في عام 2006 قُيِّضَ لي أن أجري حوارًا ثقافيًّا لإذاعة سلطنة عُمان مع الشاعر سيف الرحبي، وما زلت أذكر إجابته عن سؤالي حول مجلة «نزوى»: «قد أتركها اليوم أو غدًا، لكن يهمني استمرارها في سياق إبداعي عُماني يستطيع أن يحمل أعباء هذه الرسالة إلى الخارج وأن يُكرِّس مكانة عُمان الحقيقية إبداعيًّا وثقافيًّا وحضاريًّا».
لم يكن سيف الرحبي رئيس تحرير المجلة فحسب، بل أحد مؤسسيها بعد عودته إلى عُمان من المهاجر المختلفة في مطلع تسعينيات القرن الماضي، وفي افتتاحية العدد الأول الذي صدر في نوفمبر من عام 1994، اعتبر الرحبي مجلة نزوى «متطلَّبًا ثقافيًّا ضروريًّا في مسار الثقافة العُمانية، ومحاولة لبلورة خصوصيِّتها وأصواتها، وروافدها المتعددة، وشرح ذلك بالقول: إنه رغم مكانة عُمان في التاريخ العربي والعالمي إلا أنها ظلت تعاني من جهل «الآخر» بها على الصعيد المعرفي، فقلما كنا نجد في ذلك الوقت- أي تسعينيات القرن الماضي- صدى لمختلف النتاجات العُمانية النثرية في محيط الثقافة العربية، وهي نتاجات تتسم- كما يؤكد سيف- «بالغزارة والتنوع والعمق في أقانيم شتى، ارتادها الأسلاف بذهن خلاق رغم شراسة الجغرافيا ونأي الأمكنة».
بعد ثلاثين سنة من مقدمة الرحبي تلك؛ تتحدث تلميذته وخليفته في رئاسة التحرير، الكاتبة والصحفية هدى حمد- في افتتاحية العدد الجديد- عن «الاختلاف الشاسع بين المرحلتين». تجزم هدى بأن المشهد الثقافي العُماني بات عقب هذه العقود الثلاثة «أكثر سطوعًا، والأمر قد لا يتعلق بالجوائز التي حصدها الكُتَّاب العُمانيون وحسب، وإنّما بالبصمة التي تركها مشروعٌ متراكم ظل يُنبئ عن نفسه واستحقاقه رغم ما اعتوره من توارٍ وخجلٍ وبطء».
بالتأكيد فإن هذا المشروع المتراكم هو ثمرة جهد دؤوب ومخلص من المثقفين أنفسهم في المقام الأول، ثم من مؤسسات ثقافية كثيرة، رسمية وخاصة، داعمة لهذه الجهود، إلا أن الذي من المهم ذكره في هذا الصدد أن مجلة «نزوى» ظلت دائما في القلب من هذا المشروع الثقافي العُماني؛ وقوته الدافعة أحيانًا و«مرآته الصقيلة» أحيانًا أخرى، وإذا كان الرحبي قد وعد في العدد الأول أن تَنْشُر «نزوى» «القديم المضيء» في تراثنا العُماني، و«الحديث الجدّي» الباحث عن «صورته وملامحه وسط تراكمات الوعي والملابسات والتعبيرات المختلفة التي يمور بها عالمنا المعاصر»، فقد قرأنا ذلك بالفعل على صفحات المجلة، وفي بعض إصداراتها المنضوية تحت مشروع «كتاب نزوى». عدا ذلك فإن المجلة «كشفت عن أسماء محلية» بتعبير هدى، ونحن نعلم اليوم أن عددًا غير قليل من الشعراء وكتاب القصة والباحثين العُمانيين عُرِفوا عربيًّا من خلال ما نشروه في هذه الفصلية الثقافية، وظلت «نزوى» طوال هذه السنين أحد أشهر الرموز الثقافية العُمانية في الوطن العربي، ويُسأَل عن أعدادها من المحيط إلى الخليج، بل إن جامعات عربية محترمة عَدَّتْها في معاييرها البحثية مساويةً للمجلات العلمية المحكّمة.
على أية حال؛ ليس هذا مقالًا في تقريظ مجلة «نزوى» التي لا أظنها- بما حققته خلال ثلاثين عاما- بحاجة إلى تقريظي، وإنما في توديع أيقونة المجلة ورمزها الشاعر سيف الرحبي، الذي أتصور أنه لولا ثقافته الموسوعية، وعلاقاته الواسعة بالوسط الثقافي العربي، وقبل ذلك لولا وجود رؤية واضحة لديه لما ينبغي أن تكون عليه مجلة ثقافية تصدر من سلطنة عُمان، لما كُتِبَ لهذا المشروع الاستمرار. والمبهج في أمر خلافة هدى حمد له، أنها هي نفسها أحد أعضاء فريق لا يتجاوز عدد أفراده أصابع اليد الواحدة، خاض به الرحبي المغامرة «مراهنا على ملء الفراغ الذي أحدثه غياب المشروع الجاد والرصين، ذاك الذي يتخلق في محليته، ثم يشق طريقه الوعر نحو أفقٍ عربي وعالمي»، كما كتبت هدى في افتتاحيتها المشار إليها، وهي- أي هدى- تُدرك اليوم أكثر من غيرها أن سرّ نجاح المجلة، إضافة إلى ما ذكرناه عن مزايا رئيس تحريرها، أنها «فتحت مظلة آفاقها على تنوع باذخ من الدراسات والمتابعات والحوارات والترجمات»، وأنها «نظرت إلى الفن دون تزمتٍ مُحدّدٍ وجامد»، وأنها «حفظت جوهر المعادلة بين التراث والحداثة».
