا على تسميته، وإن فعلنا فإننا غالبا ما نشعر بالفزع من فكرة مشاركته مع الآخرين، لأسباب كثيرة من بينها الإخلاص لذلك الحدث، لأننا عندما نكتب أو نتحدث عنه، سنحمله بطاقة تراجيدية، تستهلكه تماما، على الرغم مما فعله بنا. لقد جعلنا نؤمن بعده بأن السكينة قد لا تعني أكثر من كونها عدم الانتظار.

-يا لبؤسنا- أفكر الآن في «الحدث» الخاص بي، يتملكني شعور حاد بأنني أختزن في جسدي تلك التجربة الصادمة التي لم أفصح عنها بعد.

ربما هذا ما دفع آني آرنو، للكتابة عن «الحدث» الخاص بها، لم يكن الأمر بالنسبة لها مرورها بتجربة إجهاض في بداية الستينيات عندما كانت بعدُ طالبة جامعية، بل التأمل في فكرة «الحدث» هذه المرة دون تجريد. إن الحدث معزول أصلا، فكيف يمكن الاقتراب منه، ربما بالحذر الكبير لطائر يريد دودة بعينها. كتبت آرنو هذا النص من فبراير وحتى أكتوبر من عام 1999 أي بعد مرور أربعة عقود تقريبا، ربما هي المسافة الكافية، للنظر في عين ذلك «الحدث» وإعلانه أخيرا.

ما يميز آني آرنو ، بالإضافة لإيمانها بالحياة العادية كمكون كافٍ للأدب، وبشفافية اللغة التي تستخدمها للتعبير، أنها مثل المصباح الذي يضيء فجأة داخل النص العادي، إن من شأن تلك الكتابة العادية والمباشرة، أن تجعلنا نلتف حول أنفسنا، أن نلهو قليلا مع آرنو بعيدا حتى عن القصة التي تقدمها لنا. فلنتأمل هذه الأمثلة من رواية «الحدث» «وهي فتاة شقراء في غاية الجمال والهدوء. عندما رأيتها، قدَّرتُ أنني كنت بصدد التحوُّل إلى فتاة مسكينة». فها هي تجرؤ أن تقول لنا شيئا نسكتُ عنه في العادة، خصوصا تلك النساء اللواتي يشعرن بالنبذ وبأنهن قبيحات مع شعور بأنهن مذنبات في كونهن كذلك، كأن الأمر صنيعة وجودهن نفسه، وشرطا لطبيعتهن التي يكرهنها. ولنقرأ مثالا آخر: «جِيلْ، نادل المقهى اللَّامبالي الذي كنت أشبِّهه بشخصيَّة النادل في كتاب الوجود والعدم، ذاك الذي لم يكن نادل مقهى، بل رجلا يؤدِّي دور نادل المقهى». ألا يبدو هذا رائعا صديقي القارئ؟ أليس هذا بالضبط ما يزعجنا في بعض الندل في المقاهي اليوم؟ لا ليس المقهى وحده بل في حياتنا العامة، نجد زميلا لنا في العمل، أو حتى صديقا وربما أمّا، إنهم يبدون كما لو أنهم يؤدون دورا بدلا من أن يكونوا «الوظيفة» التي يعنونها بالنسبة لنا، كما لو أن هنالك مسافة واسعة وفضفاضة بين أجسادهم والملابس التي يرتدونها، أو بين ما يكونون عليه فعلا وما يفعلونه معنا. على الرغم من قلة صفحات روايات آرنو كلها تقريبا، إلا أنها تدفعك للتوقف، تقتلعك بشدة من السرد المتدفق، لتتوقف للتأمل عند لوحة ما، كأن لا علاقة بها بالضرورة بكل القصة. يروق لي أن أعتبر أن هذه الومضات التماعات وردة تنبثق وسط الغبار.

