لجريدة عمان:
2025-03-10@13:05:17 GMT

«القدم والقلم»

تاريخ النشر: 8th, August 2023 GMT

عندما وقف مصطفى محمود على ظاهرة «الهوس الكروي»، وصرخ قائلا «حتّى اللعب فقد براءته!! وأوشك الشرف القومي أن يُصبح شرفا «كرويّا»» كان مُدرِكا لأبعاد الظاهرة الكرويّة ولقُدرتها على أن تتحوّل إلى «أفيونٍ للشعوب» إن هي فارقت أرض ملعبها واستبدّت بها أيادي المافيات من جهة وأيادي أصحاب المال والقرار من جهة ثانية، ولكن هل هذه الشبكة المعقّدة الكامنة خلف «اللعبة» تُفسِدُ من جماليّتها وفنيّتها؟ ألسنا نقود أبناءنا اليوم كرها إلى لعب الكرة حتّى ننقذهم من براثن ألعاب إلكترونية هي البديل المُدمّر لكرة القدم ونضمن لهم حركةً وصحّة وحياةً؟ لقد كانت لعبة كرة القدم وما زالت حمّالةُ آراء، تتباينُ منها المواقف في الساحة الفكريّة، وتتّفق في الساحة الشعبيّة.

لم يكن لي وأنا العازف عن كُرة القدم اهتمام، المقبل عليها فرجةً في المناسبات الكُبرى، أن أنصرف إلى كِتابٍ يتحدّث عن هذه الرياضة وعن أعْلامها ورؤوسها ومهوسيها، وآثارها وآثامها، ولكن بسبب من محبّتي لما يكتب سليمان المعمري، وبسبب أيضا من توقّعي لممكن مخاتلاته، ومراوغاته في العناوين التي يضع، وفي قدرته على ترويض مختلف الموضوعات وتطويعها إلى أسلوبه وطريقته الجامعة بين العلم والظرف، بين الجدّ والهزل، فقد انصرفت إلى الاطّلاع على الكتاب، وراقني أن وجدت فيه ما توقّعتُ من مخاتلات سليمان، فهو كتابٌ جامعٌ لمقالاتٍ في كرة القدم، وهو أيضا حاملٌ لمقاربات سياسيّة واجتماعيّة وأنتروبولوجيّة لأثر هذه الرياضة في كوننا اليوم، وهو -وهذا الأهمّ- مُواكِبٌ لانشغال فئة عريضة من البشر، ومُشكّلٌ للحظات بهْجتها وتعاستها، فرحها وترحها، جالبٌ لانفعالات الناس، وهم واجدون في «اللعبة الساحرة» مأوى لكلّ انكساراتهم، وأرضيّة للتصعيد ولإخراج المكبوت، وهم واجدون فيها أيضا ملهى لرياضة جميلة، ولفنٍّ يُبدي قدرة الإنسان الذهنيّة والجسديّة. يصدر سليمان المعمري في إنشائه لهذا الكتاب عن تاريخٍ شخصيّ من الاهتمام بكرة القدم، تاريخ الحياة الفعليّة، في الماضي والحاضر، وتاريخ الصحافة. فهو يُبْدي تاريخ تعلّقه بكرة القدم وما رافق هذا التعلّق من شغفٍ ووعود وعهود، وما تشكّل من نتاج ذلك من آثارٍ في نفسه، وهو أيضا -بحكم منزلته الصحفيّة- يذكر تاريخا من تحبير مقالات واكبت أحداثا مهمة من وقائع هذه اللعبة محليّا وعربيّا وعالميّا، فهو يَبهج في 2004 لفرحة العمانيين بوصولهم إلى نهائي كأس الخليج، ويكتب «الفرح لونه أحمر»، وهو يلتقط «نطحة» زين الدين زيدان في نهائي كأس العالم في 2006، ليبني عليها رؤيةً ورأيا، وهو يُخصّص في السلسلة التي نشرها بعنوان «يوميّات عارف البرذول» سنة 2008 مقالا يَصْرِف فيه بطل مقالاته إلى كرة القدم «عارف