قد لا يكون غريباً مع وجود ثقافةٍ ضحلةٍ ومعرفةٍ سطحيةٍ أن يدَّعى البعض تأخُّر تدوين السيرة النبوية العطرة، ولكن الغريب حقاً هو الادعاء بأن المسلمين الأوائل عاشوا أكثر من مائة عام ولم يهتم أحد برواية السيرة ولو روايةً شفويةً!!!

وهذا الكلام لا يصدر إلا عن جهل بالحقائق التاريخية الثابتة، أو عن تكذيب بها! وهما حالانِ أحلاهما مُرٌّ! وأى شىءٍ يُنتظر مِمَّن خيرُ حالَيْهِ الجهل؟!

والسيرة النبوية على وجه التحديد لا يصحُّ أن يُشكَّ فيها؛ لأن مَن لديه أدنى إلمام بتاريخ العرب وأدبهم سيعرف مدى اهتمامهم بالتاريخ، حتى إنهم سجلوه فى جاهليتهم، فالمناذرةُ مثَلاً قد سجَّلوا تاريخَهم فى وثائقَ وقف عليها المؤرخُ هشام بن مُحَمَّد الكَلبى (ت 204) فى بِيَع الحيرة.

وقد أَوْلَت العرب الوقائع التاريخية اهتماماً كبيراً، وتناقلتها جيلاً فجيلاً تحت اسم «أيام العرب»، والمراد بها الأيام التى تضمنت وقائعَ وأحداثاً عظيمة حرصوا على نقلِها، ونقل ما حفَّ بها من أحوال خارجية ومشاعر نفسية تُبين أدقَّ تفاصيلِ سياقِها التاريخى؛ لأنها مَظهرُ مَجدِهِم وعزتِهم.

وقد خاطبهم القرآن الكريم بذلك، حيث سمى الوقائع الكبرى كهلاك الأمم الباغية بـ«الأيام»، ومن هذا قوله سبحانه: {فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ}، وهذا تهديد يخلع قلوب المشركين؛ لأنه تهديد بأن ينزل بهم مثل ما نزَلَ بقوم نوح وعاد وثمود وغيرهم، وقال تعالى أيضاً: {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ}؛ أى: قل للمؤمنين يصفحوا عن المشركين الذين لا يتوقعون مجىء أيام ينتقم الله فيها من أعدائه ويُنعم على أوليائه، وأضيفت «الأيام» للاسم الكريم «الله» تعظيماً لشأنها، كما فى قوله سبحانه: {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ}.

ولولا أن العرب تهتم بهذه الوقائع التاريخية لم يكن لمخاطبتهم بها معنى، وقد ظل اهتمام العرب بنقل أيامهم ووقائعهم حتى مع الإسلام، وقد أقرهم على هذا الشرع الشريف، فقد دخل سيدنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بيته يوماً فوجد فيه جاريتين مع السيدة عائشة تغنيان بأشعار يوم بُعاث [وبعاث اسم موضع حصل عنده قتال عظيم بين الأوس والخزرج فى الجاهلية]، فلم يَنهرهما صلى الله عليه وسلم، ولما دخل سيدنا أبوبكر ونهَرَهما قال له صلى الله عليه وسلم: دعهما.

وهاتان فتاتانِ ليستا من أهل الحرب والقتال، وربما لم تدركا يوم بعاث أصلاً لصِغَرِ سِنِّهما، ولكن لفرط اهتمام العرب براوية مجدهم غنَّت هاتان الفتاتان ما أُنشد فى هذا اليوم من أشعارٍ، ودخل سيدنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وسمع ما تقولان فلم يزجرهما ولم ينههما، ولما زجرهما سيدنا أبوبكر الصديق رضى الله عنه قال صلى الله عليه وسلم له: دعهما. وهذا إقرار منه صلى الله عليه وسلم لنقل أيام العرب التى صار الاهتمام بها بعد ذلك دينياً حينما صارت نقلاً لسيرته صلى الله عليه وسلم وجهاده، ويدل على هذا قول سيدنا علىِّ بن الحسين بن على (ت 94هـ) رضى الله عنهم: كُنّا نُعلَّمُ مغازى النبىِّ صلى الله عليه وسلم وسراياه كما نُعلَّمُ السورةَ مِن القرآنِ. ويقول إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبى وقاص (ت 134هـ): كان أبى يُعلمنا مغازى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ويَعدُّها علينا، وسراياه، ويقول: يا بُنى هذه مآثر آبائكم فلا تُضيعوا ذكرها.

والخبر الأول كلام لسيدنا على زين العابدين، وهو ممن أدرك جيل الصحابة، فقد روى عن أمهات المؤمنين السيدة عائشة والسيدة أم سلمة والسيدة صفية رضى الله عنهن، وروى عن أبى رافع، وأبى هريرة، وابن عباس، وعن أبيه الحسين وعمه الحسن، وغيرهم.

