لجريدة عمان:
2025-02-05@13:57:42 GMT

«القدم والقلم»

تاريخ النشر: 8th, August 2023 GMT

عندما وقف مصطفى محمود على ظاهرة «الهوس الكروي»، وصرخ قائلا «حتّى اللعب فقد براءته!! وأوشك الشرف القومي أن يُصبح شرفا «كرويّا»» كان مُدرِكا لأبعاد الظاهرة الكرويّة ولقُدرتها على أن تتحوّل إلى «أفيونٍ للشعوب» إن هي فارقت أرض ملعبها واستبدّت بها أيادي المافيات من جهة وأيادي أصحاب المال والقرار من جهة ثانية، ولكن هل هذه الشبكة المعقّدة الكامنة خلف «اللعبة» تُفسِدُ من جماليّتها وفنيّتها؟ ألسنا نقود أبناءنا اليوم كرها إلى لعب الكرة حتّى ننقذهم من براثن ألعاب إلكترونية هي البديل المُدمّر لكرة القدم ونضمن لهم حركةً وصحّة وحياةً؟ لقد كانت لعبة كرة القدم وما زالت حمّالةُ آراء، تتباينُ منها المواقف في الساحة الفكريّة، وتتّفق في الساحة الشعبيّة.

لم يكن لي وأنا العازف عن كُرة القدم اهتمام، المقبل عليها فرجةً في المناسبات الكُبرى، أن أنصرف إلى كِتابٍ يتحدّث عن هذه الرياضة وعن أعْلامها ورؤوسها ومهوسيها، وآثارها وآثامها، ولكن بسبب من محبّتي لما يكتب سليمان المعمري، وبسبب أيضا من توقّعي لممكن مخاتلاته، ومراوغاته في العناوين التي يضع، وفي قدرته على ترويض مختلف الموضوعات وتطويعها إلى أسلوبه وطريقته الجامعة بين العلم والظرف، بين الجدّ والهزل، فقد انصرفت إلى الاطّلاع على الكتاب، وراقني أن وجدت فيه ما توقّعتُ من مخاتلات سليمان، فهو كتابٌ جامعٌ لمقالاتٍ في كرة القدم، وهو أيضا حاملٌ لمقاربات سياسيّة واجتماعيّة وأنتروبولوجيّة لأثر هذه الرياضة في كوننا اليوم، وهو -وهذا الأهمّ- مُواكِبٌ لانشغال فئة عريضة من البشر، ومُشكّلٌ للحظات بهْجتها وتعاستها، فرحها وترحها، جالبٌ لانفعالات الناس، وهم واجدون في «اللعبة الساحرة» مأوى لكلّ انكساراتهم، وأرضيّة للتصعيد ولإخراج المكبوت، وهم واجدون فيها أيضا ملهى لرياضة جميلة، ولفنٍّ يُبدي قدرة الإنسان الذهنيّة والجسديّة. يصدر سليمان المعمري في إنشائه لهذا الكتاب عن تاريخٍ شخصيّ من الاهتمام بكرة القدم، تاريخ الحياة الفعليّة، في الماضي والحاضر، وتاريخ الصحافة. فهو يُبْدي تاريخ تعلّقه بكرة القدم وما رافق هذا التعلّق من شغفٍ ووعود وعهود، وما تشكّل من نتاج ذلك من آثارٍ في نفسه، وهو أيضا -بحكم منزلته الصحفيّة- يذكر تاريخا من تحبير مقالات واكبت أحداثا مهمة من وقائع هذه اللعبة محليّا وعربيّا وعالميّا، فهو يَبهج في 2004 لفرحة العمانيين بوصولهم إلى نهائي كأس الخليج، ويكتب «الفرح لونه أحمر»، وهو يلتقط «نطحة» زين الدين زيدان في نهائي كأس العالم في 2006، ليبني عليها رؤيةً ورأيا، وهو يُخصّص في السلسلة التي نشرها بعنوان «يوميّات عارف البرذول» سنة 2008 مقالا يَصْرِف فيه بطل مقالاته إلى كرة القدم «عارف