النظرية النقدية الإلكترونية.. معطيات وتساؤلات
تاريخ النشر: 8th, August 2023 GMT
نقول في أمثلتنا العربية الشعبية المشهورة: فسَّر الماءَ بعد الجهدِ بالماءِ.
أو نقول في اجتماعاتنا المتكررة التي لا تؤتي ثمارها: لا تضع العربة أمام الحصان.
لا أعلم ما الذي أتى بهذين المثلين السابقين وأنا أضع عنوان هذا المقال.
إذ يفترضان على سبيل الإيضاح أن الفنون الأدبية الورقيَّة (كالسرد بنوعيه الرواية والقصة) وقبلهما (الشعر)، وأعلاها (المسرح) في استقرارهما التاريخي والحضاري لم تعد بحاجة إلى التشكيك في قواعدها التي أرستها النظرية الأدبية بشأن النوع الأدبي، والدراسة النقدية للأدب.
فإذا انتقلنا إلى عنوان المقالة (النظرية النقدية الإلكترونية) واستبعدنا المثلين الشعبيين السابقين، فينبغي توضيح أسباب هذا العنوان. ومرد ذلك، يرجع إلى أسباب خاصة وأخرى عامة. وسأكتفي بذكر الأسباب العامة؛ إن استخدامنا اليومي للكمبيوتر وشبكة الإنترنت والتواصل الافتراضي عبر وسائل التواصل الاجتماعي مع العالم أفرز مصنفات كتابية جديدة مناسبة للتكنولوجيا، فظهر ما يُسمى بالأدب الإلكتروني، فصرنا نقرأ مثلا عن القصيدة التفاعلية، والمسرحية التفاعلية، والرواية التفاعلية. وسعى العديد من المنظرّين الباحثين العرب أمثال الدكتور إدريس بلمليح في كتابه «القراءة التفاعلية: دراسات لنصوص شعرية حديثة»، والدكتور حسام الخطيب في كتابه «الأدب والتكنولوجيا وجسر النص المتفرع»، والدكتور سعيد يقطين في كتابه «النص المترابط ومستقبل الثقافة العربية نحو كتابة عربية رقمية»، والدكتورة فاطمة البريكي في كتبها «مدخل إلى الأدب التفاعلي»، و«الكتابة والتكنولوجيا»، و«فضاءات الإبداع الأدبي في عصر التكنولوجيا الرقمية»، والدكتورة زهور كرّام في كتابها: «الأدب الرقمي: أسئلة ثقافية وتأملات مفاهيمية»، جاهدين إلى تبيان أهم الأفكار التي يمكن تحقيقها والرؤى المستقبلية البعيدة لتطوير الكتابة الإبداعية إذا ما التفت الكتّاب العرب (مبدعين ونقادا) إلى استخدام الثروة الهائلة للتقنية ووسائطها المتعددة.
ولا يخفى على أحد أيضا أن تأثير التقنية الواسع قد لامس حياتنا وتفاصيلها الدقيقة؛ فالمحاضن التقليدية لرعاية الأدب وتدارس أنواعه وتناولها بالنقد والتحليل أو التفسير والتأويل، سواء بالمناهج التقليدية أو الحداثية، في ظل العالم التقني المتطور باتجاه التفاعلية والذكاء الاصطناعي أخذت تفقد ميزاتها، لأسباب كثيرة يطول تعدادها، لكن أظهرها لدينا يتمثّل في تراجع دور النقد الجّاد وضمور وظيفة الناقد وفشل المشاريع الثقافية الجماعية أو الثنائية منذ ستينيات القرن الماضي تحت ضغوط الواقعين السياسي والاجتماعي العربي. ولكن، حول اتصال جزئية التكنولوجيا وتأثير الوسائطيات إلى جانب ما سبق، فيمكن العودة إلى كتاب «نظام التفاهة» لمؤلفه (ألان دونو) للوقوف على بعض تلك الأسباب.
