- الألف الثالث قبل الميلاد تاريخ ظهور المدن الأولى في الحضارات القديمة التي قامت في المشرق العربي، من حضارة وادي الرافدين في الشمال، إلى عُمان في الجنوب

- بناء صورة أي حضارة يجب أن يبتدئ بمقومات وجودها، ثم توظيف عمليات التنقيب الأثري في مواقعها لتكوين معالم صورتها الشاملة لوضعها في مكانتها بين الحضارات الإنسانية

- المدينة عموما المرحلة الأكثر نضوجا في تطور الحضارة بعد عدة آلاف من السنين التي مرت منذ نشوء القرى الأولى وتوصل الإنسان إلى الاستقرار والزراعة وتطوير حضارته المبكرة في مختلف المجالات

تتجسد الحضارة العُمانية الممتدة في كونها حضارة شمولية؛ نظرا لارتباطها الوثيق بالحضارات الإنسانية القديمة.

فهي تشكل نموذجا تاريخيا يمتد إلى آلاف السنين قبل الميلاد، وما نشهده اليوم من اكتشافات متتالية هو خير مثال على ذلك. حيث إن التنقيب القائم على الأسس العلمية والدراسات العميقة أضاف عمقا لتاريخ عُمان وأبجدياته الأولى.

في هذا السياق، يتحدث البروفيسور نائل حنون، الباحث بمركز الخليل بن أحمد الفراهيدي للدراسات اللغوية والإنسانية بجامعة نزوى، برؤية عملية ذات وقع تفصيلي على إظهار أبرز المشاريع التاريخية والعلمية، ويشير قائلا: «ندرج مشاريع البحوث العلمية التي نعمل عليها في الوقت الحاضر ضمن ثلاثة مسارات، وهي: الدراسات والأوراق البحثية، والكتب العلمية، والمشروعات العلمية الكبيرة. ففي المسار الأول، هناك خمسة بحوث منشورة أو مقبولة للنشر، ومنها بحث عن انتقال الأفلاج إلى وادي الفرات في سوريا القديمة (منطقة وادي الخابور الأسفل)، وبحث عن العلاقات العُمانية - البحرينية في العصور القديمة فضلا عن البحث الخاص بمدينة إزكي، ويتواصل العمل حاليا بالاشتراك مع باحثين من جامعة نزوى على عدة موضوعات أخرى. وفي المسار الثاني، صدر كتابان، يحمل أحدهما عنوان (الاستكشاف الأثري من وادي الفرات إلى عُمان)، ويجري العمل على مشاريع كتب أخرى».

ويضيف: «في سياق الكشف عن المدن القديمة في عُمان، مثل (إزكي)، ومكانتها وتاريخها ودورها الحضاري والعلمي، لابد من التذكير بأن المدينة تمثل المرحلة الأكثر نضوجا في تطور الحضارة بعد عدة آلاف من السنين التي مرت منذ نشوء القرى الأولى، وتوصل الإنسان إلى الاستقرار والزراعة وتطوير حضارته المبكرة في مختلف المجالات. فالمدينة هي البوتقة التي تتفاعل فيها كل مقومات الحضارة ونتاجها المادي والفكري، ولذلك يختلف تاريخ نشوء المدن الأولى من حضارة إلى أخرى بحسب درجة التطور التي بلغتها كل حضارة. اقترنت هذه الحقائق العلمية مع ما تميزت به حضارة وادي الرافدين القديمة من ابتكار الكتابة الأولى في تاريخ البشرية وتوظيفها للتوثيق بشكل لم تصل إليه حضارة قديمة».

ويوضح: «لا يُستغرب أن تلك الحضارة استمرت في توثيق البلدان المعاصرة لها منذ الابتكار الأول للكتابة ولمدة تزيد على ثلاثة آلاف عام. لم يقتصر هذا التوثيق على موطن الحضارة نفسه، بل شمل العالم القديم الذي عرفته تلك الحضارة وتفاعلت معه بشكل أو بآخر. وهذا يعني أن نصوص حضارة وادي الرافدين، المدونة بالخط المسماري على ألواح الطين والحجر، وباللغتين السومرية والأكادية، وثقت البلدان القديمة في منطقة واسعة تمتد، بالمصطلحات الحديثة، من أفغانستان شرقا إلى مصر وقبرص وكريت غربا، ومن بلاد الأناضول شمالا إلى عُمان جنوبا. ويجب التوضيح هنا أن المقصود بمصطلح (البلدان) (Toponyms) هو ما يدل عليه هذا المصطلح في الكتابات التاريخية العربية من الدلالة على المدن والأقطار والأقوام والقبائل والمعالم الطبيعية».

ويبين: «بسبب هذا المستوى من التوثيق، أصبح من الضروري دراسة حضارة وادي الرافدين ولغاتها ونصوصها القديمة في جميع البلدان المذكورة هنا ليكون علم الآثار مكتملا فيها. فمنذ مرحلة مبكرة من عملنا في مشروع (موسوعة البلدان القديمة)، قبل ما يزيد على ثلاثة عقود، توصلنا إلى أسماء نحو 2500 مدينة قديمة وجدت خلال عصور الحضارة القديمة في المنطقة التي شملها التوثيق في النصوص المسمارية. وتمكنا من تحديد مواقع معظم هذه المدن، وما بقي مجهول الموقع منها يزيد قليلا على ثلاثمائة مدينة يمكن أن تكون في أي من البلدان التي شملها التوثيق القديم. والمقصود بالتوثيق هنا هو تضمن النصوص معلومات تخص مواقع البلدان وبيئاتها والطرق إليها وعلاقاتها مع حضارة وادي الرافدين، ومع بعضها، فضلا عن الدول التي كانت تتبعها والأقوام القاطنة فيها».

