لن تذهب حكومة السودان وممثلو الجيش السوداني إلى مفاوضات سلام جنيف المقترحة من الأميركيين في الرابع عشر من أغسطس الجاري؛ لمناقشة كيفية وقف القتال وقضايا إيصال المساعدات الإنسانية، ويبدو أنَّ الموقف السوداني – الذي عبّر عنه رئيس مجلس السيادة وقائد الجيش الفريق أول عبدالفتاح البرهان أكثر من مرّة مؤخرًا – والردّ من وزارة الخارجية السودانية على رسالة الدعوة الكتابية التي وجهها وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، قد قطعا قول كل خطيب.

فتح منبر موازٍ

قراءة المواقف حول السودان لم تعد مبنيّة على التكهنات والترجيحات، فقد حددت السلطة السودانية رأيها، وتعاملت مع المقترح الأميركي وكأنه حرث في البحر، معتبرة جولة جنيف المقترحة لا تقدم شيئًا، إذا لم يُستجب قبلها للمطالب المعلومة والشروط الواجب تنفيذها فيما اتّفق عليه بجدة في يوليو/تموز 2023م، بخروج قوات الدعم السريع من منازل المواطنين والأعيان والمرافق الحكومية، والانسحاب من المدن.

يتبدّى السؤال حول هذه الدعوة للتفاوض بين حكومة السودان والجيش الوطني مع الدعم السريع: ما الذي تريده الأطراف الدولية مثل الولايات المتحدة الأميركية وأطراف إقليمية أخرى من طرح هذا المقترح؟ وفي هذا التّوقيت؟

للإجابة عن هذا السؤال، ينبغي معرفة ما وراء الأكمة، وإزالة الضباب الداكن الذي تستّرت به الدعوة الأميركية لجولة تفاوضية في جنيف بعد أسابيع من دعوة أميركية أخرى، أطلقت علنًا دعت فيها الحكومة السودانية والجيش لمواصلة التفاوض مع قادة الدعم السريع عبر منبر جدة، وزار نائب وزير الخارجية السعودي السودان قبل أسابيع لبحث استئناف المفاوضات تحت إشراف الوساطة المشتركة الأميركية – السعودية.

ليس خافيًا أن المسألة السودانية وتسويتها، أصبحتا ورقة انتخابية لدى إدارة الرئيس بايدن والحزب الديمقراطي الذي يخوض أشرس معاركه الانتخابية في مواجهة خصم عنيد مرشح الحزب الجمهوري الرئيس السابق دونالد ترامب، ويخلو وفاض الإدارة الحالية والسيدة كامالا هاريس نائبة الرئيس – مرشحة الضرورة – من أي نجاحات خارجية تساعدها في حملتها الانتخابية.

وصارت الأزمة السودانية والحرب المهلكة التي تدور، لوحة إعلانية تريد الإدارة الأميركية تعليق إعلانها الانتخابي عليها، كما تريد جهات إقليمية الانضمام للجوقة الأميركية، وتبنّي فكرة المنبر التفاوضي الجديد،  ومقايضة المساعي والمقترحات الأميركية بتمويل الحملة الانتخابية، وتحفيز حملة المرشحة الطامحة كامالا هاريس الانتخابية لإحراز هدف مبكر.

وليس سرًا استجابةُ الإدارة الأميركية للرجاءات المتكررة من بعض دول الإقليم بإشراكها في أي تسوية قادمة بالسودان، وإدماجها في الوساطة المشتركة بمنبر جدة، ولما رفض السودان ذلك بصورة قاطعة، شجعت هذه الدول الأميركيين على فتح منبر موازٍ، وتجاوز منبر جدة التفاوضي، وتوسيع الوساطة واقتراح صيغ مختلفة للمراقبين والشركاء الجدد، وصناعة مسار تفاوضي يجُبُّ ما قبله، ويحقق الأهداف بإعادة قوات الدعم السريع إلى المشهد السياسي والقبول بها مرة أخرى في المضمار السياسي السوداني، وإعادة تدوير وإنتاج تنسيقية القوى المدنية "تقدم" لتقود العملية السياسية بعد إيقاف الحرب.

أزمة مركّبة

في هذا الجانب جرت اتصالات وتحركات دبلوماسية أميركية – إقليمية في عدة اتجاهات، مؤداها أن منبر جدة التفاوضي ومبادرة منظمة الإيغاد التي جمّد السودان عضويته فيها، ومبادرة الاتحاد الأفريقي، ومبادرة دول جوار السودان التي دعت إليها القاهرة، لم تفلح في لجم الحرب السودانية، كما أن رياح هذه المبادرات جرت على غير ما تشتهي بعض الدول الداعمة لقوات الدعم السريع وأحزاب" تقدم".