البرذول مشجّعا للمنتخب الوطني»، وتلك صورة عن مقالات جمّة اهتمّ فيها سليمان بكرة القدم لاقطا أحداثا لا تخصّ تقنيّة اللعبة ولا التحليل الفنيّ ولا الاستعداد البدني والذهني، ولا الخطط التكتيكيّة للمدرّب، وإنّما هو -كعهده- يتّخذ من اللعبة بُعْدا يُمكّنه من بيان الأبعاد الاجتماعيّة والثقافيّة والحضارية لكلّ فعلٍ يُمكن أن يصدر عن لاعب أو مشجّع أو مالكٍ لجمعيّة رياضيّة، وهي السمة التي غلبت على كتاب «بيليه أم مارادونا؟ الإجابة ميسي»، الذي لم يكن كتابا خالصا في كرة القدم، بل كان كتابا مُفكّرا في مختلف مظاهر كرة القدم وأبعاد أثرها. تبدأ المُخاتلة من العُنوان الشائك، المُلْبس، الذي يبعث على أسئلة جمّة وأجوبة مفتوحة اختصرها صاحبُ الكتاب في مقدّمته، وأجاز للقارئ ما يُمكن أن يذهب إليه من تأويل للعنوان. وقد راعى سليمان المعمري في بناء فصول كتابه طبيعة الموضوع فقسّم أبوابه وفقا لما تتقسّم عليه مباراة كرة القدم: «صافرة البداية- الشوط الأول- الشوط الثاني- الوقت الضائع- الخروج من الملعب»، وفي كلّ هذه الأبواب رحلةٌ ماتعةٌ لموضوعات يتداخل فيها الاجتماعي والسياسي والثقافي، ولعلّ من أبرز الموضوعات التي أثارها الكتاب، موضوع الصلة بين الثقافيّ والكروي، تعاليا أو تماهيا، ومن ذكاء الكاتب أن طرق الموضوع من زوايا مختلفة، ذاتيّا من خلال تجاربه الشخصيّة في حضور المُثقف وحضور لاعب كرة القدم، وما يُمكن أن يُلاحظ من الحفاوة التي يُلاقيها اللاعب والإعراض الذي يُلاقيه المُثقّف، ومن خلال التجارب العامّة ومواقف الكُتّاب والأدباء، الذين وقفوا ضدّ هذه اللعبة أو الذين ناصروها وانتصروا لها. وفي كلّ الأحوال فإنّ ما أكّده الكتاب أنّ لعبة كرة القدم هي ظاهرةٌ لها الأثر البالغ في العُمق النفسي والاقتصادي والسياسي، وبحُكم هذه المنزلة فإنّ على المثقّف أن يتناولها وألاّ يضع بينه وبينها سدّا منيعا، لأنّ المثقّف ليس في عُلُوٍّ ولعبة كرة القدم ليست في دُنُوٍّ، وإنّما هي ظاهرة تجلب الشقّ الأوسع من البشر، والأهمّ أنّها القادرة على استمالة عواطف البشر. الإجابة ميسي، الذي يُمثّل أيضا ظاهرة أخذت من قلوب محبّي الكرة اهتماما وانشغالا يفوق انشغال الناس بجائزة نوبل في مختلف مجالاتها. ميسي الذي حصد أرقاما قياسيّة، والذي كان محور كتابات، والذي ما زال نموذجا ومثالا، والذي لبس «البشت» القطري في التتويج بكأس العالم، بكلّ ما يُمكن أن يحتمله هذا الفعل من دلالات حضاريّة، وسيميائية، اللاّعب الذي خصّه الكاتب بالإعجاب وبأثر هامّ ممّا جرى به القلم. الكتاب ماتعٌ ولا يأخذ من الكرة وجها واحدا، وإنّما يتنقّل بك صاحبه من قضيّة إلى أخرى، ومن ظاهرةٍ إلى ظاهرة، تركيزا على أبعاد كرة القدم، التي منها السياسي في إثارته لموضوع الملياردير الروسي اليهودي مالك نادي تشلسي