ويؤكد أيضا: «لم يكن ما أوصلنا إلى مدن عُمان القديمة عمليات التنقيب عن الآثار، وإنما مواردها في النصوص المسمارية، كما هو الحال فيما يخص الاسم القديم للبلاد (مجان) (Magan) وقد استُعمل هذا الاسم لعُمان في الألف الثالث وجزء من الألف الثاني قبل الميلاد، وتغير الاسم في الألف الأول قبل الميلاد. وتقدم لنا النصوص المسمارية معلومة مهمة جدا عن اسم مَجان، ذلك أنه لم يكن اسما للبلاد فقط وإنما اسما للمدينة التي كانت عاصمة البلاد. وقد أدى عدم معرفة هذه المعلومة، بسبب عدم دراسة النصوص المسمارية والاستعانة بما تقدمه، إلى عدم البحث عن موقع هذه المدينة أصلا وعدم التوصل إلى دلالتها على وجود مدن في عُمان القديمة خلال الألف الثالث قبل الميلاد، وهو زمن نشوء المدن الأولى. المدينة الثانية التي قامت في عُمان قديما يعود تاريخها أيضا إلى الألف الثالث قبل الميلاد، وقد توصلنا إلى اسمها من خلال النصوص المسمارية التي تعود إلى ذلك الزمن، واسم هذه المدينة هو (جُبِن) (Gubin) ولابد من الإشارة إلى أن التوثيق في النصوص المسمارية تميز بذكر تفاصيل مهمة جدا تساعد كثيرا علماء الآثار في التوصل إلى تحقيق الاكتشافات المهمة. ولذلك، عندما يعمل هؤلاء على غير هدى هذه النصوص، فإنهم يكونون بعيدين عن رسم الصورة الكاملة والشاملة للحضارة القديمة. فعلى سبيل المثال، يدل نص مسماري ورد فيه اسم مدينة جُبِن على أن أخشابا متميزة جُلبت منها إلى وادي الرافدين. وهذه الأخشاب، مثل العلعلان، لا يمكن أن تنمو في عُمان سوى على سلسلة جبال الحجر الشرقي (الجبل الأخضر أو جبل شمس)، وبهذا أمكن تحديد المنطقة التي كانت فيها هذه المدينة».

وقال: «إن مدينة إزكي، ذُكرت بوضوح باسمها الحالي نفسه في نصوص الملك الآشوري آشور- بانيبال في القرن السابع قبل الميلاد، وتحديدا في عام 640 قبل الميلاد. ولم يقتصر ذكر إزكي على اسمها فقط، بل وصفت بأنها (مدينة ملوكية) (وباللغة الأكادية: آل شَرّوتِ)، أي أنها كانت عاصمة ملكية. إن تحديد موقع المدينة القديمة بالنسبة إلى المدينة الحالية أمر ذو أهمية كبيرة، ويمكن أن يمهد للكشف عن معالمها. هذه المدينة لا يمكن أن تشابه المستوطنات المتفرقة التي تم التنقيب فيها حتى الآن، فكونها عاصمة ملكية يعني تطورها عمرانيا واحتواؤها على قصر ملكي وقصور أخرى، وكذلك منشآت دينية ومدنية مهمة وأضرحة ملكية فضلا عن الأحياء السكنية والأسوار والحصون».

في سياق البحث والتنقيب عن التاريخ العُماني، وحول ما إذا كان هناك ضعف في هذا الجانب وما يجب الاشتغال عليه للنهوض بالإرث التاريخي، يقول: «إن بناء صورة أي حضارة يجب أن يبدأ بمقومات وجودها، ثم توظيف عمليات التنقيب الأثري في مواقعها لتكوين معالم صورتها الشاملة ووضعها في مكانتها بين الحضارات الإنسانية التي مهدت للبشرية حاضرها وحضارتها المعاصرة. ويمكن تحديد منهج العمل الأثري في سلطنة عُمان بالاقتران مع المعلومات المستمدة من الدليل الكتابي بهدف استجلاء معالم حضارة البلاد القديمة».

ويشير أيضا إلى «أنه لابد من تكوين الصورة الحقيقية لحضارة عُمان القديمة وثروتها الأثرية، ووضعها في مكانها الصحيح وطنيا وعالميا، حتى يتمكن الجميع من استيعاب الحقائق الناتجة والتعامل معها في سياق الدراسات الثقافية والحضارية. كما ينبغي إدخال نتائج كل عملية تنقيب أثري في أي موقع في سلطنة عُمان ضمن خارطة جامعة فعلية وافتراضية، رسما ومعلوماتيا، لاستحداث دور أكثر فعالية للنهوض بالإرث التاريخي الوطني استكمالا لما تم حتى الآن».

ويقترب «حنون» من طبيعة التاريخ العُماني القديم وتأثير إنسان هذه الأرض على العالم الخارجي، ويؤكد: «حتى نعرف عمق الدور العُماني في مرحلة نشوء الحضارات القديمة، وفي رسم خطى البشرية في موكب الحضارة، نعود إلى السؤال الأساسي عما إذا كانت هناك حضارة عُمانية قديمة بمقوماتها وسماتها الخاصة، أم هي مسألة مواقع أثرية ومستوطنات متفرقة تجري في أفقها عمليات التنقيب الأثري الحالية؟ طبعا، بإمكان أي شخص أن يقول ببساطة: إنه كانت هناك حضارة عريقة في عُمان القديمة، ولكن حين يسأل عن الدليل العلمي، لا يجد ما يجيب به سوى وجود الآثار. ولكن آثار الإنسان القديم ومجتمعاته توجد سواء وجدت حضارة أم لم توجد. نقصد بالحضارة هنا ما يدل عليه مصطلح (Civilization) وليس مصطلح (Culture). والمصطلح الأخير في علم الآثار يعني (الثقافة)، ويدل على مخلفات الإنسان القديم سواء كان متحضرا (Civilized) أم غير متحضر، أي في ظل وجود حضارة أو في عدم وجودها. ثم إن من يقدم تلك الإجابة يبدأ بالبحث عن دليل من خلال محاولة إثبات وجود «كتابة» و«أبجدية»، حتى في غياب الشاهد على وجودها. وما هذا بالمنهج العلمي، فالكتابة ليست هي الحضارة، وإنما هي إحدى نتاجاتها، ويمكن أن تكون هناك حضارة من غير وجود كتابة فيها».

