لن تذهب حكومة السودان وممثلو الجيش السوداني إلى مفاوضات سلام جنيف المقترحة من الأميركيين في الرابع عشر من أغسطس الجاري؛ لمناقشة كيفية وقف القتال وقضايا إيصال المساعدات الإنسانية، ويبدو أنَّ الموقف السوداني – الذي عبّر عنه رئيس مجلس السيادة وقائد الجيش الفريق أول عبدالفتاح البرهان أكثر من مرّة مؤخرًا – والردّ من وزارة الخارجية السودانية على رسالة الدعوة الكتابية التي وجهها وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، قد قطعا قول كل خطيب.

فتح منبر موازٍ

قراءة المواقف حول السودان لم تعد مبنيّة على التكهنات والترجيحات، فقد حددت السلطة السودانية رأيها، وتعاملت مع المقترح الأميركي وكأنه حرث في البحر، معتبرة جولة جنيف المقترحة لا تقدم شيئًا، إذا لم يُستجب قبلها للمطالب المعلومة والشروط الواجب تنفيذها فيما اتّفق عليه بجدة في يوليو/تموز 2023م، بخروج قوات الدعم السريع من منازل المواطنين والأعيان والمرافق الحكومية، والانسحاب من المدن.

يتبدّى السؤال حول هذه الدعوة للتفاوض بين حكومة السودان والجيش الوطني مع الدعم السريع: ما الذي تريده الأطراف الدولية مثل الولايات المتحدة الأميركية وأطراف إقليمية أخرى من طرح هذا المقترح؟ وفي هذا التّوقيت؟

للإجابة عن هذا السؤال، ينبغي معرفة ما وراء الأكمة، وإزالة الضباب الداكن الذي تستّرت به الدعوة الأميركية لجولة تفاوضية في جنيف بعد أسابيع من دعوة أميركية أخرى، أطلقت علنًا دعت فيها الحكومة السودانية والجيش لمواصلة التفاوض مع قادة الدعم السريع عبر منبر جدة، وزار نائب وزير الخارجية السعودي السودان قبل أسابيع لبحث استئناف المفاوضات تحت إشراف الوساطة المشتركة الأميركية – السعودية.

ليس خافيًا أن المسألة السودانية وتسويتها، أصبحتا ورقة انتخابية لدى إدارة الرئيس بايدن والحزب الديمقراطي الذي يخوض أشرس معاركه الانتخابية في مواجهة خصم عنيد مرشح الحزب الجمهوري الرئيس السابق دونالد ترامب، ويخلو وفاض الإدارة الحالية والسيدة كامالا هاريس نائبة الرئيس – مرشحة الضرورة – من أي نجاحات خارجية تساعدها في حملتها الانتخابية.

وصارت الأزمة السودانية والحرب المهلكة التي تدور، لوحة إعلانية تريد الإدارة الأميركية تعليق إعلانها الانتخابي عليها، كما تريد جهات إقليمية الانضمام للجوقة الأميركية، وتبنّي فكرة المنبر التفاوضي الجديد،  ومقايضة المساعي والمقترحات الأميركية بتمويل الحملة الانتخابية، وتحفيز حملة المرشحة الطامحة كامالا هاريس الانتخابية لإحراز هدف مبكر.

وليس سرًا استجابةُ الإدارة الأميركية للرجاءات المتكررة من بعض دول الإقليم بإشراكها في أي تسوية قادمة بالسودان، وإدماجها في الوساطة المشتركة بمنبر جدة، ولما رفض السودان ذلك بصورة قاطعة، شجعت هذه الدول الأميركيين على فتح منبر موازٍ، وتجاوز منبر جدة التفاوضي، وتوسيع الوساطة واقتراح صيغ مختلفة للمراقبين والشركاء الجدد، وصناعة مسار تفاوضي يجُبُّ ما قبله، ويحقق الأهداف بإعادة قوات الدعم السريع إلى المشهد السياسي والقبول بها مرة أخرى في المضمار السياسي السوداني، وإعادة تدوير وإنتاج تنسيقية القوى المدنية "تقدم" لتقود العملية السياسية بعد إيقاف الحرب.

أزمة مركّبة

في هذا الجانب جرت اتصالات وتحركات دبلوماسية أميركية – إقليمية في عدة اتجاهات، مؤداها أن منبر جدة التفاوضي ومبادرة منظمة الإيغاد التي جمّد السودان عضويته فيها، ومبادرة الاتحاد الأفريقي، ومبادرة دول جوار السودان التي دعت إليها القاهرة، لم تفلح في لجم الحرب السودانية، كما أن رياح هذه المبادرات جرت على غير ما تشتهي بعض الدول الداعمة لقوات الدعم السريع وأحزاب" تقدم".

ولا تخطئ عين، أن هدف الدعوة إلى تفاوض جنيف، هو التخلص من الالتزامات السابقة في منبر جدة، وتجاوز الضغط على قوات الدعم السريع وإلزامها بما تم الاتفاق عليه في جدة في يوليو/تموز 2023م، وجاء رفض السودان هذه الدعوة الأميركية وعدم المشاركة فيها؛ للحيلولة دون الالتفاف على ما تم في جدة أو فتح منبر تفاوضي جديد في جنيف، والبدء من نقطة الصفر.

يمكن القول؛ إنَّ واشنطن وقعت في فخ مُحكم بتصدرها الدعوة للتفاوض في جنيف، دون أن تراعي حساسيات الموقف الداخلي بالسودان، وعلاقاتها في الإقليم، وعدم اكتراثها برد الفعل لأهمّ مكوّن في الراهن الماثل بالسودان وهو الجيش الذي يدير البلاد حاليًا، ويخوض حربًا ممولة ومدعومة من الخارج.

