نشأت فكرة تشكيل حكومة عموم فلسطين عندما أعلنت حكومة الانتداب البريطاني على فلسطين نيتها إنهاء انتدابها، وأحالت القضية الفلسطينية إلى الأمم المتحدة.

أدركت القيادة الفلسطينية، ممثلة آنذاك بالهيئة العربية العليا لفلسطين، بزعامة الحاج أمين الحسيني، أهمية الاستعداد لهذا الحدث واستباقه وإيجاد إطار دستوري يملأ الفراغ الناجم عن انتهاء الانتداب، وكان هذا الإطار هو إقامة حكومة عربية فلسطينية.

إدارة مدنية مؤقتة

طلبت الهيئة العربية العليا لفلسطين من جامعة الدول العربية ودولها دعم قرارها بتشكيل حكومة فلسطينية، ومساعدتها على تنفيذه في مايو/أيار 1948. ولكن الدول العربية لم توافق يومئذ على إنشاء هذه الحكومة.

وواصلت الهيئة جهودها لإقناع الدول العربية بضرورة إنشاء حكومة فلسطينية، ولكن بدون جدوى، في حين كان اليهود قد شكلوا هيكل حكومة يهودية لفلسطين، تعلن رسميا عند انتهاء الانتداب.

جمال الحسيني أحد أعضاء حكومة عموم فلسطين (غيتي)

وفي 14 مايو/أيار 1948 أُعلن قيام إسرائيل رسميا، ودخلت الجيوش العربية النظامية أراضي فلسطين، فشبت حرب 1948، ثم عقدت الهدنة الأولى وتلتها الثانية، لكن اليهود استمروا بخرق أحكام الهدنة الثانية، واستولوا على المزيد من الأراضي الفلسطينية.

في العاشر من يوليو/تموز 1948 أعلنت الأمانة العامة لجامعة الدول العربية موافقة اللجنة السياسية للجامعة على تشكيل "إدارة مدنية مؤقتة"، حددت واجباتها في تسيير الشؤون المدنية العامة والخدمات الضرورية.

وقد أكد قرار الجامعة العربية نفاذ صلاحية مجلس الإدارة المدنية في جميع المناطق التي ترابط فيها الجيوش العربية، أو التي تحتلها إسرائيل حتى تمتد إلى فلسطين بكامل حدودها.

ويعتبر مشروع الإدارة المدنية الفلسطينية في الواقع صيغة معدلة للطلب الذي تقدمت به الهيئة العربية العليا لفلسطين لإنشاء دولة عربية فلسطينية بعد انتهاء الانتداب البريطاني.

فقد أدى اعتراض الملك عبد الله الأول ملك الأردن إلى تعديل التسمية رغبة من اللجنة السياسية للجامعة العربية في الحفاظ على وحدة الموقف العربي.

ولم يُنفّذ مشروع الإدارة المدنية الفلسطينية في حينه، وذكر أن السبب يعود إلى التطورات السريعة في الموقف العام بفلسطين وظروف الحرب العربية-الإسرائيلية.

حسين فخري الخالدي أحد أعضاء حكومة عموم فلسطين (الأرشيف الاردني) مؤتمر غزة وحكومة عموم فلسطين

أصبحت مسألة الحكومة العربية الفلسطينية ضرورة ملحة عشية الدورة الجديدة للجمعية العامة للأمم المتحدة في خريف عام 1948.

وتبنت الهيئة العربية العليا الموضوع وطاف جمال الحسيني في العواصم العربية من أجل كسب تأييدها. وفي 22 سبتمبر/أيلول 1948 أعلن عن تشكيل حكومة عموم فلسطين في قطاع غزة.

وأبلغ رئيسها أحمد حلمي عبد الباقي الحكومات العربية والأمين العام للجامعة العربية، كما أذيع بيان للشعب العربي الفلسطيني باسم الحكومة الجديدة، وطلب منه التعاون مع حكومته الوطنية.

تشكيلة النظام السياسي

وقال البيان إن الهيئة العربية العليا اعتمدت إيجاد نظام سياسي في البلاد، وقررت تشكيل إدارة قومية عامة لفلسطين بأكملها تتألف من:

رئيس أعلى. مجلس وطني عام. مجلس تنفيذي له رئيس مسؤول ينال ثقة المجلس الوطني العام.

وعندما اجتمع المؤتمرون في غزة، ألفوا مجلسا أطلقوا عليه اسم المجلس الوطني الفلسطيني، وانتخب هذا المجلس حكومة أسماها حكومة عموم فلسطين.