يوضح «حنون» أن المنهج العلمي يقتضي عرض المعايير العلمية لتعريف الحضارة قبل القول بوجودها. ويتفق علماء الحضارات على أن بلوغ أي مجتمع عتبة الحضارة يعتمد على تفعيل مثلث من ثلاثة عوامل تكمن عند قاعدة كل واحدة من الخصائص الثقافية، وهذه العوامل الثلاثة هي: الفرصة، والحاجة، والقدرة على الابتكار. وتأتي الإضافات الأساسية على مجموع ما يتكون منه تراث كل مجتمع بشري من خلال الاكتشافات العرضية أو المقصودة. وبهذا، لا يمكن حصر تقييم وجود الحضارة بمعيار واحد أو بضعة معايير، بل بمجموعة معايير قد لا يتوافر جميعها في حضارة معينة وإنما بتوافر أغلبها. وقد سبق أن حددنا هذه المعايير سابقا (في كتابنا دراسات في علم الآثار واللغات القديمة، ج1، هيئة الموسوعة العربية، دمشق، 2011م) بتسعة معايير، وهي: نشوء المدن، وابتكار الكتابة، وتصنيع البرونز، وتشييد الصروح الكبيرة، ووجود تكوين اجتماعي طبقي، وتقسيم العمل والتخصص الحرفي، وتطور التجارة والاتصالات البعيدة، وتطور النظام الحربي ووجود الجيش، وأخيرا التقدم المعرفي في مجالات العمارة، والرياضيات، والفلك والحسابات التقويمية.

ويؤكد «حنون» في هذا السياق: «في عُمان تحققت قديما ثمانية من هذه المعايير التسعة، وهذا في حد ذاته يكفي للقول بوجود (حضارة عُمان القديمة) ووضعها في مصاف الحضارات القديمة التي عرفت بدورها في تطور البشرية، لاسيما أن حضارة عُمان كانت على اتصال وتفاعل مع أهم وأكبر ثلاث حضارات قديمة، وهي حضارة وادي الرافدين، حضارة وادي النيل وحضارة وادي السند. علما أن هناك حضارات قديمة لم يتحقق فيها وجود مثل هذا العدد من المعايير. أما المعايير الثمانية التي وجدت في حضارة عُمان القديمة فهي: أولا: وجود المدن منذ عصور نشأة المدن الأولى، ونقصد ما ذكرناه عن مَجان وجُبِن (في الألف الثالث قبل الميلاد) وإزكي (في الألف الأول قبل الميلاد). ثانيا: كانت حضارة عُمان القديمة رائدة في تعدين النحاس وصناعة البرونز وإنتاج الأدوات البرونزية. ثالثا: عرفت عُمان قديما بتشييد الصروح المتمثلة في الأبراج، وكذلك المشاريع الكبرى المتطلبة لجهود جماعية مكثفة والمتمثلة بالأفلاج. رابعا: يدل تعدين النحاس وصناعة سبائكه (الكعكات) وإنتاج الأدوات وممارسة الصيد البحري والزراعة بنظام الواحات على اتباع التقسيم في العمل والتخصص الحرفي المتطور. خامسا: أثبتت أعمال التنقيب الأثري ووثائق حضارة وادي الرافدين وجود تجارة متطورة وبعيدة المدى لعُمان في العصور القديمة بلغت بالتأكيد مناطق وادي الرافدين وبلاد فارس ووادي السند وما وراءها. سادسا: واجهت عُمان في العصور القديمة غزوات من قوى كبرى، مثل الإمبراطورية الأكادية، واستطاعت أن تصدها، وما كان هذا ممكنا دون وجود نظام حربي وتكوين مسلح. سابعا: تدل فعاليات مختلفة، ثبت وجودها، على تقدم معرفي في عدة مجالات تقترن بالحضارة، ومن هذه الفعاليات التعدين وابتكار نظام الأفلاج وإدارته والإبحار، وجميع هذه الفعاليات ترتبط بالحرفية والتقويم والفلك والحسابات. ثامنا: وجود الملوك والنظام الملكي طوال ثلاثة آلاف عام يدل على وجود راسخ للحكم ونظام اجتماعي لا يمكن أن يتشكل دون نضوج التكوين الطبقي الاجتماعي».