من العسير أن يتحقق سلام أو تبرم اتفاقية أو يشرع في إجراء ترتيبات تسوية وتوليد حلول للأزمة ووقف الحرب، دون مشاركة الحكومة السودانية، ويكون الجيش موافقًا عليها ومشاركًا في تحضيراتها ومتابعًا تفاصيلها الدقيقة، خاصة ما يتعلق بالشركاء في الوساطة، ومن هم المراقبون وما دورهم؟ وما هي أجندة وموضوعات التفاوض؟ وما مصير مقررات جدة؟

أمام كل هذه المعطيات، يمكن القول إن الولايات المتحدة تعاني من أزمة مركبة في تقديراتها ونظرتها للموقف داخل السودان، ولتطورات الحرب الميدانية بكل تفاصيلها، بجانب عدم فهمها درجة ومدى التفاعلات السياسية والاجتماعية العاصفة التي يشهدها بلد مثل السودان بعد الحرب، وتشرد ما يقارب العشرين مليونًا من مواطنيه خارج أراضيهم ومنازلهم، توزعوا ما بين نزوح ولجوء، وتعرضهم لأبشع أنواع الانتهاكات وجرائم الحرب، ويعاني شعب كامل من أزمة إنسانية قاسية وظروف سياسية بالغة التعقيد.

تعلم بعض الدوائر الرسمية في واشنطن أن العلاقة الأميركية والسياسة الثابتة تجاه السودان، تختلف تمامًا عن المطروح حاليًا في سياق المبادرات والمنابر التفاوضية، ولا تلتقي الأجندة الأميركية ومطلوباتها، مع أجندة الآخرين من الفضاء الأفريقي، أو المحيط الإقليمي الذي تمثله بعض الدول المتورطة في حرب السودان.

فإذا كانت سياسة الولايات المتحدة في التعامل مع السودان خلال العقود الماضية مبنية على ضرورة صناعة الاستقرار، وحصد نتائج انعكاساته على منطقتي القرن الأفريقي وأفريقيا جنوب الصحراء، والنظر إلى السودان بأنه الشريك الأساس في مكافحة الإرهاب وحل معضلة الهجرة غير الشرعية، فإنه قد تراجعت السياسة الأميركية بسوء التقدير وضعف التقييم، مع أن أهمية السودان الإستراتيجية ودوره في المنطقة وترتيباتها لم تتراجع.

ملفات شائكة

وتبدو هنا الملفات شائكةً لا يمكن حلها بدون تمتين علاقة مباشرة ومنتجة مع مؤسسات الدولة السودانية، وأهمها القوات المسلحة، والتنسيق والتعاون من أجل حكم مستقر وقوي قادر على التعامل مع حقائق الواقع، والتعاطي مع قضايا الداخل والمنطقة، ومن هنا يستبين افتراق الطرق بين ما تريده الولايات المتحدة، وما تسعى إليه أطراف إقليمية داعمة للحرب في السودان، لها أجندة لا تقود إلى استقرار هذا البلد أو تحقيق السلام أو تجعل السودان عنصرًا فاعلًا في عملية مكافحة الإرهاب والهجرة غير الشرعية.

فكل هذا يؤكد أن الدعوة إلى مسار تفاوضي في جنيف مجرد محاولة للتلويح بورقة انتخابية واستخدامها خلال الحملة الحالية في المائة يوم المتبقية قبل ذهاب الناخب الأميركي إلى صناديق الاقتراع.

في هذا السياق، لم تنجح أي زيارة مزمعة للمبعوث الأميركي الخاص للسودان توم بيريلو منذ تعيينه للعاصمة المؤقتة بورتسودان، وبرزت الخلافات المراسميّة والتأمينية كعقبة أمام ترتيب زيارة المبعوث الأميركي، ولقائه مع رئيس مجلس السيادة، وبقية المسؤولين السودانيين، ولم تُظهِر الإدارة الأميركية أية لباقة ونظرة سليمة لتجاوز ما تمر به علاقاتها الحالية مع السودان وقيادة الجيش.

وقد أشار أكثر من مسؤول دبلوماسي أميركي في منطقة شرق أفريقيا إلى أن السياسة والعلاقات الدبلوماسية الأميركية ووجهة نظرها للسودان خلال الفترة التي سبقت الحرب وبعدها لم تكن ناجحة ولم تفلح في قراءة الوضع على وجهته الصحيحة.

وقال سفير أميركي في إحدى دول شرق أفريقيا في حفل دبلوماسي الشهر الماضي:  "علينا مراجعة الأخطاء التي أدّت للأحداث في السودان والبحث عن تسوية عاجلة والانتباه لمصالحنا الحقيقية قبل ذهاب هذا البلد إلى المجهول"،  بينما نشط دبلوماسيون أميركيون في أديس أبابا للالتقاء بأطراف سودانية وأفريقية؛ لإعادة تقييم الوضع بالسودان وآفاق الحلول الممكنة.

مهما يكن، فإن احتمالات نجاح الجولة التفاوضية المقترحة من عدمها، مرهونة  بمشاركة الحكومة السودانية وممثلي الجيش، فلا أمل في نجاح هذه الجولة التفاوضية إذا لم يشارك هذا الطرف الأهمّ.