لآني آرنو ميزة واضحة أخرى، الاشتباك السياسي مع الهالة التي تحيط بذلك «الحدث» مهما بدا صغيرا. ولا أقصد هنا أي في روايتها «الحدث» الإشارة لموقف السلطات الفرنسية من مسألة الإجهاض فحسب، بل هنالك في السر الذي يتكشف رويدا رويدا، معنى سياسيا واضحا، يجب التنبيه لكون آرنو واعية به، أي تقصده لإيمانها بدورها في ذلك النوع من الاشتباك -ضحكتُ كثيرا وأنا أكتب هذه الجملة وأنا أتذكر الكاتبات هنا واللواتي يتنصلن من نسوية أعمالهن حتى بعد أن ينشرنها- تتورط آني آرنو مع موضوع الطبقة الاجتماعية في مجمل أعمالها، فلا استثناء في رواية الحدث، فلنقرأ مثلا: «أقمت على نحو ملتبس رابطا بين طبقتي الاجتماعية الأصلية وما يحدث لي. فأنا أوَّل من أنجز دراساتٍ عليا في عائلة تتكون من العمَّال والتجَّار الصغار، حيث نجوت من قبضة المصنع وعرض السلع للبيع. ولكن لا شهادة البكالوريا ولا الإجازة في الآداب نجحتا في أن تصرفا عني لعنة فقر حين كانت تعاملُ الفتاة الحامل، مثل مدمنة كحول تماما. لقد أُخِذتُ على حين غرة، وما كان ينمو داخلي، بطريقة ما، لم يكن سوى تعبير عن الفشل الاجتماعي». وفي هذا المثال أيضا: «كأن شيئا ما قديما جدا كان يشدُّني إليه، شيئا ما على علاقة بعالم العمَّال اليدويين الذي انحدرت منه، العالم الذي كان يخشى (العمل الذهني المضني)» تشير آرنو هنا للموقف الذي تجد فيه الطبقة المتوسطة والدنيا نفسها إزاء كل الأعمال التي تعتمد على التفكير والشغل الذهني مثل مهنة الكتابة، إنها وبطبيعة الحال غير واردة في معظم الوقت، وإذا ما طرأت على حياة من ينتمي لهذه الطبقة أو تلك فإنه سيخاف كثيرا من المضي قدما فيها.

لا تكتفي آرنو بالإشارة للتحديات التي تواجهها بصفتها تنتمي لطبقة العمال، بل تحاول تقديم مقاربة عن الانفعالات والسمات التي يمتاز بها المنتمون لهذه الطبقات عموما. «كانت والدتي تنتمي لجيل ما قبل الحرب، جيل الخطيئة والعار الجنسي. كنت واثقة من أن معتقداتها مقدَّسة، وأنَّ قدرتي على مكابدتها لا تماثلها إلا قدرتها على إقناع نفسها بأنني أقاسمها إياها». وفي مثال آخر: «كان والديّ مثل أغلب الوالدين، يتصوَّران اكتشافهما، على نحو لا يشوبه الخطأ، ومنذ الوهلة الأولى، أقلَّ دليل على الانحراف. كان يكفي، لكي أطمئنهما، أن أزورهما بانتظام بوجه مبتسم وناعم، إضافة إلى جلب ثيابي المتَّسخة، وأن أحمل المؤونة».

تكتب آني آرنو من أنها تعبر عن حكاية «الحدث» الخاص بها، لا لأنها تريد إعادة عيش ما كانت تمتلك فيه الحق الأدنى، لأنه لا وجود لأي شيء كهذا، ولكنها تذهب إلى أقصى علاقة بها مع هذه التجربة لأنها لو لم تفعل ستسهم في تعتيم واقع النساء والاصطفاف بجانب هيمنة العالم الذكورية. ليس من الغريب إذن أن تتحدث آرنو وفي أكثر من مناسبة عن موقفها من القضية الفلسطينية. يبدو ذلك مفهوما في سياق ما تكتب ووعيها به. فهي تفهم موقعها في التاريخ ولا ترتاب من تقديم نسويتها. تعيش شخصيات آني آرنو دوما في حالة من الاغتراب القهري، الشيء الذي يبدو مفهوما في روايتها الاحتلال التي تجد الشخصية فيها نفسها وقد تملكتها الغيرة القاتلة على رجل هي من تركته أصلا، فتبدأ بملاحقته رغما عن هذه الحقيقة! في الحدث أيضا يستمر دفق التغريب نفسه «يراودني انطباع بأن حملي مجرد خيال» لم تستطع الاعتراف حتى في مذكراتها بأنها حامل، فكتبت في مفكرتها: « (هذا)، (هذا الشيء)، ثم كتبت مرَّة واحدة فقط كلمة: حامل». لا تخشى آرنو التعبير عن العار الذي تعيشه، وعن الضعف الذي يبدو بالنسبة للكثير منا مخزيا وقد لا نعترف به لأنفسنا. كم يأسرني ذلك، إنها تجعل حتى تلك الأشياء المخجلة نابضة بالحياة عندما لا نصمت عنها على طريقة آرنو.