ويعرّف «حنون» بالدور الذي يضطلع به مركز الخليل بن أحمد الفراهيدي بجامعة نزوى في تبني الدراسات والبحوث المتعلقة بالنبش في مكونات ثقافة وتاريخ عمان القديم والحديث، ويقول: «المركز هو المكان المناسب لانطلاق المشاريع العلمية والعمل بروح الفريق في ظل بيئة أكاديمية بناءة. ولقد استضاف المشاريع الخاصة بالدراسات الأثرية والحضارية وساعد على تطويرها، على الرغم من تعدد المهام التي يقوم بها المركز والتي تشمل إصدار المجلات العلمية وعقد الندوات والمؤتمرات والمحاضرات العلمية فضلا عن متابعة البحوث. وباتت الظروف مهيأة لاستحداث كرسي للدراسات الأثرية والحضارية لينهض بعبء العمل في هذا المجال. ولقد تفاعل مركز الخليل في جامعة نزوى خلال السنوات الأخيرة مع وزارة التراث والسياحة وجهودها المتواصلة في النهوض بالواقع الأثري، كما تمت المشاركة في عدد من الندوات والمؤتمرات العلمية الوطنية والدولية. وقد طرحت فكرة العمل المشترك مع مديرية التراث والسياحة في محافظة الداخلية لتفعيل عملية اكتشاف مواقع المدن القديمة تمهيدا للتنقيب والاستكشاف، وفي هذا الصدد يضع مركز الخليل نتائج العمل في المسارات الثلاثة آنفة الذكر في خدمة العمل الميداني والتخطيط لمشاريع مهمة على الأرض».

وفي ختام حديثه، يقول «حنون»: «إن علم الآثار له خصوصية متميزة ويتطلب توافر معارف وعلوم متعددة، ذلك أن هذا العلم يتعامل مع ما خلفه الماضي في غياب صانعيه. وهو نتاج مختلف نشاطات الإنسان والمجتمع القديم ومعارفه المتراكمة وإبداعاته، ومن العلوم الحديثة نسبيا ولا يزال يتطور. وهذا ما يحتم على العاملين فيه مواكبة تطور مقوماته واستيعاب عمقه وأبعاده العالمية لتطبيقه فيما بعد ببعده المحلي. والخشية أن يكون العمل فيه عكس هذا، فالإبداع والتقصي مطلوبان بشكل ملح في مجال علم الآثار من العمل الحقلي إلى الدراسة والبحث والتأليف. وهذا يعني الاعتماد على النفس وامتلاك المعلومات الأساسية واستلهام مكونات الذات الوطنية، وليس مجرد اتباع عمل البعثات الأجنبية».

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: عملیات التنقیب التنقیب الأثری المدن الأولى هذه المدینة علم الآثار القدیمة فی فی الألف ع مان فی فی ع مان لا یمکن یمکن أن فضلا عن فی هذا

إقرأ أيضاً:

نصوص قبطية حول اتحاد مملكتي نوباديا (مريس) والمقرة

ahmed.elyas@gmail.com

تمهيـد
تناوت المصادر الرومانية والأكسومية معلومات عن تحركات سكانية كبيرة تحت اسم القبائل النوبية منذ نهاية الألف الأخير قبل الميلاد من المناطق الواقعة غرب النيل الأبيض بسبب الجفاف الذي ضرب تلك المناطق
وأدت تلك التحركات السكانية في منتصف القرن الرابع الميلادي إلى انهيار مملكة مروي وإلى تغيرات سكانية واسعة في مناطق وسط وشمال السودان. أنظر (Hillson, p 147-38, Samia, p 82, Henderson, p 93)

وأعقب تلك التجركات قيام ثلاث ممالك على النيل هي بالترتيب من الشمال إلى الجنوب مملكة نوباديا المعروفة في المصادر العربية باسم مملكة مريس وعاصمتها فرس شمال وادي حلفا، ومملكة المقرة وعاصمتها دنقلة، ومملكة علوة وعاصمتها سوبا. وقد اعتنقت تلك الممالك المسيحية في القرن السادس الميلادي، اتبعت مملكة نوباديا المسيحية على المذهب اليعقوبي مذهب الكنيسة القبطية، وكان بطرك الكنيسة القبطية في الإسكندرية يرسل الأساقفة لكنيسة نوباديا. واعتنقت مملكة مقرة المسيحية على المذهب الملكي الذي أقرته الإمبراطورية. البيزنطية التي كانت تحكم مصر. وكانت الكنيسة الملكية ترسل الأساقفة إلى مملكة المقرة.
وذكر ابن البطريق أن بطرك الكنيسة الملكية غادر الإسكندرية بعد فتح المسلمين مصر في السنة الثالثة من خلافة عمر بن الخطاب وأصبحت الكنيسة الملكية بدون بطرك حتى السنة السابعة من خلافة هشام بن عبد الملك (112ه/730 م). وأشرفت الكنيسة القبطية في هذه الفترة على كل الكنائس في مصر, كان أهل بلاد النوبة يرسلون إلى بطاركة الإسكندرية ليمدوهم بالأساقفة. (ابن البطريق، ج 2 ص 386)
ويسعى هذا الموضوع إلى المساهمة في الإجابة على السؤال المهم والمفصلي في تاريخ السودان وهو: متى اتحدت مملكتي نوباديا (مريس) والمقرة بالرجوع إلى بعض النصوص القبطية في هذا الصدد. تأتي أهمية الإجابة على هذا السؤال في أنه يحدد المملكة النوبية التي حاربها المسلمون ووقع معها عبد الله بن سعد عام 31ه/51-652 م الصلح المشهور بمعاهدة البقط.
وقد تباينت آراء المؤرخين حول اتحاد مملكتي نوباديا (مريس) والمقرة. رأى بعض المؤرخين أن الاتحاد تم بين المملكتين أمام خطر الغزو الفارسي لمصر عام 616 م/ 6 ق ه(قبل الهجرة). وهنالك من يرى أنه عندما غزا المسلمون مصر بقيادة عمر بن العاص تم توافق – وليس اتحاداً - بين المملكتين للتصدي للمسلمين، غير أن ذلك الاتفاق انتهي بنهاية الحرب. وبعد نحو أربعة عقود من ذلك التوافق تم اتحاد المملكتين بقيادة مملكة المقرة وأصبحت بلاد النوباد تمثل الإقليم الشمالي لمملكة مقرة. (Hendrickx, 2019)
وذهب جمهرة المؤرخين أن اتحاد المملكتين تم في وقت ما قبل حملة عبد الله بن سعد عام 31ه/ 15-652 م على النوبة. فقد ورد في رواية المقريزي للصلح مع النوبة (معاهدة البقط) أن عبد الله بن سعد وقع الصلح مع ملك المقرة الذي تمتد حدوده شمالاً حتى أسوان، ولذلك لم يعد هنالك وجود لمملكة نوباديا. وقد تناولت في عدد من المقالات نشرت في الصحف الالكترونية إشكاليات نص المقريزي للبقط، كما سيتم تناول ذلك بالتفصيل في موضوع منفصل إن شاء الله عت اتحاد المملكتين في الطبعة الثانية من كتاب "مراجعات في تاريخ السودان"
وسنتناول هنا ثلاثة نصوص وردت في المصادر القبطية عن اتحاد المملكتين هي:
1. رسالة من ملك المقرة إلى بطرك الاسكندرية
2. رد البطرك علي رسالة ملك المقرة، وقد جاء بروايتين هما:
- رواية أبا منا 2-1
- ورواية ابن المقفع 2-2
1. رسالة ملك المقرة إلى بطرك الاسكندرية
كنب البطرك أبا منا Abba Minaسيرة البطرك إسحاق (Life of Isac) نحو عام 700 م/81ه، ذكر فيها أن ملك مملكة مقرة أرسل رسالة إلى البطرك إسحاق بطرك الكنيسة القبطية في الإسكندرية بين عامي67 - 70هـ )686-689 م) يخبره فيها بأن مملكة مقرة تعاني من نقص في عدد الأساقفة لأن ملك موريتانيا - الذي في عداوة مع المقرة - يمنع الأساقفة الوافدين من الإسكندرية إلى مملكة مقرة من السفر عبر بلاده. ويواصل أبا منا قائلاً:
"في الحقيقة يوجد ملكان يحكمان في تلك المنطقة، كلاهما مسيحيان، ولكن لا سلام بينهما، لأن أحدهما وهو ملك موريتانيا كان في سلام مع المسلمين. أما الآخر وهو ملك مقرة العظيمة لم يكن في سلام مع المسلمين" (Abba Mina, p 36)