أما مصر التي بدأت التحرك لمحاصرة أي تحركات إقليمية للتدخل في السودان فليست متحمسة بما يكفي لدعم جولة جنيف، رغم عدم إعلان معارضتها لها، بينما ترى أطراف دولية، مثل: روسيا، والصين، وتركيا، ودول أفريقية أخرى، أن الحلول المقترحة من الأميركيين بشأن السودان لا تسمن ولا تغني من جوع.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلامية

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات الولایات المتحدة الدعم السریع منبر جدة فی جنیف

إقرأ أيضاً:

أصول القبائل السودانية في الوسط والشمال: نقد فرضية الهجرة العربية وإعادة قراءة الهوية الكوشية

مقدمة
لطالما ارتبطت هوية القبائل السودانية في شمال ووسط السودان، وبخاصة المجموعة الجعلية الكبرى، بروايات النسب العربي، التي تعزو أصول هذه القبائل إلى هجرات مزعومة من الجزيرة العربية إلى وادي النيل. وتشمل هذه القبائل الجعليين، الشايقية، المناصير، الرباطاب، البديرية، البطاحين، الجوامعة، العبابدة، الكواهلة، الشنابلة وغيرهم. وقد انتشرت هذه السردية على نطاق واسع خلال القرون الأخيرة، خاصة منذ قيام مملكة سنار في القرن السادس عشر الميلادي، حتى أصبحت تُعد من المسلمات الثقافية في المخيال الشعبي السوداني. إلا أن الأدلة التاريخية، الأثرية، الأنثروبولوجية، واللغوية، تشير إلى سردية مغايرة تستحق التناول العلمي الجاد.

أولًا: الامتداد التاريخي والاستيطان النيلي
تشير الأدلة الأثرية إلى أن مناطق الشمال والوسط النيلي كانت مأهولة بالبشر منذ آلاف السنين، وقد أسهمت هذه المجموعات السكانية في تأسيس حضارات كرمة ونبتة ومروي، التي امتدت من الألف الثالث قبل الميلاد وحتى القرن الرابع الميلادي. إن زوال مملكة مروي في القرن الرابع الميلادي لم يكن نهاية لهذه الجماعات، بل كانت هناك استمرارية سكانية في ذات المناطق، تدل عليها بقايا المعمار، ومواقع صهر الحديد، وبعض النقوش المتأخرة.
ومن غير المنطقي، من الناحية الديمغرافية، أن تختفي هذه المجموعات السكانية فجأة لتحل محلها جماعات مهاجرة من خارج السودان. فالهجرات الجماعية الكبرى تترك آثارًا مادية واضحة، من حيث نمط المعمار، واللغة، والعادات الجنائزية، وهو ما لا نجده في الحالة السودانية.

ثانيًا: فترة ما بعد مروي وغموض الرواية
تمثل الفترة الممتدة من سقوط مروي حوالي 350 ميلادية وحتى قيام مملكة المقرة المسيحية في منتصف القرن السادس، واحدة من أكثر الفترات غموضًا في تاريخ السودان القديم. اختفت خلالها الكتابة المروية، وتراجعت مظاهر المعمار الضخم، ما يشير إلى تحولات داخلية سياسية أو اقتصادية، لكنها لا تعني بالضرورة تغيرًا إثنيًا في السكان. إن هذا "الفراغ التاريخي" قد استُغل لاحقًا لتسويق فرضيات غير مدعومة حول الهجرة العربية، دون أي توثيق حقيقي لهجرات جماعية ذات طابع إثني إلى وادي النيل الأوسط أو الأدنى.

