عندما وقف مصطفى محمود على ظاهرة «الهوس الكروي»، وصرخ قائلا «حتّى اللعب فقد براءته!! وأوشك الشرف القومي أن يُصبح شرفا «كرويّا»» كان مُدرِكا لأبعاد الظاهرة الكرويّة ولقُدرتها على أن تتحوّل إلى «أفيونٍ للشعوب» إن هي فارقت أرض ملعبها واستبدّت بها أيادي المافيات من جهة وأيادي أصحاب المال والقرار من جهة ثانية، ولكن هل هذه الشبكة المعقّدة الكامنة خلف «اللعبة» تُفسِدُ من جماليّتها وفنيّتها؟ ألسنا نقود أبناءنا اليوم كرها إلى لعب الكرة حتّى ننقذهم من براثن ألعاب إلكترونية هي البديل المُدمّر لكرة القدم ونضمن لهم حركةً وصحّة وحياةً؟ لقد كانت لعبة كرة القدم وما زالت حمّالةُ آراء، تتباينُ منها المواقف في الساحة الفكريّة، وتتّفق في الساحة الشعبيّة.
لم يكن لي وأنا العازف عن كُرة القدم اهتمام، المقبل عليها فرجةً في المناسبات الكُبرى، أن أنصرف إلى كِتابٍ يتحدّث عن هذه الرياضة وعن أعْلامها ورؤوسها ومهوسيها، وآثارها وآثامها، ولكن بسبب من محبّتي لما يكتب سليمان المعمري، وبسبب أيضا من توقّعي لممكن مخاتلاته، ومراوغاته في العناوين التي يضع، وفي قدرته على ترويض مختلف الموضوعات وتطويعها إلى أسلوبه وطريقته الجامعة بين العلم والظرف، بين الجدّ والهزل، فقد انصرفت إلى الاطّلاع على الكتاب، وراقني أن وجدت فيه ما توقّعتُ من مخاتلات سليمان، فهو كتابٌ جامعٌ لمقالاتٍ في كرة القدم، وهو أيضا حاملٌ لمقاربات سياسيّة واجتماعيّة وأنتروبولوجيّة لأثر هذه الرياضة في كوننا اليوم، وهو -وهذا الأهمّ- مُواكِبٌ لانشغال فئة عريضة من البشر، ومُشكّلٌ للحظات بهْجتها وتعاستها، فرحها وترحها، جالبٌ لانفعالات الناس، وهم واجدون في «اللعبة الساحرة» مأوى لكلّ انكساراتهم، وأرضيّة للتصعيد ولإخراج المكبوت، وهم واجدون فيها أيضا ملهى لرياضة جميلة، ولفنٍّ يُبدي قدرة الإنسان الذهنيّة والجسديّة. يصدر سليمان المعمري في إنشائه لهذا الكتاب عن تاريخٍ شخصيّ من الاهتمام بكرة القدم، تاريخ الحياة الفعليّة، في الماضي والحاضر، وتاريخ الصحافة. فهو يُبْدي تاريخ تعلّقه بكرة القدم وما رافق هذا التعلّق من شغفٍ ووعود وعهود، وما تشكّل من نتاج ذلك من آثارٍ في نفسه، وهو أيضا -بحكم منزلته الصحفيّة- يذكر تاريخا من تحبير مقالات واكبت أحداثا مهمة من وقائع هذه
اللعبة محليّا وعربيّا وعالميّا، فهو يَبهج في 2004 لفرحة العمانيين بوصولهم إلى نهائي كأس الخليج، ويكتب «الفرح لونه أحمر»، وهو يلتقط «نطحة» زين الدين زيدان في نهائي كأس العالم في 2006، ليبني عليها رؤيةً ورأيا، وهو يُخصّص في السلسلة التي نشرها بعنوان «يوميّات عارف البرذول» سنة 2008 مقالا يَصْرِف فيه بطل مقالاته إلى كرة القدم «عارف البرذول مشجّعا للمنتخب الوطني»، وتلك صورة عن مقالات جمّة اهتمّ فيها سليمان بكرة القدم لاقطا أحداثا لا تخصّ تقنيّة اللعبة ولا التحليل الفنيّ ولا الاستعداد البدني والذهني، ولا الخطط التكتيكيّة للمدرّب، وإنّما هو -كعهده- يتّخذ من اللعبة بُعْدا يُمكّنه من بيان الأبعاد الاجتماعيّة والثقافيّة والحضارية لكلّ فعلٍ يُمكن أن يصدر عن لاعب أو مشجّع أو مالكٍ لجمعيّة رياضيّة، وهي السمة التي غلبت على كتاب «بيليه أم مارادونا؟ الإجابة ميسي»، الذي لم يكن كتابا خالصا في كرة القدم، بل كان كتابا مُفكّرا في مختلف مظاهر كرة القدم وأبعاد أثرها. تبدأ المُخاتلة من العُنوان الشائك، المُلْبس، الذي يبعث على أسئلة جمّة وأجوبة مفتوحة اختصرها صاحبُ الكتاب في مقدّمته، وأجاز للقارئ ما يُمكن أن يذهب إليه من تأويل للعنوان. وقد راعى سليمان المعمري في بناء فصول كتابه طبيعة الموضوع فقسّم أبوابه وفقا لما تتقسّم عليه مباراة كرة القدم: «صافرة البداية- الشوط الأول- الشوط الثاني- الوقت الضائع- الخروج من الملعب»، وفي كلّ هذه الأبواب رحلةٌ ماتعةٌ لموضوعات يتداخل فيها الاجتماعي والسياسي والثقافي، ولعلّ من أبرز الموضوعات التي أثارها الكتاب، موضوع الصلة بين الثقافيّ والكروي، تعاليا أو تماهيا، ومن ذكاء الكاتب أن طرق الموضوع من زوايا مختلفة، ذاتيّا من خلال تجاربه الشخصيّة في حضور المُثقف وحضور لاعب كرة القدم، وما يُمكن أن يُلاحظ من الحفاوة التي يُلاقيها اللاعب والإعراض الذي يُلاقيه المُثقّف، ومن خلال التجارب العامّة ومواقف الكُتّاب والأدباء، الذين وقفوا ضدّ هذه اللعبة أو الذين ناصروها وانتصروا لها. وفي كلّ الأحوال فإنّ ما أكّده الكتاب أنّ لعبة كرة القدم هي ظاهرةٌ لها الأثر البالغ في العُمق النفسي والاقتصادي والسياسي، وبحُكم هذه المنزلة فإنّ على المثقّف أن يتناولها وألاّ يضع بينه وبينها سدّا منيعا، لأنّ المثقّف ليس في عُلُوٍّ ولعبة كرة القدم ليست في دُنُوٍّ، وإنّما هي ظاهرة تجلب الشقّ الأوسع من البشر، والأهمّ أنّها القادرة على استمالة عواطف البشر. الإجابة ميسي، الذي يُمثّل أيضا ظاهرة أخذت من قلوب محبّي الكرة اهتماما وانشغالا يفوق انشغال الناس بجائزة نوبل في مختلف مجالاتها. ميسي الذي حصد أرقاما قياسيّة، والذي كان محور كتابات، والذي ما زال نموذجا ومثالا، والذي لبس «البشت» القطري في التتويج بكأس العالم، بكلّ ما يُمكن أن يحتمله هذا الفعل من دلالات حضاريّة، وسيميائية، اللاّعب الذي خصّه الكاتب بالإعجاب وبأثر هامّ ممّا جرى به القلم. الكتاب ماتعٌ ولا يأخذ من الكرة وجها واحدا، وإنّما يتنقّل بك صاحبه من قضيّة إلى أخرى، ومن ظاهرةٍ إلى ظاهرة، تركيزا على أبعاد كرة القدم، التي منها السياسي في إثارته لموضوع الملياردير الروسي اليهودي مالك نادي تشلسي البريطاني رومان أبراموفيتش، وكيف تهاوى وتداعى معه نادي تشلسي بسبب حرب روسيا مع أوكرانيا، أو في إشارته إلى توحّد العرب كرويّا أمام تعثّر هذه الوحدة طيلة عقود، وذلك في بطولة كأس العرب في دورتها التاسعة بالدوحة 2021 التي «خلقت حالة عروبية» بدّدت الخصومات السياسية، ومنها الاجتماعي، في مختلف الفصول والأبواب التي تُظهر أثر هذه اللعبة وعمق فعلها في حياة الإنسان، ومنها الإنساني والأدبيّ، ولعلّ أحسن مثال على ذلك، حياة اللاّعب العماني الذي لُقِّب بـ«ماردونا