البرذول مشجّعا للمنتخب الوطني»، وتلك صورة عن مقالات جمّة اهتمّ فيها سليمان بكرة القدم لاقطا أحداثا لا تخصّ تقنيّة اللعبة ولا التحليل الفنيّ ولا الاستعداد البدني والذهني، ولا الخطط التكتيكيّة للمدرّب، وإنّما هو -كعهده- يتّخذ من اللعبة بُعْدا يُمكّنه من بيان الأبعاد الاجتماعيّة والثقافيّة والحضارية لكلّ فعلٍ يُمكن أن يصدر عن لاعب أو مشجّع أو مالكٍ لجمعيّة رياضيّة، وهي السمة التي غلبت على كتاب «بيليه أم مارادونا؟ الإجابة ميسي»، الذي لم يكن كتابا خالصا في كرة القدم، بل كان كتابا مُفكّرا في مختلف مظاهر كرة القدم وأبعاد أثرها. تبدأ المُخاتلة من العُنوان الشائك، المُلْبس، الذي يبعث على أسئلة جمّة وأجوبة مفتوحة اختصرها صاحبُ الكتاب في مقدّمته، وأجاز للقارئ ما يُمكن أن يذهب إليه من تأويل للعنوان. وقد راعى سليمان المعمري في بناء فصول كتابه طبيعة الموضوع فقسّم أبوابه وفقا لما تتقسّم عليه مباراة كرة القدم: «صافرة البداية- الشوط الأول- الشوط الثاني- الوقت الضائع- الخروج من الملعب»، وفي كلّ هذه الأبواب رحلةٌ ماتعةٌ لموضوعات يتداخل فيها الاجتماعي والسياسي والثقافي، ولعلّ من أبرز الموضوعات التي أثارها الكتاب، موضوع الصلة بين الثقافيّ والكروي، تعاليا أو تماهيا، ومن ذكاء الكاتب أن طرق الموضوع من زوايا مختلفة، ذاتيّا من خلال تجاربه الشخصيّة في حضور المُثقف وحضور لاعب كرة القدم، وما يُمكن أن يُلاحظ من الحفاوة التي يُلاقيها اللاعب والإعراض الذي يُلاقيه المُثقّف، ومن خلال التجارب العامّة ومواقف الكُتّاب والأدباء، الذين وقفوا ضدّ هذه اللعبة أو الذين ناصروها وانتصروا لها. وفي كلّ الأحوال فإنّ ما أكّده الكتاب أنّ لعبة كرة القدم هي ظاهرةٌ لها الأثر البالغ في العُمق النفسي والاقتصادي والسياسي، وبحُكم هذه المنزلة فإنّ على المثقّف أن يتناولها وألاّ يضع بينه وبينها سدّا منيعا، لأنّ المثقّف ليس في عُلُوٍّ ولعبة كرة القدم ليست في دُنُوٍّ، وإنّما هي ظاهرة تجلب الشقّ الأوسع من البشر، والأهمّ أنّها القادرة على استمالة عواطف البشر. الإجابة ميسي، الذي يُمثّل أيضا ظاهرة أخذت من قلوب محبّي الكرة اهتماما وانشغالا يفوق انشغال الناس بجائزة نوبل في مختلف مجالاتها. ميسي الذي حصد أرقاما قياسيّة، والذي كان محور كتابات، والذي ما زال نموذجا ومثالا، والذي لبس «البشت» القطري في التتويج بكأس العالم، بكلّ ما يُمكن أن يحتمله هذا الفعل من دلالات حضاريّة، وسيميائية، اللاّعب الذي خصّه الكاتب بالإعجاب وبأثر هامّ ممّا جرى به القلم. الكتاب ماتعٌ ولا يأخذ من الكرة وجها واحدا، وإنّما يتنقّل بك صاحبه من قضيّة إلى أخرى، ومن ظاهرةٍ إلى ظاهرة، تركيزا على أبعاد كرة القدم، التي منها السياسي في إثارته لموضوع الملياردير الروسي اليهودي مالك نادي تشلسي