ولا تخطئ عين، أن هدف الدعوة إلى تفاوض جنيف، هو التخلص من الالتزامات السابقة في منبر جدة، وتجاوز الضغط على قوات الدعم السريع وإلزامها بما تم الاتفاق عليه في جدة في يوليو/تموز 2023م، وجاء رفض السودان هذه الدعوة الأميركية وعدم المشاركة فيها؛ للحيلولة دون الالتفاف على ما تم في جدة أو فتح منبر تفاوضي جديد في جنيف، والبدء من نقطة الصفر.

يمكن القول؛ إنَّ واشنطن وقعت في فخ مُحكم بتصدرها الدعوة للتفاوض في جنيف، دون أن تراعي حساسيات الموقف الداخلي بالسودان، وعلاقاتها في الإقليم، وعدم اكتراثها برد الفعل لأهمّ مكوّن في الراهن الماثل بالسودان وهو الجيش الذي يدير البلاد حاليًا، ويخوض حربًا ممولة ومدعومة من الخارج.

من العسير أن يتحقق سلام أو تبرم اتفاقية أو يشرع في إجراء ترتيبات تسوية وتوليد حلول للأزمة ووقف الحرب، دون مشاركة الحكومة السودانية، ويكون الجيش موافقًا عليها ومشاركًا في تحضيراتها ومتابعًا تفاصيلها الدقيقة، خاصة ما يتعلق بالشركاء في الوساطة، ومن هم المراقبون وما دورهم؟ وما هي أجندة وموضوعات التفاوض؟ وما مصير مقررات جدة؟

أمام كل هذه المعطيات، يمكن القول إن الولايات المتحدة تعاني من أزمة مركبة في تقديراتها ونظرتها للموقف داخل السودان، ولتطورات الحرب الميدانية بكل تفاصيلها، بجانب عدم فهمها درجة ومدى التفاعلات السياسية والاجتماعية العاصفة التي يشهدها بلد مثل السودان بعد الحرب، وتشرد ما يقارب العشرين مليونًا من مواطنيه خارج أراضيهم ومنازلهم، توزعوا ما بين نزوح ولجوء، وتعرضهم لأبشع أنواع الانتهاكات وجرائم الحرب، ويعاني شعب كامل من أزمة إنسانية قاسية وظروف سياسية بالغة التعقيد.

تعلم بعض الدوائر الرسمية في واشنطن أن العلاقة الأميركية والسياسة الثابتة تجاه السودان، تختلف تمامًا عن المطروح حاليًا في سياق المبادرات والمنابر التفاوضية، ولا تلتقي الأجندة الأميركية ومطلوباتها، مع أجندة الآخرين من الفضاء الأفريقي، أو المحيط الإقليمي الذي تمثله بعض الدول المتورطة في حرب السودان.

فإذا كانت سياسة الولايات المتحدة في التعامل مع السودان خلال العقود الماضية مبنية على ضرورة صناعة الاستقرار، وحصد نتائج انعكاساته على منطقتي القرن الأفريقي وأفريقيا جنوب الصحراء، والنظر إلى السودان بأنه الشريك الأساس في مكافحة الإرهاب وحل معضلة الهجرة غير الشرعية، فإنه قد تراجعت السياسة الأميركية بسوء التقدير وضعف التقييم، مع أن أهمية السودان الإستراتيجية ودوره في المنطقة وترتيباتها لم تتراجع.

ملفات شائكة

وتبدو هنا الملفات شائكةً لا يمكن حلها بدون تمتين علاقة مباشرة ومنتجة مع مؤسسات الدولة السودانية، وأهمها القوات المسلحة، والتنسيق والتعاون من أجل حكم مستقر وقوي قادر على التعامل مع حقائق الواقع، والتعاطي مع قضايا الداخل والمنطقة، ومن هنا يستبين افتراق الطرق بين ما تريده الولايات المتحدة، وما تسعى إليه أطراف إقليمية داعمة للحرب في السودان، لها أجندة لا تقود إلى استقرار هذا البلد أو تحقيق السلام أو تجعل السودان عنصرًا فاعلًا في عملية مكافحة الإرهاب والهجرة غير الشرعية.

فكل هذا يؤكد أن الدعوة إلى مسار تفاوضي في جنيف مجرد محاولة للتلويح بورقة انتخابية واستخدامها خلال الحملة الحالية في المائة يوم المتبقية قبل ذهاب الناخب الأميركي إلى صناديق الاقتراع.

في هذا السياق، لم تنجح أي زيارة مزمعة للمبعوث الأميركي الخاص للسودان توم بيريلو منذ تعيينه للعاصمة المؤقتة بورتسودان، وبرزت الخلافات المراسميّة والتأمينية كعقبة أمام ترتيب زيارة المبعوث الأميركي، ولقائه مع رئيس مجلس السيادة، وبقية المسؤولين السودانيين، ولم تُظهِر الإدارة الأميركية أية لباقة ونظرة سليمة لتجاوز ما تمر به علاقاتها الحالية مع السودان وقيادة الجيش.

وقد أشار أكثر من مسؤول دبلوماسي أميركي في منطقة شرق أفريقيا إلى أن السياسة والعلاقات الدبلوماسية الأميركية ووجهة نظرها للسودان خلال الفترة التي سبقت الحرب وبعدها لم تكن ناجحة ولم تفلح في قراءة الوضع على وجهته الصحيحة.