قبل عدة سنوات، وبمناسبة اقتراب «نزوى» من عددها المائة، سألت هدى حمد؛ منسقة تحرير المجلة آنئذ، سيف الرحبي: «هل تظنّ أن خروجك من المجلة يمكن أن يؤثر سلبًا عليها بعد كل هذه السنين التي ارتبطت فيها باسمك؟» فكان جوابه: «أتصور أنّ هذا الكلام كان يُمكن أن يكون معقولا في بداية تأسيس المجلة، وقبل أن تقف المجلة على قدميها. الأعداد العشرة الأولى مثلا، ولكن بعد أن شقت المجلة هذا الزمن وهذا التحقق الثقافي المعقول نسبيا، أتصور أنّها امتلكت استقلالية اسمها»، موضِّحًا أنه بات لدى المجلة محررون يمتلكون جدية العمل وحنكة التحرير، والقدرة على التواصل مع الثقافة بمختلف مشاربها، ولذا فلو توفرت للمجلة بيئة مناسبة ودعم مادي جيد فإنه يمكن أن تستمر بقوة ومتانة، مضيفًا: «أنا مؤمن بأنّ المجلة مُستقلة الآن وليس لديّ هذا الوهم حقا. يمكن أن يكون القادم للمجلة أفضل بكثير من اللحظة الراهنة التي نعيشها». وهذا ما نتمناه بالفعل لهذا المشروع الثقافي العُماني الرائد، ألا يرتبط بالأشخاص قدر ارتباطه بالرؤية والاستراتيجية الثقافية، وإذا كنا نودع اليوم شجرة سيف الرحبي في «نزوى»، فإن عزاءنا أن هدى حمد هي غصن من أغصان هذه الشجرة الوارفة.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الثقافی الع هذا المشروع الع مانی ع مانی
إقرأ أيضاً:
إيكونوميست: هذه تداعيات تبدل أحوال الدعم السريع في السودان
قالت مجلة إيكونوميست إن قوات الدعم السريع التي تقاتل الجيش النظامي في السودان، كانت قبل عام تبدو في حالة جيدة بعد أن استولت على جزء كبير من العاصمة الخرطوم، وبسطت سيطرتها على كل دارفور تقريبا، واستعد زعيمها محمد حمدان دقلو (حميدتي) للقيام بجولة في العواصم الأفريقية يستقبل خلالها باعتباره الرئيس المنتظر للسودان.
وأوضحت الصحيفة أن الحديث عن نصر عسكري واضح لقوات الدعم السريع في هذه الأيام لم يعد قويا كما في البداية، بل إنها في وضع حرج لأنها شهدت انتكاسات في أماكن عديدة بعد أن توغل الجيش في أجزاء من الخرطوم كانت تسيطر عليها، مع أنها قريبة من الاستيلاء على الفاشر عاصمة إقليم دارفور.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2صحيفتان بريطانيتان: قرار الجنائية الدولية زلزال هز العالمlist 2 of 2التايمز: هل أدرك ترامب أخيرا محدودية شعاره "الخوف هو المفتاح"؟end of listوقد أدت تلك الأحداث مع انشقاق أحد كبار قادة قوات الدعم السريع في ولاية الجزيرة إلى موجة من الهجمات الانتقامية ضد المدنيين، كانت وحشية للغاية لدرجة أن المراقبين شبهوها بالتطهير العرقي في الأجزاء التي احتلتها قوات الدعم السريع في غرب دارفور العام الماضي.
لا مفاوضاتوذكرت المجلة بأن التفاوض في سويسرا على إنهاء الحرب التي تسببت في أسوأ أزمة إنسانية في العالم، فشل لأن القوات المسلحة السودانية رفضت الحضور، مشيرة إلى أن قوات الدعم السريع "تعتقد أنه لا يوجد مخرج من هذه الحرب من خلال النصر الكامل لجانب واحد"، ولكن المحللين يشككون في كون طلب المجموعة للمفاوضات حقيقيا.
ورأت الإيكونوميست أن ادعاء قوات الدعم السريع أنها تشن حربا من أجل الديمقراطية غير مقنع، لأنها نشأت من الجنجويد، وهي مليشيات سيئة السمعة، اتهمت باغتصاب المدنيين وذبحهم في دارفور في العقد الأول من القرن الـ21، ولا يوجد ما يشير إلى أنها تغيرت بشكل أساسي.
وهناك أسباب -كما تقول الصحيفة- تدعو إلى أخذ التزام قوات الدعم السريع بوحدة السودان على محمل الجد، لأن دارفور، المنطقة غير الساحلية التي تعاني من ندرة المياه لا تستطيع إقامة دولة مستقلة.
تصور الدعم السريعونقلت المجلة عن القيادي بالدعم السريع عز الدين الصافي قوله إن فكرة قوات الدعم السريع للتوصل إلى تسوية تفاوضية، تبدأ بوقف الأعمال العدائية وتجميد خطوط القتال الحالية، مع انسحاب الجانبين من "المنشآت المدنية".
وذلك إلى جانب احتمال فرض منطقة عازلة منزوعة السلاح من قبل قوات حفظ السلام الأفريقية، ليبدأ "حوار وطني" يضم جميع القوى السياسية في البلاد باستثناء الإسلاميين والحزب الحاكم السابق.
وأكدت المجلة أن معظم القوى الخارجية بما فيها الأمم المتحدة، تعتقد أن القوات المسلحة السودانية تتمتع بشرعية أكبر في نظر معظم السودانيين، مع أن رفض الجيش العنيد الانخراط بجدية في المفاوضات أضعف مكانته الدولية، وخاصة بين الدبلوماسيين الغربيين، ولذلك تحاول قوات الدعم السريع أن تضع نفسها في موقف الشريك الأكثر موثوقية من أجل السلام.