ثالثًا: النسب العربي وتزويره في مملكة سنار
تعود أقدم الوثائق التي تربط قبائل الشمال والوسط بأصول عربية إلى القرن السادس عشر الميلادي، أي بعد نحو ألف عام من سقوط مروي. وقد ارتبط هذا التوثيق باسم شخصية غامضة تُدعى "السمرقندي"، الذي يُنسب إليه جمع أنساب العرب في السودان، رغم غياب أي دليل ملموس على وجوده الفعلي. ويبدو أن دوافع سياسية كانت وراء هذا الربط، خصوصًا في سياق العلاقة بين مملكة سنار والدولة العثمانية بعد فتح مصر، حيث سعت سلطنة سنار إلى إضفاء صبغة عربية وإسلامية على سكانها لتفادي المواجهة العسكرية مع السلطان سليم الأول.
إن غياب أي ذكر لقبائل مثل الجعليين، الشايقية، أو الكواهلة في المصادر العربية الكلاسيكية، أو في مؤلفات النسّابين المشهورين في الحجاز ومصر واليمن، مثل القلقشندي أو السيوطي أو المقريزي، يعزز الشك في صحة هذه الروايات المتأخرة. فلو كانت هناك هجرات عربية كبيرة إلى السودان لما غفلت عنها هذه المصادر.
يقول هارولد ماكمايكل (1882 – 1969م)، في مقدمة كتابه، تاريخ العرب في السودان، وهو الإداري الإنجليزي الذي عمل إداريًا في السودان حتى العام 1933، إنه طاف على معظم أقاليم السودان، خاصة في الوسط والشمال، ليجمع منهم ما احتفظوا به من تاريخ قديم لقبائلهم. وجد ماكمايكل أن معظم الأفراد كانوا يحتفظون بأوراق بالية، يتناقلونها أباً عن جد، وتحتوي على مجموعة من الأنساب، وتم تسميته "النسبة"، والتي يقولون إن الجد الأول فيها يرجع إلى قبائل الجزيرة العربية التي عاصرت الإسلام. تعرضت الكثير من هذه الوثائق للتلف عن طريق النمل الأبيض، أو أكل بعضها بواسطة الأغنام، كما تم حرق الكثير منها في فترة الخليفة عبد الله التعايشي في عهد المهدية.[1]
والكثير من مخطوطات النسب العربي التي تتوارثها القبائل التي تسمي نفسها أنها عربية في شمال ووسط السودان، تذكر أن روايات النسب قد أخذت من شخص يسمى "السمرقندي". هذا السمرقندي، الذي أعطى هذه القبائل نسبها العربي، شخصية غامضة، ووصفها بعض الكتاب بأنها شخصية أسطورية لم يكن لها وجود واقعي في مملكة سنار أو الممالك التي قبلها.
حيث يقول الدكتور يوسف فضل: " السمرقندي شخصية أسطورية، قيل إنها عاشت في العقود الأولى من قيام مملكة الفونج، وأن معرفته بالقبائل العربية خارج السودان وداخله، مكنته من وضع مؤلف عن الأنساب صار على لسان كل راوية"[2]
باستعراض مختلف روايات النسب العربي لدي القبائل السودانية، ورد ذكر اسم السمرقندي في الكثير منها، ويبدو أنه معتمد لديهم وكأنه المرجع الموثوق لأنساب بعض القبائل بالسودان، ومن ضمنهم أنساب قبائل الجعليين الكبرى.
وذكر عون الشريف قاسم، أن السمرقندي مجهول الأصل. وهذا يدعم ما قيل عليه أنه شخصية مختلقة، لم يكن لها وجود في السودان. يقول عون قاسم:
" سمرقندي: نساب مجهول الأصل تنسب إليه محاولة كتابة أنساب القبائل العربية في السودان خاصة جهينة و العباسيين أو الجعليين، و يقال إن عمارة دنقس بعث بهذه الأنساب إلى السلطان سليم العثماني حين هدد بغزو مملكة الفونج بعد غزو مصر عام 1517م، و قد ضاعت و لم يبق منها إلا القليل[3]."
ويبدو أن عمارة دنقس أراد من إرسال مخطوطات الأنساب العربية لقبائل السودان، والتي نعتقد أنها مزورة، بغرض إقناع السلطان سليم العثماني أنه لا يجب الدخول في حرب مع العرب المسلمين في السودان، خاصة وأن بعض الأنساب ترجع إلى أهل بيت الرسول (صلى الله عليه وسلم)!!
ويؤكد هذا الكلام؛ محمد صالح ضرار، حيث يقول:
" و في سنة 910هـ / 1504م أرسل السلطان سليم العثماني خطاباً إلى الملك عمارة دنقس (ملك سنار) يدعوه إلى الطاعة. فأجابه عمارة (أني لا أعلم ما الذي يحملك على حربي وامتلاك بلادي. فإن كان لأجل تأييد دين الإسلام فإني أنا وأهل مملكتي عرب مسلمون ندين بدين رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وإن كان لغرض مادي فاعلم أن أكثر أهل مملكتي عرب بادية. وقد هاجروا إلى هذه البلاد في طلب الرزق. ولا شيء عندهم تجمع منه جزية سنوية)). أرسل له مع الخطاب كتاب ((أنساب العرب)) جمعه له الإمام السمرقندي (أحد علماء سنار). فلما وصل الكتابان إلى السلطان سليم أعجبه ما فيهما وعدل عن حرب سنار ولايزال هذا الكتاب في خزانة كتب الآستانة"[4]