البريطاني رومان أبراموفيتش، وكيف تهاوى وتداعى معه نادي تشلسي بسبب حرب روسيا مع أوكرانيا، أو في إشارته إلى توحّد العرب كرويّا أمام تعثّر هذه الوحدة طيلة عقود، وذلك في بطولة كأس العرب في دورتها التاسعة بالدوحة 2021 التي «خلقت حالة عروبية» بدّدت الخصومات السياسية، ومنها الاجتماعي، في مختلف الفصول والأبواب التي تُظهر أثر هذه اللعبة وعمق فعلها في حياة الإنسان، ومنها الإنساني والأدبيّ، ولعلّ أحسن مثال على ذلك، حياة اللاّعب العماني الذي لُقِّب بـ«ماردونا عمان» الذي عانى بؤس الحياة، وقد رشّح الكاتبُ حياتَه لتكون مشروع رواية، لما لاقته هذه الشخصيّة من مناكد الدهر، ومنها الأسطوري الذي رافق اللعبة مؤسّسا لاعتقادات قد تتحوّل إلى يقين عند أنصار الفرق وأعدائهم، ولعلّ أهمّ أسطورة تلك التي رواها الكاتب أكثر من مرّة واستقاها من كتاب «أليكس بيلوس» صاحب كتاب «كرة القدم: الحياة على الطريقة البرازيلية» عن لعنة حلّت سنة 1937 بنادي فاسكو دي جاما البرازيلي عندما لاقى فريقا ضعيفا في الدوري البرازيلي، وهو فريق أنداريا وأمطره أهدافا هازئا به، ممّا دفع أحد الأنصار إلى دفن ضفدع في الملعب، وإلقاء تميمة- لعنة سترافق الفريق المنتصر لسنوات طوال. ذاك عالمٌ -كما سلف أن ذكرنا- غنيٌّ، ثريٌّ، حاملٌ لحكايات، لسرديّةٍ يُمكن أن يتناولها الروائيّ، والمؤرّخ، وصاحب علم النفس، وعالم الاجتماع والأنتروبولوجي والسياسي، ميدانُ كرة القدم لا يحوي كُرةً وسيقانا تهرول وراءها، وإنّما هو فضاءٌ قابلٌ للفهم والقراءة، هو مجتمعٌ كاملٌ بكلّ صراعاته وتناقضاته، بآلامه وأحلامه. لقد أرهقني الكتاب وأمتعني، أمتعني بثراء ما كُنت أجهل من هذا العالم، وبأسلوب الكاتب صاحب العين المُلتقطة، وبسرديّةٍ تتّخذ وجهات متعدّدة، وأرهقني بسبب من أنّ صاحب الكتاب حفّزني على العودة إلى قسمٍ من مراجعه الكتبيّة وخاصّة منها كتاب «كرة القدم في الشمس والظلّ» لشاعر كرة القدم، الروائي والصحفي إدواردو غاليانو، وكتاب «كرة القدم الحياة على الطريقة البرازيليّة» لأليكس بيلوس، وفي الأثناء تعثّرتُ بكتاب أثار فيّ ما أثار في الكاتب من أسئلة عندما تعرّض إلى مواقف الأدباء المترفّعين عن «كرة القدم»، والذين خصّوا اللعبة بنظرة دونيّة ناتجة عن «غرور المعرفة» وخاصّة منهم بورخيس وتوفيق الحكيم، هذا الكتاب الذي تعثّرتُ به يُعيدني إلى عُمق إشكالياتنا المعرفيّة، في تدخّل الموقف الدينيّ دوما في التحريم والتجريم، كتابٌ بعنوان «كرة القدم بين المصالح والمفاسد الشرعيّة» لمشهور بن حسن آل سلمان، والحقّ أنّي اكتفيتُ بالعنوان فقط، وقُلتُ هذا بابٌ إن شرعتُه أو واربته سيدرّ علينا أفكارا ومواقف لا تحتملها اللعبة، ولا يقدر عليها اللاعب.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: کرة القدم وإن ما