ففي ظل التطور التقني الهائل، كان ظهور ما يُصطلح عليه بالأدب التكنولوجي، أو الرقمي، مدعاة للتساؤل: هل هناك نظرية نقدية أدبية إلكترونية؟ وإذا كانت هذه النظرية موجودة، فما أسسها الفلسفية وقضاياها المعرفية المشتغلة بها؟ والسؤال الأهم من وجهة نظري: هل نستطيع اليوم التحدث عن نظرية نقدية أدبية إلكترونية منطلقة من وجود تراكم إبداعي زاخر، أو ممارسة إبداعية إلكترونية متطوّرة؟ مؤلفا (نظرية الأدب) حول أهمية وجود التراكم المساند لنشأة النظرية والإبداع يكتبان التالي: «من الواضح أن النظرية الأدبية تستحيل إلا إذا كان لها أساس من دراسة الأعمال الأدبية، وكذلك الموازين، والتصنيفات والخطط لا يُمكن التوصل إليها من فراغ». فهل نسير على الطريق الصحيح؟
يناقش الشاعر الفلسطيني علي البتيري في مقالته (النقد الأدبي والأدب الإلكتروني) ما يجري نشره على الفيسبوك من نتاج يصفه بالغث المتزايد والقليل السُمن؛ حيث يُنشر هذا النتاج الغزير -كما يقول- دون أدنى تقويم له، ودون تحديد لصلاحية نشره من منظور الجودة أو عدمها. ويرى الشاعر أن أخطر ما في الأدب الإلكتروني، أنه يطرح نفسه من تلقاء نفسه دون ضوابط نقدية ودون مواصفات ومقاييس إبداعية كبديل عن الأدب الورقي المطبوع.
يتيح لي الطرح السابق الاستنتاج بوجود كم واسع من النتاج الأدبي الإلكتروني «العابث والمنتشر عبر وسائل الإعلام الإلكترونية» بتعبير البتيري. فإذا سلّمنا بذلك الطرح، أليس الحاصل اليوم نتيجة منطقية للانتشار الواسع للإنترنت ولنظام التفاهة؟ وبغض النظر عن ذلك، ألا يشير الانتشار الواسع لأدبيات ضحلة إلى وجود تحوّل كبير في توجيه النظرية الأدبية التقليدية إلى أخرى إلكترونية جديدة، انطلاقا من إعطاء المتلقي/ المستخدم للنت الأولوية بعد تراجع مفهوم النصّ التقليدي، ومفهوم المؤلف إلى الوراء؟ بل إن النظرية تصدر في الأساس عن بعدين فلسفي ومعرفي متلازمين في النظر إلى الكون والعالم والإله. فلماذا لا يؤدي ذلك إلى وجود تغير في الأدب نفسه؟ وقد أشار سعيد يقطين إلى هذا الأمر في كتابه آنف الذكر بشأن ظهور أجناس أدبية جديدة مستفيدة من توظيف الكمبيوتر كالكتابة التفاعلية.
وفي استطلاع أجرته نوّارة لحرش بعنوان (النقد الأدبي في الفضاء الرقمي.. أية خصوصية) متسائلة هذا السؤال المباشر: «بدأ الحديث منذ مدة عما يُسمى بالنقد الأدبي الإلكتروني. فهل يمكن القول إننا سنشهد ظاهرة أو واقعا نقديا إلكترونيا أو رقميا كما شهدنا ظاهرة الأدب الرقمي؟ وهل يمكن القول إن الأدب الإلكتروني سيكون له نقده الإلكتروني الّذي سيرافقه ويُخضعه للأدوات والمساءلات والمقاربات النقدية الرقمية أو الإلكترونية؟».
شدّني في ذلك الاستطلاع ما ذهب إليه الكاتب والناقد عبدالحفيظ بن جلولي عندما وضع يده على لُّب القضية كاتبا: «على العموم أن نقول بالنقد الأدبي الإلكتروني -لكن ليس على مصراعي القول- لأنّ هناك ما يمنع المفهوم من انطباقه الواسع على الظاهرة [...] فما صدر في حينه إلكترونيا فهو نقد أدبي إلكتروني، حتى إذا تحوّل إلى الورقي صار ورقيا».