وهنا محمد صالح ضرار يذكر أن السمرقندي، كان أحد علماء سنار، ولا نجد مصدراً آخر لهذه المعلومة. وعلى كل فيبدو من القصة أعلاه، أن السمرقندي قام بتزوير النسب العربي لقبائل السودان، حتى يجنب مملكة سنار الحرب مع الدولة العثمانية، بادعاء أن أهل السودان هم عرب ومسلمون فكيف يقوم سلطان العثمانيين بمحاربتهم وسفك دمائهم!!
وعن السمرقندي يقول ماكمايكل:
"هنالك كلمة يجب أن تقال فيما يتعلق بـ "السمرقندي" وهو المشار إليه على أنه منشيء أكثر أنواع مخطوطات "النسبة" النموذجية. يجب الاعتراف بأنه لا يوجد شيء محدد معروف عنه على الإطلاق"
"ليس هنالك شيء معروفًا عن السمرقندي. وربما كان أحد الفقهاء المتجولين الذين اجتذبتهم من مصر شهرة المملكة الجديدة (سنار) التي تأسست في الجزيرة، مع احتمال أنه كان في غرور وسذاجة حكامها، يحلم بأنه قد يحقق بعض الأرباح لنفسه. اختفى عمله الأصلي تمامًا ولم تعد "النسخ المكتوبة" العديدة التي يتم الإبلاغ عنها أكثر من مقتطفات منه"[5]
كما يشير الكاتب السوداني أحمد الياس، إلى أن القبائل السودانية اعتمدت في موضوع نسب أجداد القبيلة إلى الجزيرة العربية، على كتاب السمرقندي وبعض النسابين السودانيين، وهي مصادر تحيط بها الكثير من الشبهات وعلامات الاستفهام، ولم تعتمد على مصادر النسب العربية المعروفة، لربما لأنه لا يوجد اعتراف بها بوجود قبائل عربية في السودان. يقول أحمد الياس: "وإلى جانب السمرقندي اعتمد جامعو النسب السودانيون على بعض النسابين مثل الشيخ عبد الرحمن البحراني أو أبو سليمان البحراني والشيخ أبو سليمان العركي، كما رجع جامعو نسب القبائل السودانية إلى بعض قوائم النسب التي وصلت إليهم من خارج السودان.
ويلاحظ أن جامعي نسب القبائل السودانية لم يرجعوا إلى المصادر المعروفة والمشهورة في علم النسب والتي أشرنا إليها في سلسلة هذه الموضوعات (رقم 11) بما فيها كتب نسب القبائل العربية التي أُلفت في مصر في القرن الخامس عشر الميلادي مثل كتابي القلقشندي (ت 822 هـ /1418 م) (نهاية الأرب في معرفة أنساب العرب) و(قلائد الجمان في التعريف بقبائل عرب الزمان) وكتاب المقريزي (ت845 هـ / 1445 م) (البيان والاعراب عمن بأرض مصر من الأعراب)، وكتاب (لب اللباب في تحرير الأنساب) للسيوطي (ت 911 هـ / 1505م). وقد يبدو سبب عدم استخدام جامعي نسب القبائل السودانية لهذه المصادر أنها لم تتضمن معلومات عن قبائل عربية في السودان"[6]
وترجع معظم الكتابات أن بداية كتابة المخطوطات عن الأنساب العربية في السودان، بدأت في عهد مملكة سنار التي تأسست في عام 1504 م، نتيجة لتحالف بين قبائل الفونج وقبائل العبدلاب. اهتمت مملكة سنار بتعليم الإسلام الصوفي، ودراسة اللغة العربية، حيث كان النسب إلى الجزيرة العربية التي أتى منها الإسلام ويسكنها العرب فخراً كبيراً لأي قبيلة. ومن المرجح أن الكثير من القبائل السودانية، قامت بوصل شجرة نسب آبائها وأجدادها بشخصيات مشهورة عاشت في العصر الإسلامي في الجزيرة العربية حتى تنال الفخر والشرف الذي كان سائداً في عهد مملكة سنار لكل من يتصل نسبه بأقرباء رسول الإسلام أو قبائل العرب التي عاصرت الإسلام. والفترة ما بين نهاية الفترة المروية حوالي 300 ميلادية إلى قيام مملكة سنار في العام 1504 ميلادية حوالي 1200 سنة، وهي سنوات كثيرة العدد، ولا ندري على وجه التحديد، أين كانت تسكن القبائل السودانية التي تدعي أنها قبائل عربية وهاجرت من الجزيرة العربية، والتي وجدت في وسط وشمال السودان، ومن كان يسكن قبلهم من قبائل عاشت بعد انهيار مملكة مروي في هذه المناطق، وكيف حلوا محلهم، وأين ذهبت القبائل السودانية القديمة التي كانت تسكن ما بين نهري عطبرة والنيل الأزرق أو ما يسمى بجزيرة مروي، أو القبائل التي كونت الحضارات السودانية والتي كانت وسط السودان وشمال الخرطوم حتى حدود القبائل النوبية في الشمال. حيث إن القبائل النوبية لم تدعِ أي نسب عربي أو هجرة من الجزيرة العربية.