إقرأ أيضاً:

الكاتب محمد قراطاس: الشعر أكثر كرمًا وإيثارًا من جميع أنواع الكتابات الأدبية

العُمانية: «العمل السردي فعل كتابي أناني جدًا، وعندما يبدأ الشاعر بالكتابة الروائية فإنها تمنعه من كتابة أي إبداع آخر وخاصة الشعر. فالشعر أكثر كرمًا وإيثارًا من جميع أنواع الكتابات الأدبية، فهو يسمح بأن تشاركه فـي قلب الشاعر وفكره».. من خلال تلك العبارة يضع الشاعر والكاتب العُماني محمد قراطاس المهري القارئ والمتابع حيث حقيقة الشعر وبيان الرواية.

وفـي سياق التجربة الإبداعية، والحديث عن الشعر ونتاجه الإبداعي، «ما ورثه الضوء»، «تغريبة بحر العرب»، و«الأعشاب تفقد الذاكرة سريعًا»، مرورًا بالسرد ورواية «الأعتاب»، يتحدث « قراطاس»، عن وقع المواءمة بينهما ويوضح أن التجربة الإبداعية لكل متعامل مع الأدب لابد أن تتشابه فـي كثير من جوانبها ابتداءً من اللحظة الأولى التي يشعر فـيها المؤلف أن لديه جذوة خلّاقة فـي روحه وانتهاء بالكتابة الأخيرة التي رفع فـيها قلمه عن الورقة، ما نختلف فـيه هو الأسلوب والأحداث والزمن الذي حمل هذه الرحلة. وأنا مثل كثير من الكُتّاب بدأت تلك الجذوة بالظهور فـي المراحل الأولى من الحياة، واختلفت عن كثير من مجايلي فـي «ظفار»، إن جذوتي وجدت فـي الشعر الفصيح طريقها، وكان هذا خيارًا صعبا ألزمتني فـيه القريحة الشعرية فـي مجتمع يميل بأغلبه للشعر الشعبي، ومع قلة المرتادين لهذا الطريق فقد كان فـي كثير من الأحيان يشكل عالمًا من الوحدة يخلو من كل شيء ما عدا الكتاب، وبرغم هذا دفعتني الرغبة الجامحة لدي إلى الاستمرار والكتابة بهذا الغالب ومع السنوات بدأت أتعود على هذه الحالة الشعورية وأجد فـيها متنفسًا جميلًا وخلوةً رائعة.

ويشير الكاتب «قراطاس» إلى ما قدمته سياقاته الشعرية الثلاثة، حيث التقاطعات بين تلك الإصدارات، وتفاصيل العمل السردي «الأعتاب» ويؤكد على أن جميع هذه الإصدارات الشعرية تتقاطع فـي نفس الفكرة، وهي أن مصدرها ذات العقل وذات القلب لشاعر واحد. وهي متأثرة بتصاعد فكري ونفسي مع مراحل الشاعر الحياتية. وعلى الرغم من أن الشعر هو كائن به الكثير من الفضاءات إلا أن ظهوره يخضع للظروف الإنسانية التي يمرّ بها الشاعر أو تمرّ به. وذلك لا غرابة فـي أن من سيقرأ الديوان الأول أو الثالث سيشعر بوجود ذات الشاعر بين الجُمل والتفاعيل. أما الرواية فهي كذلك تنصبغ بنفس اللون الخفـي ولكن تحتاج إلى عين ناقدة لتتبع ظهور الشاعر بين حين وآخر والتقاط لمحات منه فـي فصول الرواية.