وهذا يدل على اهتمام جيل الصحابة بتعليم السيرة النبوية كما اهتموا بتعليم القرآن الكريم.

والخبر الثانى يدل على مدى اهتمام مَن بعدهم أيضاً بنقل هذا التاريخ وسرد وقائعه وعدِّها، فهو -إضافة إلى كونه ديناً- يمثل مكارمهم.

وليس معنى كلمة (المغازى) الواردة فى الخبرين اقتصار الرواية على الغزوات فقط، بل هى تشمل وقائع السيرة النبوية كلّها، والدليل على هذا أن التأليف فى السيرة بدأ بعنوان (المغازى) مع تضمُّنه الكلام على مولده صلى الله عليه وسلم وبعثته ووفاته، بل يمتدُّ الحديث فى هذه المؤلفات لفترة ما قبل المولد وما بعد الوفاة.

وسبب التعبير عن السيرة بالمغازى يرجع إلى أنها أهم وأبرز وقائعها، وهذا من باب المجاز، حيث يُعبَّر بالجزء ويُراد الكل، كما يُعبَّر عن الجاسوس بالعين، وكما يُعبَّر بعتق الرقبة عن عتق الإنسان.

وقد ظلت «أيام العرب» فى الجاهلية والإسلام تُنقل باعتبارها علماً يتعلمه طلبة العلم، ويجلس لتدريسه العلماء، حتى إن الإمام الشافعى أقام على قراءة العربية [أى علوم اللغة وآدابها] وأيام الناس عشرين سنةً، وقال: ما أردتُ بهذا إِلَّا الاستعانةَ على الفقه.

المصدر: الوطن

كلمات دلالية: سور القرآن الكريم صلى الله علیه وسلم السیرة النبویة

إقرأ أيضاً:

مهرجان الموالد والمدائح النبوية في الحديدة.. لوحة إيمانية ابتهاجاً بقدوم الربيع المحمدي

يمانيون/ تقارير

يتنفس ساحل البحر الأحمر تراتيل محمدية تملأ أرجائه وتصيغ أركانه وتصنع تفاصيله بمدائح نبوية تهتف بها قلوب العاشقين ابتهاجا بقدوم الربيع المحمدي.

ابتهالات بديعة ومؤثرة في مدح النبي، تتفرد في معاني العشق، تجسيدا عمليا لأصالة أمة يمنية تترجم اعتزازها بقائد عظيم بالعديد من الموشحات والأناشيد وفنون الشعر، على مسرح الهواء الطلق الذي يتلألأ بملامح الحب والوفاء لنبي الأمة.

وفي حلته البهية، يتألق مهرجان الموالد والمدائح النبوية الذي انطلق مساء أمس في ساحل البحر الأحمر، فرحا بمن أضاء الكون ببهائه، ليصدح بترانيم أكبر وأشهر فرق الإنشاد وقصائد الشعراء، ابتهاجا بقدوم ذكرى مولد خير البرية ورسول الإنسانية.

وفي أولى أمسيات المهرجان الذي يستمر حتى العاشر من ربيع الأول، اكتظ ساحل مدينة الحديدة على واجهة شاطئ البحر الأحمر بحشد كبير من القيادات والنخب الثقافية وأكاديميين ومواطنين، في مشهد جسد الروح الايمانية وعمق مشاعر المحبة وتعظيم مقام النبي والفرح بإحياء هذه المناسبة.

تمايلت قلوب وأجساد الجموع الغفيرة مع ترانيم المنشدين وفقرات المهرجان بما تحمله نفوسهم من محبة واجلال وتعظيم وارتباط روحي ووجداني برسول الله، وفرحاً وابتهاجاً وتعظيماً بمولده عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.

وعملاً بقوله تعالى “قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون “ عبر الحاضرون عن إعجابهم بالمهرجان، وفقراته المعبرة، التي ازدانت أولى فعالياته بفضاء فسيح ومتنوع من جمال وروعة المديح والأناشيد الزاخرة التي انبثقت من معانيها تجليات النور المحمدي.

وأوضح وكيل أول المحافظة أحمد مهدي البشري، خلال مشاركته في تدشين مهرحان الموالد والمدائح النبوية، أن المهرجان يأتي ضمن فعاليات الاحتفاء بالمناسبة بما يجسد التفاعل الإيجابي لأبناء الحديدة.

ونوه بمستوى الحفاوة التي تتسم بها مديريات محافظة الحديدة، وتشهد هذا العام، استعداداً مكثفا في المشاركة لتنظيم الفعاليات والندوات الدينية والمهرجانات والأمسيات المخصصة لإحياء هذه المناسبة الدينية الجليلة.