رابعًا: استمرارية العادات الكوشية في الحاضر
تمثل الثقافة المادية والاجتماعية دليلًا بالغ الأهمية على استمرارية الانتماء الحضاري. إذ نجد أن كثيرًا من العادات والطقوس التي تمارسها القبائل السودانية المصنفة اليوم "عربية"، تعود في جذورها إلى الحقبة الكوشية، كما يظهر في نقوش مروي ومعابد البجراوية. ومن أبرز هذه العادات: الجرتق، الدخان، الدلكة، الحناء، المشاط، العنقريب، الشلوخ، واستخدام جريد النخيل في طقوس الأفراح والمآتم.
ويُظهر التحليل الأنثروبولوجي لتلك الطقوس تطابقًا مدهشًا بين ممارسات المجتمعات المروية القديمة، وممارسات قبائل الشمال والوسط السوداني اليوم، في كل من البناء، الطقوس، التجميل، والزراعة. هذه الاستمرارية الثقافية تشكل قرينة قوية على الانحدار من أصل حضاري مشترك، لا على انقطاع إثني واختفاء سكاني.
وفيما يلي سوف نورد العديد من العادات التي لها ارتباط وثيق بحضارات المنطقة، كالحضارة المروية والنبتية أو حضارة وادي النيل بشكل عام والتي امتدت حتى شمال الوادي.
في مناسبات الزواج، يتم عمل دخان لجسد العروس يمتد لعدة أيام، ويتم استخدام أنواع خاصة من أخشاب أشجار الشاف والطلح، حيث يكتسب الجسد رائحة مميزة، ويتغير لونه إلى أصفر غامق. ويعتقد أنه كان ممارساً لدى ملكات مروي القديمات.
كما تمارس عادة "الجرتق" على نطاق واسع وسط هذه القبائل في مناسبات الزواج، حيث تحاكي طقوس الجرتق تنصيب ملوك مروي، ويجلس العريس في عنقريب، حاملاً في يده السيف، وفي رأسه يوضع عجينة من الأخشاب العطرية المهروسة، مثل الصندل مخلوطة مع بعض الروائح التقليدية.
"ويؤكد فوزي حسن بخيت المختص الأثري بالهيئة القومية للآثار، أن تقليد "الجرتق" بما فيه من مظاهر احتفالية وتبادل لطفل بين العروسين تيمناً للإنجاب، يطابق حرفياً النقش الموجود على خاتم وجد ضمن مجموعة الحلي الخاصة بالملكة المروية أماني شاخيتي"[7]
ويستخدم العنقريب في مراسم الزواج، كما يستخدم أيضًا في نقل الموتى إلى المقابر، وهي عادة كانت منذ حضارة كرمة.
وتستخدم النساء "الدلكة" وهي عجينة من دقيق الذرة الرفيعة، أو دقيق المحلب، تخلط مع مجموعة من العطور التقليدية، ومسحوق الأخشاب العطرية مثل الصندل، وذلك لتنظيف الجلد من الأوساخ المتراكمة، وإزالة الخلايا الميتة وتنشيط الدورة الدموية. وتعود هذه العادة إلى الفترة المروية.
ومن العادات الأخرى التي وجدت مصورة في نقوش حوائط المباني الأثرية، عادات الحناء "الخضاب" للأرجل والأيدي، وتسريحة الشعر المميزة التي تسمى "الـمُشاط"، وهو تقسيم الشعر إلى عشرات الخصلات المفتولة بشكل دقيق. هذه التسريحة المميزة التي تعرف بالـمُشاط، وجدت حتى في المومياوات في مصر القديمة، وهي تمارس إلى الآن لدى معظم قبائل السودان. وكانت كنداكات مروي القديمة يخضبن أيدهن بالحناء، ويمارسن المشاط على نطاق واسع.
بعض أدوات الزراعة التي تم استخدامها كثيراً وسط قبائل الوسط والشمال، مثل الطورية والسلوكة، وجدت في ثقافات مروي ونبتة.
" تميز الزواج السوداني خاصة في شمالي ووسط السودان بعادات وطقوس تميزه عن كثير من البلدان الإفريقية والعربية. فان ما يلبس في حفلات الزواج أشبه ما يرتديه ملوك وملكات مملكة كوش (نبته - مروي) فالزينة التي ترتديها العروس أشبه بما كانت ترتديه الملكات المرويات. مثل: الجدلة وهي أشبه ما تكون بتاج الملكات المرويات. وأيضًا عقد الحرز الكبير يعرف باسم (الفرجلات)هذا بالإضافة لعقد السوميت وسبحة اليسر وكانت ملكات مروي يرتدين مثل هذه العقود فعقد الفرجلات الذي كان ينتهي بتمثال ايزيس استبدل بفتيل من الذهب. بالإضافة إلى سوار الثعبان الذي ارتدته الملكات واحتفظ بشكله القديم في زينة العروس. أما العريس فيرتدي عصابة يلتقي طرفاها عند مؤخرة الرأس وهي أشبه ما تكون بالطاقية الكوشية الملكية مع ملاحظة استبدال زوج ثعباني الكوبرا بالهلال."[8]
ومن العادات المميزة لقبائل الوسط والشمال، خاصة مجموعات الجعليين الكبرى، عادة "الشلوخ "، وهي تقطيع دقيق للجلد بخدود الوجه لدى الرجال والنساء، حيث تترك علامات ثابتة، تميز كل قبيلة عن الأخرى، وهي عادات ظهرت في نقوش تعود لعهد مروي والدولة المصرية الوسطى.
" وقد استمر استخدام جريد النخيل في وادي النيل الشمالي والأوسط كرمز للحياة والفأل إذ يستخدم في الزواج فيتم زفاف العريس بسيرة إلى البحر ويحمل الزافون أغصان جريد النخيل في أيديهم أشبه بما كان يحدث عندما يزف الملك إلى حياته الأبدية في مناظر قبور البجراوية. إن مثل هذه الممارسات التي نراها الآن في استخدام جريد النخيل ما هي إلا صدى ممارسات كانت تحدث في الماضي ويستخدم فيها ذات الجريد لذات الأغراض. هناك رسم على كوب صغير من الفخار عثر عليه في مروي موجود الآن بمتحف اللوفر في باريس يعود تاريخه للقرن الثاني قبل الميلاد يصور مجموعة من الرجال في حلقة رقص بشعر أجعد ويرتدون تنورات يتدلى منها حزام طويل يحمل أحدهم طبل (دلوكة) مع وجود جرة كبيرة (مريسة) ويمسكون بجريد نخيل ويمد أحدهم رقبته في شكل يوحي برقص. ويتكرر هذا النوع من الرقص في منظر آخر عند مجموعة من النساء في نقش على جدران هرم البجراوية N.II يخص الملكة شكندخيتو، حيث نشاهد إحداهن وهي تمسك الطبل (دلوكة) وتمسك الأخريات بجريد النخيل وترقص إحداهن برقبتها"[9]
أيضا يتم استخدام أوراق النخيل أو ما يسمى سعف النخيل في العديد من الصناعات اليدوية التي تشمل المفارش والتي بالدارجة السودانية تسمى "البروش"، وأيضًا تستخدم في صناعة السلال (القفاف) مختلفة الأحجام أو في سقف البيوت الثابتة والمؤقتة وكسجادة للصلاة. واستخدم سعف النخيل في حضارات السودان القديمة، وتم القيام بنفس الصناعات اليدوية أعلاه من بروش وسلال (القفة)، واستخدمت البروش في تغطية عنقريب الميت، وعنقريب العروس.