2-1. رسالة البطرك اسحاق إلى ملك موريتانيا رواية أبا منا
وعنما استلم البطرك إسحاق رسالة ملك مقُرة وفهم محتواها، كتب رسالة إلى ملك موريتانيا يعظه ويوجهه ويقول له "أنتم كلاكما مسيحيان ... إذا منعت مرور الأساقفة للوصول عبر بلادك إلى البلد الواقع في أعلى النهر فإن الناس سيهجرون الكنيسة وسيكون ذلك عاراً كبيراً أمام الله" (Abba Mina, p 37)

ويضبف أبا مِنا (ص 37) أن والي مصر علم بأمر الرسالة عبر بعض أعوانه، وأخبروه بأن الأمر لم يتوقف فقط على طلب ارسال الأسقف، بل أضافوا أن البطرك أرسل رسالة إلى ملك موريتانيا ينصحه فيها بإقامة سلام مع ملك مقُرة الذي هو عدو للمسلمين، وإذا ما تم ذلك سيكون الملكان يداً واحدة ويشكلون خطراً على المسلمين. فطلب والي مصر إحضار البطرك من الاسكندرية. وعند حضور البطرك تمكن من مساواة الأمر بسلام مع الوالي. كما اتضح في رواية ابن المقفع في للرسالة (2-2) كيف تم علاج القضية.

ما يفهم من الرسالتين
وردت عبارتان في هاتين الرسالتين يتطلبان التعليق عليهما وهما "موريتانيا" و"المملكة الواقعة أعلى النهر"
توضح رسالة ملك مقرة (رسالة رقم 1) أن ملك المقرة يشتكي ملك موريتانيا لأنه يمنع الأساقفة الوافدين من مصر عبور بلادة للوصول إلى المقرة. ومن الواضح هنا أن ملك المقرة يشير إلى ملكٍ تقع بلاده بين مصر شمالاً المقرة جنوباً، وأطلق عليه ملك موريتانيا، كما ورد ذلك أيضأً في رسالة البطرك رقم 2-1 "ملك موريتانيا" فمن هو ملك موريتانيا؟
ذكرJohn of Nikiou يوحنا النقيوسي المعروف بيوحنا المدبر نحو عام 67ه/686 م في كتابه الذي نشره H. Zotenberg تحت عنوان Le Chronique de Fean de Nikiou "أن بربر مديريتي النوبة وافريقيِّة يُطلق عليهم الموريتانيون" (In Vantini, Oriental p 404) وأوضح المحقق في الحاشية أن افريقيِّة هنا مقصود بها الولاية الرومانية في منطقة تونس الحالية.

فقد أطلق الرومان اسم افريقيا على الولاية التي أسسوها في القرن الثاني قبل الميلاد في منطقة تونس الحالية والجزء الغربي من ساحل ليبيا الحالية، وتكتب في المصادر العربية افريقيِّة. وأطلق الرومان اسم موريتانيا على المنطقة الواقعة غرب ولاية افريقيِّة والممتدة حتى المحيط الأطلسي، وموريتانيا في الأصل هو الاسم الذي أطلقه الرومان على سكان هذه المنطقة. والبربر Barbarians هو الاسم العام الذي أطلقه الرومان على سكان منطقة شمال افريقيا الواقعة غرب مصر.