البريطاني رومان أبراموفيتش، وكيف تهاوى وتداعى معه نادي تشلسي بسبب حرب روسيا مع أوكرانيا، أو في إشارته إلى توحّد العرب كرويّا أمام تعثّر هذه الوحدة طيلة عقود، وذلك في بطولة كأس العرب في دورتها التاسعة بالدوحة 2021 التي «خلقت حالة عروبية» بدّدت الخصومات السياسية، ومنها الاجتماعي، في مختلف الفصول والأبواب التي تُظهر أثر هذه اللعبة وعمق فعلها في حياة الإنسان، ومنها الإنساني والأدبيّ، ولعلّ أحسن مثال على ذلك، حياة اللاّعب العماني الذي لُقِّب بـ«ماردونا عمان» الذي عانى بؤس الحياة، وقد رشّح الكاتبُ حياتَه لتكون مشروع رواية، لما لاقته هذه الشخصيّة من مناكد الدهر، ومنها الأسطوري الذي رافق اللعبة مؤسّسا لاعتقادات قد تتحوّل إلى يقين عند أنصار الفرق وأعدائهم، ولعلّ أهمّ أسطورة تلك التي رواها الكاتب أكثر من مرّة واستقاها من كتاب «أليكس بيلوس» صاحب كتاب «كرة القدم: الحياة على الطريقة البرازيلية» عن لعنة حلّت سنة 1937 بنادي فاسكو دي جاما البرازيلي عندما لاقى فريقا ضعيفا في الدوري البرازيلي، وهو فريق أنداريا وأمطره أهدافا هازئا به، ممّا دفع أحد الأنصار إلى دفن ضفدع في الملعب، وإلقاء تميمة- لعنة سترافق الفريق المنتصر لسنوات طوال. ذاك عالمٌ -كما سلف أن ذكرنا- غنيٌّ، ثريٌّ، حاملٌ لحكايات، لسرديّةٍ يُمكن أن يتناولها الروائيّ، والمؤرّخ، وصاحب علم النفس، وعالم الاجتماع والأنتروبولوجي والسياسي، ميدانُ كرة القدم لا يحوي كُرةً وسيقانا تهرول وراءها، وإنّما هو فضاءٌ قابلٌ للفهم والقراءة، هو مجتمعٌ كاملٌ بكلّ صراعاته وتناقضاته، بآلامه وأحلامه. لقد أرهقني الكتاب وأمتعني، أمتعني بثراء ما كُنت أجهل من هذا العالم، وبأسلوب الكاتب صاحب العين المُلتقطة، وبسرديّةٍ تتّخذ وجهات متعدّدة، وأرهقني بسبب من أنّ صاحب الكتاب حفّزني على العودة إلى قسمٍ من مراجعه الكتبيّة وخاصّة منها كتاب «كرة القدم في الشمس والظلّ» لشاعر كرة القدم، الروائي والصحفي إدواردو غاليانو، وكتاب «كرة القدم الحياة على الطريقة البرازيليّة» لأليكس بيلوس، وفي الأثناء تعثّرتُ بكتاب أثار فيّ ما أثار في الكاتب من أسئلة عندما تعرّض إلى مواقف الأدباء المترفّعين عن «كرة القدم»، والذين خصّوا اللعبة بنظرة دونيّة ناتجة عن «غرور المعرفة» وخاصّة منهم بورخيس وتوفيق الحكيم، هذا الكتاب الذي تعثّرتُ به يُعيدني إلى عُمق إشكالياتنا المعرفيّة، في تدخّل الموقف الدينيّ دوما في التحريم والتجريم، كتابٌ بعنوان «كرة القدم بين المصالح والمفاسد الشرعيّة» لمشهور بن حسن آل سلمان، والحقّ أنّي اكتفيتُ بالعنوان فقط، وقُلتُ هذا بابٌ إن شرعتُه أو واربته سيدرّ علينا أفكارا ومواقف لا تحتملها اللعبة، ولا يقدر عليها اللاعب.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: کرة القدم وإن ما