وفي تقديري أن ما ذهب إليه الناقد أحد الإشكالات الواضحة، فليس كُّل ما جرى كتابته من نصوص «شبكية ترابطية» يمكن تحويله إلى نص ورقي! ولماذا التحوّل إلى الورقية؟ وإذا استطاع القائمون تحويله، ألا تنتفي الصفة التفاعلية عنه في المطلق وصار أدبا ورقيا محضا؟ ونظرًا إلى أن علاقة الأدب بالتكنولوجيا قد وسعت من مساحة المستخدمين للشبكة، فإن الهوية الجديدة كما يكتب جلولي «إن ما يُثبت مفهوميته الهويّاتية هو المقروئية، فإن اتسعت مقروئيته الإلكترونية، تثبتت تلك الهوية الجديدة ويصبح النقد الأدبي الجديد إلكترونيا بامتياز. وحسب العناصر والمعطيات المتجدّدة فإنّ الاتجاه ليس فقط في النقد بل في الأدب وحقول معرفية كثيرة».
أجد أن استراتيجيات القراءة و«المقروئية» والوسائطيات الآن، أصبحت مع المنعطف التكنولوجي الجديد تؤكد أن الأدب ظاهرة ثقافية وتواصلية معًا، بينما يظل النقد اشتغالا أكاديميا صَرفا. وإنّ مَارسَ وجوده النقاد عبر الدراسات الأكاديمية فإنّ تأثيره يظل محدودا على عكس الأدب والفنون. وفي هذا السياق النقدي الأكاديمي الورقي المُنجز في كتابة الرسائل العلمية وتحضير الأطروحات، ظهر سريعا من يسمون (بالإنترنتيون العرب) بتعبير الدكتور حسن مدن، وبالنقاد (التكنوأدبيون) بتعبير الدكتورة فاطمة البريكي؛ لأنّ كل ما يحدث من حولنا في العالم يَدفعنا دفعًا قسريا لا هوادة فيه إلى قبوله والإذعان له، كحال موجات البحر قوية التدافع، فهل نكتفي بالصراخ كما يفعل بعضهم، أو البكاء على الأطلال والتراث كما ينادي بعضهم الآخر؟ أم بات على المثقفين والمبدعين العرب والمشتغلين بالنقد الإسراع بالبحث عن صيغة إلكترونية تستخلص القوانين الفنية الجديدة من نصوص وأعمال إبداعية إلكترونية متحققة. إن جُّل الأسئلة والقراءات التي تناولت الأدب وعلاقته بالتكنولوجيا تبحث منطلقة من أعمال محدودة جدا لا يَكاد يعرفها إلا المهتمون بعلاقة التكنولوجيا والوسائط بالأدب، ولذلك كانت الأسئلة تنطلق من معطيات خارج عالمنا العربي، باحثة بلهاث كبير حول انتسابنا إلى عالم رقمي بمعزل عن البحث في أسس نظرية فلسفية ومعرفية، قوامها الإنترنت والبرمجيات والعالم الجديد حتى لا نظل ندور في دائرة مغلقة تبدأ بخطابات مكررة حول جلد الذات وتراجع المشاريع، لأن هناك من وضع العربة أمام الحصان وظل واقفا يبحث عن النتيجة.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: فی کتابه
إقرأ أيضاً:
معرض الكتاب .. نقاد يناقشون تأثير مي زيادة في المشهد الأدبي
شهدت فعاليات محور "تأثيرات مصرية.. مي زيادة.. الإنتاج الأدبي للمرأة العربية" في الصالون الثقافي بلازا 2 بمعرض القاهرة الدولي للكتاب في دورته الـ56، والذي أدارته الإعلامية فيولا بدوي.
استهلت د. إيمان السيد، الناقدة والباحثة في الأدب، الحديث بتأكيد أن مي زيادة تُعد من رائدات الأدب العربي، مشيرة إلى أنها ستقدم قراءة بسيطة للمحاضرات التي ألقتها مي زيادة في الجامعة المصرية تحت عنوان "مي زيادة وغاية الحياة"، وهو أحد محاضراتها المؤسِسة في الجامعة المصرية. لافتة إلى أنها واحدة من أكثر الشخصيات التي دافعت عن حقوق المرأة العربية في كتاباتها، مقالاتها، وصالونها الأدبي.