ولكون «قراطاس» «شاعرًا» و«روائيًّا»، يتحدث أيضا عن الأقرب إليه من هذين الاتجاهين، وأثر كل منهما على تطور أسلوبه الكتابي، والأكثر تأثيرًا فـي المستقبل: السّرد، مثل الرواية أو القصة القصيرة، أم الشعر فـيقول: العمل السردي هو فعل كتابي أناني جدًا. وعندما يبدأ الشاعر بالكتابة الروائية فإنها تمنعه من كتابة أي إبداع آخر وبالذات الشعر. الشعر أكثر كرمًا وإيثارًا من جميع أنواع الكتابات الأدبية، فهو يسمح بأن تشاركه فـي قلب الشاعر وفكره، ولذلك فقد عانيت كثيرًا فـي فترة كتابتي للرواية فـي العودة لكتابة الشعر. والمعاناة هنا ليست فـي امتناع الإبداع عند كتابة الشعر. بل فـي محاولة النثر المتكررة فـي الاستيلاء على ذلك الإبداع وتحويله لحسابها، ويمكن مشاهدة ذلك فـي كثير من الشعراء الذين تخلوّا تماما عن الكتابة الشعرية واتجهوا للرواية، بالنسبة لي فإن الشعر هو الأقرب المتجذر فـي نفسي. ولذلك لو تم تخييري بين الاثنين فأنا أختار الشعر.

ويشير «قراطاس» إلى تطور روح القصيدة العُمانية، مرورًا بالتجديد والتحوّل فـي الشكل والمضمون مقارنة بالكلاسيكيّة منها، والتحدّيات التي تواجه الشعر على مستوى المحيط العربي أو العُماني فـي ظل بيان نَفَس السرد فـيتحدث: لا أتفق مع مقولة روح الشعر (العُمانية) أو (الخليجية) أو أي مُسمى. فالشعر الحقيقي لا يرتبط بالجغرافـيا أو القوميات، بل هو إبداع إنساني محض. ولكن يمكننا التساؤل عن التجربة الشعرية للشعراء العُمانيين وبالنسبة لي أرى أن التجربة الشعرية فـي سلطنة عُمان ظلت لسنوات فـي مستوى واحد، واعتقد بأنها فـي أغلبها ما زالت عند المستوى نفسه. ولسببين، أولًا: حالة الواقع المعاش وما ويتجسد ذلك فـي جوانب اقتصاديّة واجتماعيّة، وثانيهما: التجارب الفكريّة فـي الساحة الشّعرية. فهذان السببان لم يتغيرا كثيرا منذ عقود، ولذلك فظهور أسماء عُمانية ذات تأثير شعري على المستوى الدولي قليل. وطبعا لا أتحدث عن المسابقات، فهي أسوأ مكان يمكن فـيه تقييم التطور الشعري لبلد معين، وإنما أتحدث عن التأثير والتطوير الحقيقي فـي حركة الشعر التصاعدية. وعن نفسي لا أرى أي بوادر تقدم جماعي فـي هذا المجال. فالشعر يزهر فـي المجتمعات ذات الرفاهية المتعدّدة فـي تشكّلها، وهو كذلك يزهر حين لا تكون هناك أدوار قاسية ومعقدة لأفكار وتابوهات فـي المجتمع، وحركة التقليد لقوالب الشعر خارج سلطنة عُمان بدأت تزيد بشكل كبير كنوع من الخروج عن السياق، فأنت إن هربت من مجتمعك فإنك تحاول الانتقال إلى مجتمع آخر عن طريق تقليده فـي كل شيء. لكنك ستظل دائمًا نسخة باهتة مهما تم عرضك.

وفـي سياق الأدب العُماني ومواكبته «مستقصيًا» التحولات الثقافـية والاجتماعية محليًّا، يشير الشاعر «المهري» إلى الأديب فـي سلطنة عُمان وكيف استطاع هو الآخر الحفاظ على الهُوية الثقافـيّة والانفتاح على التجارب خارج نطاقه الجغرافـي فـيقول: لا يدمّر التطور الشعري والإبداعي مثل مقولة المحافظة على خصوصية الثقافة والأدب، وجميع المجتمعات فـي المنطقة الخليجية تنتهج نفس الفكرة العقيمة، ولذلك عالميًّا فـي مجال الإبداعات الإنسانية (نحن) لا نُعتبر مطلقا على الخارطة، فلا تأثير أبدا للأدب الخليجي أو حتى العربي للأسف، وظهور أسماء عربية فـي الكتابات الإنسانية لا تخرج من جهتين، إما كاتب عربي عاش قبل مئات السنين مثل ابن رشد أو ابن العربي أو ابن خلدون، وإما عربي خرج من مجتمعه العربي ونشأ فـي مجتمع غربي كجزء من هُويته مثل أمين معلوف أو جبران خليل جبران، ونحن لسنا بعيدين عن ذلك، نحن نعيش فـي حالة قتال للحفاظ على ما يسمى خصوصيتنا العُمانية العربية والإسلامية، وهنا يبقى الأدب فـي حلقة مفرغة يرفض أن يخرج أحد عن السياق، وطبعا هنا لا أعني مخالفة ما هو متعارف عليه ولكن الوقوف على ذلك والانطلاق إنسانيا إلى آفاق لا تتشبث بالماضي ولكن تنتقل من سماء لأخرى فـي مجال الإبداع الإنساني.