إقرأ أيضاً:

بن صهيون.. والد نتنياهو الذي غرس فيه كره العرب

لم يكن بن صهيون نتنياهو مجرد اسم في تاريخ عائلة رئيس الوزراء الإسرائيلي، بل هو شخصية تحمل بين طياتها قرنًا من الزمان مملوءًا بالأفكار والمواقف التي لا تقل تطرفًا وإثارة عن سياسات ابنه الحالية.

ويبدو أن هذه الأفكار التي صاغتها تجربة حياة مفعمة بالمواقف الصدامية مع العالم العربي قد تسربت بوضوح إلى توجهات بنيامين نتنياهو، لتشارك في تشكيل مواقفه الحادة تجاه الفلسطينيين، والتي يتضح صداها في أفعاله وكلماته حتى اليوم.

فما الذي نعرفه عن بن صهيون نتنياهو؟ وكيف أثر على مسار الحركة الصهيونية؟ ولماذا كانت رؤيته للعرب دائمًا عدائية إلى هذا الحد؟

بن صهيون.. سيرة ذاتية

وُلِد بن صهيون ميليكوفسكي -الذي سيُعرف لاحقا باسم نتنياهو وتعني هبة الله- في وارسو عاصمة بولندا خلال فترة تقسيمها وخضوعها للسيطرة الروسية القيصرية في عام 1910.

وكان والده ناثان ميليكوفسكي كاتبا وناشطا صهيونيا من بيلاروسيا، وقد شغل ناثان منصب حاخام، وجاب أوروبا والولايات المتحدة لإلقاء خطب تدعم الحركة الصهيونية التي آمن بها حتى النخاع.

وفي عام 1920 قرر ناثان الهجرة إلى فلسطين مصطحبا معه عائلته ضمن الموجة الكبرى للهجرة اليهودية. وبعد تنقلها بين مدينة يافا وتل أبيب وصفد، استقرت الأسرة أخيرا في القدس حيث التحق بن صهيون بمعهد ديفيد يلين للمعلمين والجامعة العبرية في القدس.

إعلان

وكان من الشائع بين المهاجرين الصهاينة في تلك الفترة تبنّي أسماء عبرية، فبدأ ناثان ميليكوفسكي الأب بتوقيع بعض مقالاته باسم "نتنياهو"، وهو الصيغة العبرية لاسمه الأول، واعتمد ابنه هذا الاسم ليكون اسم العائلة.

وفي عام 1944، تزوج الابن بن صهيون نتنياهو من تسيلا سيغال التي سيصفها ابنها رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو لاحقا بأنها "محور عائلتنا والسلطة النهائية فيها".

من اليسار إلى اليمين: بن صهيون نتنياهو وابناه بنيامين ويوناثان وزوجته تسيلا (الموقع الرسمي لبنيامين نتنياهو)

درس بن صهيون نتنياهو تاريخ العصور الوسطى في الجامعة العبرية بالقدس، وفي إبان دراسته انخرط في "حركة الصهيونية التصحيحية"، وهي حركة انفصلت عن التيار الصهيوني السائد، معتقدين أن هذا التيار الغالب كان أكثر تصالحية مع السلطات البريطانية الحاكمة لفلسطين آنئذ.

في المقابل، تبنّى التصحيحيون بزعامة زئيف جابتونسكي نهجا قوميا يهوديا أكثر تشددا، مخالفا للصهيونية العمالية اليسارية التي قادت إسرائيل في سنواتها الأولى، معتقدين أن حدود إسرائيل تمتد على كامل فلسطين التاريخية والأردن معا.