أعضاء حكومة عموم فلسطين

ضمت حكومة عموم فلسطين كلا من أحمد حلمي عبد الباقي رئيسا، وجمال الحسيني ورجائي الحسيني وعوني عبد الهادي وأكرم زعيتر وحسين فخري الخالدي وعلي حسنة وميشال أبكاريوس ويوسف صهيون وأمين عقل أعضاء.

موقف الحكومات العربية

رغم تفهم الحكومات العربية ضرورة قيام الحكومة الجديدة وموافقتها على ذلك، إلا أن إحدى الدول العربية اعترضت، وأخرى تحفظت، إلا أن ملك الأردن عبد الله بن الحسين قاوم إنشاء الحكومة الجديدة، وتطورت مقاومته لها إلى حملة علنية ضدها.

فقد دفع ملك الأردن عددا من الشخصيات الأردنية والفلسطينية إلى شن حملة عنيفة ضد الحكومة الجديدة، وحاولت الجامعة العربية الوساطة، وسعى رئيس وزراء لبنان رياض الصلح لرأب الصدع، غير أن الملك عبد الله لم يغير مواقفه.

قررت الهيئة العربية العليا والحكومة الجديدة إزاء موقف الملك عبد الله الدعوة إلى مجلس وطني فلسطيني لتأكيد شرعية الحكومة وإظهار تأييد الشعب العربي الفلسطيني لها.

رجائي الحسيني أحد أعضاء حكومة عموم فلسطين (أرشيف المتحف الفلسطيني الرقمي)

وقد عُقد المؤتمر في الأول من أكتوبر/تشرين الأول 1948 في غزة برئاسة الحاج محمد أمين الحسيني، وحضرته شخصيات فلسطينية عديدة. وقد أعلن المؤتمر عن "شرعية الحكومة الجديدة"، كما قرر إعلان "استقلال فلسطين وإقامة دولة حرة ديمقراطية ذات سيادة".

ورسم الإعلان حدود فلسطين، وهي الحدود الدولية مع سوريا ولبنان شمالا، ومع الأردن شرقا، والبحر الأبيض المتوسط غربا، ومع مصر جنوبا، وشجب المؤتمر محاولة اليهود إنشاء دولة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وأقر أيضا دستورا مؤقتا لفلسطين.

سعى الملك عبد الله من جانبه إلى عقد مؤتمر فلسطيني آخر في العاصمة عمّان (المؤتمر الفلسطيني، عمان 1948) برئاسة الشيخ سليمان "التاجي الفاروقي"، في اليوم ذاته الذي انعقد فيه مؤتمر غزة.

وأنكر المجتمعون في عمّان على المؤتمرين في غزة تمثيل الشعب الفلسطيني. وعقد الملك مؤتمرا آخرا بمدينة أريحا في ديسمبر/كانون الأول 1948 يرأسه الشيخ محمد علي الجعبري رئيس بلدية الخليل، أعلن فيه عن وحدة الأراضي الفلسطينية والأردنية ومبايعة الملك عبد الله ملكا على فلسطين.

وفي الفترة نفسها جمع الملك شمل مؤتمر ثالث في رام الله أيد فيه المؤتمرون قرارات مؤتمر أريحا، كما دعوا إلى اتخاذ الإجراءات الكفيلة بتنفيذ تلك القرارات.

وقد صاحبت هذه المؤتمرات جولات قام بها الملك في أنحاء من فلسطين أخذ خلالها البيعة، وبُلغت للحكومات العربية والأمانة العامة للجامعة العربية نتائج تلك المؤتمرات.

سيطرة الإدارة المصرية

كانت حكومة عموم فلسطين مكونة من 12 وزارة مقرها العاصمة المصرية القاهرة، وكانت تدير منها شؤون قطاع غزة، لذلك كانت فعليا تحت الإدارة المصرية وغير منفصلة عنها ماليا وإداريا وعسكريا.

ورغم تحمس مصر لقيام الحكومة واعترافها بها في 12 أكتوبر/تشرين الأول 1948، فإنها لم تلتزم بما تعهدت به نحوها، فلم تسمح لها بممارسة سياستها في غزة.

ووجد وزراء حكومة عموم فلسطين أنفسهم غير قادرين على أداء وظائفهم لأن اختصاصاتهم تقع تحت سيطرة الإدارة العسكرية المصرية، فاستدعى رئيس وزراء مصر آنذاك محمود فهمي النقراشي باشا رئيس المجلس الأعلى لحكومة عموم فلسطين محمد أمين الحسيني إلى القاهرة، ولكن الحسيني امتنع عن التلبية، فما كان من النقراشي إلا أن أجبره على ذلك بالقوة وبما يشبه الإبعاد.