وقال سفير أميركي في إحدى دول شرق أفريقيا في حفل دبلوماسي الشهر الماضي:  "علينا مراجعة الأخطاء التي أدّت للأحداث في السودان والبحث عن تسوية عاجلة والانتباه لمصالحنا الحقيقية قبل ذهاب هذا البلد إلى المجهول"،  بينما نشط دبلوماسيون أميركيون في أديس أبابا للالتقاء بأطراف سودانية وأفريقية؛ لإعادة تقييم الوضع بالسودان وآفاق الحلول الممكنة.

مهما يكن، فإن احتمالات نجاح الجولة التفاوضية المقترحة من عدمها، مرهونة  بمشاركة الحكومة السودانية وممثلي الجيش، فلا أمل في نجاح هذه الجولة التفاوضية إذا لم يشارك هذا الطرف الأهمّ.

أما مصر التي بدأت التحرك لمحاصرة أي تحركات إقليمية للتدخل في السودان فليست متحمسة بما يكفي لدعم جولة جنيف، رغم عدم إعلان معارضتها لها، بينما ترى أطراف دولية، مثل: روسيا، والصين، وتركيا، ودول أفريقية أخرى، أن الحلول المقترحة من الأميركيين بشأن السودان لا تسمن ولا تغني من جوع.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلامية

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات الولایات المتحدة الدعم السریع منبر جدة فی جنیف

إقرأ أيضاً:

أطباء بلا حدود: تستأنف عملياتها في مستشفى بشائر جنوبي العاصمة السودانية

رغم استئناف العمل، أكدت المنظمة استمرار الدعوة إلى ضمان وصول المساعدات الإنسانية دون عوائق لتلبية الاحتياجات المتزايدة في السودان.

الخرطوم: التغيير

أعلنت منظمة أطباء بلا حدود استئناف عملياتها الكاملة في مستشفى بشائر التعليمي بجنوب العاصمة الخرطوم بعد توقف قصير بسبب مخاوف أمنية ناجمة عن توغل مسلح.

وقال إستيفانوس ديباسو منجستو، منسق الطوارئ في المنظمة بالسودان، في تحديث الثلاثاء، إن القرار جاء بعد مناقشات مع جهات محلية لضمان سلامة وأمن موظفي المنظمة وموظفي المستشفى والمرضى. وأضاف: “نحن الآن قادرون على تقديم الرعاية الطبية الحرجة لمن هم في حاجة إليها”.

ورغم استئناف العمل، أكدت المنظمة استمرار الدعوة إلى ضمان وصول المساعدات الإنسانية دون عوائق لتلبية الاحتياجات المتزايدة في السودان.

كما شددت على أهمية تأمين سلامة المنشآت الصحية، لضمان استمرار المستشفيات، مثل مستشفى بشائر، في تقديم خدماتها للمدنيين المتأثرين بالأوضاع الراهنة.

وأعلنت الكوادر الصحية مستشفى بشائر الأسبوع الماضي إضراباً عن العمل شمل جميع الخدمات عدا الحالات الحرجة، ولم يتم استقبال مرضى جدد إلا إذا كانت حالاتهم حرجة، وذلك حتى إشعار آخر.

الإضراب جاء احتجاجاً على اعتداء مسلح تعرّض له المستشفى مؤخراً،  حيث اقتحمت مجموعة من المسلحين، يُعتقد أنهم ينتمون إلى قوات الدعم السريع، المستشفى وأطلقت وابلاً من الرصاص داخل قسم الطوارئ، مما أسفر عن مقتل أحد أفراد القوات المقتحمة.

فيما تمكن العاملون من الفرار دون إصابات، لكن الحادثة خلّفت لديهم حالات من الهلع والصدمة العميقة.

الوسومآثار الحرب في السودان أطباء بلا حدود جنوب الحزام جنوب الخرطوم مستشفى بشائر

مقالات مشابهة

  • العلاقات الروسية وخارطة الطريق السودانية
  • توم بيرييلو: تأهل المنتخب السوداني لأمم إفريقيا مثال آخر على الروح السودانية التي لا تقهر في مواجهة الشدائد
  • السودان ما بين استبدال القوى السياسية أو استبدال الأمة السودانية
  • الفيتو الروسي يوقف قرار حماية المدنيين في السودان ويؤجل الحلول
  • “بيرييلو” ومآلات الحرب السودانية
  • نوازع السيطرة عند بريطانيا وإنكارها مسؤوليات ودور الحكومة السودانية
  • أطباء بلا حدود: تستأنف عملياتها في مستشفى بشائر جنوبي العاصمة السودانية
  • الحلول "الترامبية" المنتظرة
  • منها تأهل المنتخب لأمم أفريقيا.. 4 أحداث بيوم واحد تشعل المنصات السودانية
  • البرهان يوافق على مقترحات المبعوث الأميركي لحل الأزمة السودانية