وأضافت السيد أن مي زيادة لم تتوقف عن تقديم الدعم للمرأة العربية من خلال تعاونها مع الجمعيات الداعمة للمرأة، مثل تعاونها مع هدى شعراوي، على سبيل المثال لا الحصر.
وأشارت إلى أن مي زيادة، من خلال دورها في جمعية "مصر الفتاة"، استطاعت أن تقدم الكثير للمرأة العربية وتحافظ على حقوقها الثقافية وتحث على الحياة الأفضل.
من جانبه، قال الناقد الأدبي شعبان يوسف إن مي زيادة، منذ أن بدأت نشر كلماتها في مستهل القرن العشرين، كانت جزءًا من حركة ثقافية وأدبية في مصر، حيث حضرت جاليات متعددة وكان لها دور بارز في هذا الحراك الثقافي. وأضاف أن مي زيادة كانت كاتبة استثنائية في تلك الفترة، وفي القرن العشرين بشكل عام.
وأضاف يوسف أن كتابات مي زيادة كانت فارقة، سواء في الكتابة النثرية أو الصحفية، كما يتجلى ذلك في مقالاتها في مجلة "الزهور". وذكر أن عبقريتها الأدبية كانت واضحة في صالونها الأدبي الذي كان واحدًا من أهم الصالونات الأدبية في القرن العشرين، حيث جمع كبار المفكرين والمثقفين مثل شبلي شميل وأحمد لطفي السيد وغيرهم من رموز تلك الفترة.
وأشار إلى أن مي زيادة، بسبب كتابتها النسوية، تعرضت للكثير من الحقد والكراهية والاستبعاد مما لم يتعرض له أي رجل في نفس الفترة. كما ذكر أنه عندما دُعي إلى مؤتمر خاص بالمسرح، بحث عن سيدات كتبن المسرح قبل عام 1950 فلم يجد سوى صوفي عبد الله، التي كانت الوحيدة التي قدمت نصوصًا مسرحية في تلك الفترة، مقابل الهيمنة الذكورية في الكتابة المسرحية.
وأوضح الكاتب عزمي عبد الوهاب، مدير تحرير مؤسسة الأهرام، أن مي زيادة عاشت 55 عامًا مليئة بالأزمات الوجودية، وهو ما تناولته في مقالاتها. وقال إن مي زيادة كانت دائمًا تتساءل عن هويتها؛ فهي وُلدت في لبنان لأب سوري وأم لبنانية، وعاشت في مصر لفترات طويلة، مما خلق لديها شعورًا بالاغتراب. وأضاف عبد الوهاب أن مي زيادة استخدمت اسم "إيزيس كوريا" في بداياتها، وهو اسم يعبر عن هويتها المتعددة، لكن مصر قدمتها للعالم باسمها الحقيقي "مي زيادة"، واحتفت بها كإحدى رائدات الأدب، وخاصة في مجال دعم حقوق المرأة.
وأشار عبد الوهاب إلى أنه رغم التفاف الكثير من الشخصيات حول مي زيادة، إلا أن جنازتها كانت قد شهدت حضورًا ضعيفًا، حيث مشى في جنازتها ثلاثة أشخاص فقط، منهم أحمد لطفي السيد. ولفت عبد الوهاب إلى أن مي زيادة، رغم ما يقال عن كتابتها الرومانسية، كانت تكتب عن قضايا مهمة مثل البوليس النسوي، أزمة التعليم في مصر، ونشيد وطني لمصر في عام 1929. وأكد أنها قدمت نهضة نسوية توازي النهضة التي قدمها الرجل في ذلك العصر، وكان إيمانها بالحرية يجعلها ترفض توقيع عقد مع جريدة "الأهرام"، حيث كانت تكتب بشكل حر دون أي قيود.
وفي ختام حديثه، أوضح عبد الوهاب أن مي زيادة تعرضت لأزمة وجودية شديدة بعد تحويلها إلى مستشفى الأمراض النفسية "العصفورة"، وحينها تم البحث عن كاتبة بديلة لمقالاتها، وتم اختيار "بنت الشاطئ"، وهو اختيار دال على التحولات في المجتمع المصري من ليبرالي إلى توجه إسلامي، مما شكل بداية أفول عصر مي زيادة.