ويتحدث «قراطاس» عن الأثر والتأثير، وما مدى أهميته فـي مسيرة الكاتب مع الأدب، وهو المطمئن فـيه والمقلق منه ويؤكد على أن التأثر والتأثير هما أمران واقعان لا يمكننا منعهما، وبالذات فـي الأدب. فالأدب كُتب ليخرج إلى الفضاء المجتمعي حوله ولذلك سيؤثر وسيتأثر مستقبلا بكل التجاذبات الناتجة عنه. ولا أعتقد بأن هناك متأثرًا أو مؤثرًا سيئًا، بل متلقيًا لا يمكن التنبؤ بمدى ردة فعله سواء على المستوى اللحظي أو التراكمي. ومن وجهة نظري فالعملية الإبداعية يكون تأثيرها دائما جيدًا مهما توهّمنا السوء فـي ذلك.

ويتطرق «قراطاس» إلى واقع البيئة وتقاليدها، مرورًا بالتاريخ والجغرافـيا، وأثر ذلك على إبداع الكاتب فـي سلطنة عُمان ونتاجه قائلًا: تأثير التاريخ والمكان على الكاتب هو تأثير جوهري لا يمكن التخلص منه. أذكر فـي رحلة إلى باريس قمنا بزيارة بيت الروائي والشاعر الفرنسي فكتور هوجو، وقام الدليل بإدخالنا للغرفة التي يكتب فـيها. ومن النافذة يمكن رؤية كنيسة نوتردام، ومن المعلوم أن أشهر رواياته أحدب نوتردام. ويتضح هنا مدى انعكاس المكان على مخيلة الأديب بشكل كبير. فالساكن فـي الصحراء أو فـي الأرياف الخضراء سيخرج أدبه مصبوغًا بانعكاسات المكان، كأن يكتب البدوي فـي الصحراء عن جمال الأفق ويكتب القابع فـي الريف عن خيانة الزهرة السامة. وفـي سلطنتنا العزيزة تتنوع الجغرافـيا بشكل كبير، ولذلك تتنوع الإنتاجات الأدبية بشكل كبير، لكن تظل روح المبدع وحالته المزاجية هي المهيمنة على سياق الكتابة، وبالنسبة لي كان لها تأثير كبير فـي كتاباتي وتظهر جلية فـي الشعر وفـي النثر.