وما ذكره John of Nikiou - أعلاه - من "أن بربر مديريتي النوبة وافريقيِّة يُطلق عليهم الموريتانيون" يوضح أن الرومان كانوا أيضا يطلقون على النوبة اسم البربر. فملك موريتانيا في الرسالتين أعلاه مقصود به ملك النوبة. ومن الواضح أن ملك النوبة الذي يمنع الأساقفة من مصر المرور عبر بلاده جنوباً إلى المقرة (الرسالتين 1 و1-2) هو الملك الذي تقع مملكته شمال مملكة المقرة، وهو ملك نوباديا. فموريتانيا في الرسالتين لم يُقصد بها المورتانيين في شمال افريقيا، لأن المورتانيين قي شمال افريقيا كلها في ذلك الوقت (نحو عام 67ه/686 م) كانت فد خضعت للمسلين. وقد أضار هندركس إلى أن بعض المؤرخين أوضحوا أن موريتانيا في لبرسالتين 1 1-2 هس مملكة نوباديا. (Hendrickx, 2019)

وعندما تناول فانتيني هذه الرسالة أوضح بين قوسين أن موريتانيا تعني نوباديا حيث ذكر: "بعث البطرك إسحاق برسالة إلى ملك موريطانيا (نوباطيا) وملك مقرة داعيا إياهما إلى التصالح بينهما حيث أن كليهما مسيحيان. فقد كان ملك نوباتيا يمنع مبعوثي البطرك من المرور إلى دنقلة ويمنع مبعوثي ملك دنقلة من عبور أراضيه في طريقهم إلى مصر" (فانتيني، المسيحية ص 26)
كما أوضح أبا منا - الذي كتب نحو نحو عام 81 ه – في الرسالة رقم 1- أنه يوجد في المنطقة ملكان لا سلام بينهما "أحدهما ملك موريتانيا كان في سلام مع المسلمين أما الآخر وهو ملك مقرة لم يكن في سلام مع المسلمين" فالمقصود بالملك الذي "في سلام مع المسلمين" هو الملك الذي وقع الصلح مع عبد الله بن سعد عام 31ه51-652 م وهو ملك نوباديا، بينما ملك مقرة – كما يوضح النص – لم يكن في سلام مع المسلمين.

فرسالة ملك مقرة (رسالة رقم 1) الى بطرك الإسكندرية ورسالة بطرك الإسكندرية (رسالة رقد 2-1) اللتان كتبتا بين عامي بين عامي 67 - 70هـ وتعليق أبا منا الذي كتب عام 81ه توضح وجود مملكتين منفصلتين في جنوب مصر - بعد 50 سنة من حملة عبد الله بن سعد - إحداهما مملكة مقرة والتي لم تكن على صلح مع المسلمين، والثانية مملكة موريتانيا (مملكة نوباديا) والتي كانت على صلح مع المسلمين. ومن المعروف أن الصلح الوحيد الذي وقعه المسلمون مع النوبة في القرن الأول الهجري هو الصلح المشهور باسم البقط عام 31ه. وهذا الصلح لم يوقع مع مملكة المقرة لأن مملكة مقرة كما في الرسالة رقم 1 لم تكن في صلح مع المسلمين.
وفي الرسالة رقم 1-2 يؤنب البطرك ملك موريتانيا لمنعه وصول القساوسة إلى مملكة "الواقعة على أعلى النهر. "النهر" هنا مقصودُ به النيل، و"أعالي النهر" مصطلح يعني اتجاه الجنوب على النيل. فالنيل ينحدر من الجنوب إلى الشمال، فكلما انحدرنا جنوباً على النيل كانت المناطق الواقعة جنوباً أعلى من المناطق الواقعة إلى الشمال. فالبطرك يرجو من ملك موريتانيا ألّا يمنع مرور الأساقفة إلى المملكة الواقعة إلى الجنوب من بلاده. ومن الواضح هنا أن البطرك يخاطب ملك المملكة الواقعة شمال مملكة المقرة وهي مملكة نوباديا التي كانت موجودة كمملكة مستقلة حتى عصر البطرك إسحاق بين عامي (67 - 70هـ) وعصر أبا منا عام 81ه.

2-2. رسالة البطرك اسحاق إلى ملك موريتانيا رواية ابن المقفع
تناول ساورس بن المقفع الذي كان عائشاً في القرن الرابع الهجري (10 م) في كتابه تاريخ بطاركة الكنيسة المصرية الأحداث التي وقعت في عصر البطرك اسحاق (67-70هـ /686-689م) في الرسالة التي كتبها البطرك إسحاق إلى ملك الحبشة والنوبة والتي جاء فيها:
"في تلك الأيام كتب البطرك [إسحاق] إلى ملك الحبشة وملك النوبة أن يصطلحا، ولا يكون بينهما سجس، وذلك لخلاف كان بينهما. فسعى به بعض أهل المكر إلى عبد العزيز بن مروان [والي مصر 65 - 85 هـ / 684 – 704م] وأرسل [الوالي] من يحضره ليقتله." ولما علم بذلك رجال البطرك في بلاط الوالي كتبوا كتباً بغير ذلك المعنى وأسرعوا في إرسالها إلى الرسل الذين أرسلهم البطرك. وقبل أن يصل البطرك إلى الوالي أحضر رجال الوالي رسل البطرك، فأمر بهم واطلع على الرسائل التي معهم فلم يجد فيها ما قيل له، فسكن غضبه على البطرك." (ساورس بن المقفع ص 77 – 78)