ولإيمانه بالعمل الصحفي والأكاديمي، شغل بن صهيون منصب محرر مشارك في المجلة العبرية المعروفة في ذلك الوقت "بيتار" بين عامي 1933 و1934، ثم أصبح رئيس تحرير صحيفة "ها ياردن" اليومية الصهيونية التصحيحية في القدس (1934-1935)، حتى أوقفت سلطات الانتداب البريطاني صدورها بين عامي 1935 و1940.

وفي عام 1939، قرر السفر إلى نيويورك للعمل سكرتيرا لزعيم الحركة الصهيونية التصحيحية جابوتنسكي الذي كان يسعى لحشد الدعم الأميركي لحركته الصهيونية القتالية الجديدة.

ومع وفاة جابوتنسكي في العام نفسه، تولّى بن صهيون نتنياهو منصب المدير التنفيذي للمنظمة الصهيونية الجديدة في أميركا التي كانت منافسا سياسيا أكثر تشددا للمنظمة الصهيونية الأميركية المعتدلة، واستمر في هذا الدور حتى عام 1948.

مع وفاة جابوتنسكي (يمين) تولّى بن صهيون نتنياهو منصب المدير التنفيذي للمنظمة الصهيونية الجديدة في أميركا (مواقع التواصل) سنوات التأرجح والنهاية

كان بن صهيون مؤمنا بفكرة "إسرائيل الكبرى"، وفي سبيلها عارض بشدة أي تنازلات إقليمية أو محلية، ولهذا السبب عندما أصدرت الأمم المتحدة خطة تقسيم فلسطين في 29 نوفمبر/تشرين الثاني 1947، كان من بين الموقعين على عريضة ترفض الخطة، وخلال تلك الفترة كان ناشطا سياسيا في واشنطن العاصمة حيث عمل على التواصل مع أعضاء الكونغرس لدعم رؤيته الصهيونية المتشددة.

إعلان

وفي عام 1949، عاد إلى إسرائيل محاولا دخول الحياة السياسية، لكنه لم يحقق نجاحًا يُذكر نتيجة سيطرة الحركة الصهيونية التقليدية على مقاليد البلاد بزعامة ديفيد بن غوريون ممن كانوا يرون عصابات شتيرن والمؤمنين بأيديولوجية جابتونسكي خطرا يهدد دولتهم في ذلك الحين.

في المقابل، واصل بن صهيون نتنياهو نشاطه الأكاديمي، لكنه لم يتمكن من الانضمام إلى هيئة التدريس في الجامعة العبرية، ورغم ذلك ساعده أستاذه جوزيف كلاوسنر أستاذ الأدب العبري في الحصول على منصب محرر في "الموسوعة العبرية"، وبعد وفاة كلاوسنر تولّى بن صهيون رئاسة التحرير مع آخرين.

لاحقًا عاد إلى كلية دروبسي في فيلادلفيا حيث عمل أستاذًا للغة العبرية وآدابها ورئيسًا للقسم بين عامي 1957 و1966، ثم شغل منصب أستاذ التاريخ اليهودي في العصور الوسطى والأدب العبري من عام 1966 إلى 1968، ثم انتقل إلى جامعة دنفر ليعمل أستاذًا للدراسات العبرية (1968-1971)، قبل أن يعود إلى نيويورك لتولي تحرير موسوعة يهودية.

في النهاية، التحق بجامعة كورنيل حيث شغل منصب أستاذ الدراسات اليهودية ورئيس قسم اللغات السامية وآدابها من عام 1971 إلى 1975.

وعقب مقتل ابنه يوناتان خلال عملية عنتيبي لإنقاذ الرهائن عام 1976، قرر العودة مع عائلته إلى إسرائيل منخرطا في المجال الأكاديمي.