وأشار البشري، الى أن الزخم الاحتفالي الذي يعم أرجاء المحافظة على مستوى الحارات وقطاعات العمل والسواحل، يعكس أحد ملامح الهوية الدينية التي يتسم بها أبناء الشعب اليمني ودليل على قوة ارتباطهم وحبهم وتمسكهم بالرسول الكريم.

وأشاد بجهود المنظمين للمهرجان ومدى الحرص على تقديم نموذج متفرد لإحياء المناسبة بما يعكس الإصرار على إحياء ذكرى مولد المصطفى، لإيصال رسائل للعالم بأصالة الشعب اليمني وتمسكه بالنبي واستمرار مناصرته.

وعبر الوكيل البشري، عن الفخر والاعتزاز بما تعكسه الأنشطة الاحتفالية بهذه المناسبة العظيمة من هوية راسخة جامعة لحب أعظم قائد في تاريخ البشرية، أنقذ الأمة من عبادة الأصنام إلى عبادة الله ونعمة الإسلام.

كما أشاد بتفاعل المنشدين والشعراء المشاركين في احياء أمسيات المهرجان الذي يعبر عن الارتباط الوثيق والهوية الإيمانية الأصيلة التي خص بها الرسول الكريم أهل اليمن عن غيرهم، حينما قال “الإيمان يمان والحكمة يمانية”.

ووصف وكيل أول محافظة الحديدة مظاهر الاحتفالات التي تشهدها المحافظة بذكرى مولد الرسول الكريم، بلوحة صمود لترسيخ معاني العزة والبأس وإظهار البهجة والفرح والتوقير وتجديد الولاء له صلى الله عليه وآله سلم والتمسك بهديه.

من جانبهم اعتبر القائمون على المهرجان الذي تنظمه مؤسستا سام للبث الإذاعي والتلفزيوني والإمام زيد بن علي الثقافية، الحضور اللافت لأمسيات مهرجان الموالد والمدائح، أحد صور إحياء ذكرى مولد رسول الله لترسيخ معاني الاحتفال بها.

وأشاروا، إلى ما تمثله هذه المناسبة من مصدر قلق بالنسبة الأعداء والتيارات المتأسلمة، لافتين إلى أن المنزعجين من الاحتفال بالمولد النبوي هم امتداد الاباطرة الذين اهتزت عروشهم وتزلزلت ممالكهم وانطفأت نيرانهم يوم مولده صلوات الله عليه وآله.

واعتبروا مظاهر احتفال اليمنيين بمولد رسول الأمة، أيقونة صمود إيمانية، مفادها أن اليمنيين هم أهل الإيمان والمدد وعنوان العزة والبأس، والانتصار للعقيدة وللرسول الأكرم والاعتزاز بإحياء يوم مولده.

وذكر القائمون، أن المهرجان الذي يشارك فيه أبرز المنشدين والشعراء من عدة محافظات يتم بث فعالياته على الهواء عبر أثير إذاعة ” سام إف أم” وقنوات فضائية، إجلالاً وتعظيما للرسول الكريم وتأكيداً على المكانة التي يحتلها في القلوب كقدوة وقائد ومعلم، وتجديداً للعهد والولاء للنبي الخاتم.

وتمثل المظاهر الاحتفالية التي تشهدها محافظة الحديدة وساحل البحر الأحمر، لوحة ايمانية لإظهار الفرحة بذكرى مولد المصطفى، يرافقها أوبريتات وأناشيد من الموروث التهامي تتميز بخصوصية فريدة في الاحتفال بأهم وأعظم مناسبة دينية.

مقالات مشابهة

  • مع ذكرى مولد النبي.. أزهري يوضح كيفية الاستفادة من السيرة النبوية في حياتنا؟
  • بمناسبة المولد النبوي.. شرح الشفاعة النبوية في ضوء البشارات الإلهية
  • أنوار الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم
  • مهرجان الموالد والمدائح النبوية في ساحل الحديدة.. لوحة إيمانية للربيع المحمدي
  • الصدق في سيرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم
  • المولد النبوي: تعرف على مقتنيات رسول الله صلى الله عليه وسلم
  • مهرجان الموالد والمدائح النبوية في الحديدة.. لوحة إيمانية ابتهاجاً بقدوم الربيع المحمدي
  • المولد النبوي 2024.. الإفتاء تحسم الجدل حول احتفال الرسول صلى الله عليه وسلم بمولده
  • الشيخ ياسر مدين يكتب: التشكيك في السيرة النبوية (7)
  • ربيع الأنوار.. كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يقضي يومه؟