قابن المقفع يرجع هنا إلى نفس الرسالة ذكرها أبا منا أعلاه (الرسالة رقم 1) لكن رواية المقريزي جعلت البطرك يخاطب الملكين الذين سماهما بملك الحبشة وملك النوبة. فما المقصود بالحبشة ؟ ومن هما ملكي الحبشة والنوبة في هذا النص؟

لم يكن مفهوم الحبشة في المصادر العربية المبكرة منحصراً فقط على منطقتي اثيوبيا وارتريا الحاليتين، بل كان المفهوم واسعاً يتعدى حدودهما. فالمسعودي يقول عند حديثه عن مناطق جنوب أسوان:"
"وعلى أميال من أسوان جبال وأحجار يجري النيل في وسطها، ولا سبيل إلى جريان السفن فيه هناك، وهذه الجبال والمواضع فارقة بين مواضع سفن الحبشة في النيل وبين سفن المسلمين. (المسعودي، ج 1 ص 37) وفي مكان آخر يقول: "وقد ذكرنا النتاج الذي كان بصعيد مصر مما يلي. الحبشة" المسعودي، ج 1 ص 161) وذكر القلقشندي عن خط حدود مصر الغربية: "وحدها الغربي يبتدئ من ساحل البحر الرومي حيث العقبة، ويمتد جنوباً، وأرض إفريقية غربيه، على ظاهر الفيوم والواحات حتى يقع على صحراء الحبشة على ثمان مراحل من أسوان." (القلقشندي، ج 1 ص 441)

فالمسعودي في النص الأول يتحدث عن الشلال الذي يفصل أسوان عن سفن الحبشة على النيل. فالحديث هنا عن الشلال الأول الذي ينتهي عنده إبحار سفن النوبة شمالاً. فالسفن هي سغن النوبة التي ذكرها المسعودي تحت اسم سفن الحبشة. وفي النص الثاني يذكر المسعودي أن صعيد مصر ينتهي أو يأتي بعد الحبشة فالحبشة في نصي المسعودي مرادٌ بها النوبة.

ويوضح القلقشندي في النص أعلاه أن صحراء الحبشة تقع جنوب الفيوم والواحات وعلى مسافة ثماني مراحل من أسوان. ومن المعروف أن الواحات المصرية تقع غرب النيل بينه وبين الحدود الليبية. فالصحراء الواقعة جنوب الواحات وبالقرب من أسوان هي صحراء النوبة التي ذكرها القلقشندي تحت اسم صحراء الحبشة. وملك الحبشة في الرسالة رقم 2-2 هو ملك النوبة. لكن ابن المقفع ذكر أن البطرك أرسل "إلى ملك الحبش وملك النوبة" فمن هو ملك الحبشة؟

كما اتضح أعلاه فإنه في بعض الأحيان تطلق المصادر العربية لفظ الحبشة على النوبة، كما تطلق أيضا عبارة "ملك الحبشة" على ملك المقرة. فابن المقفع نفسه يقول مكان آخر عن ملك المقر: "وكان ملك المقرة الحبشي ارتدكس وهو الملك العظيم" (ابن المقفع ص 83)
فإذا كان ملك الحبشة في رسالة البطرك رقم 2- 2 مقصود بها ملك مقرة، فمن المقصود بـ ملك النوبة؟
أطلقت المصادر العربية اسم النوبة بصورة عامة على سكان مملكتي مقرة وعلوة، لكنها أطلقته بصورة خاصة على النوبة المجاورين لحدود مصر الجنوبية وهم سكان مملكة مريس (نوباديا) كما ذكر ابن سليم حين قال: "اعلم أنّ النوبة والمقرة جنسان بلسانين، كلاهما على النيل، فالنوبة هم: المريس المجاورون لأرض الإسلام" (مصطفى مسعد ص 98) والمريس هم النوباديين.

فما ورد في رواية ابن المقفع من أن البطرك أرسل "إلى ملك الحبشة وملك النوبة أن يصطلحا" المراد به أن البطرك أرسل إلى ملك المقرة وملك نوباديا.

ورغم أهمية ما ذكره أبا منا وما يوضحه وجود مملكتي نوباديا والمقرة بعد حروب عبد الله بن سعد التي كانت عام 31 هـ / 652 م إلا أن أغلب المؤرخين لم يتعرضوا لما ذكره، والقلة من المؤرخين الذين تناولوه لم يوفوه حقة من البحث والتقييم والنقد المنهجي.

تناول فانتيني رسالة ملك مقرة إلى البطرك (رقم 1) وأوضح أن ملك نوباديا كان يمنع مبعوثي البطريك إلى ملك المقرة ومبعوثي ملك المقرة إلى مصر من المرور عبر أراضيه" وعلق على ذلك قائلاً: ونستنتج من هذا أن مملكة نوباديا ما زالت مستقلة من ملك دنقلة في زمن البطرك المذكور" ففانتيني يقرر أن مملكة نوباديا كانت لا نزال موجودة حتى عصر البطرك إسحاق الذي تولى منصبه عام 67هـ أي بعد مضي ستة وثلاثين سنة من حرب عبد الله بن سعد. ورغم ذلك يقول فانتيني "سار عبد الله بن سعد إلى النوبة عام652 إلى دنقلا رغم المقاومة الشديدة من النوبة، ودار القتال العنيف على ضواحي مدينة دنقلا"
أما مصطفي محمد مسعد فلم يقبل ما كتبه أبا منا لأنه كما قال" اعتماد هذا الرأي على المصادر القبطية وحدها لا يعد دليلاً كافياً على صحته" وهذا هو ما قصدته من القول بأن المؤرخين لم يهتموا بهذا النص ويوفوه حقة من البحث والتقييم والنقد المنهجي.
وأضاف مسعد أن ما ذكره أبا منا "لا يتفق وما جاء في عقد الصلح سنة 652" أي أنه بنى رأيه على ما ورد في نص المقريزي. وكلك فعل كراوفورد وكيروان وآركل ووليام آدمز وكذلك فعلت الغالبية العظمى من المؤرخين فأصبح اتحاد المملكتين قبل حرب عبد الله بن سعد من المسلمات التي لا تتطلب النقاش أو البحث.