وعند وفاته عام 2012 عن عُمر ناهز 102 عاما، كان عضوًا في أكاديمية الفنون الجميلة وأستاذًا فخريًا في جامعة كورنيل.

جوزيف كلاوسنر كان بمنزلة مرشد لبن صهيون (الصندوق القومي اليهودي) بن صهيون وأستاذه جابوتنسكي

أُثر عن بن صهيون نتنياهو قوله في إحدى مقالاته إن "العرب واليهود مثل عنزتين التقتا على جسر ضيّق، إحداهما مضطرة إلى القفز في النهر، ولكنهما لا تريدان الموت. ولذلك فإنهما تنتطحان على الدوام، وتؤمنان بأن إحداهما ستُنهَك في نهاية المطاف وتستسلم، وعندئذ سيتقرر الأقوى الذي سيرغم الأضعف على القفز. إن القفز لليهود يعني ضياع الشعب اليهودي، أما بالنسبة إلى العرب فإن قفز عنزتهم يعني تضرر جزء يسير منهم".

إعلان

يكشف هذا الاقتباس عن تأثره الكبير بزعيم الحركة التصحيحية الصهيونية زئيف جابتونسكي الذي آمن به من قبل والد بن صهيون الحاخام ناتان ميلوكوفسكي ورآه رائد الحركة الصهيونية وموجّه بوصلتها نحو التعامل الجذري مع العرب.

كان يرى أن الأغلبية العظمى من العرب داخل إسرائيل سيختارون إبادة اليهود إذا سنحت لهم الفرصة. وهذا الاعتقاد دفعه منذ شبابه إلى تأييد فكرة ترحيل السكان العرب من فلسطين، وهي الفكرة التي ظل متمسكًا بها حتى أواخر حياته، إذ واصل التعبير عنها في مناسبات مختلفة.

ففي مقابلة له عام 2009 مع صحيفة معاريف الإسرائيلية، عبّر عن آرائه تجاه الصراع العربي الإسرائيلي بقوله إن "النزعة إلى الصراع هي جوهر فكر العرب، إنهم أعداء بطبيعتهم، فشخصيتهم لن تسمح بالتنازل، وبغض النظر عن المقاومة التي سيواجهونها أو الثمن الذي سيدفعونه، فإن وجودهم يعني حربا دائمة".

وربما هذا الموقف الجذري من بن صهيون وآرائه المتطرفة تجاه العرب جعلت العديد من المحللين يتوقعون أن ابنه بنيامين نتنياهو كان غير قادر على التوقيع على اتفاق سلام شامل مع جيران إسرائيل العرب ما دام والده كان لا يزال على قيد الحياة.

ورغم أن نتنياهو نفسه نفى هذه الفرضية بشكل قاطع واصفًا إياها بأنها "هراء"، بحسب ما نقلته صحيفة هيرالد، فإن مواقفه وسياساته على الأرض، ولا سيما في غزة، تعكس تبنيًا واضحًا للنهج المتشدد ذاته الذي اشتهر به والده.

بن صهيون كان من المؤيدين المتحمسين لفكرة ترحيل السكان العرب من فلسطين (الفرنسية)

ولكن يجب أن نعود إلى جابتونسكي لنرى كيف أقنع الثلاثي الجد والأب والحفيد من عائلة نتنياهو بهذه الأفكار التي كانت تعكس سخطه الواضح على الحركة الصهيونية التقليدية وسعيها لخداع العرب في فلسطين عبر المفاوضات وإظهار نواياها كأنها بريئة من أي نية للاستيلاء على الأرض، وضرورة التعامل بصورة جذرية عنيفة.