وبعد ذلك لم تسمح السلطات المصرية لحكومة عموم فلسطين بالبقاء في غزة، وطلبت منها الرحيل إلى القاهرة، ولم تمكنها من مزاولة مهامها الحقيقية، وحجبت عنها الأموال والصناعات التي وعدتها بها من قبل، ولم تكن حريصة على دعوتها لحضور دورة مجلس الجامعة العربية في خريف عام 1949، أي بعد عام واحد من تشكيلها.

وكانت تلك المدة كافية لفقدان الثقة في المساندة المصرية الحقيقية للحكومة الفلسطينية، مما أدى إلى تفرق أعضائها بعد يقينهم بعدم جدية الدعم المصري، باستثناء الموقف الذي لم يتجاوز بضعة أشهر، والذي حظيت به إبان الحكومة الوفدية برئاسة مصطفى النحاس باشا في مارس/آذار 1950.

جواز سفر حكومة عموم فلسطين (الصحافة الفلسطينية) عقبات وعراقيل

ضيقت جامعة الدول العربية على حكومة فلسطين ماليا، وهذا أجبرها على تسريح القوات المتبقية من الجهاد المقدس، التي كانت تعمل في المنطقة المصرية من فلسطين، وتحت إشراف الجيش المصري، أما القوات التي كانت تعمل في المناطق التي يسيطر عليها الأردن سابقا فقد استلم الجيش الأردني مواقعها.

وكان عدم توفير الجامعة العربية الموارد المالية لحكومة عموم فلسطين الضربة القاضية التي أدت لصدور قرار إلغاء وزارات الحكومة وتقليص أعمالها في سبتمبر/أيلول 1952.

ثم تقرر تقليص حكومة عموم فلسطين، فأصبحت تضم أحمد حلمي والسكرتير العام جميل السراج وبضعة موظفين، كما خفضت مخصصاتها إلى 1500 جنيه مصري، وعلى الرغم من تواضع هذا المبلغ إلا أن الحكومة كانت تجد مشقة في الحصول عليه من الجامعة.

وكانت الحكومة تعتمد في تغطية نفقاتها على رسوم جوازات السفر التي كانت تصدرها بمعدل جنيه واحد عن كل جواز، وما زاد على ذلك كانت تقدمه إعانات رمزية للأسر الفلسطينية المحتاجة.

ورغم أن حكومة عموم فلسطين كانت غير قادرة على الإيفاء بالتزاماتها السياسية والعسكرية، فإنها استغلت الهامش الضيق الذي منحته لها بعض الدول العربية، فأصدرت 60 ألف جواز سفر باسمها للفلسطينيين في بعض الدول العربية، ما بين عامي 1948 و1961، كما سمح لها بالعمل في بعض المجالات، منها التعليم والصحة والشؤون المدنية وغيرها.

ورغم كل هذه العقبات والعراقيل ظلت هذه الحكومة قائمة إلى أن غادر رئيسها أحمد حلمي القاهرة إلى لبنان أواخر عام 1962 بسبب اشتداد المرض عليه حتى توفي عام 1963 وانتهت الحكومة بوفاته.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات الهیئة العربیة العلیا الحکومة الجدیدة الجامعة العربیة الملک عبد الله الدول العربیة أحمد حلمی إلا أن فی غزة

إقرأ أيضاً:

معركة جديدة للإحتلال .. الصين تملأ الفراغ الغربي في أفريقيا

 

كان الرئيس الصيني شي جين بينغ أقل تحفظا أمام زعماء نحو 50 دولة أفريقية خلال منتدى التعاون الصيني الأفريقي في بكين، حين قال في خطابه: “إن عملية التحديث التي يقودها الغرب في أفريقيا تسببت في معاناة كبيرة لشعوب المنطقة”. يأتي ذلك في وقت تزداد فيه المخاوف الأميركية والغربية أيضا من هذا “الغزو الصيني الناعم” للقارة الأفريقية التي كانت معقلا تقليديا لنفوذه.

التغيير ــ وكالات

يضيف الرئيس الصيني، في المنتدى، الذي اختتم يوم السادس من سبتمبر 2024، متطرقا إلى أحد أبرز أسباب التقارب الصيني الأفريقي: “بدءا من منتصف القرن العشرين، حاربت الصين والدول الأفريقية معا ضد الإمبريالية والاستعمار ويجب علينا أن نواصل طريق التحديث والنمو معا”.