خامسًا: الهوية اللغوية والتحول الثقافي

وفي حديث لبروفسير عبد الله الطيب، طرح فيه سؤالاً مهماً للغاية، وصفه بأنه غريب ولا يجد له إجابة شافية، حيث يقول إن القبائل السودانية التي تنتشر على حدود السودان ، لا تتحدث اللغة العربية كلغة أم، رغم مقولة إن العرب قديماً نشروا اللغة العربية في السودان وجاءوا عبر الحدود، فكان من الأولى أن تتأثر أولاً هذه القبائل الحدودية، وتصبح لغتها العربية، لكن ما حدث هو غير ذلك، حيث إن القبائل السودانية في كل الحدود، مثل قبائل البجا في الشرق، وقبائل النوبة في الشمال، وقبائل دارفور الكبرى، وقبائل جنوب السودان، لا تتحدث اللغة العربية كلغة أم، بل إن بعضهم لا يعرف التحدث باللغة العربية، وذلك قبل تعريب المناهج. والمثير للاستغراب هنا هو لماذا تتحدث قبائل الوسط والشمال التى تمثلها المجموعات الجعلية الكبرى، اللغة العربية كلغة أم، وليس لديها لغة ثانية؟
التفسير الوحيد الذي نجده يتماشى مع ما قمنا بسرده أعلاه، أن قبائل الوسط والشمال هم ليسوا في الأصل قبائل جاءت إلى السودان من الجزيرة العربية، بل هم أحفاد سكان الحضارات القديمة التي انتشرت في الشمال والوسط، وإن لغتهم العربية، أو قل اللهجة العامية السودانية، هي لغة ممتدة من اللغة الكوشية الأم، والتي تأثرت بها معظم الدول المحيطة، وأنتجت ما يسمى باللغات السامية ومن بينها اللغة العربية في الجزيرة العربية! ويُعد الكوشيون من أقدم شعوب العالم الذين أقاموا حضارات في شمال وشرق إفريقيا وغرب آسيا. وإذا اعتبرنا الحضارة الكوشية أصلًا حضاريًا مبكرًا في هذه المناطق، فمن الطبيعي أن تُعد لغتهم إحدى أقدم اللغات البشرية، التي تفرعت عنها لاحقًا اللغات المسماة اليوم بالسامية والحامية والهندو-أوربية. إن التقسيم التقليدي للغات، والذي يعتمد على الروايات التوراتية ونسب اللغات إلى أبناء نوح، تصنيف غير علمي، ينبغي تجاوزه لصالح دراسات لغوية حديثة تقوم على البنية اللغوية، والصوتيات، وتاريخ الهجرات البشرية، وانتشار الحضارات قبل التاريخ المكتوب.
وتشير الأدلة إلى أن اتصالًا حضاريًا عميقًا كان قائمًا بين حضارتي كوش والحبشة وبين جنوب الجزيرة العربية منذ الألفيات السابقة للميلاد. وتبعًا لهذا الاتصال، انتقلت اللغة الكوشية عبر الهجرات المبكرة إلى اليمن، حيث تطورت إلى اللغات السبئية، والحميرية والمعينية والحضرمية. وبدورها نشأت من هذه الفروع اللغات العربية والعبرية والآرامية لاحقًا.
حتى الخط المسندي، المنسوب تقليديًا إلى جنوب الجزيرة العربية، قد يكون أصله إفريقيًا، انتقل مع المهاجرين الكوشيين إلى اليمن. ويؤكد المؤرخ اليوناني ديودورس الصقلي أن الكتابة المصرية القديمة (الهيروغليفية) كان أصلها من "إثيوبيا" التي كان المقصود بها السودان القديم.
اكتشفت أقدم الرموز الهيروغليفية البدائية في مواقع تعود إلى الألفية الرابعة قبل الميلاد، مثل ملصقات العقرب الأول في أبيدوس، ولوحة نارمر. ووجود نقوش للعقرب الأول قرب وادي حلفا في شمال السودان، يدعم فرضية أن بدايات الكتابة الهيروغليفية كانت كوشية الأصل قبل أن تنتقل إلى مصر. وهكذا يبدو أن اللغة الكوشية القديمة تطورت عبر مراحل متتالية إلى الهيروغليفية، ومنها إلى الديموطيقية والمروية والقبطية. وقد تكون هذه اللغات أقرب إلى اللغة العربية الحديثة من حيث البنية والمفردات.
وتفترض هذه الدراسة أن اللغة الكوشية القديمة كانت تشبه في كثير من خصائصها اللغة العربية الحديثة. وقد عُثر على تشابه لافت بين مفردات الكوشية المروية وبعض المفردات العامية السودانية، كما أظهرت بحوث حديثة. ففي دراسة للباحث أنس البشير أحمد موسى، وُجد تطابق في قواعد لغوية بين المروية والعامية السودانية، مثل استخدام لاحقة "-آب" للنسب والجمع، واستعمال "ما" للنفي، و"ني" للدلالة على الذات، بالإضافة إلى تشابه في ضمائر الملكية وصيغ الجمع. كما عُثر على العديد من الأسماء الشخصية والكلمات المتطابقة بين المروية والعامية، مما يعزز فرضية الامتداد اللغوي المحلي. وهذا كله يدعم أن اللغة العربية الحديثة في السودان تطورت محليًا من لغة كوشية قديمة، لا من خلال الاستبدال بهجرة عربية وافدة.
عند مقارنة اللغات السامية — العربية، العبرية، الآرامية، الأكادية — نجد تشابهًا بنيويًا لافتًا في المفردات، مما يدل على انحدارها من أصل لغوي مشترك، قد يكون اللغة الكوشية. وفي جدول المقارنات بين العربية واللغات السامية الأخرى، تظهر جذور مشتركة لكلمات مثل "أخ"، "ماء"، "لسان"، "بيت"، "عين"، "كلب"، "بعل"، مما يدل على وحدة الأصل قبل التمايز اللاحق. كما أظهرت دراسات مقارنة بين اللغة التقراوية (التقري) ولغة القرآن الكريم، وجود تطابق لافت في المفردات، مما يعزز فرضية أن أصل العربية الكلاسيكية له جذور كوشية عبر الحبشة واليمن.
ويشير بروفسير جعفر ميرغني إلى أن الترتيب القديم للأبجدية العربية (ألف، لام، ميم) كان شائعًا في الحبشة قبل الإسلام. كما أن خط الجزم، الذي تطور لاحقًا إلى الكتابة العربية، يرتبط تطوريًا بالخط المسندي الحميري ذي الأصول الحبشية، مع إشارات إلى الأصل المشترك مع الأبجدية المروية السودانية.
ومجمل الحديث يشير الى إن التحليل الدقيق لتاريخ قبائل شمال ووسط السودان يبين بجلاء أنها ليست قبائل عربية مهاجرة من الجزيرة العربية، بل هي الامتداد الحيوي لمجتمعات حضارات السودان القديمة، التي واصلت تطورها وتكيّفها عبر القرون. ويُعد النسب العربي الذي انتشر في القرون الأخيرة، وخاصة بعد قيام مملكة سنار، محاولة لإضفاء مشروعية دينية أو سياسية على الجماعات المحلية، لا تعكس واقعًا إثنيًا حقيقيًا.
وبناءً على المعطيات التاريخية، والأنثروبولوجية، والأثرية، فإن ما يسمى اليوم بـ "القبائل العربية" في السودان، هي في حقيقتها قبائل سودانية أصيلة، تعود أصولها إلى شعوب وادي النيل القديمة، التي صنعت حضارات كرمة، نبتة، ومروي، وتبنت لاحقًا اللغة العربية كلغة ثقافية، لا كدليل على أصل أجنبي.
كما تشير المعطيات التاريخية والأثرية واللغوية إلى أن اللغة الكوشية القديمة كانت الأصل الذي تفرعت عنه معظم لغات حوض البحر الأحمر، بما فيها العربية والعبرية والحبشية. ومن هذا المنظور، فإن اللغة العربية ليست وافدة على السودان أو المنطقة، بل هي امتداد طبيعي لتحولات لغوية محلية بدأت من حضارات وادي النيل العليا منذ آلاف السنين. إن إعادة فهم أصول اللغات بعيدًا عن التقسيمات التوراتية، واعتمادًا على علم اللغويات التاريخية المقارن، يكشف عن دور السودان القديم كأحد المراكز الكبرى في نشوء الحضارة واللغة على حد سواء.