فقد جاءت مقالاته وأفكاره لتوضح جوهر الصراع، وكشف الطبيعة الاستعمارية الاستيطانية للحركة الصهيونية، إذ كتب "يمكننا أن نقول للعرب ما نشاء عن براءة أهدافنا، ونتفنن في استخدام العبارات المنمقة، ونغلفها بالكلمات المعسولة لجعلها مستساغة، لكنهم يدركون تماما ما نريده، كما ندرك نحن ما لا يريدونه. إنهم يشعرون تجاه فلسطين بالحب الغريزي نفسه الذي شعر به الأزتيك القدامى تجاه المكسيك القديمة".

إعلان

كان جابوتنسكي يرى أن الحركة الصهيونية تهدُر وقتها في المفاوضات، بدلا من التركيز على بناء قوة عسكرية رادعة تحمي المستوطنين. فكتب "كل الشعوب الأصلية في العالم تقاوم المستعمرين طالما بقي لديهم أدنى أمل في التخلص منهم".

وأضاف "لا يهم كيف نصوغ أهدافنا الاستعمارية، سواء كانت بعبارات هرتزل أو السير هربرت صموئيل، فالاستعمار يحمل تفسيره الوحيد الممكن، الواضح كضوء النهار، لكل يهودي بسيط ولكل عربي بسيط. فالمستعمرات لا يمكن أن يكون لها إلا هدف واحد، ولا يمكن لعرب فلسطين أن يقبلوا بهذا الهدف".

وبناء على ذلك شدد جابوتنسكي على أن نجاح المشروع الصهيوني واستقراره لن يتحقق إلا عبر إنشاء "قوة مستقلة عن السكان الأصليين، خلف جدار حديدي لا يستطيعون اختراقه. هذه هي سياستنا العربية".

وأمام هذه الأيديولوجية آمن بن صهيون نتنياهو إيمانا مطلقا بما آمن به أستاذه جابوتنسكي حول الصراع مع العرب، إذ كان جابوتنسكي يرى أن موقف العرب متصلب للغاية، ولا يمكن تسويته أو التوصل إلى اتفاق معهم، خلافا لما اعتقده التيار الصهيوني السائد، ومن ثم لم يعتمد التيار التصحيحي الدبلوماسية إلا بالقدر الذي يسمح بتمرير عمليات التهجير والقتل بحق الفلسطينيين.

وقد صرّح جابوتنسكي بأن "90% من الصهيونية تقوم على أعمال الاستيطان العنيفة من قتل وتهجير، في حين أن 10% فقط منها تتعلق بالسياسة".

جابوتنسكي: نجاح المشروع الصهيوني لن يتحقق إلا عبر إنشاء "قوة مستقلة عن السكان الأصليين خلف جدار حديدي (غيتي)

وفي مقال نشرته صحيفة هآرتس العبرية عام 2018 بعنوان "كيف تبنى والد نتنياهو وجهة النظر القائلة بأن العرب همج؟" استعرض فيه الكاتب المسيرة الفكرية المتطرفة لبن صهيون تجاه العرب والفلسطينيين، إذ أشار المقال إلى أن بن صهيون استلهم هذه الأفكار من المؤرخ جوزيف كلاوسنر أستاذ الأدب العبري والمحرر الرئيسي للموسوعة العبرية، الذي كان مرشده الفكري.

إعلان

وقد اعتنق بن صهيون بشكل كامل وجهة نظر كلاوسنر التي تصف العرب بأنهم "أمة من نصف الهمج" يجب التعامل معهم بالقوة والحسم، بحسب المقال الذي أشار إلى أن بن صهيون أعاد تبنّي هذه الأوصاف والسياسات وحولها إلى ركيزة أساسية لفكره، مما رسخ مواقفه العدائية تجاه العرب بشكل أكبر.

تتجلى هذه النظرة المتطرفة في مقالات بن صهيون التي نشرها بصحيفة ها ياردن التصحيحية التي كان يحررها حتى وفاة والده عام 1935، ففي مقال بتاريخ 6 أغسطس/آب 1934 وصف بن صهيون العرب بأنهم "همج شبه متوحشين"، قائلًا "كما كان همج جزيرة العرب يطاردون اللاجئين اليهود من إسبانيا على منحدرات الجزائر في القرن الخامس عشر، فهم الآن يطاردون اللاجئين من جحيم الشتات عند بوابات الوطن".