جاء خطاب شي جين بينغ مختلفا، فقد دأبت الصين غالبا إلى التأكيد أن شراكاتها لا تستهدف “أي طرف ثالث”، في إشارة إلى الغرب نفسه -المستعمر أو الحليف التقليدي السابق لمعظم البلدان الأفريقية- لكن اطمئنان شي إلى رسوخ علاقات الصين الأفريقية وإلى تنامي قوة بلاده، وخصوصا تغير نظرة أفريقيا للغرب جعلته يصرح بما كان سابقا يخفيه بمنطق الصبر الإستراتيجي وطول النفس الصيني المعهود.

طموح الصين وهواجس أفريقيا

حتى سنوات قليلة ماضية، كانت الصين في قائمة بلدان العالم الثالث -وفق المعايير والتصنيفات الجيوسياسية القديمة- جنبا إلى جنب مع الدول الأفريقية نفسها ومعظم الدول الآسيوية، لكنها صعدت إلى مركز الريادة العالمية اقتصاديا وسياسيا وعسكريا وتكنولوجيا، بما يشبه المعجزة، لتطرح نفسها “بديلا موثوقا” لأفريقيا.

عمليا بات بإمكان الصين أن تقدم كل شيء لأفريقيا، من لعب الأطفال إلى مشاريع البنية التحتية الضخمة والقروض والتكنولوجيا فائقة الدقة، وهذا ما يؤرق الغرب الذي كان يحتكر كل ذلك.

يشير محللون إلى أن أفريقيا تغيرت أيضا بما يخدم مصلحة الصين كقوة كبرى ومعززة بكل عوامل التفوق تلك. ففي السنوات الأخيرة ازدادت هواجس الدول الأفريقية وإحباطها من “عملية التحديث التي يقودها الغرب في أفريقيا” -وفق تعبير الرئيس الصيني- فلا الديمقراطية تحققت، ولا التنمية الحقيقية على النمط الغربي حصلت. وبقيت البلدان الأفريقية في معظمها تراوح مكانها في مربعات الفقر والجهل والمرض والفساد والانقلابات العسكرية والديون التي تجاوزت تريليون دولار عام 2023 حسب تقرير البنك الأفريقي للتنمية.

بدا أن تحويل الكثير من الدول الأفريقية البوصلة نحو الصين -بدرجة أقل روسيا وتركيا- يمثل بشكل ما استيعابا لدرس عقود من “الإهمال الغربي لأفريقيا”، ونتيجة لذلك “الإحباط في العالم النامي وتطلعاته” وفق توصيف صحيفة نيويورك تايمز الأميركية.

قبل 4 سنوات، جاءت أزمة لقاحات كورونا، التي أهملت فيها أفريقيا بشكل جعلها الأكثر تضررا، كجزء من هذا الدرس، ثم أتت مفارقة منح الدول الغربية نحو 500 مليار دولار من المساعدات المختلفة لأوكرانيا في ظرف سنتين، بما يفوق ما منح لأفريقيا خلال عقود، منها نحو 50 مليار دولار كقروض ومساعدات من صندوق النقد الدولي والبنك العالمي، تأكيدا لهذا الدرس.
بشكل عام، يمكن فهم متلازمة الانقلابات التي شهدتها بعض دول الساحل والصحراء وإنهاء النفوذ الفرنسي والأميركي فيها (النيجر ومالي وبوركينا فاسو وبدرجة أقل تشاد) وكذلك أفريقيا الوسطى وغيرها، والاتجاه نحو روسيا والصين في سياق إحباطات أفريقية، ومراجعات وجرد لمكاسب الارتباط لعقود بالغرب، جاءت نتائجه سلبية لتعزز فك الارتباط والبحث عن خيارات أخرى.

يشير محللون إلى أن الغرب لا يتحمل وزر كل أزمات القارة الأفريقية المعقدة، لكنه بالمحصلة جزء مهم رئيسي منها، ويعكس ذلك التحول الفارق في مقاربة معظم الدول الأفريقية لعلاقاتها السياسية والاقتصادية تبعات إرث استعماري وعقودا من الفشل الاقتصادي والتنموي وفق المقاربات الغربية، وانتشار الفقر والفساد رغم الثروات الضخمة التي تمتلكها في ظل أحادية العلاقة مع الدول الغربية.

في كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر 2023، انتقد الرئيس الغاني نانا أكوفو آدو بشكل حاد -وهو مقرب من الغرب- تلك العلاقة غير المتوازنة وغير المثمرة، حين قال: “الكثير من ثروات الغرب تم بناؤها من دماء ودموع ورعب تجارة العبيد وقرون من الاستعمار والاستغلال”.

من جهته، قال القائد العسكري لغينيا (المستعمرة الفرنسية السابقة) مامادو دومبويا أيضا على المنبر نفسه: “لقد حان الوقت للكف عن إلقاء المحاضرات علينا ومعاملتنا مثل الأطفال”، وفي كل ذلك إشارة إلى نهاية حقبة من “الوصاية”.

وفي سياق تلك التحولات، تنقل صحيفة نيويورك تايمز عن إريك أولاندر، رئيس تحرير موقع “مشروع الجنوب العالمي للصين” (China Global South Project) قوله: “إن الصين تحاول الاستفادة من الفراغ الذي تركته الولايات المتحدة وأوروبا، اللتان تنفصلان بشكل متزايد عن أفريقيا”. ويبدو أن هذا الانفصال يتم بزخم سريع مقابل تمدد الأواصر الأفريقية مع الصين.

بناء الجسور وملء الفراغات

منذ سنة 2000، حين أنشئ منتدى التعاون الصيني الأفريقي (FOCAC) بدأ التوجه الصيني نحو أفريقيا بمنطلقات جديدة، وباتت بعد نحو عقدين أكبر شريك تجاري للقارة، والمستثمر الأكبر فيها، وهي أكبر دائن لها أيضا، وما زال هذا المنتدى الذي يعقد كل 3 سنوات يمثل حجر الرحى في العلاقات الأفريقية الصينية، وانبثقت عنه عمليا 36 وكالة تنفيذية.

ويعد المنتدى أحد البرامج والمبادرات والتجمعات التي أطلقتها بكين، لتحفيز العلاقات السياسية والاقتصادية مع دول الجنوب العالمي، بما فيها أفريقيا، ومنها “مبادرة الحزام والطريق” (عام 2013) التي تضم 52 دولة أفريقية، و”مبادرة التنمية العالمية” (عام 2021)، التي تهدف إلى تضييق الفجوة بين الشمال والجنوب، إضافة إلى “مبادرة الحضارة العالمية” و”مبادرة الأمن العالمي” التي يندرج ضمنها “منتدى السلام والأمن الصيني الأفريقي”.

ودأبت الصين في سياق التحولات العالمية والصراعات الجيو إستراتيجية للترويج لنفسها باعتبارها نموذجا ومرجعية “أكثر فائدة لأفريقيا من الغرب”، نظرا إلى أنها تتشارك مع دولها “الخلفيات التاريخية المتشابهة، ونقاط انطلاق متماثلة، ومهمة مشتركة تتمثل في ضرورة التحول السريع، وفق شي جين بينغ، الذي بات يعتبر بلاده “المدافعة عن العالم النامي”.

ومقابل “إهمال” الغرب لأفريقيا، تتسم سياسة الصين في القارة بطابع مؤسسي شديد التنظيم، لا تركز على الاقتصاد فقط، بل أيضا على الجوانب السياسية والبرلمانية والتعليمية والإعلامية والأمنية والعسكرية ويتم تحت إشراف مباشر من كبار مسؤوليها وقادتها.

فبين عامي 2008 و2018، زار كبار المسؤولين الصينيين أفريقيا 79 مرة، وقام الأمين العام للحزب الشيوعي الصيني والرئيس شي جين بينغ بين عامي 2014 و2020 بـ10 زيارات إلى أفريقيا مقابل 48 زيارة لوزير الخارجية وانغ يي.

وعلى الصعيد السياسي يعمل المؤتمر الاستشاري السياسي للشعب الصيني (التابع للحزب الشيوعي الصيني) مع 59 منظمة سياسية في 39 دولة أفريقية، ويرتبط بعلاقات مع 35 برلمانا أفريقيا.

كما تدير إدارة الاتصال الدولي للحزب الشيوعي الصيني -وهي جهاز تابع للجنة المركزية ووكيل تنفيذي لمنتدى التعاون الصيني الأفريقي- بعلاقات مع 110 أحزاب سياسية في 51 دولة أفريقية، وتشرف إدارة الجبهة المتحدة باللجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني على أكثر من 30 “جمعية واجهة” في 20 دولة أفريقية، وفق بيانات مركز الدراسات الإستراتيجية لأفريقيا.