وفـي شأن النقد الأدبي، وما مدى الحاجة إليه فـي خضم التطور التصاعدي الكبير لتفكيك حقيقة القصيدة أو السرد من خلال القراءات النقدية التي تستهدفه بشكل واقعي يقول «قراطاس»: نفتقر إلى المجتمع النقدي الحقيقي الذي يؤثر فـي جودة الإصدارات الأدبية. لدينا نقاد وأغلبهم يحاولون ألا يدخلوا فـي صراع مع الأدباء، وهذا تأثير من السمت العُماني تجاه الآخر. ولذلك أذكر قبل عدة سنوات أن ناقدًا عربيًّا مُقيمًا كتب مقالا نقديا لأحد الشعراء وقامت الدنيا ولم تقعد، فكيف تجرّأ هذا الرجل على انتقاد إبداعات هذا الشاعر، لذلك نحن نعاني من طوبائية الفكر لدى أدبائنا فهم يعتقدون بأن كتاباتهم تتفق مع سياق الآداب السلوكية ولذلك فإن نقدها يعتبر نقدًا للأخلاق العامة، نحتاج إلى نقّاد يقدمون رسالة النقد الحقيقية وفكرًا جديدًا يتحمل النقد الأدبي ولا يعتبره نقدًا شخصيًّا أو مجتمعيًّا. ولا يمكن للأدب فـي عمومه على المستوى المحلي أو حتى العربي التطوّر أو الحضور فـي الأدبيّات الإنسانية دون آلة إنتاج نقدي. وهذا الأمر لا تخلو منه الدول فـي منطقتنا، فإذا ظهر ناقد جلس على مكتبه لينتقد كاتبًا توفـي قبل سنوات طويلة ويخرج كتابًا نقديًّا لقلم لا يمكنه الرد عليه أو تطوير كتاباته المستقبلية. إذا استمرت هذه الكتب النقدية فـي محاولة إحياء الموتى فإنها لن تنجح، يجب أن يكون الناقد حيًّا يكتب فـي نتاجات حية لأدباء أحياء بعد صدور كتبهم مباشرة وليس بعد أن يموت الأديب والقلم والأدب.

ويشير «قراطاس» إلى الفرص التي قد يتيحها الأدب فـي سلطنة عُمان لتحقيق حضور أكبر على الساحة الأدبية العربية والعالمية فـي المستقبل، ومدى قدرته على التأثير فـي الأدب العربي والعالمي مستقبلًا فـيقول: الفرص المتاحة لدخول الأدب العُماني للعالمية لا تنتهي ولن تنتهي، نحن فقط بحاجة إلى ثلاثة أشياء مهمة. أولا خروج الأديب من قوقعة مجتمعه إلى الفضاء الإنساني، والبحث فـي بيئته عن مرتكزات للانطلاق إنسانيا. وإخراج فكرة القدسية عن كتاباته وأنها قابلة للطعن والنّقد، وتقبّل هذا النقد بنية تطوير أدواته وفكره فـي القادم من الكتابات. ثانيا حضور مجتمع واع من النُّقاد العُمانيين فـي جميع اتجاهات الكتابة، وخروجهم عن سياق المجاملات إلى سياق البحث الحقيقي عن نقاط الضعف والقوة فـي متن الكتاب. وتحمّله أمانة النقد ومتابعته للإنتاجات الدولية والمحلية ورسم خارطة نقدية يمكنها أن تدفع الأدب العُماني إلى المسارات العالمية. ثالثا حضور المؤسسات الرسمية المعنية بالجوانب الثقافـية من خلال الدعم الحقيقي النوعي للكاتب، مع بناء التجمعات الحقيقية للأدباء والانطلاق بهم إلى المؤتمرات الدولية لتنمية وتوسيع آفاقهم الكتابية. وأن يتم وضع الأديب وتاريخه الثقافـي فـي سياقه الصحيح الذي سيدفع بالشباب إلى محاولة الحصول على التقدير والمكانة ذاتها.

مقالات مشابهة

  • Battlefield 6 .. ماذا تعرف عن أشهر لعبة على الإنترنت؟
  • Battlefield في نسختها الجديد بأسلوب لعب جديد
  • مكتبة الإسكندرية تنعى الكاتب محمد جبريل
  • بحضور فينجر وبوساكا.. اتحاد الكرة يبدأ برنامج شامل لتطوير عناصر اللعبة
  • بحضور فينجر وبوساكا.. اتحاد الكرة يبدأ اليوم برنامجا شاملا لتطوير عناصر اللعبة
  • بحضور فينجر وبوساكا.. اتحاد الكرة يبدأ برنامجا شاملا لتطوير عناصر اللعبة اليوم
  • اتحاد الكرة يطلق برنامجًا لتطوير عناصر اللعبة بحضور فينجر وبوساكا
  • الكاتب محمد قراطاس: الشعر أكثر كرمًا وإيثارًا من جميع أنواع الكتابات الأدبية
  • تشييع جنازة الكاتب الراحل مصطفى بيومي من مسجد الحصري.. صور
  • وفاة الكاتب الكبير مصطفى بيومي