وفي مقال آخر بعنوان "الاستيطان الريفي والاستيطان الحضري" نُشر في ديسمبر/كانون الأول 1934، قارن بن صهيون أرض إسرائيل بأميركا، وشبّه اليهود بمواطني الولايات المتحدة، بينما قارن العرب بالهنود الحمر، وقال في مقاله "إن غزو الأرض هو أحد أول وأهم المشاريع في كل استعمار".

وأضاف بنزعة تطهير عرقي واضحة "يجب أن نعلم أن الدولة ليست مجرد مفهوم حسابي لعدد السكان، بل مفهوم جغرافي كذلك، ذلك أن أبناء العِرق الأنغلو-ساكسوني، الذي كان في صراع دائم مع الهنود الحمر، لم يكتفوا بتأسيس المدن الكبرى مثل نيويورك وسان فرانسيسكو على شواطئ المحيطين اللذين يحدان الولايات المتحدة. بل سعوا أيضا لضمان الطريق بين هاتين المدينتين.. لو تركَ غُزاة أميركا الأراضي في يد الهنود، لكان هناك الآن في أحسن الأحوال بعض المدن الأوروبية في الولايات المتحدة وكان البلد كله سيأهله ملايين من الهنود الحمر!".

يظهر تأثير بن صهيون نتنياهو في ابنه رئيس الوزراء الإسرائيلي اليميني بنيامين نتنياهو واضحا لا ريبة فيه، ففي 16 ديسمبر/كانون الأول 2023، وبعد ما يقارب 17 عامًا من توليه رئاسة الحكومة بشكل متقطع، سيقف بنيامين أمام الشعب الإسرائيلي متفاخرا بمواقفه المتشددة تجاه القضية الفلسطينية قائلا بكل وضوح "كنت أنا العقبة أمام إقامة دولة فلسطينية"، بينما كان اليسار الإسرائيلي يسعى، بشكل أو بآخر، إلى تقديم تنازلات قد تؤدي إلى حل سياسي وإنهاء النزاع".

إعلان

ذلك هو بن صهيون نتنياهو والد رئيس الوزراء الحالي الذي يدعو علانية إلى تطهير غزة وتهجير أهلها، والتغيير العميق في الشرق الأوسط، لا يقول صراحة إنه يؤمن بمبادئ الحركة الصهيونية التصحيحية التي آمن بها والده من قبل، ولكنه على أرض الواقع يسعى لتحقيق هذه الأحلام!

مقالات مشابهة

  • «عُدْ إلى بيتكَ يا ذا الطلْعة البهيـَّة» أحدوثة إيزه وأوزير.. إصدار جديد بهيئة الكتاب
  • «عُدْ إلى بيتكَ يا ذا الطلْعة البهيـَّة» أحدوثة إيزه وأوزير.. إصدار جديد بهيئة الكتاب
  • بن صهيون.. والد نتنياهو الذي غرس فيه كره العرب
  • لن تستند للجزء الأول.. تفاصيل جديدة عن لعبة "Death Stranding 2"
  • الثقافة تطلق النسخة الثانية من «ديوان الشعر» ضمن الفعاليات الرمضانية لهيئة الكتاب
  • الثقافة تطلق ديوان الشعر ضمن الفعاليات الرمضانية لهيئة الكتاب
  • متاجر بلايستيشن وإكسبوكس تعيد أموال اللاعبين وتعويضات إضافية من NetEase
  • بمناسبة يوم العلم.. “قيصرية الكتاب” تستضيف أمسية قصائد وطنية
  • «الرجبي» يطلق «السوبر الإماراتي المصري»
  • عظة اجتماع درس الكتاب لالأنبا غبريال أسقف بني سويف