في النهاية تكتب آرنو «الأشياء حدثت لي كي أدرك معناها ولعل الهدف الحقيقي في حياتي هو فقط التالي: أن يتحول جسدي وحواسي وأفكاري إلى كتابة، أي إلى شيء ما واضح وشامل، إلى وجودي الذائب بأكمله في أذهان الآخرين وحياتهم». إنها إذن تجعل الكتابة، نوعا موازيا للحياة، وهي كافية بطبيعة الحال، إنها لا تعدّ نفسها هناك -أي في الكتابة- وهنا -أي في الواقع. وإنها لو كانت في الكتابة فلا بأس في ذلك، لأنها ترفد الواقع بقصص ستمتزج مع دماء الناس وعظامهم. إنها لا ترى الكتابة نشاطا جانبيا، بل وعلى طريقة كافكا الساحرة ترى أنها الأدب بحد ذاته. وهذا ليس دورا تؤديه، بل هذا ما هي عليه.

أخيرا: ترى ما الحدث الخاص بك؟ وهل يمكن لك التعبير عنه الآن، أو وربما بعد أربعة عقود؟

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

إبراهيم عيسى: تصريحات ترامب عن غزة “قنبلة نووية”.. وبيانات العرب لا تواكب الحدث

قال الإعلامي إبراهيم عيسى إن تصريحات الرئيس الأمريكي ترامب خلال المؤتمر الصحفي مع نتنياهو كانت بمثابة قنبلة نووية، قائلاً: "ما أعلنه ترامب قد أدهش نتنياهو نفسه، حيث بدت على وجهه مشاعر الإعجاب والدهشة، وكأنه يعيش في حلم وهو يتحدث عن طرد الفلسطينيين من غزة بالكامل، وأن أمريكا ستسيطر على غزة".

وأضاف أن ترامب تناول خطته بشأن غزة، مشيراً إلى أنه لا يمانع من وجود قوات أمريكية هناك، وكأن غزة أصبحت ولاية أمريكية قيد الإنشاء، مؤكدا أن الجميع، بما في ذلك نتنياهو، شعروا بالذهول، مشيراً إلى أن هذه التصريحات لا تتجاوز أحلام اليمين الإسرائيلي.

بن غفير: سأعود إلى الحكومة إذا تم تنفيذ خطة ترامب في غزة ترامب يعمل كنادل لنتنياهو.. لقطة سرية داخل البيت الأبيض تثير الجدل (شاهد)

وتابع: "الموقف خطير جداً ولا يمكن التقليل من أهميته، وما صدر عن ترامب يمثل أزمة حقيقية"، مشيرا إلى أنه يجب على الدول العربية إعلان حركة حماس منظمة إرهابية، مشدداً على أنه لم يعد هناك وقت لسياسة التوازن.

كما أكد إبراهيم عيسى أن ترامب هو شخص يتحدث بوضوح ويعبر عن نواياه بشكل صريح، قائلاً: "الفكرة التي طرحها خارج الصندوق والمنطق، لكنها تعكس تفكير ترامب وسياسته".

وخلال تقديمه برنامج "حديث القاهرة" على قناة القاهرة والناس، أضاف عيسى أن ردود الفعل من الدول العربية على تصريحات ترامب، التي ترفض التهجير وتصفية القضية الفلسطينية، كانت حازمة، لكنها لا تتناسب مع ما يحدث. وأوضح أن الرد على مقترح ترامب للتهجير هو مجرد إعادة إنتاج لأفكار قديمة، في حين أن الوضع يتطلب استجابة جديدة.

واختتم بالقول: "نستمر في تقديم نفس أفكار الرفض والشجب، والدعوة للمظاهرات، وهي أدوات قديمة لمواجهة حدث جديد، ولا يمكن للدول العربية معالجة القضية بهذه الطريقة".

مقالات مشابهة

  • العين تنظم «محاربي الإمارات» 22 فبراير
  • مايكروسوفت تعلن عن مؤتمر Build 2025.. الذكاء الاصطناعي في قلب الحدث
  • 56 دولة في كأس آسيا للشطرنج بالعين
  • عتبات الفرح للكاتبة هديل حسن: لعلها عتبات الكتابة أيضا
  • حلبة دبي أوتودروم تستضيف سلسلة سباقات لومان الآسيوية
  • سبيد يعلن اعتزاله مصارعة WWE
  • إبراهيم عيسى: تصريحات ترامب عن غزة “قنبلة نووية”.. وبيانات العرب لا تواكب الحدث
  • مجمع الفنون يشهد مناقشة علمية مبتكرة للتصميم الرقمي
  • الكتابة الطِعمة
  • القاهرة تستضيف فرقة «سحر التانجو» الأرجنتينية في ليلة استثنائية من «ليالي مصر»