المراجع:
H. A. MACMICHAEL. 1921: A HISTORY OF THE ARABS IN THE SUDAN, volume one, introduction.
يوسف فضل، 1975، دراسات في تاريخ السودان وافريقيا وبلاد العرب، الجزء الأول، ص: 125
عون الشريف قاسم، 1996، موسوعة القبائل والانساب في السودان، ص: 1134
محمد صالح ضرار،1981، تاريخ سواكن والبحر الأحمر، ص 48 -49
H. A. MACMICHAEL. 1921: A HISTORY OF THE ARABS IN THE SUDAN, volume two, introduction: III, XXXVII.
أحمد الياس، 2018، السمرقندي وبعض مراجع رواة الأنساب، مقال بصحيفة الراكوبة الالكترونية.
جمال عبد القادر البدوي، السودانيون متمسكون بعادات ممالك ما قبل الميلاد، صحيفة اندبندنت عربية، 24 ديسمبر 2020
أمل سليمان بادي، 2020، التراث الثقافي السوداني ماضٍ عريق وحاضرٌ متجدد، موقع مركز الدراسات السودانية

________________________________________
[1] H. A. MACMICHAEL. 1921: A HISTORY OF THE ARABS IN THE SUDAN, volume one, introduction.
[2] يوسف فضل، 1975، دراسات في تاريخ السودان وافريقيا وبلاد العرب، الجزء الأول، ص: 125
[3] عون الشريف قاسم، 1996، موسوعة القبائل والانساب في السودان، ص: 1134
[4] محمد صالح ضرار،1981، تاريخ سواكن والبحر الأحمر، ص 48 -49
[5] H. A. MACMICHAEL. 1921: A HISTORY OF THE ARABS IN THE SUDAN, volume two, introduction: III, XXXVII.
[6] أحمد الياس، 2018، السمرقندي وبعض مراجع رواة الأنساب، مقال بصحيفة الراكوبة الالكترونية.
[7] جمال عبد القادر البدوي، السودانيون متمسكون بعادات ممالك ما قبل الميلاد، صحيفة اندبندنت عربية، 24 ديسمبر 2020
[8] أمل سليمان بادي، 2020، التراث الثقافي السوداني ماضٍ عريق وحاضرٌ متجدد، موقع مركز الدراسات السودانية
[9] أمل سليمان بادي، 2020، التراث الثقافي السوداني ماضٍ عريق وحاضرٌ متجدد، موقع مركز الدراسات السودانية

saadmadani54@gmail.com  

مقالات مشابهة

  • أبناء الجالية السودانية: الإمارات الداعم الأكبر لبلادنا.. وأمنها خط أحمر
  • الحكومة السودانية ترد على إتهامات من الإمارات بتهريب أسلحة للجيش
  • ماذا جاء في رسالة الإمارات لمجلس الأمن بشأن ترويج ممثل القوات المسلحة السودانية لمعلومات مضللة؟
  • أصول القبائل السودانية في الوسط والشمال: نقد فرضية الهجرة العربية وإعادة قراءة الهوية الكوشية
  • كيف أدت الحرب إلى تغيرات تركيب الطبقة العاملة السودانية؟ (١/٢)
  • عندما تكون أقصي الطموحات هي إيقاف الحرب !!..
  • كيف انتزعت الطبقة العاملة السودانية حق التنظيم النقابي؟
  • الهدف: إيقاف سيلان نهر العودة الى السودان
  • عماد السنوسي يتحدث عن الدور المصري الفاعل في الأزمة السودانية
  • قيادي بحزب المؤتمر: العلاقات المصرية السودانية ركيزة لاستقرار المنطقة