عمان» الذي عانى بؤس الحياة، وقد رشّح الكاتبُ حياتَه لتكون مشروع رواية، لما لاقته هذه الشخصيّة من مناكد الدهر، ومنها الأسطوري الذي رافق اللعبة مؤسّسا لاعتقادات قد تتحوّل إلى يقين عند أنصار الفرق وأعدائهم، ولعلّ أهمّ أسطورة تلك التي رواها الكاتب أكثر من مرّة واستقاها من كتاب «أليكس بيلوس» صاحب كتاب «كرة القدم: الحياة على الطريقة البرازيلية» عن لعنة حلّت سنة 1937 بنادي فاسكو دي جاما البرازيلي عندما لاقى فريقا ضعيفا في الدوري البرازيلي، وهو فريق أنداريا وأمطره أهدافا هازئا به، ممّا دفع أحد الأنصار إلى دفن ضفدع في الملعب، وإلقاء تميمة- لعنة سترافق الفريق المنتصر لسنوات طوال. ذاك عالمٌ -كما سلف أن ذكرنا- غنيٌّ، ثريٌّ، حاملٌ لحكايات، لسرديّةٍ يُمكن أن يتناولها الروائيّ، والمؤرّخ، وصاحب علم النفس، وعالم الاجتماع والأنتروبولوجي والسياسي، ميدانُ كرة القدم لا يحوي كُرةً وسيقانا تهرول وراءها، وإنّما هو فضاءٌ قابلٌ للفهم والقراءة، هو مجتمعٌ كاملٌ بكلّ صراعاته وتناقضاته، بآلامه وأحلامه. لقد أرهقني الكتاب وأمتعني، أمتعني بثراء ما كُنت أجهل من هذا العالم، وبأسلوب الكاتب صاحب العين المُلتقطة، وبسرديّةٍ تتّخذ وجهات متعدّدة، وأرهقني بسبب من أنّ صاحب الكتاب حفّزني على العودة إلى قسمٍ من مراجعه الكتبيّة وخاصّة منها كتاب «كرة القدم في الشمس والظلّ» لشاعر كرة القدم، الروائي والصحفي إدواردو غاليانو، وكتاب «كرة القدم الحياة على الطريقة البرازيليّة» لأليكس بيلوس، وفي الأثناء تعثّرتُ بكتاب أثار فيّ ما أثار في الكاتب من أسئلة عندما تعرّض إلى مواقف الأدباء المترفّعين عن «كرة القدم»، والذين خصّوا اللعبة بنظرة دونيّة ناتجة عن «غرور المعرفة» وخاصّة منهم بورخيس وتوفيق الحكيم، هذا الكتاب الذي تعثّرتُ به يُعيدني إلى عُمق إشكالياتنا المعرفيّة، في تدخّل الموقف الدينيّ دوما في التحريم والتجريم، كتابٌ بعنوان «كرة القدم بين المصالح والمفاسد الشرعيّة» لمشهور بن حسن آل سلمان، والحقّ أنّي اكتفيتُ بالعنوان فقط، وقُلتُ هذا بابٌ إن شرعتُه أو واربته سيدرّ علينا أفكارا ومواقف لا تحتملها اللعبة، ولا يقدر عليها اللاعب.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية:
کرة القدم
وإن ما
إقرأ أيضاً:
بالفيديو| سلطان: نحن في الشارقة نعز الكتاب.. وأمتنا بخير ما دامت الثقافة بخير
الشارقة: «الخليج»
افتتح صاحب السموّ الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، معرض الشارقة الدولي للكتاب، في مركز إكسبو الشارقة والتي تضم 1357 فعالية متنوعة، ويشارك بها 2520 ناشراً من 112 دولة، ليقدموا على مدار 12 يوماً أكثر من 1357 فعالية تحت شعار «هكذا نبدأ».
وقال سموّه، خلال كلمة ألقاها في حفل افتتاح معرض الشارقة الدولي للكتاب: «نحن في الشارقة نعز الكتاب.. وأمتنا بخير ما دامت الثقافة بخير».
وتفضل صاحب السموّ حاكم الشارقة بتكريم أحلام المستغانمي شخصية العام الثقافية لمعرض الشارقة الدولي للكتاب في دورته الـ 43.