وقد أبدى بعض المؤرخين شكه صراحة في مصداقية بنود هذا الصلح الذي ذكره المقريزي كما فعل فانتيني نفسه (فانتيني، تاريخ المسيحية. (صفحات 69، 71، 74-75) وتناول بعض المؤرخين هذا الرأي بحذر مثل آركل Arkell, p 186)) الذي يقول على سبيل المثال "من الممكن أن تكون مملكتا نوباديا ومقرة اتحدتا في أمام خطر الغزو العربي عام 21 هـ / 642م" ويقول أيضاً: "ويبدو أن عبد الله بن سعد غزاهم عام 31 هـ/ 652 م وجد أن كل البلاد من أسوان إلى حد مملكة علوة تحت حكم ملك واحد" ويلاحظ تعبير آركل جاء في النص الأول " من الممكن" وجاء في النص الثاني "ويبدو أن عبد الله" أي أن وحدة المملكتين من الممكن أو ربما تمت قبل حرب عبد الله، وهذا حكم ظني غير قاطع.
وهنالك قلة من المؤرخين مثل مونري دي فلارد وعلى عثمان محمد صالح عارضوا ما ورد في نص المقريزي من أن عبد الله بن سعد حارب مملكة مقُرة، وقرروا أن الحرب كانت مع مملكة نوباديا، أي أن مملكة نوباديا كانت لا تزال موجودة ومستقلة عن مملكة مقُرة.

ويوجد نصان عربيان يؤكدان مارد ورد في النصوص القبطية أحدهما للمسعودي يوضح أن عبد الله بن سعد حارب علم 31ه/ 51-652 م ملك مملكة مريس وعقد معه الصلح. والنص الآخر لابن حوقل يوضح أن معركة عبد الله بن سعد علم 31ه/ 51-652 م كانت في منطقة أسوان، أي أنه لم يصل دنقلة. وقد تناولت هاذين النصين في اكتاب الوعي بالات وتأصيل الهوية ج 2 ص44 وج 3 ص 26 – 37، كم سيتم الرجوع إليهما في الطبعة الثانية من كتاب مراجعات في تاريخ السودان.

المراجـع
 ابن البطريق، تاريخ ابن البطريق، طبعة أوربية للمخطوط مع ترجمة لاتينية 1658. طبعت أكسفورد المخطوطة 59-1858.
 ساورس بن المقفع، تاريخ بطاركة الإسكندرية في مصطفى محمد مسعد، المكتبة السودانية
 فانتيني، جيوفاني، المسيحية في السودان، جامعة أم درمان الأهلية: مركز محمد عمر بشير 1998.
 القلقشندي، صبح الأعشى موقع الوراق.
 مصطفى محمد مسعد، المكتبة السودانية العربية، الخرطوم: مطبوعات جامعة القاهرة فرع الخرطوم 1972
 مصطفى محمد مسعد، الإسلام والنوبة في العصور الوسطى، القاهرة: مكتبة الانجلو المصرية 1960.
 المسعودي، مروج الذهب، موقع الوراق،
 المقريزي، تاريخ الأقباط المعروف بالقول الابريز، تحقيق عبد المجيد دياب، دار الفضيلة ب. ت

 Abba Mina, (1931) “Life of Isac” In Vantini, Oriental Sources Concerning Nubia,
 Henderson, K. D. D. "Nubian Origin" Sudan Notes and Records, Vol. 14, part 1.
 Hillson, s. "Nubian Origins" Sudan Notes and Records. Vol. 13 Part 1 (1930) p 137 – 138.
 Hendrickx, Bebjamin, 2019, “Was king Merkourios (696-710) an African new Constantine the Unifier of the kingdom and the Churches of Makouria and Nobadia? A re-examination an alternative Suggestions” Pharos Journal of Rheology ”ISSN 2414-3324 Online Volume
 Samia Bashir Dafa'la, (1989) "Distribution and Migration of the Nubian Tribes During the Meroitic and X-Group period" BzS,4
 Vantini, Giovanni Oriental Sources Concerning Nubia, Warsaw. 1975.  

مقالات مشابهة

  • الدكتور عمرو الورداني: المصريون القدماء اعتبروا العمل عبادة فبنوا حضارة
  • مركز الملك سلمان للإغاثة ينفذ ثلاثة مشاريع طبية تطوعية في مدينة بورتسودان بجمهورية السودان
  • عضو الأمانة المركزية للشعب الجمهوري: عمال مصر بناة المستقبل وصناع الحضارة والتنمية
  • صلاح الدين.. اكتشاف قبور وهياكل عظمية وجِرار أثرية في موقع آشور
  • التجارة توجه نداءً اخيراً للمواطنين: حدثوا بياناتكم لضمان استمرار مفردات البطاقة التموينية  
  • برلماني: نصوص مشروع قانون الإجراءات الجنائية حية وتتفاعل مع الواقع
  • نصوص قبطية حول اتحاد مملكتي نوباديا (مريس) والمقرة
  • وصول 6 أسرى محررين إلى تركيا بينهم نائل البرغوثي
  • حضارة اليمن ..حضارة للإنسانية جمعاء
  • الإبادة العرقية.. وجه الغرب الخفي في تدمير الحضارات.. قراءة في كتاب