ومنذ عام 2018، تستضيف الصين سنويا مسؤولين حكوميين أفارقة وملحقين عسكريين وأمنيين من 50 دولة أفريقية لمدة أسبوعين، لحضور ندوات وزيارة مواقع جيش التحرير الشعبي والبحرية، تتولى تدريب قوات أمنية وعسكرية. وتتولى أيضا تدريب آلاف الطلاب والمهنيين الأفارقة، بنسبة أكثر من أي دولة صناعية أخرى، وفق تقرير لمجلة فورين أفيرز الأميركية.

وحسب بيانات وزارة التعليم الصينية، يبلغ عدد الطلاب الأفارقة المسجلين في المؤسسات الصينية أكثر من 81 ألف طالب عام 2018، مقارنة بأقل من 2000 في عام 2003، وهو ما يمثل 16.5% من إجمالي الطلاب الأجانب في البلاد. وتشير منظمة اليونسكو إلى أن 16% من جميع المنح الدراسية للطلاب الأفارقة تتم عبر الحكومة الصينية.

وتخطط الصين أيضا لتدريب 500 مدير ومعلم من ذوي الكفاءة العالية في الكليات المهنية كل عام، و10 آلاف موظف فني لتدريبهم على اللغة الصينية والمهارات المهنية.

وحسب آخر الإحصاءات (عام 2019) قدمت الصين نحو 50 ألف منحة جامعية للطلاب الأفارقة سنويا، و50 ألف حصة تدريبية لموظفي الخدمة المدنية، وكبار المسؤولين التنفيذيين والقادة الطموحين، و2000 حصة تدريبية للشباب بينها حوالي 10% مخصص لقطاع الأمن في أفريقيا. وتنتشر أيضا معاهد كونفوشيوس لتعليم اللغة الصينية في 46 دولة أفريقية، إضافة إلى مدارس الحزب الشيوعي الصيني في بعض البلدان.

وتمثل هذه الأنشطة المتنوعة، التي “تستثمر في بناء رأس المال الاجتماعي والبشري إضافة إلى مشاريع البنية الأساسية العملاقة” -حسب تقرير لفورين أفيرز- توسعا هائلا لنفوذ الصين في مختلف أنحاء القارة، يستند إلى تصور واضح للأهمية الجيوسياسية لأفريقيا حاضرا ومستقبلا. وتشير الصحيفة إلى أن جهود بكين تؤتي ثمارها مبدئيا، حيث يقيّم 63% من الأفارقة نفوذ الصين في القارة بشكل “إيجابي”.

وتحصد الصين ثمار هذه الإستراتيجية سياسيا المحافل الدولية، في سياق صراع دولي على النفوذ، وتجتذب البلدان الأفريقية أكثر إلى رؤيتها للعالم، فقد أقنعت من 50 دولة أفريقية في الأمم المتحدة بعدم الاعتراف بتايوان كدولة أو إلغاء الاعتراف بها كدولة، باستثناء دولة إسواتيني (سوازيلاند سابقا)، وهي واحدة من بين 13 دولة في العالم ما زالت تعترف بتايوان.

الوسومأطماع أفريقيا الصين المنتدي الصيني الأفريقي

مقالات مشابهة

  • معركة جديدة للإحتلال .. الصين تملأ الفراغ الغربي في أفريقيا
  • عاجل|احتجاجات في تل أبيب تطالب بإسقاط حكومة نتنياهو وإبرام صفقة تبادل للمحتجزين
  • أنباء أولية عن محاولة دهس لمجموعة من جنود الاحتلال قرب الخليل
  • تعرف على الحكم العسكري الإسرائيلي.. هل يعيده نتنياهو في غزة؟
  • انطلاق أعمال اجتماع مجلس الجامعة العربية بمشاركة فلسطين
  • اليمن تتسلم رئاسة مجلس جامعة الدول العربية وتعلن موقفًا بشأن فلسطين ومصر
  • اتهام أممي للاحتلال بشن حملة تجويع ضد سكان غزة.. سلاح التجويع مستخدم منذ 1948
  • رئيس حكومة فلسطين: شرعنا بأعمال إعادة إعمار ما تم تدميره بالضفة
  • رابطة العالم الإسلامي تُدين قصف حكومة الاحتلال الإسرائيلي على حي الزيتون جنوب مدينة غزة
  • أستاذ قانون دولي: مصر الأكثر حرصا على عقد مصالحة بين الفصائل الفلسطينية